مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

الشيخ ذبيح الله المحلاتي

مآثر الكبراء في تأريخ سامرّاء - ج ١

المؤلف:

الشيخ ذبيح الله المحلاتي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-503-035-8
ISBN الدورة:
964-503-039-0

الصفحات: ٤٠٨

بدنه فضل قوّة ، وإن أقام ببغداد سنة تبيّن في عقله زيادة ، وإن أقام بالأهواز سنة تبيّن في بدنه وعقله نقص ، وما نعلم لذلك سببا إلّا صحّة هواء الموصل وعذوبة مائها ، ورداءة نسيم الأهواز وتكدّر جوّه ، وطيبة هواء بغداد ورقّته ، وبين الموصل وبين بغداد أربعة وسبعون فرسخا.

الزاب الأعلى

بعد الألف باء موحّدة ، زاب الشيء إذا جرى ، وإنّ زاب اسم ملك من قدماء ملوك الفرس وهو زاب بن توكان بن منوجهر بن ايرج بن أفريدون ، حفر عدّة أنهر بالعراق فسمّيت باسمه ، وربّما قيل لكلّ واحد زابي ، والتثنية زابيان ، وهذا هو الزاب الأعلى بين الموصل وأربل ، ومخرجه من بلاد مشتكهر وهو حدّ ما بين أذربيجان وبابغيش ، ثمّ يمتدّ حتّى يفيض في دجلة على فرسخ من الحديثة وهذا هو المسمّى بالزاب المجنون لشدّة جريه.

الزاب الأسفل

مخرجه من جبال السلق بين شهرزور وأذربيجان ، ثمّ يمرّ إلى ما بين دقوقا وأربل ، وبين الزاب الأعلى وبينه مسيرة يومين أو ثلاثة ، ثمّ يمتدّ حتّى يفيض في دجلة عند السن ، وعلى هذا الزاب مقتل عبيد الله بن زياد بن أبيه. فقال يزيد بن مفرغ يهجوه :

أقول لمّا أتاني ثمّ مصرعه

لابن الخبيثة وابن الكودن النابي

ما شقّ جيب ولا ناحتك نائحة

ولا بكتك جياد عند اسلام

إنّ الذي عاش ختّارا بذمّته

ومات عبدا قتيل الله بالزاب

وإنّ المنايا إذا حاولن طاغية

ولجن من دون أستار وأنياب

٢٨١

زركون

ناحية بأذربيجان يمرّ بها الزاب الأعلى ، وأذربيجان من البلاد المعروفة ، وهو في الأقليم الخامس طولها ثلاث وسبعون درجة ، وعرضها أربعون درجة.

وقال ابن المقفّع أذربيجان سمّي باسم أذرباذ بن ايران بن الأسود بن سام بن نوح عليه‌السلام ، وقيل : آذرباذ بن بيور ساف ، وقيل : بل آذر اسم النار بالفهلويّة وبايكان معناه الحافظ والخازن فكان معناه بيت النار أو خازن النار ، وهو صقع جليل ومملكة عظيمة الغالب عليه الجبال ، وفيه قلاع كثيرة وخيرات واسعة وفواكه جمة وعيون غزيرة وأهلها صباح الوجوه رقاق البشرة فتحت في أيّام الخليفة الثاني.

بابغيش

بالغين المعجمة وياء ساكنة وشين معجمة ناحية بين أذربيجان وأردبيل ، يمرّ بها الزاب الأعلى.

الحديثة

بليدة كانت دجلة بالجانب الشرقي قرب الزاب الأعلى. وفي بعض الآثار : إنّ حديثة الموصل كانت هي قصبة كورة الموصل الموجودة الآن وإنّما أحدثها مروان بن محمّد بن مروان الحمار.

وقال حمزة بن الحميد الحديثة تعريب نوكرد ، وكانت مدينة قديمة فخربت وبقي آثارها فأعادها مروان الحمار إلى العمارة وسأل عن اسمها فأخبر بمعناه ، فقال : سمّوها الحديثة ، وهي اليوم عامرة البناء ، واسعة الخيرات. والحديثة أيضا اسم لحديثة الفرات.

٢٨٢

السن

بكسر أوّله وتشديد نونه ، مدينة على دجلة فوق تكريت ، لها سور وجامع كبير.

شهرزور

بالفتح ثمّ السكون وراء مفتوحة بعدها زاي وواو ساكنة وراء ، وهي في الإقليم الرابع طولها سبعون درجة وثلاث ، وعرضها سبع وثلاثون درجة ونصف وربع ، وهي كورة واسعة في الجبال بين أربل وهمذان ، أحدثها روز بن الضحّاك ، وأهل هذه النواحي كلّهم أكراد فيهم البطش والشدّة ، يمنعون أنفسهم ويحمون حوزتهم ، وبها عقارب قتّالة أضرّ من عقارب نصيبين ، وأكثر أقواتهم من صحاريهم.

ديار بكر

بلاد كبيرة واسعة تنسب إلى بكر بن وائل بن قاسط من آل معد بن عدنان ، وحدّها من دجلة إلى بلاد الجبل المطلّ على نصيبين ، ومنه آمد وميافارقين وحصن كيفا.

حصن كيفا

بلدة وقلعة عظيمة مشرفة على دجلة بين آمد وجزيرة ابن عمر من ديار بكر ، وهي كانت ذات جانبين ، وعلى دجلتها قنطرة ، وهي طاق واحد يكتنفه طاقان صغيران وينسب إليه من أهل العلم الخطيب معين الدين أبو الفضل يحيى بن سلام بن الحسين بن محمّد الشيعي الإمامي الحصكفي الآتي ذكره في الشعراء.

حصكفي على وزن جعفري ينسب إليه جماعة من أهل العلم منهم إبراهيم بن أحمد المعروف بابن المولى حنفي المذهب ، كان من علماء القرن الحادي عشر ، وكان

٢٨٣

مولده في حلب ، وهو شارح مغني اللبيب ، وله منظومة في فقه الحنفي ، توفّي بحلب سنة ١٠٣٠ ، ومنهم محمّد بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن عبد الرحمان الحصكفي الأصل ، دمشقيّ المنشأ والمدفن ، وكان يلقّب بعلاء الدين ، حنفيّ المذهب ، وكان محدّثا نحويّا كثير الحفظ فصيح العبارة ، وله كتب ذكرها في ريحانة الأدب.

ومنهم يحيى بن سلام بن حسين بن محمّد الشيعي الإمامي الحصكفي ، نسبته إلى حصن كيفا من مدائن ديار بكر.

قال في روضات الجنّات ـ على ما نقله في الكنى والألقاب ـ نقلا من أنساب السمعاني إنّه كان خطيبا بميافارقين وهو واحد أفاضل الدنيا وكذا في فنّ الشعر والشعراء ، كان بارعا جواد الطبع ، رقيق القول ، وكان نظمه ونثره وخطبته في الآفاق مشهورا ، ورزق عمرا طويلا ، وكان غاليا في التشيّع كما يظهر من شعره.

قال السمعاني : وإنّي وصلت بخدمته في سنة ٥٥٠ وأجازني بخطّه الشريف جميع مسموعاته وكانت ولادته في حدود سنة ٤٦٠ وتوفّي بميافارقين في سنة ٥٥١.

وعن ابن كثير الشامي في تاريخه قال : إنّ الخطيب الحصكفي هذا كان إمام زمانه في كثير من العلوم كالفقه والأدب والنظم والنثر ولكن كان غاليا في التشيّع.

وعن ابن الأثير في الكامل إنّه قال : وله شعر حسن ورسائل جيّدة.

ومن جملة أشعاره برواية ابن الجوزي كما في مجالس المؤمنين ما يقول في مدح أهل البيت عليهم‌السلام من بعد التغزّل المتعارف :

وسائلي عن حبّ أهل البيت هل

أقر إعلانا به أم أجحد

هيهات ممزوج لحمي ودمي

هوى أئمّة الهدى والرشد

حيدرة والحسنان بعده

ثمّ عليّ بعده محمّد

وجعفر الصادق وابن باقر

موسى ويتلوه عليّ السيّد

أعني الرضا ثمّ ابنه محمّد

ثمّ عليّ ابنه المسدّد

٢٨٤

والحسن الثاني ويتلو تلوه

م ح م د بن الحسن المفتقد

فإنّهم أئمّتي وسادتي

يعرفهم مشرك والموحّد

هم حجج الله على عباده

وهم إليه منهج ومقصد

قوم له في كلّ أرض مشهد

لا بل لهم في كلّ قلب مشهد

قوم منى والمشعران لهم

والمروتان لهم والمسجد

قوم لهم أبطح والمكّة والخيف

وجمع والبقيع الغرقد

وله أيضا :

أشكو إلى الله من نارين واحدة

في وجنتيه وأخرى منه في كبد

ومن ضعيفين صبري حين أذكره

يذيع سرّي وواش منه في الرصد

ومن سقيمين سقم قد أحلّ دمي

وودّه ويراه الناس طوع يدي

تكريت

بفتح التاء ، والعامّة يكسرونها وهي بلدة مشهورة بين بغداد والموصل ، وهي إلى بغداد أقرب ، بينها وبين بغداد ثلاثون فرسخا ، ولها قلعة حصينة في طرفها الأعلى راكبة على دجلة في غربيّها.

ومدينة تكريت طولها ثمان وتسعون درجة وأربعون دقيقة ، وعرضها سبع وثلاثون درجة وثلاث دقائق. وقال غيره : طولها تسع وستّون درجة وثلاث دقائق ، وعرضها خمس وثلاثون درجة ونصف ، وتعديل نهارها ثماني عشرة درجة ، أطول نهارها أربع عشرة ساعة وثلاث.

وكان أوّل من بنى هذه القلعة سابور بن أردشير بابك.

وعن عبّاس بن يحيى التكريتي وهو معروف بالعلم والفضل في الموصل قال : مستفيض عند المحصّلين بتكريت أنّ بعض ملوك الفرس أوّل من بنى قلعة تكريت

٢٨٥

على حجر عظيم من جصّ وحصى ، كان بارزا في وسط دجلة ، ولم يكن هناك بناء غيره ، جعل بها مسالح وعيونا وربايا (١) ، تكون بينهم وبين الروم لئلّا يدهمهم من جهتهم أمر فجأة ، وكان بها قائد من قوّاد الفرس ومرزبان (٢) من مرازبتهم ، فخرج ذلك المرزبان يوما يتصيّد في تلك الصحاري فرأى حيّا من أحياء العرب نازلا في تلك البادية فدنا منهم فوجد الحيّ خلوقا ليس فيه غير النساء فجعل يتأمّل النساء وهنّ ينصرفن من أشغالهنّ ، فأعجب بامرأة منهنّ وعشقها عشقا مبرحا فدنا من النساء فأخبرهنّ بأمره وعرّفهنّ أنّه مرزبان هذه القلعة وقال : إنّني قد هويت فتاتكم هذه وأحبّ أن تزوّجونيها ، فقلن : هذه بنت سيّد هذا الحيّ ونحن قوم من النصارى وأنت رجل مجوسيّ ولا يسوغ في ديننا أن نزوّج بغير أهل ملّتنا. فقال : أنا أدخل في دينكم. فقلن له : إنّه خير إن فعلت ذلك ولم يبق إلّا أن يحضر رجالنا وتخطب إليهم كريمتهم فإنّهم لا يمنعونك.

فأقام إلى أن رجع رجالهنّ وخطب إليهم فزوّجوه فنقلها إلى القلعة وانتقل منها عشيرتها إكراما لها فنزلوا حول القلعة ، فلمّا طال مقامهم بنوا هناك أبنية ومساكن ، وكان اسم المرأة تكريت فسمّي الربض باسمها ثمّ قيل قلعة تكريت نسبوها إلى الربض ، وافتتحها المسلمون في سنة ستّ عشرة من الهجرة فتحها سعد بن أبي وقّاص ، أرسل عليها جيشا عليه عبد الله بن المعتمّ فحاربهم حتّى فتحها عنوة ، وقال في ذلك :

ونحن قتلنا يوم تكريت جمعها

فلله جمع يوم ذاك تتابعوا

ونحن أخذنا الحصن والحصن شامخ

وليس لنا فيما هتكنا مشايع

__________________

(١) الربى والربيئة الطليعة من الجيش جمعه الربايا بفتح الراء ، يقال : بنوا رباياهم أي طلائعهم.

(٢) المرزبان ـ بفتح الميم وسكون الراء المهملة وضمّ الزاء المعجمة ثمّ باء وألف ونون ـ هو الرئيس عند الفرس جمعه مرازبة.

٢٨٦

وكان بين تكريت وسامرّاء تسعة فراسخ من جهة الغرب الشمالي ثمّ توافى سرّ من رأى ومنها ينحدر إلى بغداد تنبطح في رساتيقها ويسقى بساتينها ، وتمرّ على القرى الشرقيّة فينصبّ فيها الفرات فوق البصرة فتحمل السفن الكبار ، وتمرّ على حدّ ايران ويصبّ فيها نهر تستر في جنوب المحمّرة وهي بلدة عامرة من البنادر العظام ومركز العشر بين العراق وايران وتاريخ بنائها «ررغلا» ويقال لها اليوم خرّمشهر الموافق لسنة ١٢٣٥.

بينها وبين البصرة ستّة فراسخ وأهلها شيعة إماميّة بين أصوليّ وأخباريّ غير أنّ فيها جمعا من اليهود وطائفة من كفرة الهنود ، ونهر تستر ليس بأقلّ من نهر دجلة فيحمل السفن الكبار ويمرّ على عبّادان ثمّ ينصبّ في بحر الهند. ومن أكبر نعم الله وعطاياه وأعظمها التي أنعمها الله على أهل البصرة والمحمّرة الجزر والمدّ حيث أنّ دجلة فيهما تسقى البساتين حال المدّ بأسرها من غير تعب الفلّاحين والزرّاع ، وهي من عجائب الدهر ، فإذا جرت الأنهر الثلاثة المختلطة فوق الخليج من ناحية الشمال سمّوه مدّا يكون ذلك في كلّ يوم وليلة مرّتين فإذا جزر نقص نقصانا كثيرا بيّنا ، وليست زيادته متناسبة بل يزيد في أوّل كلّ شهر ووسطه أكثر من سائره لا يختلف ولا يخل بهذا القانون ولا يتغيّر عن هذا الاستمرار أبدا.

ودجلة والفرات هما السببان القويّان لتقدّم العمران وبتسخيرهما بحفر الجداول ونصب المضخّات يحصل الغنى والثروة ، وبالغنى والثروة المقرونين بالعدل والإحسان ينال العراق أعلى رتبة الرقي والسيادة فتدبّر كلام الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام حيث يقول : «العالم حديقة وسياجها الشريعة ، والشريعة سلطان يجب له الطاعة ، والطاعة سياسة يقوم بها الملك ، والملك نظام يعضده الجيش ، والجيش أعوان يكفلهم المال ، والمال رزق تجمعه الرعيّة ، والرعيّة سواد يستعبدهم العدل ، والعدل أساس به قوام العالم ؛ فبالعدل قوم العالم ، فبالعدل قوام العالم ـ قالها ثلاثا ـ».

٢٨٧

المقابر والمشاهد في سامرّاء ونواحيها

[مقبرة شيخ جميل]

منها : مقبرة شيخ جميل في شرقيّ سامرّاء عند الطارميّة ، تقدّم ذكره.

[مقبرة بورنداس]

ومنها : مقبرة بورنداس. قال في المعجم : بضمّ أوّله وثانيه اسم مقبرة بأوانا ، دفن فيها بعض المحدّثين ، له ذكر ، وهو مجهول عندنا وليس له ذكر في معاجمنا ، وأمثال هذه المقابر في نواحي سامرّاء كثير ما توجد نحو مقبرة السيّد غريب ، ومقبرة بنات الحسن ، ومقبرة السيّد حسن ، ومقبرة الشيخ ولي ، ومقبرة الشيخ رياح ، ومقبرة السيّد محمّد الدري ـ تقدّم ذكره ـ.

وأمّا شيخ رباح فإن كان هو رباح بالباء الموحّدة فله ذكر في التاريخ. قال في تنقيح المقال : رباح بن الحارث من ربيعة من أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام وكان من الحسان. ورباح بن أبي نصر السكوني عدّه الشيخ من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، فإن كان المقبور بقرب سامرّاء أحد هذين فلا بأس بزيارته ، ويحتمل أن يكون أحد مشايخ الصوفيّة ، والله أعلم.

[مقبرة إبراهيم بن مالك الأشتر]

ومنها : مقبرة إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي رضي‌الله‌عنهما ـ تقدّم ذكره ـ.

٢٨٨

[مقبرة القباريخيّة]

ومنها : مقبرة القباريخيّة. جاء في كتاب الآثار العراقيّة (١) : لقد اكتشف العالم الأثري الألماني هرتسفيلد في القرب من شريعة باب الناصريّة بسامرّاء مقبرة تعود إلى أدوار ما قبل التاريخ. وقد وجد فيها نوعا من الفخار المصبوغ يعتبر متوسّطا بين فخار شوش الأولى وفخار تلّ العبيد ، يسمّى هذا الفخار القباريخي باسم فخار سامرّاء ، ويمثّل دورا من أدوار ما قبل التاريخ في العراق.

[مقبرة الدنابلة]

ومنها : مقبرة الدنابلة ، تقع في يمين الداخل إلى رواق العسكريّين عليهما‌السلام في الصفة الأولى الشماليّة ، وقد ذكر اثنين منهما الشيخ العلّامة السماوي دام وجوده في وشايح السرّاء (٢) قال :

وكالسلاطين من آل الدنبلي

حكّام خوي بعد قطر الموصل

من آل برمك ذوي المكارم

وحاملي الديات والمغارم

كأحمد الذي بنى المقاما

وشيّد القبّة والدعاما

وقبل أن يتمّ ما كان عمل

في ذلك الربع أغار وقتل

فجيء فيه للذين اعتمدا

وأرّخوا «فكّ رضاهم أحمدا» (٣)

وكالحسين نجله لمّا قضى

جيء به لمربع ابني الرضا

فلاذ مع أبيه في ذاك المقر

من هول مالك ومن خوف سقر

__________________

(١) الآثار العراقيّة : ٧٧.

(٢) وشايح السرّاء : ٤٢.

(٣) مطابقة لسنة ١٢٠٠.

٢٨٩

فراح للأخرى سعيدا ظافرا

وأرّخوا «قد جاء خيرا وافرا» (١)

ودفن في الصفة المذكور سوى أحمد خان وابنه الحسين قلي خان ، نوّاب محمّد صادق بن الحسين قلي خان ، ونوّاب جعفر قلي خان بن أحمد خان ، وكلب علي خان ابن أحمد خان ، ونظر علي بيك ، ومقبرتهم إلى اليوم معروفة في سامرّاء ، وعلى قبر كلّ واحد منهم رخام أصفر صقيل من أثمن الأحجار ، وحفرت عليه أبيات لطيفة وعبارات رشيقة ، وسنورد نبذة من أخبارهم عن قريب.

[مقبرة السيّد محمّد بن الإمام عليّ الهادي عليهما‌السلام]

ومنها : مقبرة المولى السيّد محمّد بن عليّ الهادي عليهما‌السلام تقع في شرق سامرّاء ، بينها وبين سامرّاء ثمانية فراسخ ، وهي بقرب بلد تبعد عنها خمسة كيلومترات.

وذكر المولى المحدّث القمّي في المفاتيح ما مضمونه أنّ السيّد محمّد بن الإمام عليّ الهادي عليهما‌السلام مدفون على تسعة فراسخ من سامرّاء بقرب بلد ، ومزاره مشهور هناك ومطاف للفريقين ، ويجيء إليه من النذور والهدايا ما لا يحصى كثرة لكثرة ظهور الكرامات وخوارق العادات منه ، وحسبك في جلالة شأنه صلاحيّته لمنصب الإمامة ، وكان أكبر أولاد مولانا عليّ الهادي عليه‌السلام ، وإنّ الإمام أبا محمّد الحسن العسكري عليه‌السلام شقّ جيبه حزنا عليه حين توفّي ، وكانت وفاته في حدود الاثنين والخمسين بعد المأتين ، وسنورد لك مفصّلا الأخبار الواردة في فضله مع بيان عدد أولاده وصفة بناء روضته المباركة في الجزء الثاني إن شاء الله.

[مقبرة آقا رضا الهمداني]

ومنها : مقبرة العلّامة الفقيه الكبير المجتهد الأعظم آقا رضا الهمداني ، توفّي سنة

__________________

(١) مطابقة لسنة ١٢٠٧.

٢٩٠

١٣٢٠ ودفن عند رجلي العسكريّين عليهما‌السلام في الرواق المقدّس ، وسنورد لك نبذة من أخباره في محلّه مع من توفّي في سامرّاء.

[مقبرة الميرزا محمّد الطهراني]

منها : مقبرة المولى حجّة الإسلام الميرزا محمّد الطهراني المتوفّى ٢٩ جمادى الأولى سنة ١٣٧١ ودفن في رواق الإمامين عليهما‌السلام ، وسنورد نبذة من حياته الطيّبة في الجزء الثاني إن شاء الله.

[مقبرة جمع من العلماء]

منها : العلّامة الشيخ محمّد إبراهيم التوري ، والشيخ حسين البهبهاني ، والشيخ محمّد حسين الزرقاني ، والسيّد حسين الأصبهاني النجفي ، وآقا رضا الحائري ، والسيّد محمّد مهدي الكازروني ، والسيّد شريف توسركاني ، والشيخ محمود الطهراني ، والشيخ عبد الحميد اللاري ، والميرزا مهدي الشيرازي ، والميرزا محسن الزنجاني ، والميرزا أسد الله الشيرازي ، والسيّد عزيز الله الطهراني ، والشيخ علي أكبر التريشزي ، والشيخ محمّد حسين الشيرازي ، والإمام الهندي السيّد حسين ، كلّ هؤلاء حول الروضة البهيّة للعسكريّين عليهما‌السلام ، وسيأتي تراجمهم في الجزء الثاني إن شاء الله.

والذين في الروضة سوى الإمامين ، السيّدة الجليلة حكيمة بنت الجواد عليهما‌السلام والجهة العليا نرجس أمّ القائم والجدّة أمّ الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ، والحسين بن علي الهادي عليه‌السلام ، وجعفر المعروف بالكذّاب ، وأبو هاشم الجعفري على قول.

[مقبرة أبي هاشم الجعفري]

ومنها : مقبرة السيّد الجليل أبي هاشم الجعفري داود بن القاسم بن إسحاق بن

٢٩١

عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي‌الله‌عنهم ، دفن في الروضة البهيّة على ما صرّح به في وشايح السرّاء (١) بقوله :

أصل بذكر من أتى سامرّاء

تشرّفا وارتاد فيها قبرا

قد دفنت بذلك المجنّ

جماعة لكن بفحوى إذن

الجهة السامية المقيمة

بأمرهم عمّتهم (حكيمة)

ذات الولا المحض ابنة الجواد

وأخت مولانا عليّ الهادي

يا لك من خلاصة في النسب

ومن طهارة وطيب حسب

يحمل عرش مجدها ثمانية

من أوصياء المصطفى علانية

من الجواد فعليّ الرضا

إلى الحسين فعليّ المرتضى

ماتت عقيب صدع ذاك الجمع

ودفنت فأرّخوا (بربع) (٢)

والجهة العليا من التقدّس

أمّ المحجّب المنير (نرجس)

ذات البها والشرف السرّية

والدرّة الناصعة السريّة

وما ترى يقال في المستودعه

سرّ الإله وبهاءه معه

فإنّها ماتت لفرط حزنها

من فقد زوجها وغيبة ابنها

فحاطها من العيون قبر

مع زوجها فأرّخوه (سرّ) (٣)

وكأبي هاشم داود السري

من آل عبد الله نجل جعفر

الجاري من ولائه على سنن

وناظم المعجز في مدح الحسن

مات عقيب موته ولم يقل

فأرّخوا (هلال داود نقل) (٤)

__________________

(١) وشايح السرّاء : ٤١.

(٢) مطابقة لسنة ٢٧٤.

(٣) مطابقة لسنة ٢٦٠.

(٤) مطابقة لسنة ٢٦١.

٢٩٢

غير أنّ المسعودي قال في مروج الذهب : وقبره ببغداد مشهور. وعلّل المحدّث القمّي في الكنى والألقاب بكونه متوطّنا فيها ، لكن ظاهر قول الخطيب البغدادي أنّه مات في حبس سامرّاء ، قال في حرف الدال من تاريخ بغداد : أبو هاشم داود بن القاسم كان مقيما بمدينة السلام وكان ذا لسان وعارضة وسلاطة ، فحمل إلى سرّ من رأى فحبس ، وبلغني أنّه مات في جمادى الأولى سنة ٢٦١.

قال العلّامة المامقاني في تنقيح المقال : أبو هاشم الجعفري ثقة جليل القدر عظيم المنزلة عند الأئمّة عليهم‌السلام وكان من أهل بغداد ، وكان مقدّما عند السلطان ، وشاهد صاحب الأمر عجّل الله فرجه وذلك من كرامة الله عليه ، وكان من خواصّ الهادي والعسكري عليهما‌السلام ، وجلّ رواياته عنهم تتضمّن ما يشاهده عنهم من مناقبهم ومعاجزهم حتّى أنّه روي عنه في الخرايج والمناقب وإعلام الورى أنّه قال : ما دخلت قطّ على أبي الحسن الهادي وأبي محمّد عليهما‌السلام إلّا رأيت منهما دلالة وبرهانا.

وقد أورد الراوندي والطبرسي وابن شهر آشوب في كتبهم الثلاثة المذكورة كثيرا من فضائلهم ومناقبهم بإسناد متصل عن ابن عيّاش عن كتاب أخبار أبي هاشم وكتاب شعر أبي هاشم ، ويروي عنه أيضا يحيى بن هاشم وإسحاق بن محمّد القمّي ، وسهل بن زياد ومحمّد بن حسان وأبو أحمد بن راشد وأحمد بن محمّد بن عيسى ومحمّد بن عيسى ومحمّد بن أحمد العلوي ومحمّد بن زياد وغيرهم.

وبالجملة عظم شأن الرجل وعلوّ منزلته وكرامته عند الأئمّة غنيّ عن البيان ، وسيأتي في معجزات الهادي والعسكري عليهما‌السلام ما يدلّ على ذلك.

وذكر المحدّث القمّي رحمه‌الله في الألقاب (١) قال : له شعر جيّد فيهم ـ يعني في أهل البيت عليهم‌السلام ـ منها قوله في أبي الحسن الهادي عليه‌السلام وقد اعتلّ :

__________________

(١) الكنى والألقاب ١ : ٦٧.

٢٩٣

مادت الأرض بي وأدّت فؤادي

واعترتني موارد العرواء

حين قيل الإمام نضو عليل

قلت نفسي فدته كلّ الفداء

مرض الدين لاعتلالك واعتلّ

وغارت له نجوم السماء

عجبا إن منيت بالداء والسقم

وأنت الإمام حسم الداء

أنت آسي الأدواء في الدين والد

نيا محي الأموات والأحياء

قال : وكان مقدّما عند السلطان ، وكان ورعا زاهدا ناسكا عالما ، ولم يكن أحد من آل أبي طالب مثله في زمانه في علوّ النسب ، وذكر السيّد ابن طاوس قدس‌سره أنّه من وكلاء الناحية الذين لا تخلف الشيعة فيهم ، توفّي في جمادى الأولى سنة ٢٦١ ، وكان أبوه القاسم أمير اليمن رجلا جليلا ، وكانت أمّ القاسم أمّ حكيم بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر ، فهو ابن خالة مولانا الصادق عليه‌السلام.

وسيأتي أنّ أبا الحسن الهادي عليه‌السلام مصّ حصاة ثمّ رمى بها إلى أبي هاشم فوضعها في فمه فما برح من عنده حتّى تكلّم بثلاثة وسبعين لسانا أوّلها الهنديّة.

وفي الخرايج : كان أبو هاشم منقطعا إلى الهادي عليه‌السلام فشكا إليه ما يلقى من الشوق إليه وكان ببغداد وله برذون ضعيف ، فقال : قوّاك الله يا أبا هاشم وقوّى برذونك. قال الراوندي : وكان أبو هاشم يصلّي الفجر ببغداد ويسير على ذلك البرذون فيدرك الزوال من يومه ذلك في عسكر سرّ من رأى ويعود من يومه إلى بغداد إذا شاء على ذلك البرذون ، وكان هذا من أعجب الدلائل التي شوهدت.

وروى الشيخ الصدوق رحمه‌الله عن أبي هاشم الجعفري قال : أصابتني ضيّقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد عليهما‌السلام فأذن لي فلمّا جلست قال : يا أبا هاشم ، أيّ نعم الله عزوجل عليك تريد أن تؤدّي شكرها؟ قال أبو هاشم : فوجمت فلم أدر ما أقول له ، فابتدر عليه‌السلام فقال : رزقك الإيمان فحرم به بدنك على النار ، ورزقك العافية فقوّاك على الطاعة ، ورزقك القنوع فصانك عن التبذّل ، يا أبا هاشم إنّما

٢٩٤

ابتدأتك بهذا لأنّني ظننت أنّك تريد أن تشكو إلى من فعل بك هذا وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها.

وروى الطبرسي وفي إعلام الورى وغيره عن أحمد بن محمّد بن عيّاش بسنده عن أبي هاشم الجعفري قال : كنت عند أبي محمّد عليه‌السلام فاستأذن رجل من أهل اليمن فدخل عليه رجل جميل طويل جسيم فسلّم عليه بالولاية فردّ عليه بالقبول وأمره بالجلوس فجلس إلى جنبي ، فقلت في نفسي : ليت شعري من هذا؟ فقال أبو محمّد : هذا من ولد الأعرابيّة صاحبة الحصاة التي طبع آبائي فيها ثمّ قال : هاتها ، فأخرج حصاة وفي جانب منها موضع المسّ فطبع فيها بخاتمه فانطبع وكأنّي أقرأ الخاتم الساعة (الحسن ابن علي).

فقلت لليماني : رأيته قطّ؟ قال : لا والله وإنّي منذ دهر لحريص على رؤيته حتّى كأنّ الساعة أتاني شابّ لست أراه فقال : قم فادخل ، فدخلت ثمّ نهض وهو يقول «رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ذرّيّة بعضها من بعض ، أشهد أنّ حقّك لواجب كوجوب حقّ أمير المؤمنين والأئمّة من بعده صلوات الله عليهم أجمعين ، وإليك انتهت الحكمة والإمامة وإنّك وليّ الله الذي لا عذر لأحد في الجهل به».

فسألته عن اسمه ، فقال : اسمي «مهجع» بن الصلت بن عقبة بن سمعان بن غانم بن أمّ غانم وهي الأعرابيّة اليمانيّة صاحبة الحصاة التي ختم فيها أمير المؤمنين عليه‌السلام. فقال أبو هاشم الجعفري قصيدة في ذلك منها :

بدرب الحصا مولى لنا يختم الحصا

له الله أصغى بالدليل وأخلصا

وأعطاه آيات الإمامة كلّها

كموسى وفلق البحر واليد والعصا

وما قمّص الله النبيّين حجّة

ومعجزة إلّا الوصيّين قمّصا

فمن كان مرتابا بذاك فقصره

من الأمر أن يتلو الدليل ويفحصا

٢٩٥

[مقبرة السيّدة حكيمة بنت الإمام الجواد عليه‌السلام]

ومنها : مقبرة السيّدة الجليلة حكيمة بنت الإمام الجواد عليه‌السلام مدفونة ممّا يلي رجلي العسكريّين عليهما‌السلام ، توفّيت في سنة أربع وسبعين ومأتين كما تقدّم ، وهي عالمة فاضلة جليلة ، واسطة بين الإمام والرعيّة.

قال المجلسيّ في مزار البحار : إنّ في قبّة العسكريّين عليهما‌السلام قبرا منسوبا إلى الكريمة النجيبة العالمة الفاضلة التقيّة الرضيّة حكيمة بنت أبي جعفر الجواد عليه‌السلام وما أدري لم لم يتعرّضوا لزيارتها مع ظهور فضلها وجلالة قدرها وأنّها كانت مخصوصة بالأئمّة عليهم‌السلام ومودعة أسرارهم ، وكانت أمّ القائم عندها وكانت حاضرة عند ولادته ، وكانت تراه حينا بعد حين في حياة أبي محمّد عليه‌السلام ، وكانت من السفراء والأبواب بعد وفاته ، فينبغي زيارتها بما أجرى الله على اللسان ممّا يناسب فضلها وشأنها.

قال المولى الوحيد البهبهاني : عدم التعرّض لزيارتها كما أشار إليه الخال المفضال عجيب.

أقول : ونحن نشير إلى نبذة يسيرة ممّا يدلّ على جلالة قدرها ، فقد روى المجلسي رحمه‌الله في الثالث عشر من البحار باب أحوال السفراء في الغيبة الصغرى نقلا عن الإكمال مسندا عن أحمد بن إبراهيم قال : دخلت على حكيمة بنت محمّد بن عليّ الرضا عليهم‌السلام أخت أبي الحسن صاحب العسكر عليه‌السلام في سنة اثنتين وستّين ومأتين فكلّمتها من وراء الحجاب وسألتها عن دينها فسمّت لي من تأتمّ بهم ثمّ قالت : والحجّة بن الحسن بن عليّ فسمّته فقلت لها : جعلني الله فداك ، معاينة أو خبرا؟ فقالت : خبرا عن أبي محمّد عليه‌السلام كتب به إلى أمّه ، فقلت لها : فأين الولد؟ فقالت مستور. فقلت : إلى من تفزع الشيعة؟ فقالت : إلى الجدّة أمّ أبي محمّد. فقلت

٢٩٦

لها : أقتدي بمن وصيّته إلى امرأة؟ فقالت : اقتدي بالحسين بن عليّ ، والحسين بن عليّ أوصى إلى أخته زينب سلام الله عليها بنت عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في الظاهر ، وكان ما يخرج من عليّ بن الحسين من علم ينسب إلى زينب ، سترا على عليّ بن الحسين عليه‌السلام. ثمّ قالت : إنّكم قوم أصحاب أخبار ، أما رويتم أنّ التاسع من ولد الحسين يقسّم ميراثه وهو في الحياة؟!

وروى المحدّث البحراني في مدينة المعاجز نقلا عن أبي جعفر محمّد بن جرير بن رستم الطبري بالإسناد عن محمّد بن القاسم العلوي قال : دخلنا جماعة من العلويّة على حكيمة بنت محمّد بن عليّ بن موسى عليه‌السلام فقالت : جئتم تسألوني عن ميلاد وليّ الله؟ قلنا : بلى والله ، قالت : كانت البارحة عندي وأخبرني بذلك وإنّه كانت عندي صبيّة يقال لها نرجس وكنت أربّيها من بين الجواري ولا يلي تربيتها غيري ، إذ دخل أبو محمّد عليّ ذات يوم فبقي يحدّ النظر إليها ، فقلت : يا سيّدي ، هل لك فيها من حاجة؟ فقال : نحن معاشر الأوصياء لسنا ننظر نظر ريبة ولكنّا ننظر تعجّبا وإنّ المولود الكريم على الله يكون منها.

قالت : قلت : يا سيّدي ، أرسلها إليك؟ قال : استأذني أبي في ذلك ، فصرت إلى أخي فلمّا دخلت عليه تبسّم ضاحكا قال : يا حكيمة ، جئت تستأذنيني في أمر الصبيّة ، ابعثي بها إلى أبي محمّد فإنّ الله عزوجل يحبّ أن يشركك في هذا الأمر ، فزيّنتها وبعثت بها إلى أبي محمّد عليه‌السلام ـ وعلى رواية ابن بابويه : وجمعت بينه وبينها في منزلي أيّاما فأقام عندي ثمّ مضى إلى والده ووجّهت بها معه ـ.

قالت حكيمة : فمضى أبو الحسن عليه‌السلام فجلس أبو محمّد عليه‌السلام مكان والده وكنت أزوره كما أزور والده ، فجائتني نرجس يوما تخلع خفّي ، فقالت : يا مولاتي ناوليني خفّك ، فقلت : بل أنا أخدمك على بصري. فسمع أبو محمّد عليه‌السلام ذلك فقال : جزاك الله خيرا يا عمّة ، فجلست عنده إلى وقت غروب الشمس ، فصحت بالجارية :

٢٩٧

ناوليني ثيابي لأنصرف ، فقال : يا عمّتاه ، بيتي الليلة عندنا فإنّه سيولد الليلة المولود الكريم على الله عزوجل الذي يحيي الله به الأرض بعد موتها. قلت : ممّن يا سيّدي؟ قال : من نرجس. قلت : ولست أرى بنرجس شيئا من أثر الحمل! فقال : من نرجس لا من غيرها. فوثبت إلى نرجس فقلّبتها ظهرا وبطنا فلم أر بها من أثر الحمل فعدت إليه وأخبرته بما فعلت فتبسّم ثمّ قال لي : إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحمل لأنّ مثلها مثل أمّ موسى عليه‌السلام لم يظهر بها ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها ؛ لأنّ فرعون كان يشقّ بطون الحبالى في طلب موسى وهذا نظير موسى عليه‌السلام.

قالت حكيمة : فلم أزل أراقبها إلى طلوع الفجر وهي نائمة بين يديّ لا تقلّبت جنبا إلى جنب حتّى إذا كان في آخر الليل وقت طلوع الفجر فوثبت فزعة فضممتها إلى صدري فسمّيت عليها ، فصاح أبو محمّد عليه‌السلام وقال : اقرئي إنّا أنزلناه في ليلة القدر ، فأقبلت أقرأ عليها وقلت لها : ما حالك؟ قالت : ظهر الأمر الذي أخبرك به مولاي ، فأقبلت عليها أقرأ عليها كما أمرني ، فأجابني الجنين من بطنها يقرأ كما أقرأ ، وسلّم عليّ.

قالت حكيمة : ففزعت لمّا سمعت ، فصاح بي أبو محمّد عليه‌السلام : لا تعجبي من أمر الله عزوجل ، إنّ الله تبارك وتعالى ينطقنا بالحكمة صغارا ويجعلنا حجّة في أرضه كبارا ، فلم يستتمّ الكلام حتّى غيبت نرجس عنّي فلم أرها كأنّه ضرب بيني وبينها حجاب ، فعدوت نحو أبي محمّد عليه‌السلام وأنا صارخة ، فقال : ارجعي يا عمّة فإنّك ستجدينها في مكانها. قالت : فرجعت فلم ألبث أن كشف الحجاب بيني وبينها وإذا أنا بها وعليها من أثر النور ما غشى بصري ، وإذا بالصبيّ عليه‌السلام ساجدا على وجهه وجاثيا على ركبتيه رافعا سبّابتيه نحو السماء وهو يقول : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّ جدّي رسول الله وأنّ أبي أمير المؤمنين ، ثمّ عدّ إماما إماما

٢٩٨

إلى أن بلغ إلى نفسه ، فقال عليه‌السلام : اللهمّ أنجز لي وعدي وأتمم لي أمري وثبّت وطأتي واملأ الأرض بي عدلا وقسطا. فصاح أبو محمّد عليه‌السلام فقال : يا عمّة ، تناوليه وهاتيه ، فتناولته وأتيت به نحوه ، فلمّا مثلت بين يدي أبيه وهو على يدي سلّم على أبية فتناوله أبو محمّد عليه‌السلام والطير يرفرف على رأسه ، فصاح بطير منها فقال له : احمله واحفظه وردّه إلينا في كلّ أربعين يوما ، فتناوله الطائر فطار به في جوّ السماء وأتبعه سائر الطيور ، فسمعت أبا محمّد يقول : استودعك الذي استودعته أمّ موسى عليه‌السلام. فبكت نرجس ، فقال لها : اسكتي فإنّ الرضاع محرّم عليه إلّا من ثديك ، وسيعاد إليك كما ردّ موسى إلى أمّه وذلك قوله عزوجل : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ)(١).

قالت حكيمة : فقلت : ما هذا الطائر؟ قال : هذا روح القدس الموكّل بالأئمّة عليهم‌السلام يوفّقهم ويسدّدهم ويسرّهم بالعلم.

قالت حكيمة : فلمّا كان بعد أربعين يوما ردّ الغلام ووجّه إليّ ابن أخي فدعاني ودخلت عليه فإذا بصبيّ يتحرّك يمشي بين يديه ، فقلت : سيّدي ، هذا ابن سنتين؟ فتبسّم عليه‌السلام ثمّ قال : إنّ أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمّة ينشؤن بخلاف ما ينشؤ غيرهم ، وإنّ الصبيّ منّا إذا أتى عليه شهر كان كمن يأتي عليه سنة ، وإنّ الصبيّ منّا يتكلّم في بطن أمّه ويقرأ القرآن ويعبد ربّه عزوجل وعند الرضاع تطيعه الملائكة وتنزل عليه صباحا ومساء.

قالت حكيمة : فلم أزل أرى ذلك الصبيّ كلّ أربعين يوما إلى أن رأيته رجلا قبل مضيّ أبي محمّد عليه‌السلام بأيّام قلائل فلم أعرفه ، فقلت لأبي محمّد عليه‌السلام : من هذا الذي تأمرني أن أجلس بين يديه؟ فقال : ابن نرجس وهو خليفتي من بعدي وعن قليل تفقدوني فاسمعي له وأطيعي.

__________________

(١) القصص : ١٣.

٢٩٩

قالت حكيمة : فمضى أبو محمّد عليه‌السلام بعد ذلك بأيّام قلائل وافترق الناس كما ترى ، والله لأراه صباحا ومساءا وإنّه لينبّئني عمّا تسألوني عنه وأخبركم ، والله إنّي لأريد أن أسأله عن الشيء فيبدأني به ، وإنّه ليردّ عليّ الأمر فيخرج إليّ منه جوابه من ساعته من غير مسألتي ، وقد أخبرني البارحة بمجيئك إليّ وأمرني أن أخبرك بالحقّ.

قال محمّد بن عبد الله : فو الله لقد أخبرتني حكيمة بأشياء لم يطّلع عليها أحد إلّا الله عزوجل ، فعلمت أنّ ذلك صدق وعدل من الله عزوجل ، وإنّ الله تعالى قد اطّلعها على ما لم يطّلع عليه أحدا من خلقه.

أقول : تشهد هذه الأحاديث أنّ حكيمة بنت الجواد عليه‌السلام بمكان من عظم الفضل والنبالة والشرف والجلالة ، وقد بلغت غاية الشأن والعظمة لأنّها نالت منصب السفارة والواسطة بين الإمام والأمّة ، وكانت صاحبة أسرار الأئمّة وكفاها شرفا حضورها ولادة الحجّة واختصاصها للوصاية. وستأتي رواية أخرى من الحضيني في كيفيّة ولادة الحجّة عليه‌السلام ولقد استوفينا مآثرها الجميلة في المجلّد الرابع من كتابنا الرياحين الشريعة في ذكر عالمات الشيعة بصورة تفصيليّة والكتاب مطبوع منتشر.

ثمّ إنّ الحكيمة عليها‌السلام تزوّجها أبو الحسن عليّ المرعشي بن عبيد الله بن أبي الحسن محمّد الأكبر بن محمّد حسن المحدّث بن الحسين الأصغر بن الإمام زين العابدين ، فولدت له أبو وعبد الله الحسين وحمزة وزيد ، نقل من شجرة ابن خدّاع المصري.

[مقبرة نرجس أمّ القائم عليه‌السلام]

ومنها : مقبرة الجهة العليا نرجس أمّ القائم ، توفّيت في سنة ستّين ومأتين ، ودفن خلف الإمام العسكري عليه‌السلام وقبرها مشهور. وقد تقدّم آنفا في أبيات العلّامة الخبير الشيخ محمّد السماوي دام علاه بيان موضع قبرها وسنة وفاتها ، فراجع.

٣٠٠