سرّ الفصاحة

أبي محمّد عبد الله بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي

سرّ الفصاحة

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي


المحقق: داود غطاشة الشّوابكة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ناشرون وموزعون
الطبعة: ١
ISBN: 9957-07-444-X
الصفحات: ٣٢٧

التقريظ والوصف ، لا خفاء بحسن موقعها ، فهذا وما أشبهه هو الحشو المحمود المختار.

وقد زلّ في هذا الموضع أبو هاشم عبد السّلام بن محمد ، فألحق الحشو الجيد بالرديء ، وقال في «المسائل البغداديات» في مسألة ذكرها في إيجاز القرآن : إن الشاعر إذا احتاج إلى الوزن ذكر ما لا يحتاج إليه في الكلام المنثور ، ألا ترى إلى قول امرىء القيس :

ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال (١)

ولو كان في الكلام لكان يقول : ورضت فذلّت أي إذلال لو شاء ، ولو شاء لقال : ورضت فذلّت صعبة. فقد بان أنهم ربما ذكروا المصادر والظروف ليتم الوزن في هذا الشعر الرصين ، وهذا كما قال الأعشى :

فأصبت حبّة قلبها وطحالها (٢)

ولو لا الوزن لاكتفى بقوله : فأصبت حبّة قلبها.

وهذا كلام بعيد من الصواب ؛ لأن صعبة من بيت امرىء القيس وقوله : أي إذلال ، حشو مختار حسن يقصد في المنثور مثله الحذاق بتأليفه ، لأنه لو قال : ورضت فذلّت ، لم يكن في الكلام دليل على أن هناك صعوبة ولا ثمّ تمنعا ، وبقوله : صعبة ، قد حصل هذا الغرض ، وهو مقصود لا يخيل على عاقل في هذا الموصوف ، وفي تأليف الكلام لا يخفى على من له أدنى علم بهذه الصناعة ، ثم في قوله بعد ـ أي إذلال ـ وصف حسن لذلّها ليس بمستفاد من الأول ، لموقع التعجب فيه والوصف ، وليس هذا الموضع مما يقصّر في فهمه أحد من المتوسطين في هذا العلم ، وأبو هاشم ـ وإن كان العالم المتقدّم في صناعة الكلام ـ فليس معرفته بالجواهر والأعراض وكلامه في العدل والألطاف مما

__________________

(١) هذا عجز البيت وتمامه :

وصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا

ورضت فذلت صعبة أي إذلال

شرح ديوان امرىء القيس ١٦١ ، المنتضب ١ / ٧٤ ، المحتسب ٢ / ٢٦٠ ، خزانة الأدب ٤ / ٢٤.

(٢) «ديوان الأعشى» ص ١٤٤.

١٤١

يفيده العلم بصناعة نقد الكلام المؤلف ، وفهم النظم والنثر ، كما أن من المتقدمين في هذا العلم من يجهل أول ما يجب على العاقل فضلا عما تجاوزه ، ونعوذ بالله من تعاطي ما لا نحسنه ، ونسأله التوفيق والعصمة فيما نقوله ونفعله.

فأما بيت الأعشى فالأمر فيه على ما وقع لأبي هاشم ، وهو من أقبح الحشو ، ولا مناسبة بينه وبين بيت امرىء القيس في حال من الأحوال ، ومما تزداد به عجبا أن علي بن عيسى الرمّاني نقض على أبي هاشم مسائله هذه بكتاب معروف قصره على نقضها ، واعتمد فيه المناقشة وترك المسامحة في كل لفظة من ألفاظ أبي هاشم ، فلما وصل إلى هذه المسألة ونقضها لم يعرض لهذا الموضع الذي ذكرناه ، بل ظهر من كلامه أنه موافق فيه مسلّم له ، ولا نعلم السبب الموجب لخفاء مثله على أبي الحسن ، مع مكانه المشهور من الأدب.

وأما مثال الكلمة التي تقع حشوا وتؤثر في المعنى نقصا وفي الغرض فسادا ، فكقول أبي الطيب يمدح كافورا :

ترعرع الملك الأستاذ مكتهلا

قبل اكتهال أديبا قبل تأديب (١)

لأن قوله : الاستاذ ـ بعد ـ الملك ، نقص له كبير ، وبين تسميته له بالملك والأستاذ فرق واضح ، فالأستاذ قد وقع هاهنا حشوا ، ونقص به المعنى إذ كان الغرض في المدح تفخيم أحوال الممدوح وتعظيم شأنه ، لا تحقيره وتصغير أمره ، وقد رأيت في أخبار كافور الأخشيدي ما يقيم عذر أبي الطيب في هذا ، ويزيل عنه بعض اللوم ، وذلك أنه روي أن كافورا لما غلب على ولد الأخشيد فاستبد بالأمور دونهم ، لم يخرج بذلك عن حد المدير إلى المالك ، ولم يقم له على منبر دعوة ، ولا نقش باسمه سكّة ، ولا اختار أن يخاطب إلا بالأستاذ ، فلم يسمّ في مدة أيامه بالأمير ولا بغيره ، فإذا علم منه الشعراء حب المخاطبة بهذه التسمية نظموا ذلك في مديحهم ، فكأن أبا الطيب ذكر الأستاذ بعد الملك علما منه بغرض كافور ، فأما تمثيلنا نحن بهذا البيت فصحيح ، وفي حكم النظم والنثر ألا تذكر هذه الكلمة بعد كلمة هي أشرف منها بدرجة عالية.

__________________

(١) «ديوان المتنبي» (٢ / ٢١٢).

١٤٢

فإن زعم زاعم أن أبا الطيب قصد بقوله : الأستاذ تقريع كافور بذلك ونقصه كما كان يقصد ذلك بذكر سواده ، فإن أبا الطيب قال : كان كافور الأخشيدي يشقّ عليه أن يعرّض له بالسواد ، فكنت أعتمد معه في كل قصيدة ذكر سواده ، حتى قلت فيه : بشمس منيرة سوداء (١). وقلت :

سوابق خيل يهتدين بأدهم (٢)

وغير ذلك مما هو موجود في المديح لكافور. فلعمري إن هذا القول مروي عن أبي الطيب ، لكنا إذا تكلمنا على المديح وما يجب أن يكون مبنيا عليه من التعظيم للمدوح ، لم نعرّج على ما يقصده المادح من منافاة هذا الغرض ، إذ كان هذا بخلاف ما هو بصدده وقاصده ، وليس يكون فيه أكثر من عذر المادح ، وأنه لم يخف ما يجب عليه ، وإنما قصده ، وتعمده ، فأما أن يكون ذلك سببا لصحة الكلام في نفسه فلا ، ونحن إنما نتكلم على ذلك.

فأما قول أبي الطيب أيضا :

فلا فضل فيها للشجاعة والندى

وصبر الفتى لو لا لقاء شعوب (٣)

فإن الندى هاهنا حشو يفسد المعنى ، وذلك أن مقصوده أن الدنيا لا فضل فيها للشجاعة والصبر لو لا الموت ، لأن الشجاع إذا علم أنه يخلدّ فأي فضل لشجاعته؟

__________________

(١) وتمام البيت :

تفصح الشمس كلّما ذرّت الشمس

بشمس منيرة سوداء

وانظر «ديوانه» (٢ / ٢٢٢).

(٢) وتمام البيت :

فدى لأبي المسك الكرام فإنها

سوابق خيل يهتدين بأدهم

وانظر «ديوانه» (٢ / ٢٠٨).

(٣) «ديوان المتنبي» (٢ / ٧٣).

١٤٣

وكذلك الصابر ، فأما الندى فمخالف لذلك ، لأن الإنسان إذا علم أنه يموت هان عليه بذل ماله ، وكذلك يقول إذا عوتب في بذله : كيف لا أبذل ما لا أبقى له؟ ومن أين أثق بالتمتع بهذا المال؟ والأمر في هذا ظاهر ، قال طرفة :

فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي

فذرني أبادرها بما ملكت يدي (١)

وقال مهيار بن مرزويه :

وكل إن أكلت وأطعم أخاك

فلا الزاد يبقى ولا الآكل

وأما إذا كان الإنسان خالدا في الدنيا ثم جاد بماله فلعمري إن كرمه يكون أفضل ، وبذله لماله أشد ، والأمر في ذلك مخالف لحكم الشجاعة بغير شك ، لأن تلك لو لا الموت لم تحمد ، والندى بالضد. وإذا كان الأمر على هذا كان قوله : والندى حشوا يفسد المعنى ، وقد قال الشريف المرتضى علم الهدى رضي‌الله‌عنه : إن المراد بالندى في البيت بذل النفس لا بذل المال ، كما قال مسلم بن الوليد :

يجود بالنفس إذ ضنّ البخيل بها

والجود بالنفس أقصى غاية الجود

قال : وإذا جاز أن يسمى بذل النفس جودا جاز أن يسميه ندى أيضا وكرما وسخاء ، وهذا الذي ذكره ـ رحمه‌الله ـ أقصى ما يجوز أن يتأوّل به ، ولا يحمل قول الشاعر على الفساد ، وأما إذا عدنا إلى التحقيق علمنا أن لفظ الندى المطلق لا يفيد إلا بذل المال والكرم ، ولا يكاد يستعمل في بذل النفس ، وإن استعمل فعلى وجه الإضافة ، فأما مع الإطلاق فلا يفيد ذلك ، ثم إذا سوغنا ما ذهب إليه ـ على بعده ـ كان لفظ : الندى حشوا ؛ لأن الشجاعة قد أغنت عنه ، فيمكن حمل هذا البيت على الحشو الذي يختلّ به المعنى على ما ذكرناه من تأويله الظاهر ، وعلى الحشو الذي يكون غير مؤثر في الكلام على ما خرّجه الشريف رحمه‌الله وتأوله.

__________________

(١) انظر ديوانه ، ص ١٤٨.

١٤٤

وأما الكلمة التي تقع حشوا غير مؤثرة فأمثلتها كثيرة موجودة في النظم والنثر ، ومنها قول أبي تمام :

جذبت نداه غدوة السبت جذبة

فخرّ صريعا بين أيدي القصائد (١)

لأن قوله : (غدوة السبت) حشو لا يحتاج إليه ، ولا تقع فائدة بذكره ، ومن ذا الذي يؤثر أن يعلم اليوم الذي أعطى الممدوح فيه أبا تمام؟ وأي فرق بين أن يقع عطاء في يوم السبت أو الأحد أو غيرهما من الأيام؟ وما بقى عليه شيء إلا أن يخبر بتاريخ ذلك الوقت ، وموضع ذلك اليوم من الشهر.

فمثل هذا وأشباهه الحشو الذي يقع ولا تعرض في ذكره فائدة إلا ليصح الوزن ، وهو عيب فاحش في هذه الصناعة ، وما أكثر ما تستعمل : أمسى وأصبح وأخواتها ؛ في هذا الموضع من الحشو ، ويجب أن تعتبر ذلك بأن تنظر الفائدة فيه ، فإن كان الأمر الذي ذكر أنه أصبح فيه لم يكن أمسى فيه فالفائدة حاصلة ، وإن كان الأمر بخلاف ذلك فهو حشو لا يحتاج إليه ، فاعتبار الفائدة فيه هو الأصل الذي يرجع إليه ، ويعول على النظر من جهته ، ومثال ذلك أن يقال : أصبحنا مغيرين على بني فلان ؛ فإن موقع ـ أصبحنا ـ في هذا الموضع موقع صحيح ، لأنهم لم يكونوا أغاروا عليهم في وقت المساء ، ومثل ذلك قوله تبارك وتعالى : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) [الأعراف : ٧٨]. لأن الأمر لم يطرقهم إلا ليلا ، فأمّا لو قال قائل : أصبح العسل حلوا ، لكان قوله : أصبح حشوا ، لأنه قد أمسى كذلك ، ويدل على صحة هذا واعتبار العلماء له ما ذكره أبو الحسن على بن عيسى الرّماني في كتابه المعروف ب «الجامع في علم القرآن» ، فإنه قال في قوله تعالى : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) [المائدة : ٥٣].

__________________

(١) سبق تخريجه ص ١٣٩.

١٤٥

إنما ذكر الصباح من غير أن يراد به معنى الصباح لأنهم بمنزلة من أصبح على أسو أحال ، وذلك لأن أكثر ما يكون من هيجان الإعلال بالليل ، فيؤمّل لصاحبها حسن الحال عند الصباح ، فإذا كان الضد من ذلك حصل على الهلاك ، فلم يرض أبو الحسن أن تقع ـ أصبح ـ في كلام الله تعالى حشوا ، بل تأوّل ذلك كما يتأوله مثله ، وفي ضمن قوله الشهادة بما ذكرناه والإذعان له ، فإن قال قائل : كيف يمكنكم أن تقولوا هذا؟ وعلى الصحيح من مذاهبكم أن دليل الخطاب عندكم ليس بحجة ، وأن تعليق الحكم باسم أو صفة أو شرط أو غاية لا تدل على انتفائه بانتفاء ذلك؟ وإذا كان هذا قولكم فليس في قول القائل : أصبح السكر حلوا ، دليل على أنه لم يمس كذلك ، كما زعمتم أن ليس في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في سائمة الغنم الزكاة» (١) دليل على أن المعلوفة لا زكاة فيها ، ولا يمتنع عندكم أن يقال : في سائمة الغنم الزكاة ، وإن كانت واجبة في معلوفتها ، فكذلك لا يقبح أن يقال : أصبح العسل حلوا ، وإن كان قد أمسى أيضا بهذه الصفة ، قيل : الجواب عن هذا السؤال أن الفرق بين ما نجيزه من تعليق الحكم بصفة وثبوته لما انتفت عنه تلك الصفة في مثل قوله عليه‌السلام : «في سائمة الغنم الزكاة» وبين ما نكرهه من قول القائل : أصبح السكر حلوا ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قال : «في سائمة الغنم الزكاة» فليس مراده أن يبين لنا حال المعلوف هل تجب فيها الزكاة أم لا؟ بل هي مسكوت عنها ، فتجوّز فيها ما كنّا نجوّزه في السائمة قبل هذا القول ، وليس كذلك قول القائل : أصبح العسل حلوا ، لأنه يريد حلوا في كل حال من صباح أو مساء ، فلذلك كان ذكر الصباح حشوا ، ومثله في مسألتنا أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقصد أن يبين لنا حال الزكاة في الغنم جميعها السائمة والمعلوفة ، ثم يقول : «في سائمة الغنم الزكاة» فإنا نقول : إن هذا اللفظ غير موافق للمقصود ، إذ كان لا يعطينا تصريحه ولا فحواه في المعلوفة حكما ، كما قلنا : إن من أراد أن يصف لنا العسل بالحلاوة في جميع الأوقات ثم قال : أصبح العسل حلوا ؛ فإنه قد أتى بأصبح حشوا لغير فائدة ، فبان الفرق بين الأمرين.

__________________

(١) أبو داود (١٥٦٧) و (١٥٦٨).

١٤٦

ومن الحشو أيضا قول أبي تمام :

كالظبية الأدماء صافت فارتعت

زهر العرار الغضّ والجثجاثا (١)

فإن الجثجاث إنما جاء به حشوا لأجل القافية ، وإلا فليس للظبية فضيلة إذا رعت الجثجاث ، ولا له فيها ميزة على غيره من النبات ، وقد سبقه إلى مثل هذا الحشو في القافية عديّ بن الرقاع العامليّ فقال :

وكأنها بين النساء أعارها

عينيه أحور من جآذر جاسم (٢)

لأن جاسم إنما وردت هنا لأجل القافية لا لمعنى فيها ، وهي قرية بالشام من أعمال دمشق ، وفيها ولد أبو تمام الطائي ، وليس لجآذرها ميزة على غيرها ، وقد سألت عن ذلك جماعة ممن يخبر تلك الناحية فما وجدت عندهم فيها إلا ما عندهم في غيرها من البلاد.

ومن ذلك أيضا قول علي بن محمد البصري :

وسابغة الأذيال زغف مفاضة

تكنفها منى بجاد مخطّط (٣)

فليس لكون البجاد مخططا تأثير في صفة الدرع ، وإنما الغرض بذكره القافية.

وأضداد هذا في وقوع الفائدة بالكلمة التي تكون فيها القافية كثير ، ومنه قول امرىء القيس :

كأنّ عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا الجزع الذي لم يثقّب (٤)

__________________

(١) «ديوان أبي تمام» ١ / ٣١٢. الأدماء : التي يعلو لونها سمرة. صافت : أتى عليها الصيف. العرار والجثجاث ضربان من النبت.

(٢) «الشعر والشعراء» ٦٠٢ ، «الأغاني» ٨ / ١٧٤ ، «المصون في الأدب» ١٥.

(٣) الزغف من الدروع : المحكمة اللينة ، ومفاضة : واسعة ، والبجاد : الثوب.

(٤) «شرح ديوان امرىء القيس» ٥٦. الجزع : الخرز اليماني فيه سواد وبياض.

١٤٧

فإنه لما أتى على التشبيه قبل القافية واحتاج إليها جاء بزيادة حسنة في قوله : لم يثقب ؛ لأن الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون.

وكذلك قول زهير بن أبي سلمى :

كأن فتات العهن في كل منزل

نزلن به حبّ الفنا لم يحطّم (١)

فقوله : لم يحطّم في هذا البيت مثل : لم يثقب في البيت الذي قبله.

وروى أبو الفرج قدامة بن جعفر عن محمد بن يزيد المبرّد عن التوّزي ، قال : قلت للأصمعي : من أشعر الناس؟ فقال : من يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيرا ، أو الكبير فيجعله بلفظه خسيسا ، أو ينقضي كلامه قبل القافية فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى ، قال : نحو من؟ قال : نحو ذي الرّمّة حيث يقول :

قف العيس في أطلال ميّة فاسأل

رسوما كأخلاق الرداء (٢)

فتمّ الكلام. ثم قال : المسلسل ، فزاد شيئا ، ثم قال :

أظن الذي يجدي عليك سؤالها

دموعا كتبديد الجمان (٣)

فتمّ كلامه. ثم قال : المفصل ، فزاد شيئا ، قال : قلت : ونحو من؟ قال : الأعشى حيث يقول :

كناطح صخرة يوما ليفلقها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل (٤)

فزاد معنى ، قال : قلت : وكيف صار الوعل مفضلا على كل ما ينطح؟ قال : لأنه ينحط من أعلى الجبل على قرنيه فلا يضيره (٥).

__________________

(١) «ديوان زهير بن أبي سلمى» ص ١٠٥.

(٢) «ديوان ذي الرمة» (ص ٢٢٥) وفي المطبوع صدر البيت : رسوما كأخلاق الرّداء المسلسل.

(٣) «ديوان ذي الرمة» (ص ٢٢٦) في المطبوع صدر البيت : دموعا كتبذير الجمان المفصّل.

(٤) «ديوان الأعشى» ص ١٣٤.

(٥) نقد الشعر لقدامة بن جعفر ، ص : ١٧٠.

١٤٨

وقد سمى أصحاب صناعة الشعر هذا المعنى الإيغال وأرادوا بذلك أن الشاعر يوغل بالقافية في الوصف إن كان واصفا ، وفي التشبيه إن كان مشبّها.

ويجب أن تعلم أن هذا الموضع من حشو البيت شديد المراعاة لأجل أنه القافية ، فإذا وقعت فيه الإصابة أو الخطأ كان أظهر لهما إذا وقعا في كلمة من متن البيت ، لما يختص به هذا الموضع من فضل العناية ، إذ كان متميزا بالقصد مما هو طرف وقافية.

وعلى هذا يقع الأمر أيضا في السجع من الكلام المنثور ، وكثيرا ما يتعذر على مؤلفه القرينة فيتحمل الكلام تحملا شديدا ، ويأتي بمعان خارجة عن غرضه ، حتى يظفر بالسجعة بعد تعب ، ويكون معها بمنزلة من يطلب شيئا يصيده ، فهو يجدّ في الطلب ، والمقصود يجتهد في الهرب ، ويجيء من هذا اختلاف الفصول في الطول والقصر ، لأنه يحتاج في طلب القرينة إلى إطالة الفصل حتى يزيد على ما قبله زيادة فاحشة ، وهذا عيب ظاهر في أكثر من ينتحل صناعة الكتابة في زماننا هذا ، وقد سنّ الكتاب المتقدمون من تجنب السجع في أكثر كلامهم سنة لو اعتمدت لو جدت فيها الراحة من هذا العارض ، لأنهم إذا كانوا لا يحفلون بالسجع فالواجب اطراحه في الموضع الذي يكون متكلفا نافرا ، فأما الشعر فلا مندوحة عن القافية ، فإن تعذرت في البيت فليس غير ترك ذلك البيت رأسا ، وسيأتي الكلام في هذا الباب إذا صرنا إلى ذكر التناسب في الألفاظ بمشيئة الله وعونه.

فأما زيادة ـ ما ـ في قول الله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [النساء : ١٥٥] فإن لها هنا تأثيرا في حسن النظم ، وتمكينا للكلام في النفس ، وبعدا به عن الألفاظ المبتذلة ، فعلى هذا لا يكون حشوا لا يفيد ، وأهل النحو يقولون : إن ـ ما ـ في هذا الموضع صلة مؤكدة للكلام ، وقد يكون التوكيد عندهم بالتكرار كما يكون بالعلامة الموضوعة له ، وإذا أفاد للكلام شيئا فليس من الحشو المذموم ، لأن حقيقة الحشو هو الذي يكون دخوله في الكلام وخروجه على سواء ، وإنما الغرض به إقامة الوزن في الشعر. أو ما

١٤٩

يجري مجرى ذلك في النثر ، وقد جاءت ـ ما ـ في الشعر أيضا على معنى ما وردت في الآية ، قال الشاعر (١) :

فاذهبي ما إليك أدركني الحل

م عداني عن هيجكم أشغالي

ومن هذا القبيل أيضا دخولها في ـ ابنما ـ قال المتلمس (٢) :

وهل لي أمّ غيرها إن تركتها

أبى الله إلا أن أكون لها ابنما

وقال الآخر (٣) :

لقيم بن لقمان من أخته

فكان ابن أخت له وابنما

وورودها في هذا الموضع خاصة كثير ، فهذا مبلغ ما نقوله في الحشو ، ليكون دليلا على غيره ، ومنبها على مثله.

ومن وضع الألفاظ موضعها اللائق بها ألّا يكون الكلام شديد المداخلة يركب بعضه بعضا ، وهذا هو المعاظلة التي وصف عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه زهير بن أبي سلمى بتجنبها فقال : كان لا يعاظل بين الكلام ، لأن المعاظلة المداخلة ، ومن ذلك يقال : تعاظلت الكلاب ، وغيرها مما يتعلق بعضه ببعض عند السفاد ، وقد غلط في تمثيل هذا أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب ، وبين خطأه فيه أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي رحمه‌الله (٤) ، لأن أبا الفرج قال : إن المداخلة التي تكره ووصف عمر رضي‌الله‌عنه

__________________

(١) هو الأعشى ، «ديوانه» ٥ ، «شرح المفصل» ٤ / ٤٣.

(٢) البيت من الطويل وهو في ديوانه ٣٠ ، «الأصمعيات» ٣٤٥ ، «الخصائص» ٢ / ١٨٢ ، «شرح ابن عقيل» ٩ / ٣٣ ، «المقتضب» ٢ / ٩٣ ، «الخصائص» ١ / ٥٨ ، ٢ / ١٨٢ ، «شرح المفصل» ٩ / ١٣٣ ، «شرح الأشموني» ٤ / ٢٧٦.

(٣) البيت من المتقارب وهو للنمر بن تولب في ديوانه ٣٨٣ ، «البيان والتبيين» ١ / ١٨٤ ، «الحيوان» ١ / ٢٢ ، «سمط اللآلىء» ٧٤٣ ، «مختارات الشجري» ٢١ ، «شرح شواهد شروح الألفية للعيني» ١ / ٥٧٤.

(٤) الموازنة للآمدي ١ / ٢٩٣.

١٥٠

زهيرا بتجنبها أن يدخل بعض الكلام فيما ليس من جنسه ، قال : وما أعرف ذلك إلا فاحش الاستعارة ، مثل قول أوس بن حجر :

وذات هدم عار نواشرها

تصمت بالماء تولبا جدعا (١)

فسمى الصبي تولبا ؛ والتولب : ولد الحمار ، ومثل قول الآخر :

وما رقد الولدان حتى رأيته

على البكر يمريه بساق وحافر (٢)

فسمى رجل الإنسان حافرا.

وهذا ليس من المعاظلة التي هي ركوب بعض الكلام بعضا ومداخلة بعضه في بعض. والصحيح من تمثيل ذلك ما ذكره أبو القاسم الآمديّ (٣) وهو قول أبي تمام :

خان الصفاء أخ خان الزمان أخا

عنه فلم يتخوّن جسمه الكمد (٤)

لأن ألفاظ هذا البيت يتشبث بعضها ببعض ، وتدخل الكلمة من أجل كلمة أخرى تجانسها وتشبهها ، مثل : خان وخان ، ويتخوّن ، وأخ وأخا ، فهذا هو حقيقة المعاظلة.

وكذلك قول أبي تمام أيضا :

يا يوم شرّد يوم لهوي لهوه

بصبابتي وأذلّ عزّ تجلّدي (٥)

__________________

(١) هذا البيت من قصيدة له في رثاء فضالة بن كلدة.

والهدم : الثوب البالي ، والنواشر : عروق باطن الذراع ، وجدعا : سيىء الغذاء. ديوانه ٥٥ ، المعاني الكبير ٤١٢ ، ١٢٤٨ ، أمالي القالي ٣ / ٣٥ ، مجالس العلماء للزجاجي ١٤ ، المصون في الأدب ٩٢١ ، الخصائص ٣ / ٣٠٦ ، أسرار البلاغة ٤٤ ، ٤٥ ، المقرب ١١٧ ، نقد الشعر ١٧٦.

(٢) لمزرّد في أسرار البلاغة ٤٣ ، ولجبيهاء الأشجعي في حماسة ابن الشجري ٢٨٥ ، ولسان العرب (حفر).

(٣) الموازنة ١ / ٢٩٤ ـ ٢٩٥ ، ورواية الديوان ٤ / ٧٤ :

خان الصفاء أخ كان الزمان له

أخا فلم يتخوّن جسمه الكمد

(٤) لم يتخون : لم ينقص. وانظر «ديوانه» ص ٣٥٢ ، وقد جاء : خان الزمان له أخا ... ، وليس كما هو مثبت.

(٥) «ديوان أبي تمام» ٢ / ٤٥ ، وتقديره : يا يوم شرّد لهوه بصبابتي يوم لهوي ، وأزال صبري.

١٥١

فقوله : يا يوم شرّد يوم لهوي لهوه ؛ شديد التعاظل حتى كأنه سلسلة.

ومنه أيضا قول أبي تمام :

يوم أفاض جوى أغاض تعزّيا

خاض الهوى بحري حجاه المزبد (١)

وقال أبو القاسم (٢) : فإن قال قائل : إن هذا الذي أنكرته من تشبث الكلام بعضه ببعض ، وتعلق كل لفظة بما يليها ، وإدخال كلمة من أجل أخرى تشبهها وتجانسها ، هو المحمود من الكلام ، وليس من المعاظلة في شيء ، ألا ترى أن البلغاء والفصحاء لمّا وصفوا ما يستجاد ويستحب من النثر والنظم قالوا : هذا كلام يدل بعضه على بعض ، ويأخذ بعضه برقاب بعض ، قيل : هذا صحيح من قولهم ، ولم يريدوا به هذا الجنس من النظم والنثر ، ولا قصدوا هذا النوع من التأليف ، وإنما أرادوا المعاني إذا وقعت ألفاظها في مواقعها ، وجاءت الكلمة مع أختها المشاكلة لها التي تقتضي أن تجاورها بمعناها ، إما على الاتفاق أو التضاد حسبما توجبه قسمة الكلام ، وأكثر الشعر هذا سبيله ، وذلك نحو قول زهير (٣) :

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

لأنه لما قال في أول البيت : سئمت ، وقال : ومن يعش ثمانين حولا ، اقتضى أن يكون في آخره : يسأم.

وكذلك قوله :

والسّتر دون الفاحشات وما

يلقاك دون الخير من ستر (٤)

__________________

(١) «ديوان أبي تمام» ٢ / ٤٦ ، من قصيدة في مدح المأمون.

(٢) «الموزانة ١ / ٢٩٧ ـ ٢٩٩.

(٣) «ديوان زهير» ، ص ٥٦ ، شرح القصائد العشر ١٢٢ ، الكتاب ١ / ٤٤٥ ، المقتضب ٢ / ٦٥ همع الهوامع ٢ / ٦٣ ، الدرر اللوامع ٢ / ٧٩ لسان العرب (حول).

(٤) «ديوان زهير» ص ١١٠.

١٥٢

فالستر الأول اقتضى الستر الثاني.

وكذلك قول امرىء القيس :

فإن تكتموا الداء لا نخفه

وإن تقصدوا الذم لا نقصد (١)

فإن كل لفظة تقتضي ما بعدها.

فهذا هو الكلام الذي يدل بعضه على بعض ويأخذ بعضه برقاب بعض ، وإذا أنشدت صدر البيت علمت ما يأتي من عجزه ، فالشعر الجيد أو أكثره على هذا مبنيّ.

وهذا الذي ذكره أبو القاسم رحمه‌الله صحيح ، ويجب أن يقتدى به في هذا الباب ، وقد بين المعاظلة وفرق بينها وبين غيرها من العيوب بالتمثيل الذي ذكره.

فأما الذي قاله من دلالة بعض الكلام على بعض حتى يمكن استخراج قوافيه إن كان شعرا ، ويكون بعض البيت شاهدا لبعض ، فهو من النعوت المحمودة ، وسيأتي الكلام في ذلك مستوفى عند ذكر القوافي والأسجاع بعون الله ومشيئته ، وبعض الناس يسمي هذا الفن من الشعر التوشيح ، وبعضهم يسميه التسهيم (٢) ومثاله قول الشاعر :

عجبت لسعي الدهر بيني وبينها

فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر (٣)

وقول عمرو :

وكنت سناما في فزارة تامكا

وفي كلّ حي ذروة وسنام (٤)

وقوله أيضا :

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع (٥)

__________________

(١) شرح «ديوان امرىء القيس» ٧٧ وفيه :

فإن تدفنوا الداء لا نخفه

وإن تبعثوا الحرب لا نقعد.

(٢) نوع من البديع ، يسمى الإرصاد أيضا.

(٣) البيت من الطويل وهو لأبي صخر الهذلي في لسان العرب ٢ / ١٥٦.

(٤) هو لعمرو بن معد يكرب الزبيدي.

(٥) البيت لعمرو بن معد بكر ديوانه ١٤٥ ، «الأصمعيات» ١٧٥ ، «الشعر والشعراء» ٣٣٥ ،

١٥٣

وقول أبي عبادة :

مشيب كبثّ السرّ عيّ بحمله

محدّثه أو ضاق صدر مذيعه

تلاحق حتى كاد يأتي بطيئه

بحثّ الليالي قبل أتي سريعه (١)

وقوله :

أبكيكما دمعا ولو أنّي على

قدر الجوى أبكي بكيتكما دما (٢)

لأن هذه الأبيات كلها إذا سمع الإنسان صدورها ، وكان قد عرف الرويّ المقصود فيها ، عرف الكلمة التي تكون قافية قبل الوصول إليها ، وأمثال هذا كثيرة ، وسيأتي ذكرها في باب القوافي والأسجاع وترك التكلف والتعقيد في الكلام ، بمشيئة الله وعونه.

ومن وضع الألفاظ موضعها ألا يعبر عن المدح بالألفاظ المستعملة في الذم ، ولا في الذم بالألفاظ المعروفة للمدح ، بل يستعمل في جميع الأغراض الألفاظ اللائقة بذلك الغرض ، في موضع الجدّ ألفاظه ، وفي موضع الهزل ألفاظه ، ومثال ما استعمل من هذه الألفاظ في غير موضعه قول أبي تمام :

ما زال يهذي بالمكارم دائبا

حتى ظننّا أنه محموم (٣)

وقوله :

وتثفّى الحرب منه حين تغلي

مراجلها بشيطان رجيم (٤)

__________________

الخصائص ١ / ٣٦٢ ، خزانة الأدب ٣ / ٤٦٠ ، معاهد التنصيص ١ / ٢٢٠. الإرصاد في قوله : إذا لم تستطع.

(١) الارصاد في قوله : حتى كاد يأتي بطيئه. ديوان البحتري ص (١ / ٣٥٢).

(٢) الارصاد في قوله : ابكيكما دمعا. ديوان البحتري ص (١ / ٢١٨).

(٣) «ديوان أبي تمام» ٣ / ٢٩١ ، وفيه : يهذي بالمواهب.

(٤) «ديوان أبي تمام» ٣ / ١٦٢ ، تثفّى : تجعل القدر على الأثافي ، والمراجل : القدور.

١٥٤

وقوله :

ولّى ولم يظلم وهل ظلم امرؤ

حثّ النّجاء وخلفه التّنين (١)

وقول الحسين بن الضحاك :

كذا من يشرب الراح

مع التنين في الصيف

وقول أبي نواس :

جاد بالأموال حتى

حسبوه الناس حمقا (٢)

وقول العنبري :

ما كان يعطى مثلها في مثله

إلا كريم الخيم أو مجنون (٣)

وقول أبي تمام :

يا أبا جعفر جعلت فداكا

فاق حسن الوجوه حسن قفاكا (٤)

لأن ـ يهذي ، والمحموم ، والشيطان الرجيم ، والتنين ، والحمق ، والجنون ، وذكر القفا ـ من الألفاظ التي تستعمل في الذم ، وليست من ألفاظ المدح.

وقد كان بعض الأدباء يعيب قول ابن الرومي :

من شعرها من فضة

وثغرها من ذهب

ويقول : إن التشبيه بالفضة والذهب إنما يقع في المدح ، وكان يجب أن يهجو هذه المرأة بما يستعمل من ألفاظ الذم وطرقه.

__________________

(١) «ديوان أبي تمام» ٣ / ٣١٨.

(٢) «ديوان أبي نواس» ص ١٨٨ ، ط المكتبة الثقافية ـ بيروت.

(٣) العنبري هو أبو العباس محمد بن يحيى العنبري من نيسابور ، وله شعر كثير ، أورد له الثعالبي أبياتا في يتمية الدهر انظر اليتيمة.

(٤) «ديوان أبي تمام» ٤ / ٢٤٩ وفيه : يا أبا جعفر خلقت بديعا.

١٥٥

فإن قال قائل : إذا كان التنين هو الحية ـ وكانوا كثيرا ما يشبهون الممدوح بالحية ـ ويقولون : هو صلّ صفاة ، وحية واد ، وأرقم وأسود وغير ذلك ؛ كما قال أبو الطيب :

يمدّ يديه في المفاضة ضيغم

وعيناه من تحت التريكة أرقم (١)

وقال آخر :

إني على رأس العدو وتحته

للغام قسطلة وحيّة واد (٢)

وقال الرضي :

نبهت مني يا أبا الغيداق

أصمّ لا يسمع صوت الراقي

ذا ريقة تهزأ بالدرياق

كأنّما أمّ من الإطراق (٣)

وقال حريث بن عنّاب :

أترجو الحياة يا بن بشر بن مسهر

وقد علقت رجلاك في ناب أسودا

من الصم تكفي مرة من لعابه

وما عاد إلا كان في العود أحمدا

وأمثال هذا كثيرة ، فكيف يكون ذكر التنين عيبا ولا يكون ذكر الأرقم والصلّ والأسود عيبا ، ومعنى الجميع واحد؟ قيل له : إننا لم ننكر التنين لأجل معناه فيقال لنا : إن معنى التنين والحية واحد ؛ وإنّما عيناه من أجل مدحه ؛ لأن هذه اللفظة لم تستعمل في المدح ، وتلك الألفاظ قد استعملت فيه ، وليس يمتنع أن يكون للشيء الواحد اسمان يستعمل أحدهما في موضع ويستعمل الآخر في موضع آخر ، وهذا شيء إنما أصله العرف والعادة ، دون أصل وضع الأسماء في اللغة ، ألا ترى أن الإنسان إذا مدح ذكر الرأس

__________________

(١) المفاضة : الدرع الواسعة ، والتريكة : البيضة ؛ تشبيها لها بيضة النعامة إذا خرج منها الفرخ. وفي المطبوع جاءت : وعينيه ... وانظر «ديوانه» ص (٢ / ٥٥).

(٢) اللغام : زبد أفواه الإبل ، والقسطلة : هدير الإبل.

(٣) أمّ : شج في رأسه. انظر «ديوان الشريف الرضي» ص (٢ / ٨٦).

١٥٦

والكاهل والهامة ، وإذا هجا ذكر القفا والأخادع والقذال ، وإن كانت معاني الجميع متقاربة ، وليس يحسن أن يخاطب الملوك فيقال لبعضهم : وحق يافوخك أو قمحدوتك أو أخادعك أو قذالك أو قفاك قياسا على أن يقال له : وحق رأسك ؛ لأن الاستعمال يختلف في الألفاظ ، وإن كان المعنى فيها غير مختلف على ما قدمناه.

الكناية

ومن هذا الجنس حسن الكناية عما يجب أن يكنى عنه في الموضع الذي لا يحسن فيه التصريح ، وذلك أصل من أصول الفصاحة ، وشرط من شروط البلاغة ، وإنما قلنا في الموضع الذي لا يحسن فيه التصريح ، لأن مواضع الهزل والمجون وإيراد النوادر يليق بها ذلك ، ولا تكون الكناية فيها مرضية ، فإن لكل مقام مقالا ، ولكل غرض فنا وأسلوبا ، ومما يستحسن من الكنايات قول امرىء القيس :

فصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا

ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال (١)

لأنه كنى عن المباضعة بأحسن ما يكون من العبارة.

وروي عن أبي الحسين جعفر بن محمد بن ثوابة : أنه لما أجاب أبا الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون عن المعتضد بالله من كتابه بإنفاذ ابنته التي زوجها منه ، قال في الفصل الذي احتاج فيه إلى ذكرها : «وأما الوديعة فهي بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمينك ، عناية بها ، وحياطة لها ، ورعاية فيها». وقال للوزير أبي القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب : والله إن تسميتي إياها بالوديعة نصف البلاغة ، واستحسنت هذه الكناية حتى صار الكتاب يعتمدونها.

وكتب أبو إسحاق الصابي عن عز الدولة بختيار بن معزّ الدولة إلى أبي تغلب بن ناصر الدولة في إنفاذ ابنته المزوجة منه : «وقد توجه أبو النجم الحرمي أيده الله نحوك

__________________

(١) سبق تخريجه ص ١٤١.

١٥٧

بالوديعة ، وهو الأمين على ما يحوطه ويحفظه ، والوفي بما يحرسه ويلحظه ، وإنما نقلت من مغرس إلى معرّس (١) ومن وطن إلى سكن ، ومن مأوى برّ وانعطاف ، إلى مثوى كرامة وإلطاف».

فأجاب أبو تغلب عن هذا بكتاب من إنشاء أبي الفرج الببغاء ، قال في جوابه عن هذا الفصل : «ووصل أبو النجم بدر الحرمي بالأمانة العظيم قدرها ، والصفوة البينة نسبها وذكرها». فقال عوض الوديعة : الأمانة ؛ ليغاير بين اللفظين.

وكذلك سبق بعضهم إلى الكناية عن الهزيمة بالتحيز اتباعا لقول الله تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) [الأنفال : ١٦].

ثم صارت هذه العبارة للكتاب سنة ، وخبرني من أثق به عن رجل من أهل بغداد يصنع الغزل من الذهب ، قال : أحضرني الوزير أبو الحسن علي بن عبد العزيز المعروف بابن حاجب النعمان وزير القادر بالله ، وأخرج إلي علما عليه اسم المقتدر بالله ، قد بلي وخلق وبقي فيه الذهب ، فقال لي : كيف السبيل إلى أخذ ما على هذا من الذهب؟ فقلت : يحرق ، فصاح صيحة عظيمة ، وقال : ويلك ، ما هذا التهجم؟ أتحرق أعلام أمير المؤمنين؟ وأمر بإخراجي ، فدفعت وقد قاربت التلف من هيبته والخوف منه ، وتعقّبني أهل المجلس بالسؤال في بسط عذري بعدم الفهم لما أنكره عليّ ، فأمر بإعادتي إليه وقال : هيه مالذي تقول؟ فقلت : ما يرسمه سيّدنا الوزير ، فقال : قل : يستخلص ، فقلت : يستخلص ، فقال : خذه وانصرف ، فأخذت العلم ومضيت فأحرقته ، وأحضرت له ما خرج فيه من الذهب فأخذه.

ومن هذا الفن أيضا من حسن الكناية قول أبي الطيب :

تدّعي ما ادعيت من ألم الشو

ق إليها والشوق حيث النحول (٢)

__________________

(١) المعرس : المكان الذي يعرس فيه القوم أي : ينزلون من السفر للراحة ثم يسافرون من جديد.

(٢) في الديوان صدر البيت : تشتكي ما اشتكيت من ألم الشوق ، «ديوان المتنبي» (٢ / ١٨٨).

١٥٨

لأنه كنى عن كذبها فيما ادعته من شوقها بأحسن كناية ، وكذلك قوله :

لو أن «فنّاخسر» صبّحكم

وبرزت وحدك عاقه الغزل (١)

لأنه أراد ـ انهزم ـ فكنى عن هزيمته بعاقه الغزل ، وتلك أحسن كناية في هذا الموضع.

وأضداد هذا من قبح العبارات قول أبي الطيب :

إني على شغفي بما في خمرها

لأعف عما في سراويلاتها (٢)

وقول الآخر :

تعطين من رجليك ما

تعطي الأكفّ من الرّغاب (٣)

وقول الرضي يرثي والدته :

كان ارتكاضي في حشاك مسببا

ركض الغليل عليك في أحشائي (٤)

لأنك إذا تأملت هذين البيتين وجدتهما يجريان من بيت امرىء القيس مجرى الضد ، وذلك أن امرأ القيس عبر عما يجب أن يكنى عنه من المباضعة فكنى بأحسن كناية ، وهذان عبرا عما لا يجب أن يكنى عنه ، فأتيا بألفاظ يجب أن يكنى عنها.

وقد ذهب بعض المفسرين إلى قوله تعالى : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة : ٧٥] كناية عن الحدث ، وليس الأمر على ما قال ، بل معنى الكلام على ظاهره ، لأنه كما لا يجوز أن يكون المعبود محدثا ، كذلك لا يجوز أن يكون طاعما ، وهذا شيء ذكره أبو عثمان الجاحظ ، وهو صحيح.

__________________

(١) فناخسر : اسم عضد الدولة. وانظر «ديوانه» (٢ / ٣١٤).

(٢) سبق تخريجه ص ٦٨.

(٣) الرغاب : الأرض اللينة الواسعة.

(٤) «ديوان الرضي» (١ / ٣٢).

١٥٩

لغة الأدب

ومن وضع الألفاظ موضعها ألّا يستعمل في الشعر المنظوم والكلام المنثور من الرسائل والخطب ألفاظ المتكلمين والنحويين والمهندسين ومعانيهم ، والألفاظ التي تختص بها أهل المهن والعلوم ، لأن الإنسان إذا خاض في علم وتكلم في صناعة ، وجب عليه أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وكلام أصحاب تلك الصناعة ، وبهذا شرف كلام أبي عثمان الجاحظ ، وذلك أنه إذا كاتب لم يعدل عن ألفاظ الكتاب ، وإذا صنّف في الكلام لم يخرج عن عبارات المتكلمين ، فكأنه في كل علم يخوض فيه لا يعرف سواه ولا يحسن غيره ، ومما يذكر من هذا النوع في استعمال ألفاظ المتكلمين قول أبي تمام :

مودة ذهب أثمارها شبه

وهمّة جوهر معروفها عرض(١)

لأن الجوهر والعرض من ألفاظ أهل الكلام الخاصة بهم.

ومن ألفاظ النحويين قوله أيضا :

خرقاء يلعب بالعقول حبابها

كتلعّب الأفعال بالأسماء (٢)

وقول أبي الطيب :

إذا كان ما تنويه فعلا مضارعا

مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم (٣)

وقوله :

وكان ابنا عدوّ كاثراه

له ياءي حروف أنيسيان (٤)

__________________

(١) «ديوان أبي تمام» ٤ / ٤٦٦ وفيه : مودّة ذهبت أثمارها.

(٢) ديوان أبي تمام ١ / ٢٩. خرقاء : حمقاء صفة للخمر في الأبيات قبله ، والحباب : الفقاقيع التي تعلو السوائل.

(٣) «ديوان المتنبي» (٢ / ١٣٩).

(٤) ياءي أنيسيان : تصغير إنسان. وانظر «ديوانه» (٢ / ٣١٢).

١٦٠