سرّ الفصاحة

أبي محمّد عبد الله بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي

سرّ الفصاحة

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي


المحقق: داود غطاشة الشّوابكة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ناشرون وموزعون
الطبعة: ١
ISBN: 9957-07-444-X
الصفحات: ٣٢٧

قط نار) كثرة إطعامه الطعام ، فلم تأت بذلك اللفظ بعينه بل بلفظ هو أبلغ في المقصود ، لأن كثيرا ممن يطعم الطعام تخمد ناره في وقت ، وكذلك قول الأخرى : (له إبل قليلات المسارح ، كثيرات المبارك ، إذا سمعن صوت المزهر أيقنّ أنهن هوالك) فأرادت أن هذا الرجل ينحر إبله فقلّما تسرح وتبعد في المرعى ، لأنه يبركها بفنائه ليقرب عليه نحرها للضيوف ، والمزهر العود الذي يغني به ، فإذا سمعت الإبل صوته أيقنت أنها هوالك ، لما قد اعتادته من نحره لها إذا سمع الغناء وانتشى ، وذلك لاتعتاده الإبل وتفهمه إلا مع الاستمرار والدوام ، وهذا كله أبلغ من قولها : إنه ينحر الإبل ، على ما قدمناه وبيناه.

ومن هذا الفن من الإرداف قول أبي عبادة :

فأوجرته أخرى فأضللت نصله

بحيث يكون اللبّ والرعب والحقد (١)

لأنه أراد ـ القلب ـ فلم يعبر عنه باسمه الموضوع له ، وعدل إلى الكناية عنه بما يكون اللب والرعب والحقد فيه ، وكان ذلك أحسن لأنه إذا ذكره بهذه الكنايات كان قد شرفه وتميزه عن جميع الجسد بكون هذه الأشياء فيه ، وأنه أصاب هذا المرمى في أشرف موضع منه. ولو قال : أصبته في قلبه ؛ لم يكن في ذلك دلالة على أن القلب أشرف أعضاء الجسد ، فعلى هذا السبيل يحسن الإرداف.

ومما يجري مجرى قول أبي عبادة قول غيره : (٢)

الضاربين بكلّ أبيض مخذم

والطاعنين مجامع الأضغان

وفيما ذكرناه كفاية في الدلالة على كل ما هو من هذا الجنس.

__________________

(١) هذا البيت من قصيدة له يذكر فيها قتله للذئب. وقد جاء في المطبوع : فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها ، وبينها وبين ما هو مثبت فرق واضح ، وانظر «ديوانه» (١ / ١٦٧).

(٢) عمرو بن معد يكرب. وانظر «المعجم المفصل» (٨ / ١٧٤). والشاهد في قوله ـ مجامع (الأضغان) لأنه كناية عن القلب.

٢٢١

التمثيل :

ومن نعوت الفصاحة والبلاغة أن يراد معنى فيوضح بألفاظ تدل على معنى آخر وذلك المعنى مثال للمعنى المقصود وسبب حسن هذا مع ما يكون فيه من الإيجاز أن تمثيل المعنى يوضحه ويخرجه إلى الحس والمشاهدة وهذه فائدة التمثيل في جميع العلوم ، لأن المثال لا بد من أن يكون أظهر من الممثل ، فالغرض بإيراده إيضاح المعنى وبيانه ، ومن هذا الفن قول الرمّاح بن ميّادة :

ألم تك في يمنى يديك جعلتني

فلا تجعلنّي بعدها في شمالكا

فأراد : إني كنت عندك مقدما فلا تؤخرني ، ومقربا فلا تبعدني ، فعدل في العبارة عن ذلك إلى أني كنت في يمينك ، فلا تجعلني في شمالك لأن هذا المثال أظهر إلى الحس.

وكذلك قول الآخر :

تركت يديّ وشاحا له

وبعض الفوارس لا يعتنق

فعبر عن قوله : عانقته ؛ بأنني تركت يدي وشاحا له ، فأوضح المعنى حين جعل له مثالا معروفا مشاهدا.

ومنه أيضا قول زهير :

ومن يعص أطراف الزّجاج فإنه

يطيع العوالي ركّبت كل لهذم (١)

لأنه عدل عن قوله : ومن لم يطع باللين أطاع بالعنف ؛ إلى أن قال : ومن لم يطع زجاج الرماح أطاع الأسنة ، وكان في هذا التمثيل بيان المعنى وكشفه.

ومن أمثلة ذلك في النثر ما كتب به الوليد بن يزيد لما بويع إلى مروان بن محمد وقد بلغه توقفه عن البيعة له : (أما بعد ، فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، فإذا أتاك كتابي

__________________

(١) الزجاج : جمع زجّ وهو الحديدة في أسفل الرمح ، والعوالي : التي يكون فيها السنان ، واللهذم : السنان القاطع. وانظر «شرح المعلقات السبع» للزوزني ص ٢٤٣.

٢٢٢

هذا فاعتمد على أيهما شئت ، والسّلام). فعبر عن مراده بمثال أوضحه وأوجزه.

ومنه أيضا ما كتب به الحجاج إلى المهلب حين حضّه على قتال الأزارقة وتوعده له حيث قال : فإن أنت فعلت ذلك ، وإلّا شرعت إليك صدر الرمح فأجابه المهلب وقال : فإن يشرع الأمير إليّ صدر الرمح ، قلبت له ظهر المجن ، وهذا كله إنما حسن لما فيه من الإيضاح والإيجاز ، وقدمنا تأثيرهما في الفصاحة والبلاغة.

فهذا منتهى ما نقوله في الألفاظ بانفرادها ، واشتراكها مع المعاني ، ومن وقف عليه عرف حقيقة الفصاحة ومائيتها ، وعلم أسرارها وعللها ، فأما الكلام على المعاني بانفرادها ، فقد قدمنا القول بأن البلاغة عبارة عن حسن الألفاظ والمعاني ، وأن كل كلام بليغ لا بد من أن يكون فصيحا وليس كل فصيح بليغا ، إذ كانت البلاغة تشتمل على الفصاحة وزيادة لتعلق البلاغة مع الألفاظ بالمعاني.

فإذا كان قد مضى الكلام في الألفاظ على الانفراد والاشتراك ، فلنذكر الآن الكلام على المعاني مفردة من الألفاظ ، ليكون هذا الكتاب كافيا في العلم بحقيقة البلاغة والفصاحة ، فإنهما وإن تميزا من الوجه الذي ذكرته فهما عند أكثر الناس شيء واحد ، ولا يكاد يفرق بينهما إلا القليل ، والله يمنّ بالمعونة والتسديد برحمته.

الكلام في المعاني مفردة :

أما حصر المعاني بقوانين تستوعب أقسامها وفنونها على حسب ما ذكرناه في الألفاظ فعسير متعب لا يليق بهذا الكتاب تكلفّه ، لأنه ثمرة علم المنطق ، ونتيجة صناعة الكلام ، ولسنا بذاهبين في هذا الكتاب إلى تلك الأغراض والمطالب ، لكن نحتاج إلى أن نومىء إلى المعاني التي تستعمل في صناعة تأليف الكلام المنظوم والمنثور ونبين كيف يقع الصحيح فيها والفاسد ، والتام والناقص ، على أنّ من كان سليم الفكر صحيح التصور لم يخف عنه شيء مما يسرّ النفوس ، وإن كان قد يخفى عنه كثير مما ذكرناه من الكلام والألفاظ ، لأن في الألفاظ مواضعة واصطلاحا يختلف الناس في المعرفة بهما بحسب

٢٢٣

اختلافهم في معرفة اللغة ، وفهم الاصطلاح والمواضعة ، والمعاني ليس فيها شيء من ذلك ، وإنما معيارها العقل والعلم وصفاء الذهن ، ولها في الوجود أربعة مواضع : الأول : وجودها في أنفسها ، والثاني : وجودها في أفهام المتصورين لها ، والثالث : وجودها في الألفاظ التي تدل عليها ، والرابع : وجودها في الخط الذي هو أشكال تلك الألفاظ المعبر بها عنه ، وإذا كان هذا مفهوما فإنا في هذا الموضع إنما نتكلم على المعاني من حيث كانت موجودة في الألفاظ التي تدل عليها دون الأقسام الثلاثة المذكورة ، ثم ليس نتكلم عليها من حيث وجدت في جميع الألفاظ ، بل من حيث توجد في الألفاظ المؤلفة المنطومة على طريقة الشعر والرسائل وما يجري مجراهما فقط ، إذ كان ذلك هو مقصودنا في هذا الكتاب. وإذ بان هذا فإن الأوصاف التي تطلب من هذه المعاني هي الصحة والكمال والمبالغة والتحرز مما يوجب الطعن والاستدلال بالتمثيل والتعليل وغيرهما ، وسنذكر من أمثلة ذلك ما يعرب عن قصدنا ، ويوضح مرادنا.

أما الصحة في التقسيم فأن تكون الأقسام المذكورة لم يخلّ بشيء منها ولا تكررت ولا دخل بعضها تحت بعض ، ومثال هذا في النظم قول نصيب :

فقال فريق القوم لا وفريقهم

نعم وفريق قال ويحك ما ندري (١)

فليس في أقسام الإجابة عن مطلوب ـ إذا سئل عنه ـ غير هذه الأقسام ، ومنه قول الشماخ يصف صلابة سنابك الحمار وشدة وطئه الأرض :

متى ما تقع أرساغه مطمئنة

على حجر يرفض أو يتدحرج

فليس في أمر الوطء الشديد إلا أن يكون الذي يوطأ رخوا فيرضّ أو صلبا فيدفع (٢).

__________________

(١) ديوانه ٩٤ ، الكتاب ٢ / ١٤٧ ، ٢٧٣ ، المقتضب ١ / ٢٢٨ ، ٢ / ٩٠ ، ٣٣٠ الجمل للزجاج ٨٦ ، المنصف ١ / ٥٨ ، الإنصاف ٤٠٧ ، همع الهوامع ٢ / ٤٠ ، الدرر اللوامع ٢ / ٤٤ ، شرح المفصل ٨ / ٣٥ ، ٩ / ٩٢ ، مغني اللبيب ١٠١.

(٢) «نقد الشعر» لقدامة بن جعفر ، ص : ١٣١.

٢٢٤

ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى :

يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا

ضارب حتى اذا ما ضاربوا اعتنقا (١)

وهذا تقسيم صحيح.

ومنه قول الحارثي :

فكذّبت عنك الطّرف والطّرف صادق

وأسمعت أذنى فيك ما ليس تسمع

وما أسكن الأرض التي تسكنينها

لئلا يقولوا صابر ليس يجزع

فلا كمدي يغني ولا لك ذمّة

ولا عنك إقصار ولا فيك مطمع

لقيت أمورا فيك لم ألق مثلها

وأعظم منها منك ما أتوقع

وهذه كلها أقسام صحيحة.

ومن أمثلة ذلك في النثر قول بعضهم في كتاب له : (فإنك لم تخل فيما بدأتني به من مجد أثلته ، أو شكر تعجلته ، أو أجر ادخرته ، أو متجر اتّجرته ، أو من أن تكون جمعت ذلك كله) فلم يبق في هذا المعنى قسم لم يأت به ، ولا من الأقسام شيء تكرّر.

فأما الأقسام الفاسدة فكقول جرير :

صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم

من العبيد وثلث من مواليها (٢)

فهذه قسمة فاسدة من طريق الإخلال ، لأنه قد أخل بقسم من الثلاثة. وقيل : إن بعض بني حنيفة سئل من أي الأثلاث هو من بيت جرير؟ فقال : هو الثلث الملغي (٣).

__________________

(١) «ديوان زهير» ص ٧٧. يطعنهم بالرمح إذا رموا بالسهام ، وإذا تطاعنوا بالرمح ضرب بالسيف ، وإذا ضربوا بالسيف ضمّ قرنه إليه.

(٢) «ديوان جرير» ص ٤٥٨.

(٣) «نقد الشعر» لقدامة بن جعفر ، ص : ٢٠١.

٢٢٥

ومنها قول أبي تمام :

قسم الزمان ربوعها بين الصّبا

وقبولها ودبورها أثلاثا (١)

فهذا فاسد من طريق التكرار ، لأن القبول هي الصّبا على ما ذكره جماعة من أهل اللغة.

ومن ذلك أيضا قول هذيل الأشجعي :

فما برحت تومي إليّ بطرفها

وتومض أحيانا إذا خصمها غفل

لأن ـ تومى بطرفها وتومض ـ في معنى واحد.

ومنه قول الآخر :

أبادر إهلاك مستهلك

لمالي أو عبث العابث

فهذا فاسد لدخول أحد القسمين في الآخر ، لأن عبث العابث داخل في استهلاك المستهلك.

ومن هذا الجنس أن بعض المتخلفين سأل مرة فقال : علقمة بن عبدة جاهلي أو من بني تميم؟ فضحك منه ؛ لأن الجاهلي قد يكون من بني تميم ومن بني عامر ، والتميمي قد يكون جاهليا وإسلاميا. وكتب بعضهم إلى عامل من قبله : ففكرت مرة في عزلك ، وأخرى في صرفك وتقليد غيرك. وكتب أيضا في هذا الكتاب : فتارة تسترق الأموال وتختزلها ، وتارة تقتطعها وتحتجنها ، وهذا مثل الأول في التكرير. وكتب آخر في فتح فقال : فمن بين جريح مضرّج بدمائه ، وهارب لا يلتفت إلى ورائه ، وهذان القسمان يدخل كل واحد منهما في الآخر ، لأن الجريح قد يكون هاربا ، والهارب قد يكون جريحا.

وروى أبو الفرج قدامة بن جعفر أن ابن منارة وقّع على ظهر رقعة عامل من عماله هرب من صارفه ـ وكتب إليه رقعة يعلم بها ما عنده ـ : إنك لا تخلو في هربك من صارفك

__________________

(١) «ديوان أبي تمام» ١ / ٣١١ ، من قصيدة في مدح مالك بن طوق.

٢٢٦

من أن تكون قدمت إليه إساءة خفت منه معها ، أو خنت في عملك خيانة تكشّفه إياك عنها ، فإن كنت أسأت :

فأوّل راض سنّة من يسيرها

وإن كنت خنت خيانة فلا بد من مطالبتك بها ، فكتب العامل تحت هذا التوقيع : قد بقي من الأقسام ما لم تذكره : وهو أني خفت ظلمه إيّاي بالبعد عنك ، وتكثيره عليّ بالباطل عندك ، ووجدت الهرب إلى حيث يمكنني فيه دفع يتخرّصه أنفي للظنّة عني ، والبعد عمن لا يؤمن ظلمه أولى بالاحتياط لنفسي. فوقع ابن منارة تحت ذلك : قد أصبت فصر إلينا آمنا من ظلمه عاجلا ، على أن ما يصح عليك فلا بد من مطالبتك به.

وقد ذهب أبو القاسم الآمدي إلى فساد القسمة من قول أبي عبادة البحتري :

ولا بد من ترك إحدى اثنتين

إما الشباب وإما العمر (١)

قال : لأن ههنا قسما آخر ، وهو أن يتركا معا فيموت الإنسان شابا. وأجاب الشريف المرتضى (رضي‌الله‌عنه) عن ذلك بأن المراد بترك الشباب تركه بالشيب ، وبترك العمر تركه بالموت ، وهذا هو المستعمل المألوف في هذه الألفاظ ، فمن مات شابا فلا يقال عنه : إنه ترك الشباب لأنه لم يشب ، وإنما يقال عنه : إنه ترك العمر ، فدخل في أحد القسمين ولي في هذا الموضع نظر وتأمل.

ومن الصحة تجنب الاستحالة والتناقض (٢) ، وذلك أن يجمع بين المتقابلين من جهة واحدة ، والتقابل يكون على أربع جهات : إما على طريق المضاف ، وهو الشيء الذي يقال بالقياس إلى غيره ، مثل الضّعف بالقياس إلى نصفه ، والأب إلى ابنه ، والمولى إلى عبده ، وإما على طريق التضادّ ، مثل الأبيض والأسود والشرّير والخيّر ، وإما على طريق

__________________

(١) «ديوان البحتري» (١ / ٩٨).

(٢) «نقد الشعر» لقدامة ص ٢٠٤.

٢٢٧

العدم والقنية ، كالأعمى والبصير والأمرد وذي اللحية ، وإما على طريق النفي والإثبات ، مثل أن يقال : زيد جالس زيد ليس بجالس ، فإذا ورد في الكلام جمع بين متقابلين من هذه المتقابلات من جهة واحدة فهو عيب في المعنى ، والمراد بقولنا : (من جهة واحدة) ألّا يكون المتقابلان من جهتين ، فإنهما إذا كانا من جهتين لم يكن الكلام مستحيلا ، مثال ذلك أن يقال : العشرة ضعف ونصف ، لكنها ضعف الخمسة ونصف العشرين ، فيكون هذا صحيحا ، لأنه تقابل من جهتين ، فأما لو كان من جهة واحدة حتى يقال : إن العشرة ضعف الخمسة ونصفها ؛ لكان ذلك محالا ، وكذلك يقال في المتقابلين بالعدم والقنية : زيد أعمى العين بصير القلب ، فيكون ذلك صحيحا ، فأما لو قيل : زيد أعمى العين بصير العين ، كان ذلك محالا ، وكذلك في التضاد أن يقال : الفاتر حار عند البارد وبارد عند الحار ، ولا يكون حارا باردا عند أحدهما ، وـ زيد كريم بالطعام بخيل بالثياب ـ ولا يصح أن يقال : كريم بالثياب بخيل بها.

وإذا كان هذا مفهوما فالذي يقع في النظم والنثر من هذا التناقض على هذا النحو عيب في المعاني بغير شكّ ، وإن كانوا قد تسمّحوا في الشعر أن يكون في البيت شيء وفي بيت آخر ما ينقضه ، حتى يذم في بيت شيء من وجه ويمدح في بيت آخر من ذلك الوجه بعينه ، وإنما أجازوا هذا لأنهم اعتقدوا أن كل بيت قائم بنفسه ، فجرى البيتان مجرى قصيدتين ، فكما جاز للشاعر أن يناقض في قصيدتين كذلك جاز له أن يناقض في بيتين ، ولم يختلفوا في أن البيت إذا ولى البيت وكان معنى كل واحد منهما متعلقا بالآخر فلن يجوز أن يكون في أحدهما ما يناقض الآخر ، وإنما أجازوا ذلك مع الإتصال والتعلق ، على أن تجنب هذا في القصيدة ـ وإن كانوا قد أجازوه ـ أحسن وأولى ، وقد قال أبو عثمان الجاحظ : (إن العرب تمدح الشيء وتذمّه ، لكنهم لا يمدحون الشيء من الوجه الذي يذّمونه به) ، وما أحسن ما قال أبو عثمان ، لعمري إنهم على ذلك يتصرّف قولهم ، وإن أبا تمام لمّا وصف يوم الفراق بالطول فقال :

٢٢٨

يوم الفراق لقد خلقت طويلا

لم تبق لي جلدا ولا معقولا (١)

قالوا الرّحيل فما شككت بأنها

نفسي من الدنيا تريد رحيلا

علل طوله بما لقي فيه من الوجد لرحيل أحبابه عنه ، وأبو عبادة لّما وصفه بالقصر فقال :

ولقد تأملت الفراق فلم أجد

يوم الفراق على امرىء بطويل

قصرت مسافته على متزوّد

منه لدهر صبابة وغليل

علل قصره بأنه اجتمع فيه بمن يحبه للوداع ، وتزوّد منه لأيام البعد عنه ، فهما وإن كان كل واحد منهما قد خالف صاحبه في مدح الفراق وذمه ، فقد ذكر لما ذهب إليه وجها يصح به ، وعلى هذا الطريق يحسن وقوع الخلاف في أغراض الشعراء ، إلا أن يكون أحد القولين صحيحا والآخر فاسدا.

فأما المتناقض في الشعر فكقول عبد الرحمن بن عبد الله القسّ :

أرى هجرها والقتل مثلين فاقصروا

ملامكم فالقتل أعفى وأيسر

فقال هذا الشاعر ـ إن الهجر والقتل مثلان ـ ثم سلبهما ذلك ، فقال ـ إن القتل أعفى وايسر ـ فكأنه قال إن القتل مثل الهجر وليس هو مثله ، وذلك متناقض ، ولو كان استوى له أن يقول ـ بل القتل أعفى وأيسر ـ لكان الشعر مستقيما ، لأنّ لفظة ـ بل ـ تنفي الماضي وتثبت المستأنف ، كما قال زهير :

حيّ الديار التي لم يعفها القدم

بلى وغيّرها الأرواح والدّيم (٢)

على أنهم قد عابوا هذا البيت على زهير ، لكنه بمجيء ـ بلى ـ فيه لم يكن عندي

__________________

(١) «ديوان أبي تمام» ٣ / ٦٦ ، وفيه : عن الدنيا.

(٢) «ديوان زهير» ص ١١٣ ، وفي المطبوع : قف بالديار ، بدل : حيّ الديار.

٢٢٩

فاسدا ، وقد يمكن فيه من التأويل وجه آخر ، وهو أن زهيرا قال : لم يعفها القدم وغيّرتها الريح والأمطار ، وليس ذلك بمتناقض ، لأن التغير دون أن تعفو ، والقدم غير الريح والمطر ، ومن قال : لم يقتل زيد عمرا بل ضربه بكر ، لم يكن متناقضا ، وإنما المناقضة أن يقول : لم يقتل زيد عمرا وقتله زيد ، ويكون الأول هو الثاني ، وهذا واضح.

ومن الاستدلال قول الآخر : (١)

أليس قليلا نظرة أن نظرتها

إليك وكلّا ليس منك قليل

وقد ذهب أبو الفرج قدامة بن جعفر إلى أن قول ابن هرمة في صفة الكلب :

تراه إذا ما أبصر الضيف مقبلا

يكلّمه من حبّه وهو أعجم (٢)

من المتناقض ، لأنه أقنى الكلب الكلام في قوله : يكلمه ، ثم أعدمه إياه عند قوله : إنه أعجم ، وهذا غلط من أبي الفرج طريف ، لأن الأعجم ليس هو الذي قد عدم الكلام جملة كالأخرس ، وإنما هو الذي يتكلم بعجمة ولا يفصح ، قال الله تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل : ١٠٣].

واذا قيل : فلان يتكلم وهو أعجم ، لم يكن ذلك متناقضا ، على أن الرواية الصحيحة في بيت ابن هرمة :

يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا

وهذا البيت من إحسان ابن هرمة المشهور.

__________________

(١) هو ليزيد بن الصمة المعروف بابن الطثرية الإنصاف ٤٠٢ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ١٣٤١.

(٢) ديوان ابن هرمة ٢٠٩ ، البيان والتبيين ٣ / ٢٠٥ ، الشعر والشعراء ٧٣١ ، دلائل الإعجاز ٢٠٢ ، نهاية الأرب ٩ / ٢٥٥ ، خزانة الأدب ٤ / ٥٨٤.

٢٣٠

وكذلك ذهب أبو القاسم الآمدي الى تناقض بيت أبي تمام في صفة الفرس :

وبشعلة تبدو كأن فلولها

في صهوتيه بدء شيب المفرق

مسودّ شطر مثل ما اسودّ الدّجى

مبيضّ شطر كابيضاض المهرق (١)

قال : لأنه ذكر في البيت الأول أنه أشعل ، ثم قال في الثاني : إن نصفه أسود ونصفه أبيض وذلك هو الأبلق ، فكيف يكون فرس واحد أشعل أبلق؟ (٢) وهذا من أبي القاسم تحامل على أبي تمام ؛ لأنه يصف فرسا أشعل ويريد بقوله : إنه مسودّ شطر ومبيضّ شطر ، أنّ سواده وبياضه متكافئان ، فلو جمع السواد لكان نصفه ، وكذلك البياض ، وهذا الوصف من تكافؤ السواد والبياض في الأشعل محمود ، حتى إن النخّاسين يقولون : أشعل شعرة شعرة ، فعلى هذا لا يكون شعر أبي تمام من المتناقض.

ومما يعترض الشك فيه قول أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان :

ولقد سلوت عن الشباب كما سلا

غيري ولكن للحزين تذكر (٣)

فيقال : كيف يجوز أن يسلو وهو حزين يتذكر؟ وقد قرأت هذا البيت عليه في جملة شعره ولم أسأله عنه ، والذي يحتمل عندي من التأويل أنه أراد بالسلوّ ههنا اليأس ورفض الطمع ، فكأنه قال : قد يئست من الطمع للشباب كما يئس غيري ولكنّي حزين عليه أتذكره ، وهذا وجه قريب.

وذهب أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب إلى تناقض قول أبي نواس في صفة الخمر (٤) :

كأنّ بقايا ما عفا من حبابها

تفاريق شيب في سواد عذار

__________________

(١) ديوان ابي تمام ٢ / ٤١١ ، ٤١٤ ، وفيه : وبشعلة نبذ كأن قليلها. المهرق : الصحيفة.

(٢) الموازنة للآمدي ١ / ٢٥٢.

(٣) «ديوان سقط الزند» لأبي العلاء المعري ص ٢٢٩.

(٤) «نقد الشعر» ص : ٢٠٦.

٢٣١

تردّت به ثم انفرى عن أديمها

تفرّي ليل عن بياض نهار (١)

وقال : إنه وصف في البيت الأول الحباب بالبياض حين شبّهه بالشيب ولم يشبه الشيب في شيء إلا في بياضه ، ووصف الخمر بالسواد حين شبهها بسواد العذار ، ثم وصف الحباب في البيت الثاني بالسواد حين شبهه بتفري الليل ، ووصف الخمر بالبياض حين قال : بياض نهار ، وكون كلّ واحد من الحباب والخمر أسود وأبيض مستحيل.

وقد سأل أبو الفرج نفسه فقال : إن قيل : إنه لم يصف الحباب في البيت الثاني بالسواد ، وإنما شبّهه بالليل في تفرّيه وانحساره عن النهار دون نفس اللون ، وأجاب عن هذا بأن أبا نواس قد صرح بأنه لم يرد غير اللون فقط لقوله : عن بياض نهار ، وفي هذا الشعر نظر وتأمل ليس هذا موضع تقصّيه ، وإنما الغرض هنا التمثيل.

وقد فرق بين المستحيل والممتنع بأن المستحيل هو الذي لا يمكن وجوده ولا تصوره في الوهم ، مثل كون الشيء أسود أبيض وطالعا نازلا ، فإن هذا لا يمكن وجوده ولا تصوره في الوهم ، والممتنع هو الذي يمكن تصوره في الوهم وإن كان لا يمكن وجوده ، مثل أن يتصور تركيب بعض أعضاء الحيوان من نوع في نوع آخر منه ، كما يتصور يد أسد في جسم إنسان ، فإن هذا وإن كان لا يمكن وجوده فإن تصوره في الوهم ممكن ، وقد يصح أن يقع الممتنع في النظم والنثر على وجه المبالغة ولا يجوز أن يقع المستحيل ألبتة ، فأما قول أبي عبادة :

لما مدحتك وافاني نداك على

أضعاف ظنّي فلم أظفر ولم أخب (٢)

فليس هذا من المتناقض ، لأنه من جهتين على ما ذكرناه فيما تقدم ، ألا ترى أن معناه لم أظفر بنفس ما ظننته ، لأنك زدت عليه فكأنّ ظنّي لم يصدق ، لأنه لو صدق لكان وقع

__________________

(١) تردت به : اتخذته رداء ، وتفرى : تشقق وانشق. وانظر «ديوانه» ص.

(٢) «ديوان البحتري» (٢ / ٩٦). وفي المطبوع : سألتك ، بدل مدحتك. فلم أخفق ، بدل فلم أظفر.

٢٣٢

على ما ظننته بعينه من غير زيادة عليه ، ولم أخب لأنك قد أعطيتني ، ومن أعطي فما خاب ، وهذا صحيح واضح.

ومن المتناقض على طريق المضاف قول عبد الرحمن بن عبد الله القس :

وإنّي إذا ما الموت حلّ بنفسها

يزال بنفسي قبل ذاك فأقبر

لأنه وضع هذا القول وضع الشرط ، وجعل جوابه ـ يزال بنفسي ـ ثم قال : قبل ذاك ، فكأنه قال : إن نفسي تزول بعد نفسها وقبلها ، وهذا مثل قول القائل : إذا دخل زيد الدار دخل عمرو قبله ، وذلك متناقض.

وقد ذهب أبو القاسم الآمدي إلى مناقضة أبي تمام في قوله :

الرزق لا تكمد عليه فإنّه

يأتي ولم تبعث إليه رسولا (١)

وقوله بعده في صفة الناقة :

لله درّك أيّ معبر قفرة

لا يوحش ابن البيضة الإجفيلا

بنت القفار متى تخد بك لا تدع

في الصدر منك على الفلاة غليلا (٢)

قال : لأنه صرح في البيت الأول بذكر القعود عن طلب الرزق وأتبعه في البيت الثاني بلا فصل بذكر الناقة وصفتها والرحيل عليها ، فكان ذلك مناقضة ظاهرة.

ومن الصحة ألّا يضع الجائز موضع الممتنع ، فإنه يجوز أن يضع الممتنع موضع الجائز إذا كان في ذلك ضرب من الغلوّ والمبالغة ، ولا يحسن أن يوضع الجائز موضع الممتنع لأنه لا علة لجواز ذلك ، وهو ضد ما يحمد من الغلو والمبالغة في الشعر ، ومن أمثلة هذا قول الشاعر : (٣)

__________________

(١) «ديوان أبي تمام» /.

(٢) ديوان أبي تمام / المعبر : ما يعبر به ، أي الناقة ، وابن البيضة : النعام ، والاجفيل : الكثير الإجفال.

(٣) هو خالد بن صفوان. دلائل الإعجاز ٣٤٩ ، أسرار البلاغة ١٣٣.

٢٣٣

وإن صورة راقتك فاخبر فربما

أمرّ مذاق العود والعود أخضر

فبنى الكلام على أن العود في الأكثر يكون حلوا ، بقوله : فربما ، وليس الأمر كذلك بل العود الأخضر في الأكثر مرّ ، وكأنّ هذا الشاعر وضع الأكثر موضع الأقل ، وذلك غلط في المعنى.

ومنه ما أنكره أبو القاسم الآمدي على أبي تمام في قوله يمدح الواثق بالله :

جعل الخلافة فيه ربّ قوله

سبحانه للشيء كن فيكون (١)

قال : لأن مثل هذا إنما يقال في الأمر العجيب الذي لم يكن يقدّر ولا يتوقع ولا يظن أن مثله يكون ، فيقال إذا وقع ذلك : قدرة قادر واحد ، وفعل من لا يعجزه أمر ، ومن يقول للشيء : كن فيكون ، فأما الأمور التي لا تعجّب منها ولا تستغرب والعادات جارية بها وبما أشبهها فلا يقال فيها مثل هذا ، وإنما يسبّح الله تبارك وتعالى وتذكر قدرته على تكوين الأشياء لو جاءوا بأبي العبر أو بجحا فجعلوه خليفة ، فأما الواثق فما وجه تسبيح أبي تمام في أن أفضت الخلافة إليه ، وأبوه المعتصم ، وجدّه الرشيد ، وجدّ أبيه المهدي ، وجدّ جدّه المنصور ، وأخو جدّ جدّه السفّاح ، وعمّاه خليفتان ـ الأمين والمأمون ـ وعم أبيه الهادي ، فذلك (٢) ثمانية خلفاء هو تاسعهم ، وهذا الذي ذكره أبو القاسم صحيح واضح.

ومن الصحة صحة التشبيه ، وهو أن يقال أحد الشيئين مثل الآخر في بعض المعاني والصفات ، ولن يجوز أن يكون أحد الشيئين مثل الآخر من جميع الوجوه حتى لا يعقل بينهما تغاير ألبتّة ، لأن هذا لو جاز لكان أحد الشيئين هو الآخر بعينه ، وذلك محال ، وإنما الأحسن في التشبيه أن يكون أحد الشيئين يشبه الآخر في أكثر صفاته ومعانيه ، وبالضدّ ، حتى يكون رديء التشبيه ما قلّ شبهه بالمشبّه به.

__________________

(١) «ديوان أبي تمام» ٣ / ٢٢٦.

(٢) الوجه أن يقول : فأولئك.

٢٣٤

وقد يكون التشبيه بحروفه ، كالكاف وكأنّ وما يجري مجراهما ، وقد يكون بغير حرف على ظاهر المعنى ، ويستحسن ذلك لما فيه من الإيجاز.

والأصل في حسن التشبيه أن يمثّل الغائب الخفيّ الذي لا يعتاد بالظاهر المحسوس المعتاد ، فيكون حسن هذا لأجل إيضاح المعنى وبيان المراد ، أو يمثّل الشيء بما هو أعظم وأحسن وأبلغ منه ، فيكون حسن ذلك لأجل الغلوّ والمبالغة.

وممّا ورد في القرآن من ذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور : ٣٩].

وقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) [إبراهيم : ١٨].

وقوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) [يونس : ٢٤].

وقوله تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) [الرحمن : ٣٧].

وقوله جل وعز : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) [الجمعة : ٥].

وقوله تبارك وتعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت : ٤١].

وقوله جل وعز : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) [الرحمن : ٢٤].

وهذه التشبيهات كلها ممّا بيّناه من تشبيه الخفي بالظاهر المحسوس والذي لا يعتاد بالمعتاد ، لما في ذلك من البيان ، إلا قوله تبارك وتعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) [الرحمن : ٢٤].

٢٣٥

فإنه شبه الشيء بما هو أعظم منه على وجه المبالغة.

ومن التشبيه في الشعر قول النابعة الذبياني :

فإنك كالليل الّذي هو مدركي

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع (١)

وهذا التشبيه يجمع المقصودين من الظهور والمبالغة ، أما الظهور فلأن علم الناس بأن الليل لا بدّ من إدراكه له أظهر من علمهم بأنّ النعمان لا بد من إدراكه له ، وأما المبالغة فإن تشبيهه بالليل الذي لا يصدّ دونه حائل أعظم وأفخم وأبلغ في المدح.

ومن التشبيه أيضا قول زيد بن عوف العليمي يذكر صوت جرع رجل قراه اللبن :

فعبّ دخالا متواتر

كوقع السّحاب بالطّراف الممدّد

وهذا تشبيه جيد ، لأنه شبّه صوت اللبن على عصب المريء من حلق الإنسان بصوت المطر على الخباء المصنوع من الأدم ، وذلك من أصح التشبيه ، لأن المريء من جنس الأدم ، واللبن من جنس الماء ، فصوتاهما متشابهان ، لأن السبب في اختلاف الأصوات تخالف الأجسام التي تحدث فيها ، والغرض في هذا التشبيه المبالغة.

ومن التشبيه المختار قول امرىء القيس :

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي (٢)

وهذا من التشبيه المقصود به إيضاح الشيء ، لأن مشاهدة العناب والحشف البالي أكثر من مشاهدة قلوب الطير رطبة ويابسة ، وروي عن بشار بن برد أنه قال : ما زلت منذ سمعت بيت امرىء القيس هذا أطلب أن يقع لي تشبيهان في بيت واحد حتى قلت :

__________________

(١) «ديوان النابغة الذبياني» ص ٨١ ـ طبعة المؤسسة العربية للطباعة والنشر ـ بيروت.

(٢) شرح ديوان امرىء القيس ١٦٦ العناب : شجر حبه كحب الزيتون أحمر وطعمه لذيذ ، الحشف : أردأ التمر.

٢٣٦

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (١)

فشبهت النقع بالليل ، والسيوف بالكواكب. وهذا تشبيه للمبالغة والتفخيم.

ومن التشبيه المختار قول عدي بن الرّقاع العاملي :

وكأنها بين النساء أعارها

عينيه أحور من جآذر جاسم

وسنان أقصده النعاس فرنّقت

في عينه سنة وليس بنائم (٢)

وقوله أيضا :

تزجى أغنّ كأن إبرة روقه

قلم أصاب من الدواة مدادها (٣)

وقول عنترة :

وخلا الذباب بها فليس ببارح

غردا كفعل الشارب المترنّم

هزجا يحكّ ذراعه بذراعه

قدح المكبّ على الزناد الأجذم (٤)

وقول الحسين بن مطير الأسدي :

فتى عيش في معروفه بعد موته

كما كان بعد السيل مجراه مرتعا (٥)

__________________

(١) ديوان بشار بن برد ١ / ٣١٨ ، المصون ٦٦ ، دلائل الإعجاز ٦٦ ، ٢٦٠ ، ٣٣٩ ، أسرار البلاغة ٢٠٠ ، ٢٢٧ النقع : الغبار ، والواو متضمنة معنى مع ، وليست لمحض العطف لأنّه تشبيه مركب لا متعدد.

(٢) الشعر والشعراء ٦٠٢ ، الأغاني ٨ / ١٧٤ ، المصون في الأدب ١٥. أقصده النعاس : كسر من عينيه ، ورنق النوم في عينيه : غشيهما.

(٣) البيت لعدي بن الرقاع في أسرار البلاغة ١٧٧ الأغن : الذي في صوته غنة ، إبرته : طرفه ، روقه : قرنه.

(٤) شرح ديوان عنترة بن شداد ١٨٦ ، شرح القصائد العشر ٣٣٣ ـ ٣٣٤ ، هزجا : مسرعا مداركا صوته ، والمكب : المقبل على الشيء. غردا : طربا ، الأجذم : المقطوع اليد.

(٥) تقديره : كما كان مجرى السيل مرتعا بعده.

٢٣٧

وقول الطّرمّاح :

يبدو وتضمره البلاد كأنه

سيف على شرف يسلّ ويغمد

وقول أبي الحسن التهامي :

والصبح قد غمر النجوم كأنه

سيل طغى فطفى على النوّار

وقول أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان :

والخلّ كالماء يبدي لي ضمائره

مع الصّفاء ويخفيها مع الكدر (١)

وقوله :

وسهيل كوجنة الحبّ في اللّون

وقلب المحبّ في الخفقان (٢)

يسرع اللمح في احمرار كما تسرع

في اللحظ مقلة الغضبان

وقوله :

تراقب أظلاف الوحوش نواصلا

كأصداف بحر حول أزرق مترع (٣)

وهذه تشبيهات ، صحاح ، وأمثالها كثيرة.

وقد والى أبو القاسم محمد بن هانىء الأندلسي التشبيه بكأنّ في أبيات كثيرة ، فقال :

كأن رقيب النجم أجدل مرقب

يقلّب تحت الليل في ريشه طرفا (٤)

كأن بني نعش ونعشا مطافل

بوجرة قد أضللن في مهمه خشفا (٥)

__________________

(١) «ديوان سقط الزند» لأبي العلاء المعري ص ٣٩ ، «المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية» (٣ / ٤٧٦).

(٢) «ديوان سقط الزند» ص ٢٩١ ، «المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية» (٨ / ١٨٠).

(٣) «ديوان سقط الزند» لأبي العلاء المعري ص ٢٨٩. النواصل : ما سقط من أظلاف الظباء.

(٤) الأجدل : الصقر. من قصيدة في مدح جعفر بن علي.

(٥) بنو نعش : سبعة كواكب ، أربعة منها تسمى نعش لكونها أربعة ، وثلاثة تسمى بناته ، مطافل :

٢٣٨

كأنّ سهيلا في مطالع أفقه

مفارق إلف لم يجد بعده إلفا (١)

كأن سهاها عاشق بين عوّد

فآونة يبدو وآونة يخفى (٢)

كأن معلّى قطبها فارس له

لوا آن مركوزان قد كره الزّحفا

كأن قدامى النسر والنّسر واقع

قصصن فلم تسم الخوافي به ضعفا (٣)

كأن أخاه حين دوّم طائرا

أتى دون نصف البدر فاختطف النصفا

كأن الهزيع الآبنوسي آونا

سرى بالنسيج الخسروانيّ ملتفّا (٤)

كأن ظلام الليل إذ مال ميلة

صريع مدام بات يشربها صرفا

كأن عمود الصبح خاقان معشر

من الترك نادى بالنجاشيّ فاستخفى

كأن لواء الشمس غرّة جعفر

رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا

فأما التشبيه بغير حرف التشبيه فكقول امرىء القيس :

سموت إليها بعد ما نام أهلها

سموّ حباب الماء حالا على حال (٥)

وقول النابغة :

نظرت إليك بحاجة لم تقضها

نظر المريض إلى وجوه العوّد (٦)

__________________

مفردها مطفل ذات الطفل من الأنس والوحش ، الخشف : ولد الظبية.

(١) سهيل : كوكب يطلع في آخر الليل.

(٢) سهاها : كوكب صغير لا يكاد يرى. والضمير يعود لبنات نعش.

(٣) القدامى : الريشات الكبار في مقدم جناح الطائر ، والخوافي : المؤخرات منه.

(٤) الهزيع : قطعة من الليل ، النسيج الخسرواني : ثوب أبيض من الحرير الناعم. الأبنوس : نوع من الشجر.

(٥) شرح «ديوان امرىء القيس» ١٦١ ، سموت : نهضت ، الحباب : الفقاقيع التي تظهر على سطح الماء.

(٦) لم تقضها : لم تقدر على الكلام عنها مخافة أهلها. وانظر «ديوانه» ص ٤٠.

٢٣٩

وقوله أيضا :

فإنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب (١)

وقول أبي عبادة :

يهوى كما تهوى العقاب وقد رأت

صيدا وينتصب انتصاب الأجدل (٢)

وقول أبي نصر بن نباتة ، وقد يذكر في التمثيل :

خلقنا بأطراف القنا لظهورهم

عيونا لها وقع السيوف حواجب (٣)

وقول أخت ذي الكلب :

تمشي النسور إليه وهي لاهية

مشي العذارى عليهن الجلابيب (٤)

وقول ديك الجن :

سفرن بدورا وانتقبن أهلّة

ومسن غصونا والتفتن جآذرا

وقول الوأواء الدمشقي :

فأسبلت لؤلؤا من نرجس وسقت

وردا وعضت على العنّاب بالبّرد (٥)

وقول أبي إسحاق الصابي يصف الطير التي تصاد بالبندق : محمولة على حكم الكفار ، إذ يقتلون ومصيرهم إلى النار.

__________________

(١) «ديوان النابغة» ص ١٨.

(٢) الأجدل : الصقر. وانظر «ديوان البحتري» ص ٣١٦.

(٣) ديوانه (١ / ١٨٦). القنا : الرماح.

(٤) هذا البيت من قصيدة لها في رثاء اخيها عمرو ذي الكلب ، وانظر «المعجم المفصل» (١ / ٣٠٥).

(٥) مضى تخريجه ص ١١٤.

٢٤٠