سرّ الفصاحة

أبي محمّد عبد الله بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي

سرّ الفصاحة

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي


المحقق: داود غطاشة الشّوابكة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ناشرون وموزعون
الطبعة: ١
ISBN: 9957-07-444-X
الصفحات: ٣٢٧

الذي لا يشوبه كدر ، أو غير ذلك من الألفاظ ، ولم يقله ، وفي الحذف في الكلام مع الدلالة على المراد فائدة ؛ لأن النفس تذهب فيه كل مذهب ، ولو ورد ظاهرا في الكلام لاقتصر به على البيان الذي تضمنه ، فكان حذف الجواب أبلغ لهذه العلة ، كما تقول : لو رأيت عليّا بين الصفين ، وتحذف الجواب ، فيذهب السامع كل مذهب ، ولو قلت : لو رأيت عليا عليه‌السلام بين الصفين لرأيت شجاعا ، أو لرأيت رجلا يقتل الأبطال ، أو ما يجري هذا المجرى ، لم يكن في العظم عند السامع بمنزلة حذف الجواب ، لأنه يذهب مع الحذف كل مذهب ، ولا يعوّل على نفس ما كان يرد في اللفظ فقط.

ومما قصد به الإيجاز حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه بحيث يقع العلم ويزول اللبس ، كقوله تبارك وتعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) [يوسف : ٨٢]. والمعنى : أهل القرية وأصحاب العير.

وكان أبو الحسن علي بن عيسى الرماّني يسمى هذا الجنس ـ وهو إسقاط كلمة لدلالة فحوى الكلام عليها ـ : الحذف ، ويسمى بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف : القصر ، ويجعل الإيجاز على ضربين : القصر والحذف ، وكان يسمي العبارة عن المعنى بالكلام الكثير مع أن القليل يكفي فيه : التطويل ، ويسمي العبارة عن المعنى بالكلام الكثير الذي يستفاد منه إيضاح ذلك المعنى وتفصيله : الإطناب ، ويجعل التطويل عيبا وعيّا ، والإطناب حسنا ومحمودا ، وهذا المذهب من أبي الحسن موافق لما اخترناه ، لأنه يذهب إلى حسن الإطناب الذي هو عنده طول الكلام في فائدة وبيان ، وإخراج للمعنى في معاريض مختلفة وتفصيل له ليتحققه السامع ويستقر عنده فهمه ، وهذا الذي اخترناه وقلنا إنه على التحقيق ألفاظ كثيرة ومعان كثيرة ، وكذلك قد وافقناه في استقباح التطويل وحمد الإيجاز على ما فسره من معنييهما عنده.

ويجب أن نحدّ الإيجاز المحمود بأن نقول : هو إيضاح المعنى بأقل ما يمكن من اللفظ ، وهذا الحدّ أصحّ من حدّ أبي الحسن الرماني بأنّه العبارة عن المعنى بأقل ما يمكن من اللفظ ، وإنما كان حدّنا أولى لأنا قد احترزنا بقولنا : إيضاح ، من أن تكون العبارة عن المعنى وإن كانت موجزة غير موضّحة له ، حتى يختلف الناس في فهمه ، فيسبق إلى قوم

٢٠١

دون قوم بحسب أقساطهم من الذهن وصحة التصور ، فإن ذلك وإن كان يستحق لفظ الإيجاز والإختصار فليس بمحمود حتى يكون دلالة ذلك اللفظ على المعنى دلالة واضحة.

وقد قدّمنا ما ورد في القرآن من أمثلة ذلك وإن كانت كثيرة يطول استقصاؤها ، ومنه قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : (قيمة كل امرىء ما يحسن) فإن هذه الألفاظ على غاية الإيجاز وإيضاح المعنى ، وظهور حسنها يغني عن وصفه.

وروى عن أبي الفرج قدامة بن جعفر الكاتب عن أحمد بن يوسف الكاتب أنه قال : دخلت يوما على المأمون وفي يده كتاب وهو يعاود قراءته تارة بعد أخرى ، ويصعد ويصوب فيه طرفه ، قال : فلما مرّت على ذلك مدة من زمانه التفت إليّ فقال : يا أحمد ، أراك مفكرا فيما تراه مني! قلت : نعم ، وقى الله أمير المؤمنين المكاره ، وأعاذه من المخاوف ، قال : فإنه لا مكروه في الكتاب ، ولكني قرأت فيه كلاما وجدته نظير ما سمعت الرشيد يقوله في البلاغة ، فإني سمعته يقول : (البلاغة التباعد عن الإطالة ، والتقرب من معنى البغية ، والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى) ، وما كنت أتوهم أنّ أحدا يقدر على المبالغة في هذا المعنى ، حتى قرأت هذا الكتاب ، ورمى به إليّ ، وقال : هذا كتاب عمرو بن مسعدة إلينا ، قال : فقرأته فإذا فيه : (كتابي إلى أمير المؤمنين ومن قبلي من قواده وسائر أجناده في الانقياد والطاعة على أحسن ما يكون طاعة جند تأخرت أرزاقهم ، وانقياد كفاة تراخت أعطياتهم فاختلّت لذلك أحوالهم ، والتاثت معه أمورهم) ، فلما قرأته قال لي : إن استحساني إياه بعثني على أن أمرت للجند قبله بعطاياهم لسبعة أشهر ، وأنا على مجازاة الكاتب بما يستحقه من حلّ محلّه في صناعته.

وروي عن المأمون أيضا أنه أمر عمرو بن مسعدة أن يكتب لرجل يعنى به إلى بعض العمال ، وأن يختصر كتابه ما أمكنه ، حتى يكون ما يكتب به في سطر واحد ، فكتب إليه عمرو بن مسعدة : كتابي إليك كتاب واثق بمن كتب إليه ، معنّي بمن كتب له ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله.

٢٠٢

ومن أمثلة الإيجاز في النظم قول زهير :

فإني لو لقيتك واتّجهنا

لكان لكلّ منكرة كفاء (١)

لأن مقصوده إنني لو واجهتك لكان عندي مكافأة لك على كل أمر يبدو منك أنكره ، فقد أورد المعنى في لفظ قليل ، وبهذا كان يوصف شعر زهير ، لأنه كثير الإيجاز مع الإيضاح لمعانيه.

ومن ذلك أيضا قول امرىء القيس :

على هيكل يعطيك قبل سؤاله

أفانين جري غير كزّ ولا وان (٢)

لأنه جمع بقوله : أفانين جري ، ما لو عد كان كثيرا ، وأضاف إلى ذلك أوصاف الجودة في الفرس بقوله : إنه يعطي قبل سؤاله أفانين جريه ولا يحتاج إلى حث ، ونفى عنه بقوله : غير كزّ ولا وان ، أن تكون معه الكزازة من قبل الجماح والمنازعة ، والونى من قبل الاسترخاء والفترة ، فكان في هذا البيت جملة من وصف الفرس قد عبر بها عن معان كثيرة.

ومما يذكر من الإيجاز أيضا قول امرأة من عكل :

يابن الدعيّ إنّه عكل فقف

لتعلمنّ اليوم إن لم تنصرف

أن الكريم واللئيم مختلف

وهذا إجمال في المعنى ، وإيجاز في العبارة عنه.

ومن ذلك أيضا قول الشريف الرضي :

مالوا على شعب الرّحال وأسندوا

أيدي الطعان إلى قلوب تخفق (٣)

__________________

(١) «ديوان زهير» ص ٢٠ ، وقد ورد فيه على النحو التالي :

وإني لو لقيتك فاجتمعنا

لكان لكلّ مندية لقاء

(٢) شرح «ديوان امرىء القيس» ٢٠٩ الهيكل : الفرس الضخم.

(٣) شعب الرحال : خشبها ، «ديوان الشريف الرضي» (٢ / ٣٦). وفي المطبوع : خروا ، بدل مالوا.

٢٠٣

لأنه لما أراد أن يصف هؤلاء القوم بالشجاعة في متابعتهم الغرام والصبابة عبّر عن ذلك بقوله : أيدي الطعان ، فأتى بأخصر ألفاظ وأوجزها.

ومن الإيجاز أيضا قول عمرو بن معد يكرب :

فلو أن قومي أنطقتني رماحهم

نطقت ولكنّ الرماح أجرّت (١)

أي : شقت لساني كما يجرّ لسان الفصيل ، يريد أنها أسكتتني.

ومن هذا الفن أيضا قول حميد بن ثور الهلالي :

أرى بصري قد خانني بعد صحة

وحسبك داء أن تصحّ وتسلما (٢)

فإن قوله : وحسبك داء أن تصح وتسلما ، من الإيجاز الحسن ، وكذلك قول نصيب :

فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله

ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب (٣)

فإن قوله : لو سكتوا أثنت عليك الحقائب ، من الكلام الحسن الموجز.

والأصل في مدح الإيجاز والاختصار في الكلام أن الألفاظ غير مقصودة في أنفسها ، وإنما المقصود هو المعاني والأغراض التي احتيج إلى العبارة عنها بالكلام ، فصار اللفظ بمنزلة الطريق إلى المعاني التي هي مقصودة ، وإذا كان طريقان يوصل كل واحد منهما إلى المقصود على سواء في السهولة إلا أنّ أحدهما أخصر وأقرب من الآخر ، فلا بدّ أن يكون المحمود منهما هو أخصرهما وأقربهما سلوكا إلى المقصد ، فإن تقارب اللفظان في الإيجاز وكان أحدهما أشد إيضاحا للمعنى كان بمنزلة تساوي الطريقين في القرب وزيادة

__________________

(١) الأصمعيات ١٢٢ ، دلائل الإعجاز ١٠٣ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ١٦٢ ، لسان العرب (جرر).

(٢) ديوانه ٧ ، الحيوان ٦ / ٥٠٣ ، البيان والتبيين ١ / ١٥٤ ، المصون في الأدب ١٥٠ ، زهر الآداب للحصري ٢٢٣.

(٣) ديوانه ٥٩ ، البيان والتبيين ١ / ٨٣ ، الكامل ١٠٤ ، زهر الآداب ، العمدة ١ / ٤٤ ، شذور الذهب ٣٠.

٢٠٤

أحدهما بالسهولة ، ومثل هذا قول أبي عبادة :

ولم أنس ليلتنا في العناق

لفّ الصّبا بقضيب قضيبا (١)

وقول غيره :

وضمّ لا ينهنه اعتناق

كما التف القضيب على القضيب

فإنّ هذين البيتين وإن تساويا في كمية الألفاظ فإن بيت أبي عبادة أوضح ، لأنه بيّن بذكر الصبا ما يلف القضيب على القضيب.

ومن ذلك أيضا قول أبي القاسم المطّرز البغدادي :

وردت وقد حلّ لي ماؤه

فلمّا بكيت عليه حرم

وقول مهيار بن مرزويه :

بكيت على الوادي فحرّمت ماءه

وكيف يحلّ الماء أكثره دم

فبيت مهيار وإن قاربت ألفاظه عدد ألفاظ بيت المطرز فقد تضمن من إيضاح المعنى ما لم يتضمنه بيت المطرز ، لأنّ قائلا لو قال : لم حرم الماء لما بكى عليه؟ لوجب في حق تفسير المعنى وإيضاحه أن يقال : لأن دموعه كانت دما غلب على هذا الماء والدم حرام ، فقد أتى مهيار بهذا التفسير في متن البيت.

وعلى هذا القياس يعتبر الإيضاح في الإيجاز ، لئلا يقع فيه إخلال بالمعنى (٢) وإشكال فيه ، ولذلك أمثلة : منها قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود :

أعاذل عاجل ما أشتهي

أحبّ من الأكثر الرائث (٣)

__________________

(١) «ديوان البحتري» (١ / ٩٠) ، وفي المطبوع : وأنس ليلتنا ، وليس كما هو مثبت في الأصل.

(٢) «نقد الشعر» لقدامة بن جعفر : ص ٢١٦.

(٣) الأغاني ٨ / ٩٦ ، نقد الشعر ٨٥ ، الموشح ٢٣٣ ، وغير منسوب في عيون الأخبار ٢ / ١٨٠ والصناعتين ١٨٨. ـ

٢٠٥

لأنه أراد عاجل ما اشتهى مع القلة أحب إليّ من الأكثر البطيء ، فترك ـ مع القلة ـ وبه تمام المعنى.

ومنها قول عروة بن الورد :

عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم

ومقتلهم عند الوغى كان أعذرا (١)

كأنه أراد أن يقول : عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم في السلم ، وقتلهم في الحرب أعذر ، فترك ـ في السلم ـ وبه يتم المعنى.

ومنها قول الحارث بن حلّزة :

والعيش خير في ظلال

النوك ممن عاش كدّا (٢)

فاراد أن يقول : والعيش الناعم في ظلال النوك خير من العيش الشاق في ظلال العقل ، فاخلّ بأكثر المعنى.

ومن أمثلة ذلك في النثر ما حكاه أبو الفرج قدامه بن جعفر أنّ بعضهم كتب في كتاب له : فإن المعروف إذا وحى (٣) كان أفضل منه إذا توفر وأبطأ ، فأراد أن يقول : إن المعروف إذا قل ووحى كان أفضل منه إذا كثر وأبطأ ، فترك ما بنى المعنى عليه ، وهو ذكر القلة.

وكذلك كتب بعضهم : فما زال حتى أتلف ماله ، وأهلك رجاله ، وقد كان ذلك في الجهاد والإبلاء أحق بأهل الحزم وأولى ، فأخلّ بما فيه تمام المعنى ، وذلك أن الذي أراد أنه أنفق ماله وأهلك رجاله في السلم والموادعة وقد كان ذلك في الجهاد أفضل ، فأخل بذكر السلم أو ما يقوم مقامه ، فصار المعنى ناقصا.

ولحمد الإيجاز فضّل أحد الشاعرين على صاحبه إذا كانا قد اشتركا في معنى وأوجز

__________________

(١) «ديوانا عروة بن الورد» والسموأل ص ٤١ ، وفي المطبوع : يخنتون أنفسهم بدل : يقتلون.

(٢) النوك : الجهل.

(٣) وحى : أسرع.

٢٠٦

أحدهما في ألفاظه أكثر من الآخر ، ولهذا قدموا قول الشماخ بن ضرار :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين (١)

على قول بشر بن أبي خازم :

إذا ما المكرمات رفعن يوما

وقصّر مبتغوها عن مداها

وضاقت أذرع المثرين عنها

سما أوس إليها فاحتواها (٢)

وإذا كان ابن أبي خازم سبق الشماخ إلى المعنى ، إلا أنه جاء به في بيتين واختصره الشماخ فأتى به في بيت واحد.

ومن هذا القبيل أيضا قول امرىء القيس :

إذا ما استحمت كان فيض حميمها

على متنتيها كالجمان لدى الجالي (٣)

فإن امرأ القيس أتى بهذا التشبيه في بيت واحد ، وأخذه الوليد بن يزيد فأساء ، لأنه أتى به في بيتين فقال :

كأنّ الحميم على متنها

إذا غرفته بأطساسها

جمان يجول على فضّة

جلته حدائد دوّاسها (٤)

على أن الوليد قد زاد في التشبيه بقوله : على فضّة ، لكن بين ألفاظه وألفاظ امرىء القيس تفاوت لا يخفى.

__________________

(١) يريد عرابة الأوسي. ديوان الشماخ ٩٧ ، الخصائص ٣ / ٢٤٩ ، المحتسب ٢ / ٢٣٤ ، أسرار البلاغة ٤٠٤ ، ٤٠٦ ، أمالي ابن الشجري ٢ / ١٦٥ ، شرح المفصل ٢ / ٣١.

(٢) يريد أوس بن حارثة الطائي.

(٣) الحميم : الماء الحار الجالي : صيرف الدراهم. «ديوان امرىء القيس» ١٦٠.

(٤) «ديوان الوليد بن يزيد» ، مكتبة الأقصى ، عمان ، ط ١ ، ١٩٧٩ م ، ص ٧٢.

٢٠٧

المساواة :

فأما المساواة بين اللفظ والمعنى فكما وصف بعض الأدباء رجلا فقال : كانت ألفاظه قوالب لمعانيه ، أي هي مساوية لها لا يفضل أحدهما على الآخر ، وحدّ المساواة المحمود هو «إيضاح المعنى باللفظ الذي لا يزيد عنه ولا ينقص». وقد احترزت بقولي : (إيضاح) مما احترزت منه عند (١) حد الإيجاز ، لما أذهب إليه من قبح العبارة عن المعنى باللفظ الذي لا يوضحه ، وفرّقت بين المساواة والتذييل بقولي : لا يزيد عنه ؛ لأن التذييل لفظ يزيد على المعنى ، وفرقت بين الإيجاز والإخلال بقولي : ولا ينقص ؛ لأن الإيجاز على ما ذكرناه إيضاح المعنى بأقل ما يمكن من اللفظ ، والإخلال هو نقص المعنى باختصار اللفظ ، فقد فهم ـ بهذا القول الإيجاز والإخلال والمساواة والتذييل ، ولكل من ذلك أمثلة.

فأما أمثلة الإيجاز والإخلال فقد ذكرناها ، وأما أمثلة المساواة فكثيرة ، ومنها قول زهير :

ومهما تكن عند امرىء من خليقة

ولو خالها تخفى على الناس تعلم (٢)

وقوله أيضا :

إذا أنت لم تقصر عن الجهل والخنا

أصبت حليما أو أصابك جاهل (٣)

وقول طرفة بن العبد :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد (٤)

__________________

(١) ينظر ص ٢٠١ حيث عرّف الإيجاز.

(٢) «ديوان زهير». وانظر «خزانة الأدب» (٩ / ٢٧) ، «المعجم المفصل» (٧ / ٤٠٩).

(٣) «ديوان زهير» ص ١٠١. وانظر «المعجم المفصل» (٦ / ٢٨٢).

(٤) «شرح المعلقات السبع» للزوزني ص ٢١٥.

٢٠٨

وقول أبي نصر بن نباتة :

عسى ممسك الرّيح القبول يعيدها

وينقص من أنفاسنا ويزيدها (١)

وقوله أيضا :

إذا كان نقصان الفتى في تمامه

فكلّ صحيح في الأنام عليل (٢)

وقول أبي الطيب :

أتى الزّمان بنوه في شبيبته

فسرّهم وأتيناه على الهرم (٣)

وقول أبي عبادة :

ما زال يسبق حتى قال حاسده

له طريق إلى العلياء مختصر (٤)

وأمثال هذا أكثر من أن تحصى.

وأما التذييل فهو العبارة عن المعنى بألفاظ تزيد عليه ، وإنما لم نقل في التذييل : إيضاح المعنى ؛ كما قلنا في حد المساواة والإيجاز لما نذهب إليه من حمد الإيجاز والمساواة إذا كان المعنى فيهما واضحا ، فاحترزنا بالإيضاح من أن ندخل في الحدّ ما لا نحمده من المساواة والإيجاز اللذين يكون المعنى فيهما غامضا خفيّا ، فأما التذييل فإنا على ما قدّمناه لا نحمده في موضع من المواضع ، فلا معنى لاحترازنا بذكر الإيضاح في حدّه.

فأما مثاله فكما وقفت لبعض الكتّاب المتأخرين على فصل من كتاب له شفاعة ، وهو : وفلان بن فلان الرجل المشهور بالفروسية والرّجلة والشجاعة والنجدة ، وله السنّ والحنكة والتجارب والدربة ، فهذا كله تطويل بإيراد ألفاظ كثيرة تدلّ على معنى واحد ،

__________________

(١) ريح القبول : ريح الصبا ، وهي ريح تهب من جهة الشرق. وانظر «ديوانه» (١ / ٤٦٦).

(٢) «ديوان ابن نباتة» (٢ / ٤٦١).

(٣) «ديوان أبي الطيب المتنبي» (٢ / ٢٦٢).

(٤) «ديوان أبي عبادة البحتري» (٢ / ٢٦٢).

٢٠٩

وكذلك قول الشاعر :

فقدّدت الأديم لراهشيه

وألفى قولها كذبا ومينا (١)

فالكذب والمين واحد.

والفرق بين التطويل والحشو أن الحشو لفظ يتميز عن الكلام بانه إذا حذف منه بقي المعنى على حاله ، والتطويل هو أن يعبر عن المعاني بألفاظ كثيرة كلّ واحد منها يقوم مقام الآخر ، فأيّ لفظ شئت من تلك الألفاظ حذفته كان المعنى على حاله ، وليس هو لفظا متميزا مخصوصا كما كان الحشو لفظا متميزا مخصوصا ، يبين أن الحشو على ما قدّمناه من وصفه نحو قول أبي عديّ :

نحن الرّؤوس وما الرؤوس إذا سمت

في المجد للأقوام كالأذناب (٢)

فللأقوام هو الحشو ؛ لأن هذه اللفظة دون ألفاظ البيت هي التي إذا حذفت منه بقي المعنى بحاله ، والتطويل مثل حكيناه في قوله : الرجل المشهور بالفروسية والرّجلة والشجاعة والنجدة ، لأن هذه الألفاظ كلها بمعنى واحد ، فأنت إن شئت حذفت الرّجلة ، وإن شئت حذفت الشجاعة وإن شئت حذفت النجدة ، وإن حذفتهما معا بقي الكلام بحاله ، فهذا هو الفرق بين الحشو والتطويل ، وعلى أن الحشو في الأكثر إنما يقع في النظم لأجل الوزن ، وفي النثر لأجل تساوي الفصول أو الأسجاع ، ويجب أن يعتبر الكلام في التطويل والحشو والمساواة والإيجاز والإخلال بهذا الاعتبار وهو أن يتأمل الكلام المؤلف ، فإن كان المعنى فيه ناقصا غير مستوفى فذلك الإخلال ، وإن كان المعنى تاما فلا يخلو أن يكون في الألفاظ ما إذا حذفته بقي المعنى بحاله ، أو ليس في الألفاظ ما إذا حذف بقي المعنى بحاله. فإن كان فيها ما إذا حذف بقي المعنى ، فلا يخلو من أن

__________________

(١) البيت لعدي بن زيد في ديوانه ١٨٣ ، مغني اللبيب ٣٥٧ ، همع الهوامع ١٢٩ الدرر اللوامع ٢ / ١٦٧ ، معاهد التنصيص ٢ / ١٠٤.

(٢) الأديم : الجلد. الراهشان : عرقان في بطان الذراعين.

٢١٠

يتميز ذلك اللفظ الزائد من غيره أو لا يتميز ، فإن لم يتميز فتلك الإطالة ، وإن تميز فذلك الحشو ، وإن لم يكن في الكلام ما إذا حذف بقي المعنى بحاله ، فلا يخلو من أن يكون تمكن العبارة عن ذلك المعنى بأقل من تلك الألفاظ أو لا تمكن ، فإن كان تمكن العبارة عن ذلك المعنى بأقل من ذلك اللفظ فتلك المساواة وإن كان لا تمكن العبارة عن ذلك المعنى بأقل من ذلك فذلك هو الإيجاز ، فبهذا يصح لك اعتبار الأقسام المذكورة ، ولا يخفى شيء منها على المتأمل.

ومن شروط الفصاحة والبلاغة أن يكون معنى الكلام واضحا ظاهرا جليا لا يحتاج إلى فكر في استخراجه وتأمل لفهمه ، وسواء كان ذلك الكلام الذي لا يحتاج إلى فكر منظوما أو منثورا.

وإنما احتجنا إلى التفصيل لأن أبا إسحاق إبراهيم بن هلال الصّابي غلط في هذا الموضع ، فزعم أن الحسن من الشعر ما أعطاك معناه بعد مطاولة ومماطلة ، والحسن من النثر ما سبق معناه لفظه ، ففرق بين النظم والنثر في هذا الحكم ، ولا فرق بينهما ولا شبهة تعترض المتأمل في ذلك.

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه أنا قد بينّا أن الكلام غير مقصود في نفسه ، وإنما احتيج إليه ليعبّر الناس به عن أغراضهم ، ويفهموا المعاني التي في نفوسهم ، فإذا كانت الألفاظ غير دالة على المعاني ولا موضحة لها فقد رفض الغرض في أصل الكلام ، وكان ذلك بمنزلة من يصنع سيفا للقطع ويجعل حده كليلا ، ويعمل وعاء لماء يريد أن يحرزه فيقصد إلى أن يجعل فيه خروقا تذهب ما يوعى فيه ، فإنّ هذا مما لا يعتمده عاقل ، ثم لا يخلو أن يكون المعبر عن غرضه بالكلام يريد إفهام ذلك المعنى أو لا يريد إفهامه ، فإن كان يريد إفهامه فيجب أن يجتهد في بلوغ هذا الغرض بإيضاح اللفظ ما أمكنه ، وإن كان لا يريد إفهامه فليدع العبارة عنه فهو أبلغ في غرضه.

٢١١

وإذا كان هذا مفهوما فالأسباب التي لأجلها يغمض الكلام على المسامع ستة : اثنان منها في اللفظ بانفراده ، واثنان في تأليف الألفاظ بعضها مع بعض ، واثنان في المعنى.

فأما اللذان في اللفظ بانفراده فأحدهما : أن تكون الكلمة غريبة كما ذكرنا فيما تقدم من وحشى اللغة العربية ، والآخر : أن تكون الكلمة من الأسماء المشتركة في تلك اللغة ، كالصدى الذي هو العطش والطائر والصوت الحادث في بعض الأجسام.

وأما اللذان في تأليف الألفاظ فأحدهما : فرط الإيجاز ، كبعض الكلام الذي يروى عن بقراط في علم الطب ، والآخر : إغلاق النظم ، كأبيات المعاني من شعر أبي الطيب المتنبي وغيره ، وكما يروى من كلام أرسطو طاليس في المنطق.

وأما اللذان في المعنى ، فأحدهما : أن يكون في نفسه دقيقا ، ككثير من مسائل الكلام في اللطيف ، والآخر : أن يحتاج في فهمه إلى مقدمات إذا تصورت بني ذلك المعنى عليها ، فلا تكون المقدمات حصلت للمخاطب فلا يقع له فهم المعنى. كالذي يريد فهم فروع الكلام والنحو وغيرهما من العلوم قبل الوقوف على الأصول التي بنيت تلك الفروع عليها.

وإذا كان هذا واضحا فإن استعمال الألفاظ الغريبة الوحشية نقص في الفصاحة التي هي الظهور والبيان على ما قدمنا من ذلك فيما مضى من كتابنا هذا. فاما استعمال الألفاظ المشتركة كالصدى فإنه يحسن في فصيح الكلام إذا كان في اللفظ دليل على المقصود ، مثل قول أبي الطيب :

ودع كل صوت دون صوتي فإنني

أنا الطائر المحكي والآخر الصّدى (١)

فإن الصدى هاهنا لا يشكل بالصدى الذي هو العطش ، ولا يسبق ذلك إلى فهم أحد من السامعين ، فأما إن كان ذلك في موضع يشكل فليس ذلك بموافق للفصاحة.

__________________

(١) «ديوان المتنبي» (٢ / ١٢٦).

٢١٢

وأما السببان اللذان في التأليف ؛ وهما : إفراط الإيجاز وإغلاق اللفظ ، فمن شروط الفصاحة والبلاغة أن يسلم الكلام منهما ، لما قدمناه من الدلالة على ذلك.

وأما السببان اللذان في المعاني ، وهما : دقة المعنى في نفسه وحاجته إلى الإحاطة بأصل قد بني عليه ، فليس في أن يجعل المعنى الدقيق ظاهرا جليا جلّه للمعبر عنه ، لكن يحتاج أن يحسن العبارة عنه ويبالغ في إيضاح الدلالة ، ليكون ما في المعنى من الدقة واللطافة بإزاء ما في العبارة عنه من الظهور والفصاحة ، وكذلك يحتاج السامع إلى إحكام الأصل قبل أن يقصد إلى فهم الفرع ، ويحتاج المخاطب إلى ذكر المقدمات إذا كان غرضه أن يفهم المخاطب كلامه.

فإن قيل : فما تقولون في تأخير البيان عن وقت الخطاب ، أيجوز عندكم أم لا يجوز؟ فإن منعتم من جوازه كان قولكم مطّردا ، وإن أجزتموه فما وجه إنكاركم إغلاق اللفظ ومطالبتكم بإيضاح المعنى وبيان المراد مع قولكم بتأخير البيان عن وقت الخطاب؟ قيل : الجواب أنا لا نذهب إلى أن كل أمر يؤثر في الفصاحة وتعتبر سلامة أعلى طبقاتها منه غير جائز في الإستعمال ولا سائغ في الكلام ، وكيف نقول ذلك وقد قدمنا أن شروط الفصاحة أن تكون الكلمة مبنية من حروف متباعدة المخارج وغير كثيرة الحروف ، ومع ذلك فألفاظ العرب المبنية من الحروف المتقاربة المخارج والكثيرة الحروف أكثر من أن تحصى ، وقد استعملوا تلك الألفاظ في الفصيح من كلامهم ـ وكذلك إذا قلنا : من شروط الفصاحة الإيجاز ـ لم يكن ذلك منعا لجواز الإسهاب ولا رفضا لاستعماله ، وإنما مقصودنا أن هذا النحو أحسن من هذا النحو ، وبهذا الوجه يستدل على الفصاحة أكثر من هذا الوجه ، فإذا كان هذا بينا ، فلو قلنا بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لم يكن ذلك مناقضا لقولنا إن مقارنة البيان لوقت الخطاب أحسن ، وإلى حيز الفصاحة والبلاغة أقرب ؛ لأنا لا نتكلم في هذا الموضوع على الجائز والممتنع ، وإنما كلامنا على الأفصح والأحسن ، على أن من منع من جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إنما علل ذلك لأنه

٢١٣

خطاب لا يفهم منه المراد ، فجرى في القبح مجرى خطاب العربي بالزنجية ، ومن أجازه فرق بين الخطاب بالزنجية وبين تأخير البيان بأن في الخطاب مع تأخير البيان بعض الفائدة والفهم للمراد ، كتوطين النفس على الفعل والعزم عليه إن كان الخطاب أمرا ، وليس في الخطاب للعربي بالزنجية ذلك ، فقد وقع بالإجماع على أنه متى لم يفهم من الخطاب شيء كان قبيحا.

فإن قيل : كلامكم الماضي يدل على أن في القرآن ما بعضه أفصح من بعض ، وفي الناس من يخالفهم ويأبى ذلك ، فما عندكم فيه؟ قلنا : أما زيادة بعض القرآن على بعض في الفصاحة فالأمر فيه ظاهر لا يخفى على من علق بطرف من هذه الصناعة ، وشدا شيئا يسيرا (١) وما زال الناس يفردون مواضع من القرآن يعجبون منها في البلاغة وحسن التأليف كقوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود : ٤٤].

وقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [البقرة : ١٨٧].

وقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت : ٣٤].

وقوله عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) [سبأ : ٥١]

وقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة : ١٧٩].

وأمثال هذا ونظائره كثير.

فلو كانوا يذهبون إلى تساويه في الفصاحة لم يكن لإفرادهم هذه المواضع المعينة المخصوصة دون غيرها معنى ، وإنما تدخل الشبهة في هذا ومثله على الأعاجم من

__________________

(١) شدا هنا بمعنى : طلب أو تعلّم مقدمات من العلم.

٢١٤

الفقهاء والمتكلمين لجهلهم بهذه الصناعة ، وعدم فهمهم لقوانينها ، فإن من عجيب أمرهم أن أحدهم إذا حاول ابتياع ثوب أو دابة وعلم أن غيره أخبر بذلك الجنس منه لم يرض بمقدار علمه حتى يرجع إلى من يظن معرفته بالثياب أو الدوابّ. فيستفتيه ويقبل رأيه ، كلّ ذلك خوفا من أن يستمر عليه الغبن في شيء من ماله ، وإذا وصل إلى الكلام في كتاب الله تعالى ووجه إعجازه ـ ما هو؟ وهل هو صرف العرب عن معارضته أو علوّه عن كلامهم بفصاحته؟ ، وكان ذلك يحتاج إلى صناعة لا يفهمها وعلوم لا يعرف شيئا منها ـ لم ير أن يرجع إلى أقوال العلماء بتلك الصناعة والمهمتين بفهم أسرار تلك العلوم ، بل قال بغير حجة ، وأفتى من غير معرفة ، ورضي أن يغبن عقله ودينه من الموضع الذي تحرّز فيه ، وأشفق أن يغبن شيئا من ماله ، وليت شعري أيّ فرق بين أن يخلق الله وجهين أحدهما أحسن وأصبح من الآخر ، وبين أن يحدث كلامين أحدهما أبلغ وأفصح من الآخر؟ وهل من يفرّق بينهما إلا مقترح؟

ثم ليس أحد ممن ينكر أن يكون بعض القرآن أفصح من بعض يمتنع من القطع على أن القرآن في لغته أفصح من التوراة في لغتها ، والإنجيل في لغته ، والزبور في لغته ؛ لأن تلك الكتب عنده لم تكن معجزة لخرقها العادة بالفصاحة ، وإن كان الجميع كلام الله تعالى ، فما المانع من أن يكون بعض كلامه الذي هو القرآن أفصح من بعض؟ حتى تكون آية منه أفصح من آية ، والجميع كلام الله ، كما جاز عنده أن يكون القرآن أفصح من الإنجيل ، وإن كان الجميع كلام الله ، وهذا لا يخفى على محصل.

فإن قيل : الذي يمنع أن يكون بعض القرآن أفصح من بعض ، القول بأنّ قدر كل سورة من قصار سور المفصل منه قد خرق العادة في الفصاحة بفصاحته ، وكان معجزا لعلّوه في الفصاحة ، وما كان خارقا للعادة في الفصاحة لا يكون غيره أفصح منه ، قيل :

الجواب عن هذا أولا : أن الصحيح أن وجه الإعجاز في القرآن هو صرف العرب عن معارضته ، وأن فصاحته قد كانت في مقدورهم لو لا الصرف ، وهذا هو المذهب الذي

٢١٥

يعوّل عليه أهل هذه الصناعة وأرباب هذا العلم ، وقد سطّر عليه من الأدلة ما ليس هذا موضع ذكره ، فالسؤال على هذا المذهب ساقط ، ثم لو سلّم أن وجه الإعجاز هو الفصاحة لم يمنع أن يكون كلام معجز يخرق العادة بفصاحته أفصح من كلام معجز يخرق العادة بفصاحته ، فإن نبيا لو أظهر الله على يده معجزا ـ وهو حمله ألف رطل ـ لم يمنع أن يظهر على يده أو على يد نبي غيره معجزا آخر ـ وهو حمل ألفي رطل ـ فيكون المعجز أن أحدهما أعظم من الآخر مع كون كل واحد منهما معجزا.

فإن قيل : فما تقولون في الكلام الذي وضع لغزا وقصد ذلك فيه؟ قيل : إنّ الموضوع على وجه الإلغاز قد قصد قائله إغماض المعنى وإخفاءه وجعل ذلك فنا من الفنون التي يستخرج بها أفهام الناس ، وتمتحن أذهانهم ، فلما كان وضعه على خلاف وضع الكلام في الأصل كان القول فيه مخالفا لقولنا في فصيح الكلام ، حتى صار يحسن فيه ما كان ظاهره يدل على التناقض ، أو ما جرى مجرى ذلك ، كما قال بعضهم في الشّمع :

تحيا إذا ما رؤوسها قطعت

وهنّ في الليل أنجم زهر

وقد كان شيخنا أبو العلاء يستحسن هذا الفن ويستعمله في شعره كثيرا ، ومنه قوله :

وجبت سرابيا كأنّ إكامه

جوار ولكن مالهنّ نهود

تمجّس حرباء الهجير وحوله

رواهب خيط والنهار يهود (١)

فألغز بقوله : (جوار) عن الجواري من الناس ، وهو يريد : كأنهنّ يجرين في السراب ، وبقوله : (نهود) عن نهود الجواري ، وهو يريد بنهود : نهوض ، أي : كأنهنّ يجرين في السراب وما لهن على الحقيقة نهوض ، وأراد بقوله : (تمجس حرباء) أي :

صار لاستقباله الشمس كالمجوس التي تعبدها وتسجد لها ، وجعل الرواهب النعام لسوادها ، ويهود يرجع وهو يلغز بذلك عن اليهود لمّا ذكر المجوس والرواهب.

__________________

(١) الخيط : الجماعة من النعام. وانظر «ديوانه اللزوميات» (١ / ٢١٠).

هاد يهود بمعنى رجع.

٢١٦

وكذلك قوله :

إذا صدق الجدّ افترى العمّ للفتى

مكارم لا تكرى وإن كذب الخال (١)

لأنه يريد الجد الحظّ ، وبالعمّ الجماعة من الناس ، وبالخال المخيلة ، وقد ألغز بذلك عن العم والجد والخال من النسب ، فهذا وأمثاله ليس من الفصاحة بشيء ، وإنما هو مذهب مفرد وطريقة أخرى.

فإن قيل : فما عندكم في الحكاية التي تحكى عن أبي تمام أنه لما قصد عبد الله بن طاهر بقصيدته التي أولها :

أهنّ عوادي يوسف وصواحبه

فعزما فقدما أدرك السّؤل طالبه (٢)

وعرض هذه القصيدة على أبي العميثل صاحب عبد الله بن طاهر (٣) وشاعره ، فقال له أبو العميثل ـ عند إنشاده أول القصيدة ـ لم لا تقول يا أبا تمام من الشعر ما يفهم؟ فقال : وأنت يا أبا العميثل لم لا تفهم من الشعر ما يقال؟ فانقطع أبو العميثل ، قيل : إن الذي قاله أبو تمام وأبو العميثل صحيح ، لأن أبا العميثل طلب من أبي تمام ـ إذ كان حاذقا في صناعة الشعر ، وقد قصد مثل عبد الله بن طاهر بالمديح ـ أن يكون شعره مفهوما واضحا يسبق معناه لفظه ، فكان هذا من أبي العميثل كلاما صحيحا في موضعه ، وطلب أبو تمام من أبي العميثل ـ إذ كان يدّعي علم الشعر ويتحقق بالأدب ، ويخدم عبد الله بن طاهر في اعتراض قصائد الشعراء وترتيبهم على مقدار ما يستحقه كل منهم بحظه من الصناعة ـ

__________________

(١) لا تكرى : لا تنقص.

(٢) «ديوان أبي تمام» ١ / ٢١٦.

(٣) هو عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي. أمير خراسان ومن أشهر الولاة في العصر العباسي ، ولي إمرة الشام ، ثم ولاه المأمون خراسان ، كان من أكثر الناس بذلا للمال وقال عنه ابن خلكان : كان عبد الله سيدا نبيلا عالي الهمة شهما ، وكان المأمون كثير الإعتماد عليه ، توفي في نيسابور سنة ٢٣٠ هجرية.

٢١٧

أن يكون يفهم معاني الشعر ، ويطّلع على الغامض والظاهر منها ، وكان هذا من أبي تمام أيضا كلاما صحيحا ، وكانا فيه بمنزلة من يقول لصاحبه : لم فعلت ذلك الفعل وهو قبيح؟ فيقول : كما فعلت أنت ذلك الفعل الآخر وهو قبيح ، فيكون كل واحد منهما قد أجاب من طريق الجدل ، وإن كان لم يدل على أنه أصاب وأخطأ صاحبه.

وإذا كان هذا مفهوما فأمثلة الكلام الذي يظهر معناه ولا يحتاج إلى الفكر في استخراجه كثيرة ، وعامة شعر أبي عبادة البحتري عليه. فأما الذي يسأل عن معناه ويفكر في فهمه فكالأبيات التي من شعر أبي الطيب المتنبي ، وقد نعاها عليه الصاحب أبو القاسم بن عبّاد رحمه‌الله ، وكان يسميها رقى العقارب ، والناس إلى اليوم مختلفون في معاني بعضها ، وكل يذهب إلى فن. ويسبق خاطره إلى غرض ، كقوله :

ذم الزمان إليه من أحبّته

ما ذمّ من بدره في حمد أحمده (١)

وقوله :

عيون رواحلي إن حرت عيني

وكلّ بغام رازحة بغامي (٢)

فأما غير ذلك مما قد فهم معناه ولم يختلف فيه إلا أنه مع ذلك لا يخرج إلا بطرف من الفكر فكقوله :

ودون الذي يبغون ما لو تخلصوا

إلى الموت منه عشت والطفل أشيب (٣)

وقوله أيضا :

سرب محاسنه حرمت ذواتها

داني الصفات بعيد موصوفاتها (٤)

__________________

(١) «ديوان المتنبي» (١ / ٥٤).

(٢) الرازحة : الناقة تسقط من التعب والإعياء. ديوان المتنبي (٢ / ٢٤٦).

(٣) «ديوان المتنبي» (٢ / ٢٣٢).

(٤) ذواتها : صواحباتها. سرب : جماعة من النساء.

٢١٨

وقوله :

رجلاه في الركض رجل واليدان يد

وفعله ما تريد الكفّ والقدم (١)

وأمثال هذا له ولغيره كثير.

وقد قال بشر بن المعتمر في وصيته : إياك والتّوعر في الكلام ، فإنه يسلمك إلى التعقيد ، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ، ويمنعك من مراميك.

وحكى أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ عن بعض من وصف البلاغة فقال : ينبغي أن يكون الاسم للمعنى طبقا ، وتلك الحال له وفقا ، ولا يكون الاسم لا فاضلا ولا مقصرا ولا مشتركا ولا مضمنا.

فهذا كله يدل على صحة ما قلناه ، وإن كانت الشبهة لا تعترض فيه لمتأمل.

ومن نعوت البلاغة والفصاحة أن تراد الدلالة على المعنى ، فلا يستعمل اللفظ الخاص الموضوع له في اللغة ، بل يؤتى بلفظ يتبع ذلك المعنى ضرورة ، فيكون في ذكر التابع دلالة على المتبوع ، وهذا يسمى الإرداف (٢) والتتبيع ؛ لأنه يؤتى فيه بلفظ هو ردف اللفظ المخصوص بذلك المعنى وتابعه ، والأصل في حسن هذا أنه يقع فيه من المبالغة في الوصف ما لا يكون في نفس اللفظ المخصوص بذلك المعنى ، ومثاله قول عمر بن أبي ربيعة :

بعيدة مهوى القرط إما لنوفل

أبوها وإما عبد شمس وهاشم (٣)

فإنه إنما أراد أن يصف هذه المرأة بطول العنق ، فلو عبر عن ذلك باللفظ الموضوع له لقال : طويلة العنق ، فعدل عن ذلك وأتى بلفظ يدل عليه وليس هو الموضوع له ، فقال :

__________________

(١) «ديوان المتنبي» (٢ / ٨٣). ضمير رجلاه لجواده.

(٢) «نقد الشعر» لقدامة بن جعفر ، ص : ١٥٥.

(٣) نوفل وعبد شمس وهاشم من أشراف قريش ، وهاشم جد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وانظر «المعجم المفصل» (٧ / ٣٧٦).

٢١٩

بعيدة مهوى القرط ، فدل ببعد مهوى قرطها على طول الجيد ، وكان في ذلك من المبالغة ما ليس في قوله : طويلة العنق ؛ لأن بعد مهوى القرط يدل على طول أكثر من الطول الذي يدل عليه ـ طويلة العنق ـ لأن كل بعيدة مهوى القرط طويلة العنق ، وليس كل طويلة العنق بعيدة مهوى القرط ، إذا كان الطول في عنقها يسيرا وهذا موضع يجب فهمه.

ومنه قول امرىء القيس :

وتضحي فتيت المسك فوق فراشها

نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضّل (١)

فإنه لما أراد أن يصف ترفّه هذه المرأة ونعمتها قال : نؤوم الضحى يبقى فتيت المسك فوق فراشها لم تنتطق لتخدم نفسها ، فعبر بذلك عن غناها وترفّهها وخفض عيشها ، وأتى بألفاظ تدل على ذلك أبلغ مما يدل عليه قوله : إنها غنية مرفهة.

وكذلك قوله :

وقد أغتدي والطير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل (٢)

لأنه أراد أن يصف الفرس بالسرعة ، فلم يقل : إنه سريع ، وقال : قيد الأوابد ؛ وهي الوحوش ، أي : إنه إذا طلبها على هذا الفرس لحقها لسرعته ، فكأنه قيّدها له ، وفي هذا من المبالغة ما ليس في وصف الفرس بأنه سريع ؛ لأن الفرس قد يكون سريعا ولا يلحق الوحش حتى تصير بمنزلة المقيّدة له ، وقد استحسن الناس هذا اللفظ من امرىء القيس ، حتى قالوا : هو أول من قيّد الأوابد.

وأصحاب صناعة البلاغة يذكرون «الإرداف» ولا يشرحون العلة في سببه وحسنه من المبالغة التي نبهنا عليها ، ومنه في النثر قول أعرابية وصفت رجلا فقالت : لقد كان فيهم عمّار ، وما عمّار؟ طلّاب بأوتار ، لم تخمد له قطّ نار ، فأرادت بقولها : (لم تخمد له

__________________

(١) لم تنتطق : لم تشد نطاقا للعمل ، وعن تفضل : عن ثوب نوم ، شرح «ديوانه» ص ١٥٠.

(٢) وكناتها : أعشاشها ، المنجرد : القصير الشعر ، هيكل : ضخم. شرح «ديوانه» ص ١٥٣.

٢٢٠