سرّ الفصاحة

أبي محمّد عبد الله بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي

سرّ الفصاحة

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي


المحقق: داود غطاشة الشّوابكة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ناشرون وموزعون
الطبعة: ١
ISBN: 9957-07-444-X
الصفحات: ٣٢٧

وقول ابن هانيء الأندلسي :

أمديرها من حيث دار لشدّ ما

زاحمت تحت ركابه جبريلا (١)

وأما استعمال الغلوّ الخارج إلى الإحالة في النثر فقليل ، وأكثر ما يستعمل فيه المبالغة التي تقارب الحقيقة ، كقول بعضهم : لهم جود كرام اتسعت أحوالها ، وبأس ليوث تتبعها أشبالها ، وهمم ملوك انفسحت آمالها ، وفخر صميم شرفت أعمامها وأخوالها.

فبالغ لمّا جعل لهم جود الكرام مع اتساع الحال ، وبأس الليوث مع اتباع الأشبال ، وكذلك ما بعده من الكلام.

ومن المبالغة قول النابغة الذّبياني :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب (٢)

وإنما كان هذا الإستثناء من المبالغة في المدح ، لأنه قد دل به على أنه لو كان فيهم عيب غيره لذكره ، وأنه لم يقصد إلا وصفهم بما فيهم على الحقيقة.

ومنه أيضا قول أبي هفّان :

ولا عيب فينا غير أن سماحنا

أضرّ بنا والبأس من كل جانب

فأفنى الردى أعمارنا غير ظالم

وأفنى الندى أموالنا غير عائب

أبونا أب لو كان للناس كلهم

أبا واحدا أغناهم بالمناقب

ومن قول النابغة الجعدي :

فتى كملت أخلاقه غير أنّه

جواد فما يبقى من المال باقيا (٣)

__________________

(١) «ديوان ابن هانيء» ص ١٤٦. ضمير (أمد يرها) للمظلة التي كان الفاطميون يستعملونها في مواكبهم. وضمير (دار) يعود على المعزّ لدين الله الفاطمي. والبيت من قصيدة في مدح المعزّ.

(٢) «ديوان النابغة الذبياني» ص ١١.

(٣) ديوان النابغة الجعدي ١٧٤ ، الكتاب ١ / ٣٦٧ ، خزانة الأدب ٢ / ١٢ ، مغني اللبيب ٢٠٩ ، همع الهوامع ١ / ٢٣٤ ، الدرر اللوامع ١ / ١٩٨ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ٩٦٩. ـ

٢٦١

وأما التحرّز مما يوجب الطعن فأن يأتي بكلام لو استمر عليه لكان فيه طعن ، فيأتي مما يتحرز به من ذلك الطعن ، كقول طرفة :

فسقى ديارك غير مفسدها

صوب الربيع وديمة تهمى (١)

فلو لم يقل : غير مفسدها ، لظنّ به أنه يريد توالي المطر عليها ، وفي ذلك فساد للديار ومحو لرسومها ، كما عابوا قول ذي الرمّة :

ألا يا اسلمى يا دار ميّ على البلى

ولا زال منهلا بجرعائك القطر (٢)

وقالوا : إذا لم يزل القطر منهلا عليها عفى آثارها ودرس معالمها ، فاحترز طرفة بقوله : غير مفسدها ، من هذا الطعن ، على أنّ ذا الرمّة قد احترز بقوله : ألا يا اسلمى يا دار ميّ على البلى ، ولأجل هذا الغرض قال الرضيّ (رحمه‌الله) في وصف المطر المستسقى به القبر ـ وذكر السحابة :

تجري وذاك الرمس غير مروّع

منها وذاك الترب غير مثار (٣)

واستقبح قول أبي الطيب المتنبي في مثله :

لساحيه على الأجداث حفش

كأيدي الخيل أبصرت المخالي (٤)

ومن الاحتراز أيضا قول عبد الله بن المعتز بالله في صفة الخيل :

صببنا عليها ظالمين سياطنا

فطارت بها أيد سراع وأرجل

__________________

(١) هذا البيت من قصيدة له في مدح قتادة بن مسلمة الحنفي ، وكان أصاب قومه جدب فبذل لهم ، وصوب الربيع : مطره ، والديمة : المطر الدائم. «ديوان طرفة» ٦٢ ، معاهد التنصيص ١ / ١٢٢ الدرر اللوامع ١ / ٢٠١ ، همع الهوامع ١ / ٢٤١.

(٢) «ديوان ذي الرمّة» ص ١٠٢.

(٣) «ديوان الشريف الرضي» (١ / ٤٥٣).

(٤) الساحي : الذي يقشر الأرض بشدة انصبابه ، والأجداث : القبور ، وحفش : وقع شديد ، والمخالي : التي يوضع فيها الشعير للخيل. وانظر «ديوانه» (٢ / ١٣).

٢٦٢

فإنه لو لم يقل : ظالمين ، لكان للمعترض عليه أن يقول : إنما ضربت هذه الخيل لبطئها ، كما عابوا قول امرىء القيس :

فللزّجر ألهوب وللسّاق درّة

وللسوط منها وقع أخرج مهذب (١)

وقالوا : إذا أحوج إلى هذا كله فليس بسريع ، فقال عبد الله : (ظالمين) تحرزا من هذا الطعن.

ومن هذا أيضا قول أبي عبادة :

أقمنا أكلنا أكل استلاب

هناك وشربنا شرب بدار (٢)

وكأنّه خاف أن يقال : هذا الذي فعلتم سخف ، فقال :

ولم يك ذاك سخفا غير أني

رأيت الشّرب سخفهم وقار (٣)

وأما الاستدلال بالتمثيل فأن يزيد في الكلام معنى يدلّ على صحته بذكر مثال له ، نحو قول أبي العلاء :

لو اختصرتم من الإحسان زرتكم

والعذب يهجر للإفراط في الخصر (٤)

فدلّ على أن الزيادة فيما يطلب ربما كانت سببا للامتناع منه ، بتمثيل ذلك بالماء الذي لا يشرب لفرط برده ، وإن كان البرد فيه مطلوبا محمودا.

ومنه أيضا قول أبي تمّام :

أخرجتموه بكره من سجّيته

والنار قد تنتضى من ناضر السّلم (٥)

__________________

(١) الهوب : زجر بالسوط. درّة : دفعة.

(٢) «ديوان البحتري» (٢ / ٢٨١).

(٣) «ديوان البحتري» (٢ / ٢٨١). الشرب : الشاربون. بدار : يبادرون إلى الشرب.

(٤) شروح سقط الزند ١٢٠ ، معاهد التنصيص ٢ / ٩٧ وهو بلا نسبة في تاج العروس ١١ / ١٧٠.

(٥) «ديوان أبي تمام» ٣ / ١٨٩.

٢٦٣

وقوله :

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود (١)

لو لا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود

وقوله :

وكنّا نرجّيه على السّخط والرّضا

وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع (٢)

وقول أبي عبادة :

ويحسن دلّها والموت فيه

وقد يستحسن السيف الصقيل (٣)

وقوله :

مواهب ما تكلّفنا السؤال لها

إن الغمام قليب ليس يحتفر (٤)

وأما قول أبي عبادة أيضا :

ورجال جاروا خلائقك الغرّ

وليست يلامق من دروع (٥)

فليس بتمثيل جيّد ، لأن السبق في الجري لا يليق تمثيله بتفضيل الدّروع على اليلامق ، وإنما كان يحسن ذلك لو قال : ورجال جاروك في كونهم عصمة لي أو جنة دوني ، أو ما جرى هذا المجرى ، فيكون تمثيل ذلك بالدروع واليلامق موافقا ، فأما على الوجه الذي ذكره فإن ذلك من ردىء الاستدلال بالتمثيل.

__________________

(١) «ديوان أبي تمام» ١ / ٣٩٧.

(٢) «ديوان أبي تمام» ٢ / ٣٢٤. وفيه : ونحن نزجّيه على الكره والرضا.

(٣) «ديوان البحتري» (١ / ٢٨٣).

(٤) «ديوان البحتري» (٢ / ٢٦١). القليب : البئر قبل أن تبنى بالحجارة.

(٥) يلامق : جمع يلمق وهو القباء ، وهو لفظ فارسي معرب. وانظر «ديوانه» ص (٢ / ٢٢).

٢٦٤

ومن الاستدلال بالتمثيل على الوجه الصحيح قول النابغة الذّبياني يخاطب النعمان :

ولكنني كنت امرأ لي جانب

من الأرض فيه مستراد ومذهب (١)

ملوك وإخوان إذا ما لقيتهم

أحكّم في أموالهم وأقرّب

كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم

فلم ترهم في شكر ذلك أذنبوا

فاستدلّ النابغة على أنه لا يستحق اللوم بمدحه آل جفنة وقد أحسنوا إليه بما مثّله من القوم الذين أنعم النعمان عليهم ، فلما مدحوه لم يكونوا عنده ملومين.

وأما الاستدلال بالتعليل فكقول أبي الحسن التّهاميّ :

لو لم تكن ريقته خمرة

لما تثنّى عطفه وهو صاح (٢)

وقوله :

لو لم يكن أقحوانا ثغر مبسمها

ما كان يزداد طيبا ساعة السّحر (٣)

وقول أبي عبادة :

ولو لم تكن ساخطا لم أكن

أذمّ الزمان وأشكو الخطوبا (٤)

وقول ابن هانىء الأندلسي :

ولو لم تصافح رجلها صفحة الثرى

لما كنت أدري علة للتيمم (٥)

__________________

(١) «ديوان النابغة الذبياني» ص ١٧ وفى المطبوع : إذا ما أتيتهم. بدل إذا ما لقيتهم.

(٢) لم أجده فى المطبوع.

(٣) «المعجم المفصل» (٣ / ١٤).

(٤) «ديوان البحتري» (١ / ٩١).

(٥) «ديوان ابن هانيء» ص ٤٨٢. يعني أن مصافحة رجلها للثرى طهرته ، ولو لا هذا لم يكن هناك علّة لصحة التيمّم به.

٢٦٥

وقول الله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] جار على هذا!.

فهذا مبلغ ما نقوله في المعاني مما يستدل به على غيره ، لأن حصرها مما لا سبيل إليه على ما بيّناه ، وقد قدّمنا ذكره.

٢٦٦

فصل في ذكر الأقوال الفاسدة في نقد الكلام

ذهب قوم من الرواة وأهل اللغة إلى تفضيل أشعار العرب المتقدمين على شعر كافة المحدثين ، ولم يجيزوا أن يلحقوا أحدا ممن تأخر زمانه بتلك الطبقة وإن كان عندهم محسنا ، واختلفوا في علة ذلك : فزعمت طائفة من جهالهم أن العلة فيه هي مجرّد التقدم في الزمان ، واستمروا في الترتيب فجعلوا الشعراء طبقات بحسب تواريخ أعصارهم ، وقال قوم منهم : السبب في ذلك أن المتقدمين سبقوا إلى المعاني في أكثر الألفاظ المؤلفة ، وفتحوا طريق الشعر ، وسلك الناس فيه بعدهم ، وجروا على آثارهم ، فلهم فضيلة السبق التي لا توازيها فضيلة ، ولا توازنها مرتبة ، وإذا كان غيرهم قد استفاد منهم وأخذ ألفاظهم وأكثر معانيهم فلن يكون في الرتبة لاحقا بهم ، وإذا كان مقصرا عنهم فشعره دون أشعارهم. وقالت طائفة أخرى : إن العلّة في تفضيل أشعار المتقدمين على أشعار المحدثين أن هذه الأشعار المتقدمة كانت تقع من قائلها بالطبع من غير تكلف ولا تصنع ، والأشعار المحدثة تقع بتكلّف وتعمل ، وما وقع بالطبع أفضل مما صدر عن التكلف ، قالوا : ولهذه العلة استدلّ بأشعار المتقدمين دون أشعار المحدثين ، واحتاج هؤلاء كلهم في نقد الشعر إلى معرفة قائله قبل أن يظهر لهم مذهب فيه ، حتى رووا عن ابن الأعرابي أنه أنشد أرجوزة أبي تمام التي أولها :

وعاذل عذلته في عذله

فظن أنيّ جاهل من جهله (١)

على أنها لبعض العرب ، فاستحسنها وأمر أحد أصحابه أن يكتبها له فلما فعل قال : إنها لأبي تمام ، فقال : خرّق. فخرقها.

__________________

(١) «ديوان أبي تمام» ٤ / ٥٣٠ ، من أرجوزة يخاطب بها صالح بن عبد الله القرشي.

٢٦٧

وعن الأصمعي أنّ إسحاق بن إبراهيم الموصلى أنشده (١) :

هل إلى نظرة إليك سبيل

فيروّى الصدى ويشفى الغليل

إن ما قلّ منك يكثر عندي

وكثير ممن يحبّ القليل

فقال له الأصمعي : لمن تنشدني؟ فقال : لبعض الأعراب ، فقال : هذا والله هو الديباج الخسرواني ، قال : فإنهما لليلتهما ، قال : لا جرم والله إنّ آثار الصّنعة والتكلف بيّن عليهما.

وذهب غير هؤلاء من أهل العلم بالشعر ، فقال : إن الطرق في نقد الشعر ما قدمناه من نعوت الألفاظ والمعاني ، فأما قائله وتقدّم زمانه أو تأخّره فلا تأثير له في ذلك ، لأن القديم كان محدثا والمحدث سيصير قديما والتأليف على ما هو عليه لا يتغير ، وفي المحدثين من هو أشعر من جماعة من المتقدمين ، وفي المتقدمين من هو أشعر من جماعة من المحدثين ، وإلى هذا كان يذهب أبو عثمان الجاحظ وأبو العبّاس المبرّد وأبو عبادة البحتري وأبو العلاء بن سليمان آنفا ، وهو الصحيح الذي لا يعترض العاقل فيه شك ولا شبهة ، وسنتكلم على ما تعلقت به تلك الطائفة من الشبه الفاسدة.

أما من ذهب إلى تفضيل المتقدم بمجرّد تقدم زمانه فإنه لم يذهب في ذلك إلى علة غير مجرد الدعوى ، فلو قال له قائل : شعر المحدثين أفضل لتأخر زمانهم لم يكن بين القولين فرق ، ثم يقال له : ما عندك في امرىء القيس؟ أهو عندك في الطبقة الأولى من الشعراء أم ليس في الطبقة الأولى؟ فإن قال : هو في الطبقة الأولى ، قيل له : ولم؟ وقد كان قبله جماعة من الشعراء معروفين ، أحدهم ابن حذام الذي قيل : إنه أول من بكى على الديار ، وذكره امرؤ القيس في شعره فقال :

__________________

(١) «الموازنة» للآمدي : ص (٢٤).

٢٦٨

عوجا على الطلل المحيل لعلّنا

نبكي الديار كما بكى ابن خذام (١)

وإذا كان زمان امرىء القيس قد تأخر عن زمان جماعة من الشعراء فيجب تفضيلهم عليه ، لأنك قلت : إنما يفضّل بتقدم الزمان فقط ، فإن قال : ليس امرؤ القيس في الطبقة الأولى ، بل من كان قبله أشعر وأحق بالتقدم ، قيل أولا : إن هذا خلاف لكافة من يفضل أشعار المتقدمين على المحدثين ، لأنهم ما اختلفوا في أن امرأ القيس في الطبقة الأولى.

ثم خبرنا عن الطبقة التي امرؤ القيس منها ، أعرفت أنّ مواليدهم في وقت واحد حتى قطعت على أنهم طبقة لتساويهم في زمان الوجود؟ فإن قال : نعم ، كذب ، لأن في تلك الطبقة قوما لم يلحق أحد منهم زمان الآخر ، وقد جعل الأعشى فيهم وهو بعد امرىء القيس بمدة طويلة وإن قال : لا يراعى في تفضيل المتقدمين على المحدثين قليل الزمان ، وإنما المؤثر في ذلك الزمان الكثير ، قيل له : فخبّرنا عمن بينه وبين الأعشى من الزمان مثل ما بين الأعشى وامرىء القيس ، أيجوز أن يجعل شعره في طبقة شعر الأعشى؟ فإن قال : لا. قيل له : ولم؟ وأنت قد ألحقت الأعشى بامرىء القيس وبينهما مثل ذلك من الزمان ، واعتللت بأنه لا يؤثر ، فكيف صار بعد الأعشى مؤثرا في إلحاق من بعده به؟ وإن قال : يجوز أن يجعل في طبقة الأعشى من كان بعده بمثل الزمان الذي بينه وبين امرىء القيس ، قيل : أيجوز أن يجعل في طبقة هذا الشاعر من كان بعده بمثل الزمان الذي بين الشاعر الأول والأعشى؟ فإن قال : لا. يسأل عن السبب في ذلك. قيل له : ما قيل في الشاعر الأول ، ولا سبيل له إلى الفرق ، وإن قال : نعم. ألزم أن يكون شعر بعض شعرائنا اليوم في طبقة امرىء القيس بهذا الترتيب والنسق ، وأن يجعل الشعر في طبقة من هو قبله والأول في طبقة من هو قبله حتى يكون بعض شعرائنا اليوم وامرؤ القيس في طبقة واحدة ، وهذا خلاف ما يذهبون إليه.

__________________

(١) شرح ديوان امرىء القيس ٢٠٠. عوجا : ميلا ، والمحيل : المتغير. وابن خذام بالخاء أو الحاء.

٢٦٩

ويقال له : خبّرنا عنك لو أنك في زمان أمرىء القيس ووقفت على شعره ، أكان رأيك فيه هو رأيك اليوم؟ فإن قال : نعم ، قيل له : ولم؟ وأنت إنما تختاره اليوم وتفضله بقدمه ، فإن كان في ذلك الوقت محدثا عندك فحكمه حكم المحدث اليوم ، وإن قال : بل كنت أذهب فيه إلى غير ما أذهب اليوم ، قيل له : فهل تأليفه على ما كان عليه أم تغير عما كان عليه؟ فإن قال : تغير ، قيل : فهو إذن غير ما ألّفه أمرؤ القيس ، وهذا ما لا يقوله أحد ، وإن قال : بل هو بحاله في الأكثر ، قيل له : فيجب أن يكون بحاله على صفة ثم يصير هو بحاله على صفة أخرى من غير أن يزيد شيئا ، ولا يعقل فيه غير ما يوجب ذلك ، وهذا خارج عن المعقول ، ومعدود في كلام أهل الوسواس.

وأما من ذهب إلى تفضيل أشعار المتقدمين من حيث سبقوا إلى المعاني والألفاظ ، ونزل الناس بعد على سكناتهم (١) فإنه يقال له : هذا لو ثبت لدلّ على فضل المتقدمين على المحدثين ، ولم يدل على فضل شعر هؤلاء على هؤلاء ، لأنه ليس كلّ من كان أفضل وجب أن يكون شعره أحسن ، وهذا الخليل هو الغاية في الذكاء والفطنة بعلوم العرب وشعره في أنزل طبقة ، وكذلك غيره من العلماء بهذه اللغة ، والأمر في هذا واضح لا يحتاج إلى دليل.

ثم يقال له : ما تريد بالمعاني التي سبقوا إليها؟ أتريد جميع معاني أشعار المحدثين أو بعضها؟ فإن قال : جميعها ، قيل : هذا جحد للعيان لأن الأمر في تفرد المحدثين بمعان استنبطوها لم تخطر للعرب المتقدمين على بال أظهر من كل ظاهر وإن قال : بعض المعاني قيل : أن تلك المعاني التي سبق المتقدمون إليها وأخذها منهم المحدثون لا يخلو الأمر فيها من أن يكونوا نظموها بحالها أو زادوا عليها أو نقصوا منها ، فإن كانوا زادوا فلهم فضيلة الزيادة ، كما كان لأولئك فضيلة السبق ، وإن كانوا نقصوا فالمتقدمون في تلك المعاني خاصة أفضل منهم ، وإن كانوا نقلوها بحالها فتلك هي معاني المتقدمين

__________________

(١) جمع : سكنة وهي ما يسكن فيه.

٢٧٠

لا يستحق المحدثون عليها حمدا ولا ذما أكثر مما يجب في الأخذ والنقل ، وهذا كله يرجع إلى الشعراء دون نفس الشعر لأن المعنى في نفسه لا يؤثر فيه أن يكون غريبا مخترعا ولا منقولا متداولا ، ولا يغيره حال ناظمه المبتدىء المبتدع أو المحتذي المتبع ، وإنما هذا شيء يرجع إلى تفضيل السابق إلى المعنى على من أخذ منه.

فأما الألفاظ فإن كان يريد الألفاظ المفردة فتلك ليست لأحد ، والمحدث فيها والمتقدم واحد ، وإن كان يريد الألفاظ المؤلفة فإن المحدثين إذا أخذوا ألفاظا قد ألفها ناظم قبلهم لم يؤثر فيهم أخذهم لها حتى يقال : إنها في شعر الأول أحسن منها في شعر الآخر ، بل تكون بمنزلة قصيدة شاعر ينتحلها آخر ، فلا يقال : إن الانتحال أثر فيها.

فإن كان هذا واضحا فمن أين يدل سبق المتقدمين إلى بعض المعاني على فضل أشعارهم على أشعار المحدثين الذين سبقوا إلى أضعاف تلك المعاني ، لو لا عدم التوفيق وفرط الجهل؟.

وأما من ذهب إلى تفضيل أشعار المتقدمين على أشعار المحدثين من حيث كانوا لم يتكلفوا أشعارهم ، وإنما نظموها بالطبع ، والمحدثون بخلاف ذلك ، فإنه يقال له : ما الدليل على أن أشعار المتقدمين كانت تقع من غير تكلف؟ فإن قال : بهذا جاءت الروايات عنهم ، قيل : الأمر بخلاف ذلك ، والمروى عن زهير بن أبي سلمى أنه عمل سبع قصائد في سبع سنين ، وكان يسميها الحوليات ، ويقول : خير الشعر الحولي المحكك ، والرواة كلهم مجمعون على هذا غير مختلفين فيه ، وإذا فضلوا شعر زهير قالوا : كان يختار الألفاظ ويجتهد في إحكام الصنعة ، وإذا وصفوا الحطيئة شبهوا طريقته في الشعر بطريقة زهير ، ويروون أن زهيرا كان يعمل نصف البيت ويتعذر عليه كماله فيتمه كعب ابنه.

وهذا كله بمعزل عن الطبع وسهولة النظم ، ولو لم يدل على ذلك إلا قلة أشعارهم ـ فإن ديوان بعض هؤلاء المحدثين مثل أشعار جماعة من المتقدمين في الكثرة ـ لكفى ذلك في تكلفهم الشعر ونصبهم فيه.

٢٧١

ثم يقال له : خبرنا عن هذا التكلف الذي ذكرته ، أهو بيّن موجود في الشعر أو غير بيّن موجود فيه؟ فإن قال : ليس بموجود فيه ، قيل : فلا تفضل أشعار المتقدمين على أشعار المحدثين بشيء غير موجود فيها وإن قال : بل هو موجود في أشعار المحدثين دون المتقدمين ، قيل : أتذهب إلى أن التكلف موجود في جميع أشعارهم أو في بعضها؟ فإن قال : في جميعها. كابر ، لأن من يزعم أن جميع أشعار المحدثين مع السهولة في أكثرها والتيسر متكلفة ، وجميع أشعار المتقدمين مع التوعر في أكثرها غير متكلفة ، فهو جاحد بالضرورة لا تحسن مناظرته ، وإن قال : بعض أشعار المحدثين متكلفة وبعضها غير متكلف ، قيل : وكذلك أشعار المتقدمين ، فقد تساووا عندك في هذه القضية ، وبطل تفرد المحدثين بالتكلف الذي ذكرته.

فأما الاستشهاد بأشعار هؤلاء المتقدمين فقد بيّنا فيما مضى من هذا الكتاب سببه ، وقلنا : إن تقدم الزمان غير موجب لذلك ، وإنما موجبه أن العرب الذين يتكلمون باللغة العربية ولا يخالطون أحدا ممن يتكلم بغير لغتهم هم الذين أقوالهم حجة في اللغة والعرب الذين خالطوا غيرهم من العجم وفسدت لغتهم بالمخالطة لا يستدل بكلامهم ، فلما كان العرب المتقدمون قبل الإسلام وفي الصدر الأول منه لا يخالطون في الأكثر غيرهم كانت أقوالهم في اللغة حجة ، ولما صاروا بالملك والدولة يخالطون غيرهم ويحضرون ويسكنون المدن لم يستدل بلغتهم ، ولهذا السبب كان أبو عمرو بن العلاء يعيب جريرا والفرزدق بطول مقامهما في الحضر ، وأبطل الرواة الاحتجاج بشعر الكميت ابن زيد والطّرمّاح لأنهما كانا حضريين. وعلى هذا فلو فرضنا اليوم أنّ في بعض القفار النائية عن العمارة قوما من العرب لا يخالطون غيرهم وكانوا قد أخذوا اللغة عن مثلهم وكذلك إلى حين ابتداء الوضع لوجب أن يكون قولهم حجة كأقوال المتقدمين وإن كانوا محدثين ، وإذا كان هذا مفهوما فليس يوجب صحة الكلام بالعربية حسن النظم ، لأن ذلك لو وجب لكان كل عربي شاعرا ، والأمر بخلاف ذلك ، والشعراء من العرب المتقدمين بالإضافة إلى من ليس بشاعر جزء من ألوف ألوف.

٢٧٢

وقد ذكرت في نقد الكلام ألا يكون المعنى فاحشا ، وعيب شعر أبي عبد الله الحسين ابن أحمد بن الحجاج بما تضمنه من فحش المعاني ، وليس الأمر عندي على ذلك ، لأن صناعة التأليف في المعنى الفاحش مثل الصناعة في المعنى الجميل ، ويطلب في كل واحد منهما صحة الغرض وسلامة الألفاظ على حد واحد ، وليس لكون المعنى في نفسه فاحشا أو جميلا تأثير في الصناعة ، ولهذا ذهب قوم إلى استحسان المعنى الغريب ، وليس للاختراع في المعنى نفسه تأثير إلا كما للمتداول وقد أومأنا إلى هذا فيما تقدم ، وبينا أنه شيء لا يرجع إلى الشعراء دون المعاني والشبهة في مثل هذا ضعيفة جدا.

وذهب قوم أيضا إلى حسن الترديد ، وهو أن يعلق الشاعر لفظة في البيت بمعنى ثم يردّدها فيه بعينها ويعلّقها بمعنى آخر ، كما قال زهير :

من يلق يوما على علاته هرما

يلق السماحة منه والندى خلقا (١)

وقال أبو نواس :

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها

لو مسّها حجر مسته سراء (٢)

وهذا عندي لا تعلق له بالنقد ، لأن التأليف في هذا الترديد كسائر التأليف في الألفاظ التي لا تستحق به حمدا ولا ذما ، ولا يكسبها حسنا ولا قبحا.

وقد صنف قوم في نقد الشعر رسائل ذكروا فيها أبوابا من الصناعة لا تخرج عما ذكرناه في كتابنا هذا ، إلا أنهم ربما جعلوا للمعنى الواحد عدة أسماء ، كالترصيع يسمونه ترصيعا وموازنة وتسميطا وتسجيعا ، وهو كله يرجع إلى شيء واحد ، وإذا وقف على ما صنفوه في هذا الباب وجد الأمر فيما قلنا ظاهرا ، والتكرير بيّنا واضحا.

__________________

(١) «ديوان زهير» ص ٧٧ ، «خزانة الأدب» (٢ / ٢٩٦) ، «المعجم المفصل» (٥ / ١٢٣).

(٢) «ديوان أبي نواس» ص ٦٢ ، ط المكتبة الثقافية ـ بيروت.

٢٧٣

وقد يذهب كثير ممن يختار الشعر إلى تفضيل ما يوافق طباعه وغرضه ، ويذهب قوم إلى اختيار ما لم يتداول منه ، حتى يكون للوحشي الذي لم يشتهر مزية عندهم على المعروف المحفوظ ، ويخالفهم آخرون فيختارون سائر الشعر على خامله ، ومشهوره على مجهوله ، ويستحسن قوم الشعر لأجل قائله ، فيختارون أشعار السادات والأشراف ورؤساء الحروب ومن يوافقهم في النحلة والمذهب ، ويمت إليهم بالمودة أو النسب ، وهذه كلها أقوال صادرة عن الهوى ، ومقصورة على محض الدعوى ، من غير دليل يعضدها ولا حجة تنصرها والطريق الذي يؤدي إلى المقصود من معرفة المختار في الألفاظ والمعاني هو ما ذكرناه ونبهنا عليه ، ومن تأمله علم الإصابة فيه بمشيئة الله وعونه.

٢٧٤

فصل في ذكر الفرق بين المنظوم والمنثور

وما يقال في تفضيل أحدهما على الآخر

أما حدّ النثر : فهو حدّ الكلام الذي ذكرناه في هذا الكتاب ، وأما حدّ الشعر : فهو كلام موزون مقفّى يدل على معنى ، وقلنا : كلام ، ليدل على جنسه ، وقلنا : موزون ، لنفرق بينه وبين الكلام المنثور الذي ليس بموزون ، وقلنا ـ مقفى ـ لنفرق بينه وبين المؤلف الموزون الذي لا قوافي له ، وقلنا : يدل على معنى ، لنتحرّز من المؤلف بالقوافي الموزون الذي لا يدل على معنى.

وسمي شعرا من قولهم : شعرت ، بمعنى : فطنت ، والشعر : الفطنة ، كأنّ الشاعر عندهم قد فطن لتأليف الكلام ، وإذا كان هذا مفهوما فأقل ما يقع عليه اسم الشعر بيتان ، لأن التقفية لا تمكن في أقل منهما ولا تصح في البيت الواحد ، لأنها مأخوذة من ـ قفوت الشيء ـ إذا تلوته ، وقد ذهب العروضيون إلى أن أقل ما يطلق عليه اسم الشعر ثلاثة أبيات ، وليس الأمر على ما ذهبوا إليه ، لأن الحدّ الصحيح قد ذكرناه ، وهو يدل على أن البيتين شعر ، فأما اعتلال بعضهم بأن البيتين قد يتفقان في كلام لا يقصد قائله الشعر ولا يتفق ثلاثة أبيات فيما لا يقصد مؤلفه الشعر فاعتلال فاسد ، لأنه إن كان يريد بالبيتين مثل قول امرىء القيس :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

لما نسجته من جنوب وشمأل (١)

__________________

(١) شرح ديوان امرىء القيس ١٤٣ ، شرح القصائد العشر ٤٧ ـ ٥٠. سقط اللوى : منقطع الرمل حيث يستدق من طرفه ، والدخول وحومل وتوضح والمقراة : مواضع ، ولم يعف رسمها : لم يمح أثرها ، والجنوب والشمال : ريحان.

٢٧٥

فذلك لا يتّفق إلا في كلام يقصد به الشعر ، وإن كان يريد بالبيتين مثل ما استشهد به من قول العامّة : زمّارة مليحة ، بقطعة صحيحة ، فقد يتفق من هذا الجنس ثلاثة أبيات في كلام لا يقصد به الشعر ، فالذي ذكره دعوى لا دليل عليها.

وإذا كان هذا بيّنا فالفرق بين الشعر والنثر بالوزن على كل حال ، وبالتقفية إن لم يكن المنثور مسجوعا على طريق القوافي الشعرية ، والوزن هو التأليف الذي يشهد الذوق بصحته أو العروض ، أما الذوق فلأمر يرجع إلى الحسّ ، وأما العروض فلأنه قد حصر فيه جميع ما عملت العرب عليه من الأوزان ، فمتى عمل شاعر شيئا لا يشهد بصحته الذوق وكانت العرب قد عملت مثله جاز له ذلك ، كما ساغ له أن يتكلم بلغتهم ، فأما إذا خرج عن الحس وأوزان العرب فليس بصحيح ولا جائز ، لأنه لا يرجع إلى أمر يسوّغه ، والذوق مقدّم على العروض ، فكل ما صحّ فيه لم يلتفت إلى العروض في جوازه ، ولكن قد يفسد فيه بعض ما يصحّ بالعروض على المعنى الذي ذكرناه ، كالزحافات المروية في أشعار العرب المذكورة في كتب العروض ، وهو الأصل الذي عملت العرب الأول عليه ، وإنما العروض استقراء للأوزان حدث بعد ذلك بزمان طويل.

وأما التفضيل بين النظم والنثر فالذي يصلح أن يقوله من يفضّل النظم أن الوزن يحسّن الشعر ، ويحصّل للكلام به من الرونق ما لا يكون للكلام المنثور ، ويحدث عليه من الطرب في إمكان التّلحين والغناء به ما لا يكون للكلام المنثور ، ولهذه العلة ساغ حفظه أكثر من حفظ المنثور ، حتى لو اعتبرت أكثر الناس لم تجد فيهم من يحفظ فصلا من رسالة غير القليل ولا تجد فيهم من لا يحفظ البيت أو القطعة إلا اليسير ، ولو لا ما انفرد به من الوزن الذي تميل إليه النفوس بالطبع لم يكن لذلك وجه ولا سبب.

ونقول : إن الشعر يدخل في جميع الأغراض ، كالنّسيب والمديح والذّم والوصف والعتب ، والنثر لا يدخل في جميع ذلك ، فإن التشبيب لا يحسن في غير الشعر ، وكذلك غيره من الأغراض ، وما صلح لجميع ضروب الكلام وصنوفه أفضل مما اقتصر على بعضه.

٢٧٦

وأما الذي نقوله من تفضيل النثر على النظم : فهو أن النثر يعلم فيه أمور لا تعلم في النظم ، كالمعرفة بالمخاطبات ، وبينة الكتب والعهود والتقليدات ، وأمور تقع بين الرؤساء والملوك يعرف بها الكاتب أمورهم ، ويطلع على خفيّ أسرارهم ، وأن الحاجة إلى صناعة الكتابة ماسة ، والانتفاع بها في الأغراض ظاهر ، والشعر فضل يستغنى عنه ولا تقود ضرورة إليه ، وأن منزلة الشاعر إذا زادت وتسامت لم ينل منها قدرا عاليا ، ولا ذكرا جميلا ، والكاتب ينال بالكتابة الوزارة فما دونها من رتب الرياسة ، وصناعة تبلغ بها إلى جميلا ، والكاتب ينال بالكتابة الوزارة فما دونها من رتب الرياسة ، وصناعة تبلغ بها إلى الدرجة الرفيعة أشرف من صناعة لا توصل صاحبها إلى ذلك ، وإن أكثر النظم إذا كشف وجد لا يعبر عن جدّ ، ولا يترجم عن حق ، وإنما الحذق فيه الإفراط في الكذب ، والغلوّ في المبالغة ، وأكثر النثر شرح أمور متيقنة وأحوال مشاهدة ، وما كثر فيه الجدّ والتحقيق أفضل مما فيه المحال والتقريب ، وقد يتسع الكلام فيما لا يخرج عن هذا الفن ، وهذه الجملة كافية في مثل هذا الوضع.

٢٧٧

فصل فيما يحتاج مؤلف الكلام إلى معرفته

الذي يحتاج مؤلف الكلام إليه من معرفة اللغة التي هي لغة العرب قدر ما يعرف كل شيء باسمه الذي وضعته له ، ويجب أن يكون ذلك الاسم أفصح أسمائه إن كانت له عدة أسماء ، وقد بيّنا الطريق إلى معرفة الفصيح فيما مضى من كتابنا هذا ، فإذا عرف ما ذكرته من اللغة احتاج إلى معرفة ما يتصرف ذلك الاسم عليه من جمع وتثنية وتذكير وتأنيث وتصغير وترخيم ، ليورده على جميع ما يتصرف فيه صحيحا غير فاسد ، ولهذا افتقر إلى علم النحو ، وسأذكر قدر ما يحتاج منه ، فإذا علم ما أشرت إليه افتقر إلى معرفة عدة أسماء لما يقع استعماله في النظم والنثر كثيرا ، ليجد إذا ضاق به موضع أو حظر عليه وزن إيراد إسم العدول إلى غيره.

ويحتاج في علم النحو إلى معرفة إعراب ما يقع له في التأليف ، حتى لا يذكر لفظة إلا موضوعة حيث وضعتها العرب من إعراب أو بناء على حسب ما وردت عنهم ، وليس لأحد أن يظن أن هذا هو معرفة النحو كله والاشتمال على جميع علمه ، لأن الكثير من النحو علم تقدير مسائل لا تقع اتفاقا في النظم ولا في النثر ، وكذلك التصريف من علم النحو لا يكاد مؤلف الكلام يحتاج إلى الشيء اليسير منه ، فأما أن يكثر منه حتى يسوغ له أن يبني من الدال في ـ قد ـ مثل عصفور ، وغير ذلك من مسائل قد وضعت في هذا الجنس ، فمما لا أرى النحوي يفتقر إلى معرفته فضلا عن غيره.

ويحتاج الشاعر خاصة إلى معرفة الخمسة عشر بحرا التي ذكرها الخليل بن أحمد ، وما يجوز فيها من الزحاف ، ولست أوجب عليه المعرفة بها لينظم بعمله ، فإن النظم مبني على الذوق ، ولو نظم بتقطيع الأفاعيل جاء شعره متكلفا غير مرضي ، وإنما أريد له معرفة ما ذكرته من العروض لأن الذوق ينبو عن بعض الزحافات ، وهو جائز في العروض ، وقد ورد للعرب مثله ، فلو لا علم العروض لم يفرق بين ما يجوز من ذلك وبين ما لا يجوز.

٢٧٨

ويفتقر أيضا من العلم بالقوافي إلى معرفة الحروف والحركات التي يلزم إعادتها ، وما يصلح أن يكون رويا أو ردفا مما لا يصح.

ويحتاج أيضا إلى معرفة المشهور من أخبار العرب وأحاديثها وأنسابها وأمثالها ومنازلها وسيرها ، وصفة الحروب التي كانت لها ، وما له قصة مشهورة وحديث مأثور ، فإنه قد يفتقر في النظم إلى ذكر شيء منه ، ويكون للمعنى به تعلق شديد ، وإذا ورد استحسن.

ويحتاج الكاتب أيضا إلى جميع هذا أيضا ، ويختص بما يفتقر إليه من معرفة المخاطبات وفنون المكاتبات والتوقيعات ، ورسوم التقليدات ، مع الإطلاع على كتاب الله تعالى وشريعته وحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسنّته ، فإنه مدفوع إلى تقليد الولاة وعهود القضاة والتوقيعات في المظالم والمكاتبة في ضروب الحوادث.

وبالجملة إن مؤلف الكلام لو عرف حقيقة كل علم واطلع على كل صناعة لأثر في ذلك في تأليفه ومعانيه وألفاظه ، لأنه يدفع إلى أشياء يصفها ، فإذا خبر كل شيء وتحققه كان وصفه له أسهل ونعته أمكن ، إلا أن المقصود في هذا الموضع بيان ما لا يسعه جهله دون ما إذا علمه أثّر عنده علمه ، فإن ذلك لا يقف على غاية.

والوصية لهما ترك التكلف ، والاسترسال مع الطبع ، وفرط التحرز وسوء الظن بالنفس ، ومشاورة أهل المعرفة ، وبغض الإكثار والإطالة ، وتجنب الإسهاب في فن واحد من فنون الصناعة ، فإن كلام الإنسان ترجمان عقله ، ومعيار فهمه ، وعنوان حسه ، والدليل على كل أمر لولاه لخفي منه ، وبحسب ذلك يحتاج إلى فضل التثقيف ، واجتماع اللب عند النظم والتأليف.

وإذ قد انتهى بنا القول إلى هذا الموضع فالواجب أن نختم الكتاب ، لأنا قد وفينا بجميع ما شرطناه في أوله ، وقد كنا عزمنا على أن نصله بقطعة مختارة من النظم والنثر ، يتدرّب بالوقوف عليها في فهم ما ذكرناه من أحكام البلاغة ، وكشفناه من أسرار الفصاحة ،

٢٧٩

لكنّا فرقنا من الإطالة والتثقيل على الناظر فيه بالملل والسآمة ، فعدلنا إلى وضع ذلك في كتاب مفرد ، ونحن نستغفر الله من خطل القول ، كما نستغفره من خطأ العمل ، ونسأله أن يمن علينا بالهداية والعصمة في الدنيا والآخرة.

إنه سميع مجيب.

وكان الفراغ من تأليفه يوم الأحد الثاني من شعبان سنة أربع وخمسين وأربعمائة ـ ٤٥٤ ه‍.

تم الكتاب

٢٨٠