سرّ الفصاحة

أبي محمّد عبد الله بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي

سرّ الفصاحة

المؤلف:

أبي محمّد عبد الله بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي


المحقق: داود غطاشة الشّوابكة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الفكر ناشرون وموزعون
الطبعة: ١
ISBN: 9957-07-444-X
الصفحات: ٣٢٧

كلام وإنما هي أمارات للحروف بالمواضعة وأن الاستفادة بالكتابة كالاستفادة بعقدة الأصابع والإشارة وغيرهما من الأفعال التي تقع المواضعة عليها ، فلو كان لا بدّ من كلام يوجد مع الكتابة لأجل الفائدة الحاصلة بها لوجب ذلك في جميع ما ذكرناه ، وذلك محال لا يحسن الخلاف فيه ، ومما يدلّ على أن التلاوة للقرآن لا يوجد معها شيء آخر أن القائل : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) متعوذا بها غير قاصد إلى تلاوة القرآن يوجد الكلام من فعله ، فلو كان إذا قصد حاكيا لكلام الله تعالى وجد كلام آخر ، لكان إذا قصد حكاية كلام كل من تلا القرآن يوجد كلامهم أجمع عند قصده ، فيقوي إدراكنا للكلام من حيث نسمع كلاما كثيرا في هذا الحال ، وفي غيرها شيئا واحدا ، وهذا واضح ، وقد تعلق أبو عليّ وأبو الهذيل فيما ذهبنا إليه بأنه لو كان القارىء لا يسمع منه إلا ما فعله دون كلام الله تعالى لبطل التحدّي وخرج من كونه معجزا ، لأنه لو كانت الحكاية غير المحكى ـ وهي مثله ـ لكان كل من فعل القرآن قد أتى مثله على الحقيقة ، والتحدي يضمن أنهم لا يأتون بمثله على الحقيقة ، والجواب عن هذا أن التحدي إنما وقع بفعل مثل القرآن على الابتداء دون الاحتذاء ، والتالي للقرآن قد أتى بمثله محتذيا ، فلا يكون بذلك معارضا ، وعلى هذا أيضا كان يقع التحدي من العرب بعضها بعضا بالأشعار على سبيل الابتداء ، والأمر في هذا واضح.

وتعلق أبو علي فيما ذهب إليه ثانيا بأن القرآن ليس يقبح على وجه من الوجوه ، وقد ثبت أن قراءته تقبح من الجنب والحائض ، ودلّ ذلك على أن القراءة شيء ، والقرآن شيء ، والجواب عن هذا : أن معنى قولنا : إن القرآن ليس يقبح بوجه من الوجوه ، هو أن ما فعله تعالى وأنزله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه صفته ، ولا يمنع أن تكون التلاوة التي هي فعل التالي والحكاية التي هي فعل الحاكي ، ويسمّى بالتعارف قرآنا يقبح في بعض الأحوال ويرجع القبح إلى أفعال العباد دون القرآن على الحقيقة ، وقد اعتمد أبو الهذيل وأبو علي أيضا على قوله تبارك وتعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] ولا خلاف بين الأمّة أن

٤١

المسموع في المحاريب كلام الله تعالى على الحقيقة ، والجواب عن هذا أن إضافة الكلام إلى المتكلم إن كان الأصل فيها أن يكون من فعله ، فقد صار بالتّعارف يضاف إليه إذا وردت مثل صورة كلامه ، ولهذا يقولون فيما نسمعه الآن : هذه قصيدة امرىء القيس ، وإن كان الفعّال لذلك غيره ، وقد صار هذا بالتعارف حقيقة ، حتى لا يقدم أحد على أن يقول : ما سمعت شعر امرىء القيس على الحقيقة ، وقد تخطّى ذلك إلى أن صاروا يشيرون إلى ما في الدّفتر ويقولون : هذا علم فلان ، وهذا كلام فلان ، لمّا كان مثل هذه الصورة.

٤٢

فصل في اللغة

اللغة عبارة عمّا يتواضع القوم عليه من الكلام ، أو يكون توقيفا ، يقال في لغة العرب : إنّ السيف القاطع حسام ، أي : تواضعوا على أن سمّوه هذا الاسم ، وتجمع لغة على لغات ، ولغين ولغون ، وقد قيل في اشتقاقها : إنها مشتقّة من قولهم : لغيت بالشيء ؛ إذا أولعت به وأغريت به ، وقيل : بل هي مشتقّة من اللّغو ، وهو النّطق ، ومنه قولهم : سمعت لواغي القوم أي أصواتهم ولغوت أي تكلمت ـ وأصله على هذا لغوة ، على مثال فعلة ، فأما قولهم في لغة بني تميم كذا ، وفي لغة أهل الحجاز كذا فراجع إلى ما ذكرناه ، والمعنى أن بني تميم تواضعوا على ذلك ، ولم يتواضع أهل الحجاز عليه.

والصحيح أن أصل اللغات مواضعة ، وليس بتوقيف ، وإنما أوجب ذلك لأن توقيفه تعالى يفتقر إلى الاضطرار إلى قصده ، والتكليف يمنع من ذلك ، وإنما افتقر إلى الاضطرار إلى قصده لأنه إن أحدث كلاما لم يعلم أنه قد أراد بعض المسمّيات دون بعض ، ولو اقترن بهذا الكلام إشارة إلى مسمى دون غيره ، لأنا لا نعلم توجه الكلام إلى ما توجهت الإشارة اليه ، وإنما يعلم ذلك بعضنا من بعض بالاضطرار إلى قصده ، وتخصص الإشارة بجهة المشار إليه لا يعلم بها هل الاسم للجسم ، أو للونه ، أو لغير ذلك من أحواله ، وأما إذا تقدّمت المواضعة بيننا ، وخاطبنا القديم تعالى بها ، علمنا مراده ، لمطابقة تلك اللغة ، وقد يجوز فيما يعدّ أصل اللغات أن يكون توقيفا منه تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣١] على مواضعة تقدمت بين آدم عليه‌السلام وبين الملائكة على لغة سالفة ممن خاطبه الله تعالى على تلك اللغة ، وعلّمه الأسماء ، ولو لا تقدّم لغة لم يفهم عنه عزّ اسمه.

وقد ظن قوم أن المواضعة بيننا تحتاج إلى إذن سمعي ، ولا حاجة لهذا القول ، إذ الدواعي إلى التخاطب وتعريف بعضنا مراد بعض قوية ، والانتفاع بذلك ظاهر ، ولا وجه فيه من وجوه القبح قبّحت حسنه ، كالتنفس في الهواء ، وكما نحس من أحدنا الإشارة

٤٣

في بعض الأوقات إلى ما يريده من غير إذن سمعي ، فكذلك المواضعة على كلام يدل عليه ، ومن فرق بينهما فمقترح ، وإنما فزع العقلاء إلى الحروف في المواضعة لأنها أسهل وأوسع ، ومع التأمل لا يوجد ما يقوم مقامها.

فأما ما نحن بصدده من ذكر اللغة العربية فلا خفاء بميزاتها على سائر اللغات وفضلها ، أما السعة فالأمر فيها واضح ، ومن تتبع جميع اللغات لم يجد فيها ـ على ما سمعته ـ لغة تضاهي اللغة العربية في كثرة الأسماء للمسمى الواحد ، على أن اللغة الرومية بالضد فإن الاسم الواحد يوجد فيها للمسميات المختلفة كثيرا ، وقد كان بعض اللغويين حصر أسماء السيف والأسد في لغة العرب فكانت أوراقا عدة ، وهي مع السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال المعاني ، وفي النقل إليها يبين ذلك ، فليس كلام ينقل إلى لغة العرب إلا ويجيء الثاني أخصر من الأول مع سلامة المعاني ، وبقائها على حالها ، وهذه بلا شك فضيلة مشهورة ، وميزة كبيرة لأن الغرض في الكلام ووضع اللغات بيان المعاني وكشفها ، فإذا كانت لغة تفصح عن المقصود وتظهره مع الاختصار والاقتصار فهي أولى بالاستعمال ، وأفضل مما يحتاج فيه إلى الإسهاب والإطالة ، وقد أخبرني أبو داود المطران ـ وهو عارف باللغتين : العربية والسريانية ـ أنه إذا نقل الألفاظ الحسنة إلى السرياني قبحت وخسّت ، وإذا نقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي ازداد طلاوة وحسنا ، وهذا الذي ذكره صحيح ، يخبر به أهل كل لغة عن لغتهم مع العربية ، وقد حكي أن بعض ملوك الروم ـ وأظنه نقفور سأل عن شعر المتنبي فأنشد له :

كأن العيس كانت فوق جفني

مناخات فلما ثرن سالا (١)

__________________

(١) هو من قصيدة له في مدح بدر بن عمار ، يقول : كنت أبكي قبل فراقهم ، فكأن ابلهم كانت تمسك دمعي عن السيلان ببروكها فوق جفني ، فلما فارقوني سال دمعي ، فكأنها ثارت الرحيل من فوق جفني فسال ما كانت تمسكه من دموعي ، وهو تخيل بديع ، ويعد من المبالغة المقبولة. «ديوان المتنبي» ص ١٨٣.

٤٤

وفسّر له معناه بالرومية ، فلم يعجبه ، وقال كلاما معناه : ما أكذب هذا الرجل! كيف يمكن أن يناخ جمل على عين إنسان؟ وما أحسب أنّ العلة فيما ذكرته عن النقل إلى غير اللغة العربية منها وتباين ذلك ، إلا أن لغتنا فيها من الاستعارات والألفاظ الحسنة الموضوعة ما ليس مثله في غيرها من اللغات ، فإذا نقلت لم يجد الناقل ما يتوصل به إلى نقل تلك الألفاظ المستعارة بعينها ، وعلى هيئتها ، لتعذر مثلها في اللغة التي تنقل إليها ، والمعاني لا تتغير ، فنقلها ممكن من غير تبديل ، فكأن ما ينتقل من اللغة العربية يتغير حسنه لهذه العلة ، وما ينتقل إليها يمكن الزيادة على طلاوته ، لأن ناقله يجد ما يعبّر به في العربية أفضل مما يريد ، وأبلغ مما يحاول ، وهذا وجه يمكن ذكر مثله ، ويجب أن يتأمل وينظر فيه ، لأني لا أعرف لغة سوى العربية ، وإنما ذهبت إليه ظنا وحدسا ، وقد تصرّف في هذه اللغة بما لم أظنه تصرف في غيرها من اللغات ، فلم توجد إلا طيّعة عذبة في كل ما استعمل فيه نظما ونثرا ، وهي إلى الآن لا تقف على غاية في ذلك ، ولا تصل إلى نهاية كما قال أبو تمام في هذا المعنى :

ولكنّه صوب العقول إذا انجلت

سحائب منه أعقبت بسحائب (١)

وقد بيّنت فضلها بسعتها ، وما فيها من الاختصار في العبارة عن المعاني ، وذكرت وجه التفضيل بالاختصار ، مما لا شبهة فيه.

فأما السعة فالأمر فيها أيضا واضح ، لأن الناظم أو الناثر إذا حظر عليه موضع إيراد لفظة ، وكانت اللغة التي ينسج منها ذات ألفاظ كثيرة ، تقع موقع تلك اللفظة في المعنى ، أخذ ما يليق بالموضع من غير عنت ولا مشقة ، وهذا غير ممكن لو لا السعة في كثرة الأسماء للمسمى الواحد ، وتلك فائدة في بعض المواضع ، مثل أن يحتاج الناطق إلى كلام يؤثر أن يكنى فيه ولا يصرح ، فيقول لفظة ويوهم بها معنى قد قصد غيره ، وهذا وإن قلّ الدّاعي إليه إلا في اليسير من المواضع ، فلم تجعل اللغة العربية خالية منها ،

__________________

(١) «ديوان أبي تمام» ، (ط دار المعارف) ١ / ٢١٤ في مدح أبي دلف العجلي.

٤٥

بل فيها أسماء مشتركة ، كقولهم : عين ، وما أشبهها.

وههنا لها فضيلة أخرى : وهي أن الواضع لها ، إن كانت مواضعة ، تجنّب في الأكثر كل ما يثقل على الناطق تكلفه والتلفظ به ، كالجمع بين الحروف المتقاربة في المخارج ، وما أشبه ذلك ، واعتمدوا مثل هذا في الحركات أيضا ، فلم يأت إلا بالسهل الممكن ، دون الوعر المتعب ، ومتى تأملت الألفاظ المهملة لم تجد العلة في إهمالها إلا هذا المعنى ، وليس غيرها من اللغات كذلك ، كلغة الأرمن والزنج وغيرهم.

ومما يدل على فضل هذه اللغة العربية أيضا ، وتقدمها على جميع اللغات ، أن أربابها وأصحابها هم العرب الذين لا أمة من الأمم تنازعهم فضائلهم ، ولا تباريهم في مناقبهم ومحاسنهم ، وإن كانوا تواضعوا على هذه اللغة فلم يكن تنتج أذهانهم الصقيلة ، وخواطرهم العجيبة ، إلا شيئا خليقا بالشرف وأمرا جديرا بالتقدم ، وإن كانت توقيفا من الله تعالى لهم ، ومنّة منّ بها عليهم ، فلم يكن بدّ لهم من العناية بشأنهم ، والتشييد من ذكرهم ، حتى ركّبهم على حميد الخلال ، وطبعهم على جميل الأخلاق إلا على غاية لا يتعلق بشأوها ورتبة يقصر الطالبون عن بلوغها ، ولست في هذه النتيجة ممن يدعي مقدمتها عصبية ، ولا يذهب إليها حميّة ، بل سأبين في هذا الفصل صحة ما أقوله من تفضيل العرب بحسب ما يليق به ، ولا يفضل عن قدر الحاجة فيه ، فإني لو رمت إيضاح ذلك بجملته ، وإيراده بجميع أدلته ، خرجت عن المقصود في هذا الكتاب ، وأخذت في تفضيل العرب على الأمم ، وهو يحتاج إلى جزء مميّز ، وكتاب مفرد.

٤٦

وجه تفضيل هؤلاء القوم على غيرهم

إن الخصال المحمودة توجد فيهم أكثر ، وفي غيرهم أقلّ ، وعلى هذا الحد يقع التمييز بين القبيلتين ، وأهل البلدين ، ومتى تأمل المنصف حال العرب علم ما ذكرته حقيقة.

أما الكرم فالأمر فيه واضح ، لأننا لم نجد أمة من الأمم ، ولا شعبا من الشعوب ، رأى قرى الضيف واجبا ، ومساواة الجار فريضة ، إلا هذه الأمة من العرب ، حتى صرّحوا بذلك في أشعارهم ، ودوّنوه في المأثور عنهم ، وتساوى فيه موسرهم ومعسرهم ، وغنيهم وفقيرهم ، هذا وهم في الأكثر أهل جدب وفاقة ، وضيق وعسر ، ونصب في انتجاع الرزق ، وكد التعرض للكسب ، ثم بلغ من حبهم الجود ، وصبابتهم إلى جميل الذكر ، أن سمحوا بنفوسهم ، ورأوا البخل بها مذموما ، كالبخل بأموالهم ، وكان من كعب بن مامة الإيادي في ذلك ما هو مشهور معروف ، لا تزيد الأيام ذكره إلا بقاء ، ولا يؤثر فيه بعد العهد إلا جدّة ووضوحا ، ولم نر في الهند والزنج والحبش والترك من ادّعى مثل هذه السجية ، ولا انتسب إلى هذه الخلة ، فأما الفرس والروم فالبخل عليهم غالب ، وحبّ الغنى مركز في طباعهم ، ليس عندهم في ذلك كبير عار ، ولا يلحقون أنفسهم به منقصة.

وأما الوفاء فمن دينهم الذي كانوا يرونه لازما ، ومذهبهم الذي كانوا يعتقدونه حتما ، حتى صار من تمسّك بجوارهم ، أو تعلق ببعض أطنابهم ، تبذل النفوس دونه ، وتراق الدماء في المنع منه ، فكم قتل الرجل منهم في ذلك أقرب الناس إليه نسبا ، وأمسّهم به رحما ، وكم من وقعة عظيمة ، وحرب جليلة طويلة ، جرّها ضيم نزيل ، أو التعرّض لسب جار ، كالحال في حرب البسوس التي ساقها ما علم من قتل كليب لناقة جارة جسّاس ، واستفحال ذلك وتماديه ، حتى شهدته الإجنّة شيبا ، فأما السموأل ورضاه بقتل إبنه دون الدروع التي كانت وديعة عنده ، وأبو دؤاد الإيادي في قود ولده بجاره ، فمما هو متداول لاخفاء بتقصير جميع الأمم عنه.

٤٧

وأما البأس والنجدة ، وطاعة الغضب والحميّة ، وإدراك الثأر ، وطلب الأوتار ، فأخبارهم بذلك معروفة ، وسيرهم فيه بذلك متداولة ، ولا يخص به الرجل دون المرأة ، ولا الغلام دون الهمّ المسنّ ، بل يوجد عند نسائهم من الصبر والشجاعة والتحريض على الحرب والقساوة ما لا يساويه المذكورون بالنجدة في غيرهم ، والمنسوبون إلى البأس من سواهم ، كأسماء (١) ومن يجري مجراها ، ممن خبره مشهور معروف ، هذا وفي طباع النساء اللين ، وشيمتهن الضعف ، وإليهن تنسب رقة القلوب ، وعنهن يؤخذ انتكاس العزائم.

ثم هم أصحاب السّرى والتأويب ، وإليهم يعزى جوب القفار ، وقطع المهامه ، والحروب عادتهم ، والغارة صناعتهم ، وبصيرتهم بها ، وآراؤهم فيها ، تدلك على اهتمامهم بهذا الشأن ، وإرهاف أفكارهم فيه ، وشحذ خواطرهم لتدبيره ، ولا حجة فيما ذكرناه أبين ، ولا دليل عليه أوضح ، من اجتزائهم عن جميع المعايش غيره ، واقتصارهم من سائر المكاسب عليه ، إذ لم يرضوا شماسهم بذلة المهن ، ولا مرّنوا نخواتهم على معاناة الحرف ، لا يسأل أحدهم الرزق إلا غرار سيفه ، ولا يستنجد على نفي الضّيم إلا بسنان رمحه.

وأما العقول الصحيحة ، والأذهان الصافية ، فالأمر في تفضيلهم بها واضح ، وذلك أنهم لم يكونوا أهل تعليم ودرس ، ولا أصحاب كتب وصحف ، ولا يعرفون كيف التأديب والرياضة ، ولا يعلمون وجه اقتباس العلم والرواية ، وفي كلامهم من الحكم العجيبة ، والأمثال الغريبة والحث على محاسن الأخلاق ، والأمر بجميل الأفعال ، ما إذا تأملته غضّ عندك ما يروى عن حكماء اليونانيين ، وسهّل الأمر عليك فيما حكاه الناس عنهم ، ووجدت تلك الفصول اليسيرة ، والفقر القليلة ، تسند إلى جليل من الحكماء ، وتضاف إلى رئيس من العلماء ، وأمثالها وأضعافها في شعر راع جلف ، ومن كلام عبد غمر ، ينشئها طبعه بلا تثقيف ، ويسمح بها خاطره على غير صقال.

__________________

(١) يريد أسماء بنت أبي بكر في تحريضها لابنها عبد الله بن الزبير على حرب بني أمية.

٤٨

ثم لما صار هؤلاء القوم إلى الدين ، وتمسكوا بالشريعة ، وعادوا أصحاب كتاب يدرس ، ومذهب يروى ، ظهر لعمري من دقيق أفهامهم وعجيب كلامهم ما هو موجود ، لا يخفى على أحد جالس العلماء وخالط الكتب ؛ سبقهم إليه ، ومعجزهم فيه ، وأنّهم فرعوا من المذاهب ، وولدوا من العلوم ، ما كأنّ من قبلهم كان ممنوعا منه ، ومصروفا عنه.

وأما حبّ الذكر ، وجميل الثناء ، والفرق من الذم ، وسوء القول ، فمما هو معلوم من عادتهم ، معروف من شيمتهم ، حتى كانوا إذا أسروا شاعرا شدّوا لسانه بنسعة ، خوفا من أن يسبقهم ببيت يشرد ، أو يعجلهم بقول يؤثر ، وقد قال أبو عثمان الجاحظ : لأمر ما قال حذيفة بن بدر لأخيه ، والرماح شوارع في صدره : إياك والكلام المأثور ، وقال : هذا مذهب فرعت فيه العرب جميع الأمم ، وهو مذهب جامع لأصناف الخير.

وأما الغيرة ، والأنفة ، والصبر ، والجلد ، فمعلوم منهم حتى نسبوا إلى الفظاظة ، وذكروا بالقساوة ، وعلل ذلك بإكثارهم أكل لحوم الإبل ، وإدمانهم التقوت بها ، وزعموا أن في طباعها قسوة القلوب ، ومن عادتها غلظ الأكباد. هذا ، وهم متى هبّ في أحدهم نسيم الصبابة ، ودبّت في مفاصله نشوة الهوى ، لانت تلك المعاطف ، ورقّت تلك الشمائل ، وعاد ذلك العزّ ذلا وفرقا ، وصارت تلك النخوة توسّلا وخضوعا ، لكنه مع العفاف من الريب ، والبعد من التهم ، والمساواة بين الباطن والظاهر ، والاتفاق بين الغائب والبادي ، وأشعارهم وأخبارهم بهذا كله مملوءة ، حتى كان هذا الحي من عذرة (١) قوما إذا نظروا عشقوا ، وإذا عشقوا ماتوا.

وأما مراعاة الأنساب وحفظها ، وذكر الأصول والبحث عنها ، فباب تفردت به العرب ، فلم يشاركها فيه مشارك ، ولا ماثلها فيه مماثل ، وفوائده في الإنتصار للعشيرة والحمية للأهل وغير ذلك معروفة ، ليس هذا موضع ذكرها ، وتقصي الكلام عليها.

__________________

(١) قبيلة اشتهرت بالحب العذري.

٤٩

هذه شيمهم وأخلاقهم ، وفيهم من بعد كتاب الله خير الكتب ، ورسوله سيد الرسل ، ودينه ناسخ الأديان ، وفي جميع ما ذكرناه من أشعارهم ما يدل على صحته ، لكن المختار منه يأتي في الكلام على الفصاحة من هذا الكتاب بمشيئة الله تعالى ، فلذلك لم نورده هنا خوفا من الإعادة ، وفرارا من التكرار.

ونعود إلى الكلام في اللغة ، قالوا : مما اختصت به لغة العرب من الحروف وليس هو في غيرها حرف الظاء ، وقال آخرون : حرف الظاء والضاد ، ولذلك قال أبو الطيب المتنبي :

وبهم فخر كل من نطق الضاد (١)

يريد ـ وبهم فخر ـ جميع العرب ، وقد ذهب قوم إلى أن الحاء من جملة ما تفردت به لغة العرب ، وليس الأمر كذلك ، لأني وجدتها في اللغة السريانية كثيرا ، وحكي أنها في الحبشية والعبرانية ، وأما العين والصاد والطاء والتاء والقاف فقد تكلم بها غير العرب ، إلا أنها قليل.

وقد خلت اللغة العربية من حروف توجد في غيرها من اللغات ، لا سيما لغة الأرمن ، فإنها على ما قيل ستة وثلاثون حرفا ، إلا أنّك إذا تأملتها وجدت بعض الحروف التي فيها يتشابه ببعض كثيرا ، على حد تشابه الظاء والضاد في لغة العرب ، فإن هذين الحرفين متقاربان ، لأجل ذلك احتاج الناس إلى تصنيف الكتب في الفرق بينهما. ولم يتكلفوا ذلك في غيرهما من الحروف.

فأما الأعراب فقلّ من رأيت من فصحائهم اليوم من يفرق بينهما في كلامه ، وهذا يدلك على شدة التشابه ، وقوة التماثل ، ولست أقول هذا على وجه الاحتجاج بكلامهم فإنهم الآن محتاجون إلى اقتباس اللغة من الحضر وإصلاح المنطق بأهل المدر ،

__________________

(١) لم أجده في ديوانه.

٥٠

إلا أنهم قلّما يتفق منهم العدول عن النطق بحرف من الكلام إلى حرف آخر إلا والشبه فيهما قويّ ، على ما قدمت ذكره.

ووقوع المهمل من هذه اللغة ـ على ما قدمته لك ـ في الأكثر من اطراح الأبنية التي يصعب النطق بها لضرب من التقارب في الحروف ، فلا يكاد يجيء في كلام العرب ثلاثة أحرف من جنس واحد في كلمة واحدة لحزونة ذلك على ألسنتهم ، وثقله ، وقد روي أن الخليل بن أحمد قال : سمعنا كلمة شنعاء وهي : الهعخع (١) ، وأنكرنا تأليفها ، وقيل : إن أعرابيا سئل عن ناقته ، فقال تركتها ترعى الهعخع ، فلما كشف عن ذلك وسئل الثقات من العلماء عنه أنكروه ودفعوه ، وقالوا : نعرف الخعخع ، وهذا أقرب إلى تأليفهم ، لأن الذي فيه حرفان حسب ، وحروف الحلق خاصة مما قل تأليفهم لها من غير فصل يقع بينها ، كل ذلك اعتمادا للخفة ، وتجنبا للثقل في النطق ، فأما القاف والكاف والجيم فلم تتجاوز في كلامهم البتة ، لم يأت عنهم قج ، ولا جق ، ولا كج ، ولا جك ، ولا قك ، ولا كق ، وكل ذلك فرارا مما ذكرناه ، إلا أن هذه الحروف قد تكررت في بعض الكلام ، قال رؤبة بن العجّاج :

لواحق الأقراب فيها كالمقق (٢).

ونحو ذلك. والعلة فيه على ما ذكر أصحاب هذه الصناعة أن المكرر معرّض في أكثر أحواله للإدغام ، لأنك تقول : فرس أمقّ ، والحرفان المتجاوران لا يمكن إدغام أحدهما في الآخر ، حتى يتكلف قلبه إلى لفظه ثم يدغم ، فكانت المشقة فيه أغلظ ، فرفض لذلك ، وهذا وجه صالح.

__________________

(١) نوع من نبات الصحراء.

(٢) ديوان رؤبة بن العجاج ص ١٠٦ ، وصدره :

قبّ من التعداد حقب في سوق

لواحق الأقراب : خماص البطون. والمقق : الطول.

٥١

وقد قسم تأليف الحروف ثلاثة أقسام : فالأول : تأليف الحروف المتباعدة ، وهو الأحسن المختار ، والثاني : تضعيف هذا الحرف نفسه ، وهو يلي هذا القسم في الحسن ، والثالث : تأليف الحروف المتجاورة ، وهو إما قليل في كلامهم ، أو منبوذ رأسا ، لما قدّمناه ، والشاهد على ما ذكرناه الحسّ ، فإن الكلفة في تأليف المتجاور ظاهرة ، يجدها الإنسان من نفسه حال التلفظ ومن الحروف التي لم يتركب في كلامهم بعضها مع بعض الصاد والسين والزاي ، ليس في كلام العرب مثل : سص ، ولا صس ولا سز ، ولا زس ، ولا زص ، ولا صز ، والعلة في هذا كله واحدة. وهذه جملة مقنعة في هذا الفصل لمن وقف عليها بعون الله تعالى.

٥٢

الكلام في الفصاحة

الفصاحة الظهور والبيان : ومنها أفصح اللبن إذا انجلت رغوته ، وفصح فهو فصيح ، وقال الشاعر :

وتحت الرغوة اللبن الفصيح (١)

ويقال : أفصح الصبح إذا بدا ضوءه ، وأفصح كل شيء إذا وضح ، وفي الكتاب العزيز : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي) [القصص : ٣٤] وفصح النصارى : عيدهم ، وقد تكلمت به العرب ، وقال حسان بن ثابت :

ودنا الفصح فالولائد ينظم

ن سراعا أكلّة المرجان (٢)

ويجوز أن يكون ذلك لاعتقادهم أنّ عيسى عليه‌السلام ظهر فيه ، وسمى الكلام الفصيح فصيحا كما أنهم سموه بيانا لإعرابه عما عبر به عنه وإظهاره له إظهارا جليا ، روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنا أفصح العرب بيد (٣) أني من قريش» (٤).

والفرق بين الفصاحة والبلاغة : أن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ ، والبلاغة لا تكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني ، لا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها : بليغة ، وإن قيل فيها : فصيحة وكل كلام بليغ فصيح ، وليس كل فصيح بليغا ، كالذي يقع فيه الإسهاب في غير موضعه.

__________________

(١) البيت هو لنقلة السّلميّ في «لسان العرب» ٢ / ٥٤٤ و «مجمل اللغة» (٤ / ١٠٢). و «تاج العروس» (٧ / ١٩) و «معجم مقاييس اللغة» (٤ / ٥٠٧) و «المخصص» (٥ / ٤٠).

(٢) «ديوان حسان بن ثابت» (ط دار صادر) ١ / ٢٥٥ في مدح جبلة بن الأيهم ، وفيه : «قددنا ... ينظمن قعودا ...».

(٣) بيد : بمعنى غير أو من أجل.

(٤) أخرجه العجلوني في «كشف الخفا» (١ / ١٨٢).

٥٣

وقد حدّ الناس البلاغة بحدود إذا حققت كانت كالرسوم والعلائم ، وليست بالحدود الصحيحة ، فمن ذلك قول بعضهم : لمحة دالّة ، وهذا وصف من صفاتها ، فأما أن يكون حاصرا لها وحدّا يحيط بها فليس ذلك بممكن ، لدخول الإشارة من غير كلام يتلفظ به تحت هذا الحد ، وكذا قال آخر : البلاغة معرفة الفصل من الوصل ، لأن الإنسان قد يكون عارفا بالفصل والوصل ، عالما بتمييز مختار الكلام من مطّرحه ، وليس بينه وبين البلاغة سبب ولا نسب ، ولا يمكنه أن يؤلف ما يختاره من تأليف غيره ، والحدود لا يحسن فيها التأول ، وإقامة المعاذير ، وغرابة ألفاظ لا تدل على المقصود ؛ لأنها مبنية على الكشف الواضح ، موضوعة للبيان الظاهر ، والغرض بها السلامة من الغامض ، فكيف يوقع في غامض بمثله؟

وكذلك قول الآخر : البلاغة أن تصيب فلا تخطىء ، وتسرع فلا تبطىء ، لأن هذا يصلح لكل الصنائع ، وليس بمقصور على صناعة البلاغة وحدها ، ثم إنّه سئل عن بيان الصواب في هذه الصناعة من الخطأ ، فجعل جواب السائل نفس سؤاله ، وبهذا أيضا يفسد قول من ادعى أن حدّها الإيجاز من غير عجز ، والإطناب من غير خطل ، وقول من قال : البلاغة اختيار الكلام وتصحيح الأقسام ، لأن هذين إنما سئلا عن حدّ يبين الكلام المرفوض من المختار ، والخطأ من الصواب ، ويوضح كيف يكون الإيجاز مختارا ومتى يقع الإطناب مرضيا محمودا ، فأحال على ما السؤال فيه باق ، وعدم العلم معه موجود حاصل.

وفي البلاغة أقوال كثيرة غير خارجة عن هذا النحو ، وإذا كانت الفصاحة شطرها وأحد جزءيها ، فكلامي على المقصود ـ وهو الفصاحة ـ غير متميّز إلا في الموضع الذي يجب بيانه من الفرق بينهما على ما قدمت ذكره ، فأما ما سوى ذلك فعام لا يختص ، وخليط لا ينقسم ، وسأذكر بمشيئة الله ما يخطر لي ، ويسنح بفكري في موضعه.

٥٤

وأقول قبل ذلك : إن الناس قد أكثروا من الدلالة على شرف الفصاحة وعظم قدر البيان والبلاغة ونبهوا بطرق كثيرة وألفاظ مختلفة ، وقد قال عز اسمه : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ١ ـ ٤]. ولم يكن تعالى يذكر البيان هاهنا إلا وهو من عظيم النعم على عبيده ، وجميل البلاء عندهم ، لا جرم قد قرن ذلك بذكر خلقهم فجعله مضافا إلى المنة بخروجهم من العدم إلى الوجود ، ومن جانب النفي إلى الإثبات.

وأنا أقول قولا مختصرا كافيا : قد ثبت أن الفرق الواضح بين الحيوان الناطق والصامت هو النطق ، وبه وقع التمييز في الحد المنسوب إلى الحكيم وإن كان يفسره أصحابه بغير هذا الظاهر ، فالشرف منه يؤخذ ، والفضل به يقع ، ولا خلاف في أن الصمت أفضل من مطروح الكلام ومنبوذه ، وأوفق للسامع من كلف ذلك ، فقد صار مع هذا التخريج الفصل المميز والفضل اللائح إنما هو للإفصاح والبيان والبلاغة وحسن النطق ، دون ما يسمى كلاما فقط ، ووجب على من أراد أن يخرج من حيز ذلك الصامت الناطق سلوك الطريق الذي به توجد الفضيلة ، وعنه تدرك الميزة ، باجتهاده إن كان لا دربة له ، وتكلفه إن كان لا طبع عنده ، وليعلم أن من شارك الناطق بالصورة ، وخالفه بالمعنى الموجب للشرف ، أسوأ حالا وأقبح صفة من الصامت المخالف في الأمرين معا ، لأن هذا غريب في الموضع الذي وجد فيه آهلا ، ووحيد في المكان الذي خلق به آنسا.

وما أحسن ما قال إبراهيم بن محمد المعروف بالإمام (١) : يكفي من حظ البلاغة ألّا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق ، ولا الناطق من سوء فهم السامع ، وهذا كلام مختار في تفضيل البلاغة.

__________________

(١) هو إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب : زعيم الدعوة العباسية قبل ظهورها. أوصى له أبوه بالإمامة ، هو الذي وجه أبا مسلم الخراساني واليا على دعاته وشيعته في خراسان. كان فصيح اللسان راجح العقل ، يروي الحديث والأدب عرف باسم : «إبراهيم الإمام» توفي سنة ١٣١ هجرية.

٥٥

وقال سهل بن هارون الكاتب (١) : العقل رائد الروح ، والعلم رائد العقل ، والبيان ترجمان العلم.

وأولى من هذا بالحجة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعباس وقد سأله فيم الجمال؟ فقال : «في اللسان» (٢).

وقالوا لما دخل ضمرة بن ضمرة (٣) على النعمان بن المنذر احتقره لما رأى من دمامته ، وقال : تسمع بالمعيديّ (٤) خير من أن تراه ، فقال : أبيت اللعن ، إن الرجال لا تكال بالقفزان ، وليست تستقى فيها وإنما المرء بأصغريه : قلبه ولسانه ، إن صال صال بجنان ، وإن نطق نطق بلسان.

وأنشدوا لأبي الأعور السلمي :

كائن ترى من صامت لك معجب

زيادته أو نقصه في التكلم

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده

فلم يبق إلّا صورة اللحم والدم (٥)

وهذان البيتان قد ذكرتهما فيما تقدم حكاية عن أبي طالب العبدي ، لكن هذا موضعهما.

__________________

(١) هو سهل بن هارون بن راهبون (أو راهيون) أبو عمر الدستميساني : كاتب بليغ ، حكيم من واضعي القصص يلقب ب «بزرجمهر الإسلام» اتصل بهارون الرشيد ، وارتفعت مكانته عنده ، حتى أحله محل يحيى البرمكي صاحب دواوينه. ثم خدم المأمون فولاه رياسة «خزانة الحكمة» ببغداد. له كتب كثيرة منها : «الإخوان» ، و «المسائل» ، و «تدبير الملك والسياسة» ، و «النمر والثعلب» ، وغيرها كثير.

(٢) النسائي [١٣٤٨].

(٣) هو ضمرة بن ضمرة بن جابر النهشلي من بني دارم ، شاعر جاهلي ، من الشجعان الرؤساء. وهو صاحب يوم «ذات الشقوق» من أيام العرب في الجاهلية. أغار فيه على بني أسد ، وظفر بهم ، في مكان يسمى «ذات الشقوق».

(٤) المعيدي تصغير المعدى ، خففت الدال استثقالا للتشديدين مع ياء التصغير.

(٥) البيتان ينسبان أيضا لزهير بن أبي سلمى في معلقته. وقد سبق تخريجه ، انظر ص ٣١.

٥٦

وقيل لزيد بن علي عليهما‌السلام : الصمت أفضل أم الكلام؟ فقال : أخزى الله المساكتة ، فما أفسدها للسان! وأجلبها للحصر ، والله إن المماراة على ما فيها لأقل ضررا من السكتة التي تورث أدواء أيسرها العيّ.

وأنت إذا سمعتهم يمدحون الصمت ، وينظمون القريض في مدحه ويذكرون جنايات اللسان وكلومه ، ويروون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم» (١) ويقولون : لو كان الكلام من فضة كان الصمت من ذهب ، وأشباه هذا ونظائره فإنما يريدون الكلام الذي ليس بجميل ، واللفظ الذي لا يستحسن ، فأما أن يكون الحسن يتواتر حتى يصير قبيحا ، والقبيح يتضاعف حتى يكون حسنا ، فهذا شيء خارج عن حد العقل ونظامه ، وليس هذا المذهب مما يمكن وقوع الخلاف فيه ، فيحتاج إلى إطالة في بيانه ، وقد أوردنا لمحة يستدل بها على غيرها ، وإن المذكور في هذا النحو لا ينحصر ولا تستوفى غايته.

وأقول قبل كلامي في الفصاحة وبيانها : إنني لم أر أقلّ من العارفين بهذه الصناعة ، والمطبوعين على فهمها ونقدها ، مع كثرة من يدعي ذلك ويتحلّى به ، وينتسب إلى أهله ، ويماري أصحابه في المجالس ، ويجاري أربابه في المحافل ، وقد كنت أظن أن هذا شيء مقصور على زماننا اليوم ، ومعروف في بلادنا هذه ، حتى وجدت هذا الدّاء قد أعيا أبا القاسم الحسن بن بشر الآمدي ، وأبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ قبله ، وأشكاهما حتى ذكراه في كتبهما ، فعلمت أن العادة به جارية ، والرّزيّة فيه قديمة ، ولمّا ذكرته رجوت الانتفاع به من هذا الكتاب ، وأمّلت وقوع الفائدة به ، إذ كان النقص فيما أبنته شاملا ، والجهل به عامّا ، والعارفون حقيقته قرحة الأدهم (٢) بالإضافة إلى غيرهم ، والنسبة إلى سواهم.

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق (٢٠٣٠٣) وأحمد (٥ / ٢٣١) وابن ماجه (٣٩٧٣) والألباني في «الإرواء» (٤١٣) وغيرهم.

(٢) الأدهم : الأسود من الخيل ، والقرحة : بياض في وجهه دون الغرة.

٥٧

فصاحة الألفاظ

ونبتدىء الآن بالكلام فيما أجرينا القول إليه ونقول : إن الفصاحة على ما قدمنا نعت للألفاظ إذا وجدت على شروط عدة ، ومتى تكاملت تلك الشروط فلا مزيد على فصاحة تلك الألفاظ ، وبحسب الموجود منها تأخذ القسط من الوصف ، وبوجود أضدادها تستحق الاطراح والذم وتلك الشروط تنقسم قسمين : فالأول منها يوجد في اللفظة الواحدة على انفرادها من غير أن ينضم إليها شيء من الألفاظ وتؤلف معه ، والقسم الثاني يوجد في الألفاظ المنظومة بعضها مع بعض.

فأما الذي يوجد في اللفظة الواحدة فثمانية أشياء :

الأول : أن يكون تأليف تلك اللفظة من حروف متباعدة المخارج على ما ذكرناه في الفصل الرابع (١) ، وعلة هذا واضحة ، وهي أن الحروف التي هي أصوات تجري من السمع مجرى الألوان من البصر ، ولا شك في أن الألوان المتباينة إذا جمعت كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة ، ولهذا كان البياض مع السواد أحسن منه مع الصفرة ، لقرب ما بينه وبين الأصفر وبعد ما بينه وبين الأسود ، وإذا كان هذا موجودا على هذه الصفة ، لا يحسن النزاع فيه ، كانت العلة في حسن اللفظة المؤلفة من الحروف المتباعدة في العلة في حسن النقوش إذا مزجت من الألوان المتباعدة ، وقد قال الشاعر في هذا المعنى :

فالوجه مثل الصبح مبيض

والفرع مثل الليل مسودّ

ضدّان لما استجمعا حسنا

والضدّ يظهر حسنه الضدّ

وهذه العلة يقع للمتأمل وغير المتأمل فهمها ، ولا يمكن منازع أن يجحدها.

__________________

(١) فصل في اللغة ص ٤٣.

٥٨

ومثال التأليف من الحروف المتباعدة كثير ، جلّ كلام العرب عليه ، فلا يحتاج إلى ذكره ، فأما تأليف الحروف المتقاربة فقد قدّمنا في الفصل الرابع مثالا حكي منه وهو الهعخع ، ولحروف الحلق مزية في القبح إذا كان التأليف منها فقط ، وأنت تدرك هذا وتستقبحه كما يقبح عندك بعض الأمزجة من الألوان ، وبعض النغم من الأصوات.

والثاني : أن تجد لتأليف اللفظة في السمع حسنا ومزية على غيرها وإن تساويا في التأليف من الحروف المتباعدة ، كما أنك تجد لبعض النغم والألوان حسنا يتصور في النفس ويدرك بالبصر والسمع دون غيره مما هو من جنسه ، كل ذلك لوجه يقع التأليف عليه ، ومثاله في الحروف : عذب ؛ فإن السامع يجد لقولهم : العذيب اسم موضع ، وعذيبة : اسم امرأة ، وعذب وعذاب وعذب وعذبات ، ما لا يجده فيما يقارب هذه الألفاظ في التأليف ، وليس سبب ذلك بعد الحروف في المخارج فقط ، ولكنه تأليف مخصوص مع البعد ، ولو قدمت الذال أو الباء لم تجد الحسن على الصفة الأولى في تقديم العين على الذال ، لضرب من التأليف في النغم يفسده التقديم والتأخير ، وليس يخفى على أحد من السامعين أن تسمية الغصن غصنا أو فننا أحسن من تسميته عسلوجا ، وأن أغصان البان أحسن من عساليج الشّوحط (١) في السمع ، ويقال لمن عساه ينازعنا في ذلك : لو حضرك مغنيان وثوبان منقوشان مختلفان في المزاج ، هل كان يجوز عليك الطّرب على صوت أحد المغنيين دون صاحبه؟ وتفضيل أحد الثوبين في حسن المزاج على الآخر؟ فإن قال : لا يصح أن يقع لي ذلك ، خرج عن جملة العقلاء ، وأخبر عن نفسه بخلاف ما يجد ، وإن اعترف بما ذكرناه قيل له : فخبرنا ما السبب الذي أوجب عليه ذلك؟ فإنه لا يجد أمرا يشير إليه إلا ما قلناه في تفضيل إحدى اللفظتين على الأخرى ، وقد يكون هذا التأليف المختار في اللفظة على جهة الاشتقاق فيحسن أيضا ، كل ذلك لما قدمته من وقوعه على صفة يسبق العلم بقبحها أو حسنها من غير المعرفة بعلتها

__________________

(١) الشوحط : نوع من الشجر يصنع منه القسي.

٥٩

أو بسببها ، ومثل ذلك مما يختار قول أبي القاسم الحسين بن علي المغربي في بعض رسائله : ورعوا هشيما تأنّفت روضه ، فإن ـ تأنفت ـ كلمة لا خفاء بحسنها ، لوقوعها الموقع الذي ذكرته ، وكذلك قول أبي الطيب المتنبّي :

إذا سارت الأحداج فوق نباته

تفاوح مسك الغانيات ورنده (١)

فإن ـ تفاوح ـ كلمة في غاية من الحسن ، وقد قيل : إن أبا الطيب أول من نطق بها على هذا المثال ، وإن وزير كافور الأخشيدي سمع شاعرا نظمها بعد أبي الطيب ، فقال : أخذتموها!.

ومثال ما يكره قول أبي الطيب أيضا :

مبارك الاسم ، أغرّ اللّقب

كريم الجرشّي ، شريف النّسب (٢)

فإنك تجد في ـ الجرشي ـ تأليفا يكرهه السمع وينبو عنه.

ومثل ذلك قول زهير بن أبي سلمى :

تقي نقي لم يكثّر غنيمة

بنهكة ذي قربى ولا بحقلّد (٣)

الحقلد ـ كلمة توفي على قبح ـ الجرشي ـ وتزيد عليها.

والثالث ـ أن تكون الكلمة ـ كما قال أبو عثمان الجاحظ ـ غير متوعّرة وحشية ، كقول أبي تمام :

__________________

(١) «ديوان المتنبي بشرح العكبري» (٢ / ٢٠) الأحداج : جمع حدج ؛ وهو مركب النساء. الغانيات : جمع غانية ؛ وهي المرأة التي غنيت بجمالها ، وقيل : بزوجها.

(٢) هذا البيت من قصيدة له في مدح سيف الدولة ، والجرشي بمعنى النفس ، انظر «ديوانه بشرح العكبري» (١ / ١١٠) الجرشي (بكسر الجيم والراء والتشديد) : النفس. واللقب : ما ينبز به الرجل. تقول : لقبته كذا ، فتلقب به وإنما أراد النعت فوضع اللقب موضعه ، واللقب منهي عنه.

(٣) الحقلد : البخيل. النهكة : النقص والإضرار.

«ديوانه» ص ٢٣٤ ، «الصناعتين» ص ٣٠ ، «صبح الأعشى» ٢ / ٢١٦.

٦٠