منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٨

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: نمونه
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٢

موافقة الخبر (١) لما يوجب الظن بمضمونه (٢) ولو نوعا (٣) من المرجحات في الجملة (٤) بناء (٥) على لزوم الترجيح لو قيل بالتعدي من المرجحات المنصوصة ، أو قيل (٦) (*) بدخوله في القاعدة المجمع عليها

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى أول أقسام المرجحات الخارجية وهو الظن غير المعتبر لأجل عدم الدليل على اعتباره ، ومحصل ما أفاده في الترجيح بالظن غير المعتبر ـ بناء على وجوب الترجيح في الخبرين المتعارضين ، وعلى التعدي عن المرجحات المنصوصة ـ وجهان استدل بهما شيخنا الأعظم.

أحدهما : كون موافقة الخبر للأمارة المزبورة مزيّة ، والمفروض ـ بناء على القول بالتعدي ـ وجوب الترجيح بكل مزيّة تقرّب واجدها إلى الواقع ، أو توجب الظن بالصدق.

ثانيهما : اندراج الخبر الموافق للأمارة المذكورة في أقوى الدليلين ، وقد ادّعي الإجماع على لزوم تقديم الأقوى منهما على غيره.

(٢) أي : بمضمون الخبر ، والمراد بالموصول في «لما» هو الأمارة.

(٣) قيد لـ «الظّن» وغرضه : عدم اعتبار الظّن الفعلي في الأمارة الموافقة لأحد المتعارضين كما اعتبره بعضهم ، وكفاية الظن النوعيّ كما ذهب إليه الشيخ والمصنف «قدهما» بل المصنف لم يعتبر الظن النوعيّ أيضا ، والتزم ـ بناء على القول بالتعدي عن المرجحات المنصوصة ـ بالتعدّي إلى كل مزية وإن لم توجب الظن النوعيّ.

(٤) قيد لمرجحية الظن غير المعتبر ، وغرضه : أنّ مرجّحيته ليست بنحو الإطلاق حتى يكون الظن مطلقا ـ ولو نهي عنه بالخصوص كالقياس ونحوه ـ من المرجّحات ، بل مرجّحيته تكون بنحو الإيجاب الجزئي.

(٥) قيد لقوله : «من المرجحات» وغرضه : أنّ الترجيح بالظن غير المعتبر لا بدّ أن يستند إلى دليل ، وما استدل به أو يمكن الاستدلال به على ذلك وجوه ، تقدم اثنان منهما آنفا.

(٦) معطوف على «قيل» وإشارة إلى الوجه الثاني الّذي تقدم بقولنا : «ثانيهما : اندراج

__________________

(*) مقتضى هذا العطف ابتناء مرجحية الظن ـ بعد البناء على لزوم الترجيح بالمرجحات ـ على

٣٤١

كما ادّعي (١) ، وهي «لزوم العمل بأقوى الدليلين».

وقد عرفت (٢) أن التعدّي محلّ نظر بل منع ، وأن (٣) الظاهر من القاعدة هو ما كان الأقوائية من حيث الدليليّة والكشفية.

______________________________________________________

الخبر الموافق للأمارة المذكورة في أقوى الدليلين ... إلخ».

(١) قال الشيخ «قده» عند التعرض للقسم الأوّل من المرجحات الخارجية ـ وهو ما لا يعتبر في نفسه ، ويكون معاضدا لمضمون أحد الخبرين كالشهرة في الفتوى ـ وبيان إمكان رجوع هذا النوع إلى المرجح الداخليّ : «ومن هنا يمكن أن يستدل على المطلب بالإجماع المدّعى في كلام جماعة على وجوب العمل بأقوى الدليلين ... إلخ».

(٢) أي : في الفصل الرابع ، حيث قال في تضعيف أدلة الشيخ على التعدّي : «ولا يخفى ما في الاستدلال بها. أمّا الأوّل فإنّ جعل خصوص ... إلخ» وهذا إشارة إلى دفع الوجه الأوّل ، وهو التعدي إلى المرجحات غير المنصوصة ، ومع المنع عن التعدي يسقط البحث عن مرجحية الظن غير المعتبر.

(٣) معطوف على «أن التعدّي» وهذا إشارة إلى دفع الوجه الثاني الّذي أقيم على اندراج ذي المرجح الخارجي في أقوى الدليلين. وتوضيح دفعه هو : أنّه قد تقدم في أواخر الفصل الرابع في (ص ٢٣٣) أن الظاهر من قاعدة «أقوى الدليلين» هو الأقوائية من حيث الدليليّة والطريقية بلحاظ نفسه ، لا من جهة أمر خارجي يوجب الظن بمطابقة مضمونه للواقع كالشهرة الفتوائية والأولويّة الظنيّة ، فإنّ ذلك لا يزيد في كشفه عن الواقع حتى يصير

__________________

أحد أمرين : إمّا التعدّي عن المزايا المنصوصة إلى غيرها ، وإما اندراج الخبر الموافق للظن غير المعتبر في قاعدة «أقوى الدليلين». وظاهر هذا الكلام أنّه مع المنع عن التعدي ولزوم الاقتصار على تلك المرجحات يصير الخبر الموافق للظن غير المعتبر من صغريات أقوى الدليلين.

وهذا غريب جدّاً ، إذ مع المنع عن التعدي ولزوم الاقتصار على المرجحات المنصوصة كيف يصير الخبر الموافق للظن ـ الّذي لا يصلح لأن يكون مرجّحا وفرض وجوده كعدمه ـ أقوى من معارضه؟ إلا أن يدّعي حصول الأقوائية قهرا بمجرد موافقة الخبر للظن غير المعتبر من الخبر المعارض له.

٣٤٢

وكون (١) مضمون [ومضمون] (*) أحدهما (٢) مظنونا لأجل مساعدة أمارة ظنيّة عليه لا يوجب قوّة فيه من هذه الحيثية (٣) ، بل هو (٤) على ما هو عليه من القوة لو لا مساعدتها (٥) كما لا يخفى. ومطابقة (٦) أحد الخبرين

______________________________________________________

الخبر الموافق له أقوى دليلا من معارضه. نعم يوجب ذلك الأمر الخارجيّ غير المعتبر قوّة مضمون الخبر الموافق له ثبوتا ، لكنه لا يوجب القوة في دليليته إثباتا وكشفا.

(١) يعني : ومجرّد حصول الظن بمضمون أحد الخبرين ـ بسبب مساعدة أمارة ظنيّة عليه ـ لا يوجب قوّة دليليّته وكشفه حتى يصير أقوى من معارضه.

(٢) أي : أحد الدليلين ، وضميرا «عليه ، فيه» راجعان إلى «أحدهما».

(٣) يعني : حيثية الكشف والطريقية ، فلا يندرج الخبر الموافق للأمارة غير المعتبرة في حيّز قاعدة «أقوى الدليلين».

(٤) يعني : بل أحد الدليلين الموافق للأمارة غير المعتبرة باق على ما هو عليه من القوّة ولم تزد دليليّته بسبب مساعدة الأمارة غير المعتبرة عليه ، فوجود الأمارة غير المعتبرة كعدمها.

(٥) أي : لو لا مساعدة الأمارة.

(٦) هذا إشارة إلى الوجه الثالث من وجوه الترجيح بالأمارة غير المعتبرة وقد أفاده الشيخ «قده» أيضا ، وهو إرجاع هذا القسم من المرجحات الخارجيّة إلى المرجحات الداخلية ، قال في المقام الثالث في المرجحات الخارجية : «ثم الدليل على الترجيح بهذا النحو من المرجح ما يستفاد من الأخبار العلاجية من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحدهما إلى الواقع وإن كان خارجا عن الخبرين ، بل يرجع هذا النوع إلى المرجح الداخليّ ، فإنّ أحد الخبرين إذا طابق أمارة ظنية فلازمه الظن بوجود خلل في الآخر ، إمّا من حيث الصدور ، أو من حيث جهة الصدور ، فيدخل الراجح فيما لا ريب فيه ، والمرجوح فيما فيه الريب ... فيقال في تقريب الاستدلال : إن الأمارة موجبة لظن خلل في المرجوح

__________________

(*) لعل الأولى إبدال العبارة هكذا : «والظن بمضمون أحدهما لمساعدة أمارة غير معتبرة عليه لا يوجب قوة في دليليّته».

٣٤٣

لها (١) لا يكون (٢) لازمه الظنّ بوجود خلل في الآخر إمّا من حيث الصدور أو من حيث جهته ، كيف (٣)؟ وقد اجتمع مع القطع بوجود جميع ما اعتبر

______________________________________________________

مفقود في الراجح ، فيكون الراجح أقوى إجمالا من حيث نفسه».

ومحصله : إرجاع هذا القسم من المرجّحات الخارجية المضمونيّة إلى المرجحات الداخلية ـ واندراجها حينئذ في أخبار الترجيح بالمرجحات الداخلية ـ بدعوى : أن مطابقة أحد الخبرين لما يوجب الظن بأقربيّته إلى الواقع تلازم حصول الظن بوجود خلل في الخبر الآخر ، إمّا في صدوره وإمّا في جهة صدوره ، فيصير مشمولا لما فيه الريب من إحدى الجهات ، والخبر المطابق للأمارة مصداق لما لا ريب فيه بالإضافة إلى غيره ، فيتعيّن الأخذ به.

ولا يخفى أن عبارة المتن «ومطابقة أحد الخبرين لها لا يكون لازمه ...» كما تكون إشارة إلى الوجه الثالث المتقدم توضيحه ، كذلك تكون إشكالا على قول الشيخ الأعظم : «فإنّ أحد الخبرين إذا طابق أمارة ظنيّة فلازمه الظن ... إلخ».

(١) أي : لأمارة ظنية.

(٢) خبر «ومطابقة» وجواب عن هذا الوجه الثالث بوجهين أحدهما صغروي والآخر كبروي ، وما أفاده بقوله : «لا يكون لازمه» إشارة إلى الوجه الأوّل ، ومحصله : أنّ مجرّد مطابقة أحد الخبرين لأمارة غير معتبرة لا تستلزم الظن بوجود خلل في الخبر الآخر ، لا في صدوره ولا في جهة صدوره ، كيف توجب هذه المطابقة الظنّ بوجود خلل في الخبر الآخر المعارض له؟ مع القطع بوجود جميع شرائط الحجية في الخبر المخالف للأمارة الخارجية غير المعتبرة ـ لو لا معارضته للخبر الموافق لتلك الأمارة ـ ضرورة امتناع القطع بحجيّته مع الظن بوجود خلل في صدوره أو جهته بحيث يكون المانع عن حجيته منحصرا في هذه المعارضة.

(٣) هذا إنكار للاستلزام المزبور المدّعى في كلام الشيخ «قده» يعني : كيف يوجب مجرّد المطابقة لأمارة غير معتبرة الظنّ بالخلل في الخبر المعارض مع القطع بوجود جميع شرائط الحجية فيه لو لا ابتلاؤه بمعارضة الخبر الموافق للأمارة غير المعتبرة؟ لامتناع القطع بحجية الخبر المخالف مع الظن بوجود خلل فيه.

٣٤٤

في حجية المخالف لو لا (١) معارضة الموافق. والصدق (٢) واقعا لا يكاد يعتبر في الحجية ، كما لا يكاد يضرّ بها الكذب كذلك (٣) ، فافهم (٤).

هذا (٥) حال الأمارة غير المعتبرة ، لعدم الدليل على اعتبارها.

______________________________________________________

(١) قيد لحجية الخبر المخالف ، وغرضه : أنّه لا مانع من حجية المخالف إلّا معارضة الخبر الموافق لأمارة غير معتبرة له.

(٢) إشارة إلى الإشكال الثاني الوارد على كلام الشيخ «قده» وهذا الإشكال كبروي ، لرجوعه إلى عدم قدح الظن بالخلل ـ في الخبر المخالف ـ في حجيته بعد تسليم الاستلزام المزبور ، وذلك لأنّ القدح المذكور مبني على اعتبار الصدق واقعا في حجية الخبر ، ومانعية الكذب واقعا عن حجيّته ، حتى يكون الظن بكذب الآخر واقعا موجبا للظن بخلل في حجيته.

والسر في ذلك أنّ حجيّة الأخبار عندهم تكون من باب الظن النوعيّ الّذي لا يقدح في اعتباره الظن بالخلاف ، بل يكفي في الحجية احتمال الصدق ، فلا يضرّ معه احتمال الكذب واقعا ، ومن المعلوم أنّ مطابقة أحد الخبرين للمرجّح المضموني لا يجعل الخبر الآخر معلوم الكذب ، بل غايته حصول الظن به ، وقد تقدم كرارا أن موضوع التعبد بأدلة الاعتبار هو غلبة الإصابة بالواقع نوعا واحتمال الإصابة شخصا ، ولا ريب في وجود هذا المقدار في الخبر الفاقد للمزية ، ولا يقتضي الظنّ بكذبه خروجه عن دائرة الحجية.

(٣) أي : واقعا ، وضمير «بها» راجع إلى «الحجية».

(٤) لعله إشارة إلى أنّه يمكن أن يكون نظر الشيخ «قده» إلى أنّ مطابقة أحد الخبرين لأمارة غير معتبرة توجب العلم الإجمالي بوجود مرجح واقعي صدوري أو جهتي في الخبر الموافق ، فيقدم حينئذ على المخالف بناء على القول بوجوب الترجيح والتعدي عن المزايا المنصوصة (*).

(٥) أي : ما ذكر من الأبحاث هو حال مطابقة أحد الخبرين المتعارضين للأمارة غير

__________________

(*) لكنه بعيد جدّاً ، لبعد حصول العلم الإجمالي ، بل الحاصل مجرد الاحتمال. فالحق عدم الترجيح بالأمارة غير المعتبرة إلّا إذا أوجبت الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع بناء على التعدي ، وإلّا فلا.

٣٤٥

أمّا (١) ما ليس بمعتبر بالخصوص ـ لأجل الدليل على عدم اعتباره بالخصوص كالقياس ـ فهو وإن كان (٢) كالغير (٣) المعتبر لعدم (٤) الدليل بحسب (٥) ما يقتضي الترجيح به من (٦) الأخبار بناء على التعدي ، والقاعدة (٧)

______________________________________________________

المعتبرة لعدم دليل على اعتبارها ، فقوله : «لعدم الدليل» قيد لـ «غير المعتبرة».

(١) يعني : وأما الأمارة غير المعتبرة التي يكون عدم اعتبارها لقيام دليل بالخصوص عليه فهو ... ، وهذا إشارة إلى القسم الثاني من المرجحات الخارجية ، ومحصّل ما أفاده فيه : أنّ هذا القسم وإن كان كالأمارة غير المعتبرة ـ لأجل عدم الدليل على اعتبارها كالشهرة الفتوائية والأولويّة الظنية ـ في كونه مقتضيا للترجيح بناء على التعدي عن المرجحات المنصوصة وعلى اندراج الخبر الموافق للأمارة غير المعتبرة بدليل خاص كالقياس في صغريات قاعدة «أقوى الدليلين» لكن الأخبار الناهية عن تلك الأمارة كالقياس تمنع الترجيح بها ، لأنّ مقتضى النهي عن استعمال تلك الأمارة عدم جواز استعمالها في الأحكام الشرعية ، ومن الواضح أنّ الترجيح بها استعمال لها في الحكم الشرعي الأصولي ، إذ المفروض تعيين الحجة بها ، ولا فرق في حرمة استعمالها في الأحكام بين الأصولية والفرعية ، بل قد يكون خطره في المسألة الأصولية أكثر ، كما إذا اشتمل الخبر الموافق للقياس على جملة من الأحكام.

(٢) الضمير المستتر فيه وضمير «فهو» راجعان إلى «ما ليس بمعتبر».

(٣) خبر «كان» واسمه ضمير مستتر فيه ، والأولى أن يقال : «كغير» بدون أداة التعريف ، لشدّة الإبهام.

(٤) متعلق بـ «المعتبر» والمراد بعدم الدليل عدم الدليل الخاصّ ، وإلّا فالدليل العام ـ أعني به أصالة عدم الحجية في كل أمارة لم يقم دليل على اعتبارها ـ موجود.

(٥) متعلق بـ «كان» وهذا وجه المماثلة المستفادة من قوله : «كالغير المعتبر».

(٦) بيان لـ «ما» الموصول ، وضمير «به» راجع إلى «غير المعتبر لعدم الدليل».

(٧) معطوف على «الأخبار» يعني : أنّ الترجيح بأمارة غير معتبرة ـ لأجل دليل بالخصوص على عدم اعتبارها كالقياس ـ مبنيّ على أحد الأمرين المتقدمين على سبيل منع الخلو :

٣٤٦

بناء (١) على دخول مظنون المضمون في أقوى الدليلين ، إلّا (٢) أن الأخبار الناهية عن القياس و «أن السنة إذا قيست محق الدين» (٣) (*) مانعة عن الترجيح به ، ضرورة (٤) أنّ استعماله في ترجيح أحد الخبرين استعمال له

______________________________________________________

أحدهما : التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى غيرها ، لاستفادته من بعض الفقرات الخاصة من الأخبار العلاجية.

ثانيهما : اندراج الخبر الموافق لتلك الأمارة غير المعتبرة ـ بدليل خاص ـ في قاعدة أقوى الدليلين المجمع عليها.

(١) قيد لقوله : «والقاعدة» غرضه : أنّ صغرويّة الخبر الموافق لأمارة غير معتبرة بدليل خاص ـ لقاعدة أقوى الدليلين ـ مبنيّة على كون الظن بالمضمون موجبا للأقوائية.

(٢) استدراك على قوله : «فهو وإن كان كغير المعتبر» وغرضه بيان الفارق بين القسم الأوّل والثاني من المرجحات الخارجية ، وعدم كونهما بوزان واحد في مقام ترجيح أحد الخبرين المتعارضين ، فالترجيح بالقسم الأوّل أقل إشكالا ، إذ لا نهي عن العمل به بالخصوص ، بخلاف الثاني ، لوجود النهي عنه ، فإنّ الأخبار النهاية عن العمل بالقياس تمنع الترجيح به وعن استعماله في الدين ، فإنّ الترجيح به استعمال له في تعيين المسألة الأصولية وهي الحجية ، ومن المعلوم أن الحكم الأصولي كالفرعي يكون من الدين بلا تفاوت بينهما.

(٣) كما في معتبرة أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : إنّ السّنة لا تقاس ، ألا ترى أنّ المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها ، يا أبان : إنّ السنة إذا قيست محق الدين» (١).

(٤) هذا بيان لتطبيق كبرى حرمة استعمال القياس في الدين على ترجيح أحد

__________________

(*) هذا قاصم ظهر الفقيه وينبّهه على خطر عظيم وهو سرعة الجزم بملاكات الأحكام والإفتاء بمقتضياتها كما يظهر من متن هذه الرواية ، لعدم إحاطة غير المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين» بملاكات الأحكام ، وعدم إمكان حصول العلم لنا بملاكاتها إلّا ببيانهم عليهم‌السلام لها. ومن هنا يظهر امتناع تنقيح المناط القطعي لنا.

__________________

(١) الوسائل ، ١٨ ـ ٢٥ ، الحديث : ١٠.

٣٤٧

في المسألة الشرعية الأصولية ، وخطره ليس بأقل (١) من استعماله في المسألة الفرعية.

وتوهم (٢) أنّ حال القياس هاهنا (٣) ليس في تحقق الأقوائيّة به إلّا كحاله

______________________________________________________

المتعارضين به على الآخر ، وأن حرمة استعماله في المسألة الأصولية على حدّ حرمة استعماله في الأحكام الفرعية من دون تفاوت بينهما أصلا. وعلى هذا فالأولى إبدال : «ضرورة» بمثل «والمفروض» لعدم كون قوله : «ضرورة أن استعماله» تعليلا لقوله : «مانعة عن الترجيح به» بل هو تطبيق لدليل حرمة العمل بالقياس على المقام أعني الترجيح.

(١) بل قد يكون خطره في المسألة الأصولية أكثر ، كما إذا كان الخبر الموافق للأمارة غير المعتبرة مشتملا على جملة من الأحكام.

(٢) في فرائد شيخنا الأعظم «قده» : «أن المحقق حكى في المعارج عن بعض القول بكون القياس مرجّحا» قال الشيخ : «ومال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين» (*). لكن قال : «ظاهر المعظم العدم كما يظهر من طريقتهم في كتبهم الاستدلالية في الفقه»

وكيف كان فمحصّل التوهم : جواز الترجيح بالقياس وإثبات حجية أحد المتعارضين به كجواز تنقيح الموضوع الخارجي به ، كقياس الغليان بالشمس على الغليان بالنار وإثبات الحرمة للمغلي بالشمس قياسا له بالمغلي بالنار ، فالقياس ينقّح موضوعا خارجيا ذا حكم شرعي ، وليس الموضوع الخارجي حكما شرعيا حتى يصدق على تنقيح الموضوع به استعمال القياس في الدين ليكون منهيّا عنه. وعليه فلا مانع من ترجيح أحد المتعارضين بالقياس.

(٣) أي : في مقام ترجيح أحد المتعارضين ، فإنّ حال القياس في باب الترجيح وإثبات الأقوائية به ليس إلّا كحاله في تنقيح الموضوع الخارجي الّذي يترتب عليه حكم شرعي من دون اعتماد على القياس.

__________________

(*) الظاهر أنه السيد العلامة الطباطبائي صاحب المفاتيح ، وقد نقل المحقق الآشتياني جملة من كلامه ، فقال بعد الترجيح بالاعتضاد بالقياس المنصوص العلّة أو الأولويّة القطعية ما لفظه : «وإن كان من القياس المستنبط العلّة الّذي ليس بحجة شرعا ، فلا يخلو إمّا أن لا يقتضي الظنّ بصدق

٣٤٨

فيما ينقّح به موضوع آخر ذو حكم ـ من دون اعتماد عليه (١) في مسألة أصولية ولا فرعيّة ـ قياس (٢) مع الفارق ، لوضوح الفرق بين المقام والقياس

______________________________________________________

(١) هذا الضمير وضمير «حاله» ، وضمير «به» في الموضعين راجعة إلى القياس.

(٢) خبر «وتوهم» ودفع له ، ومحصل الدفع : عدم صحة قياس المقام ـ وهو ترجيح أحد الخبرين المتعارضين بالقياس ـ على تنقيح موضوع ذي حكم بالقياس ، لكونه مع الفارق ، حيث إن تنقيح الموضوع الخارجي بالقياس ليس استعمالا له في الدين حتى يكون إفساده أكثر من إصلاحه ، كما في بعض الروايات. بخلاف ترجيح أحد الخبرين به على الآخر ، فإنّه يعيّن حجيّة أحدهما ـ الّذي لا يقتضي حجيّته لا أدلة حجية الخبر لعدم شمولها للمتعارضين معا ، ولا لأحدهما المعيّن ولا المخيّر ، لما تقدم سابقا ، ولا الأخبار العلاجية الدالة على حجية أحدهما تخييرا ـ إذ الحجية التعيينية الحاصلة بمرجحية القياس غير ما تقتضيه تلك الأخبار من الحجية التخييرية ، ورفع اليد عن تلك الأخبار المقتضية للحجية التخييرية بالقياس من أقوى أفراد استعمال القياس في الدين ، مع وضوح كون الحجيّة من الأحكام الشرعية.

__________________

مضمون الخبر الّذي يوافقه ، أو يقتضيه. فإن كان الأول ، فلا إشكال في عدم صحة الترجيح به ، للأصل السليم عن المعارض ، وما سيأتي إليه الإشارة.

وإن كان الثاني ففي صحة الترجيح به إشكال من الأصل ، وعموم كثير من الأخبار الواردة في المنع من العمل بالقياس ، فإنّ الترجيح عمل به ... ، ومن أصالة حجية الظنّ خصوصا في مقام الترجيح ، وفحوى ما دلّ على اعتبار كثير من المرجّحات المنصوصة ، وغلبة حجية مرجحات ظنيّة غير منصوصة ، فيلحق بها محلّ الشك ، وهو محلّ البحث. ولا يعارض ما ذكر عموم الأخبار المانعة عن العمل بالقياس ، لإمكان دعوى انصرافه إلى المنع من التمسك به على حكم شرعي» إلى أن قال : «وكيف كان فالأحوط الأخذ بالخبر الموافق له ، حيث يدور الأمر بينه وبين التخيير [و] بينه وبين معارضه. وأمّا إذا وجد للمعارض مرجح معتبر ، فان كان القياس أضعف منه فلا إشكال ، وكذا إن كان مساويا ، فتأمّل. وأما إذا كان القياس أقوى ففيه إشكال عظيم ، فتأمل» (١).

__________________

(١) بحر الفوائد ، ٤ ـ ٦٤

٣٤٩

في الموضوعات الخارجية الصّرفة (١) ، فإنّ (٢) القياس المعمول فيها (٣) ليس في الدين ، فيكون (٤) إفساده أكثر من إصلاحه (*). وهذا بخلاف المعمول في المقام (٥) ، فإنّه (٦) نحو إعمال له في الدين ، ضرورة (٧) أنّه (٨) لولاه لما تعيّن الخبر الموافق له للحجية بعد سقوطه (٩) عن الحجية بمقتضى أدلة الاعتبار ، والتخيير (١٠) بينه وبين

______________________________________________________

(١) المراد بالموضوعات الصرفة هي الموضوعات الخارجية التي تعلّقت بها أحكام شرعية بدون أن يتصرف الشارع في حدودها ، كما عرفت في غليان العصير بالنار ، فإنّ الغليان موضوع عرفي تعلّق به حكم شرعي.

(٢) هذا بيان الفارق ، وقد مر توضيحه آنفا بقولنا : «حيث ان تنقيح الموضوع ... إلخ».

(٣) أي : في الموضوعات.

(٤) بالنصب ، يعني : حتى يكون إفساده أكثر من إصلاحه.

(٥) وهو ترجيح أحد الخبرين على الآخر بالقياس.

(٦) يعني : فإنّ المعمول في مقام الترجيح نحو إعمال للقياس في الدين.

(٧) بيان لكون ترجيح أحد الخبرين بالقياس إعمالا له في الدين ، وقد مر بيانه آنفا.

(٨) هذا الضمير للشأن ، وضميرا «لولاه ، له» راجعان إلى القياس».

(٩) أي : سقوط الخبر الموافق للقياس عن الحجية بمقتضى القاعدة الأوّلية ، بعد قصور أدلة اعتبار الأخبار عن شمولها لكلا المتعارضين ، ولا لأحدهما المعيّن ولا المخير.

(١٠) معطوف على «سقوطه» يعني : وبعد التخيير بين الخبر الموافق للقياس وبين

__________________

(*) ولعل هذا التوهم نشأ من اعتقاد كون الدّين خصوص الأحكام الفرعية ، فالمنهي عنه حينئذ إعمال القياس في خصوص الحكم الفرعي ، ولذا قاس الحكم الأصولي ـ أعني الحجية ـ على الموضوع الصّرف. لكن لا يخفى أنّ الحكم في المقيس عليه ـ وهو تنقيح الموضوع الّذي يترتب عليه حكم شرعي باستعمال القياس فيه ـ أيضا محل منع ، لصدق استعمال في الدين ، إذ بدون استعماله لا ينقّح الموضوع الّذي يترتب عليه الحكم الشرعي ، فترتب الحكم على موضوعه منوط بتنقيحه المفروض توقفه على إعمال القياس فيه.

٣٥٠

معارضه (١) بمقتضى أدلّة العلاج ، فتأمّل جيّدا.

وأمّا (٢) إذا اعتضد بما كان دليلا مستقلّا في نفسه كالكتاب والسنة القطعية ، فالمعارض المخالف لأحدهما إن كانت مخالفته (٣) بالمباينة

______________________________________________________

معارضه بمقتضى الأخبار العلاجية ، إذ المفروض تكافؤهما إلّا في موافقة أحدهما للقياس ، فإذا تعيّن الخبر الموافق له للحجية كان ذلك إعمالا للقياس في الدين.

والحاصل : أنّ حكم المتعارضين بمقتضى القاعدة الأوّليّة هو سقوط كليهما ، وبمقتضى أخبار العلاج هو التخيير ، فتعيين أحد الخبرين المتكافئين للحجية ـ لأجل موافقته للقياس ـ عمل بالقياس وخارج عن كلا الحكمين اللذين يقتضيهما القاعدة الأوّليّة وأخبار العلاج.

ثم إنّ الأولى إبدال «بمقتضى أدلة الاعتبار» بـ «بمقتضى القاعدة الأوّلية» كما لا يخفى فإن أدلة العلاج أيضا من أدلة الاعتبار ، لكنها دليل ثانوي ، وأدلة حجية خبر الواحد دليل أوّلي ، والأمر سهل بعد وضوحه.

(١) هذا الضمير وضمير «بينه» راجعان إلى «الخبر الموافق».

(٢) معطوف على «أمّا ما ليس بمعتبر» وكان الأولى أن يقال : «وأمّا ما كان دليلا مستقلا في نفسه وكان معاضدا لأحد الخبرين» وهذا إشارة إلى ثالث أقسام المرجحات الخارجية ـ أي الوجه الأوّل من وجهي القسم الثاني من المرجح الخارجي المعتبر في نفسه ـ وهو المرجّح المعتبر المعتضد به أحد الخبرين.

ومحصل ما أفاده في هذا القسم : أنّ الخبر المخالف للكتاب أو السنة القطعيّة إن كانت مخالفته لهما بالمباينة الكليّة ، فهذه الصورة خارجة عن الترجيح ، إذ مورده كون الخبرين المتعارضين واجدين لشرائط الحجية ، ومن المعلوم أنّ الخبر المخالف بهذه المخالفة لا يكون حجّة في نفسه ولو مع عدم معارض له ، إذ المتيقن من الروايات الدالة على «أن الخبر المخالف زخرف ، أو باطل ، أو نحوهما» هو هذه الصورة ، فالمتعيّن حينئذ العمل بالخبر الموافق وطرح المخالف.

(٣) أي : مخالفة المعارض بنحو المباينة ، وضمير «أحدهما» راجع إلى «الكتاب والسّنة».

٣٥١

الكلّية ، فهذه الصورة (١) خارجة عن مورد الترجيح ، لعدم (٢) حجيّة الخبر المخالف كذلك (٣) من أصله ولو مع عدم المعارض ، فإنّه (٤) المتيقن من الأخبار الدالة على أنه (٥) «زخرف» أو «باطل» أو أنه «لم نقله» أو غير ذلك (٦).

وإن (٧) كانت مخالفة بالعموم والخصوص المطلق فقضية القاعدة

______________________________________________________

(١) أي : المخالفة التباينية خارجة عن مورد الترجيح.

(٢) تعليل لخروج هذه الصورة عن مورد الترجيح ، ومحصله : أنّ المخالفة التباينية مانعة عن الحجية وإن لم يكن معارض للخبر المخالف للكتاب والسنة بهذه المخالفة ، بل ليس فيه اقتضاء الحجية كما هو ظاهر ما في الأخبار ، من التعبيرات كـ «زخرف وباطل ولم نقله» ونحو ذلك.

(٣) أي : مخالفة تباينيّة ، فإنّ المخالف كذلك ليس في نفسه حجية ولو لم يكن له معارض.

(٤) أي : فإنّ الخبر المخالف تباينيّا يكون هو المتيقن من الأخبار الدالّة على «أن الخبر المخالف للكتاب والسنة زخرف أو لم نقله» أو غير ذلك. والوجه في تيقّنه أوّلا : أن المخالفة بنحو العموم المطلق ليست مخالفة عرفا ، لكون الخاصّ عندهم مبيّنا للمراد من العام ، وقرينة عليه ، فليست هذه المخالفة مشمولة لتلك الأخبار ، لخروجها عنها موضوعا.

وثانيا : أنّها آبية عن التخصيص ، مع العلم الإجمالي بصدور أخبار مخالفة للكتاب ـ بنحو العموم المطلق ـ عنهم عليهم‌السلام. ولو سلّم كون مخالفة العموم المطلق مخالفة فالأخبار المشار إليها منصرفة عنها.

(٥) هذا الضمير وضمير «نقله» راجعان إلى «الخبر المخالف».

(٦) مثل «اضربوه على الجدار» وقد تقدّمت هذه الأخبار مع الإشارة إلى مصادرها في الفصل الثالث عند بيان أخبار العلاج ، فلاحظ (ص ١٤٢)

(٧) معطوف على «إن كانت مخالفته» وإشارة إلى القسم الثاني وهو المخالفة بالعموم والخصوص المطلق. وتوضيح ما أفاده هو : أنّ مقتضى قاعدة التعارض المستفادة من الأخبار العلاجيّة وإن كان هو ملاحظة المرجحات بين الخبر الموافق للكتاب أو السّنة

٣٥٢

فيها (١) وإن كانت ملاحظة المرجحات بينه وبين الموافق ، وتخصيص (٢) الكتاب به تعيينا أو تخييرا لو لم (٣) يكن الترجيح في الموافق بناء (٤) على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، إلّا (٥) أنّ الأخبار الدالّة على أخذ

______________________________________________________

وبين الخبر المخالف ، والأخذ بأرجحهما إن كان ، وإلا فالتخيير بينهما ، وتخصيص الكتاب بالخبر المخالف إن أخذ به تعيينا أو تخييرا بناء على جواز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد. إلا أنّ الأخبار المتضمنة لأخذ الموافق للكتاب من الخبرين المتعارضين تشمل صورة المخالفة بنحو العموم والخصوص المطلق بناء على كونها من الأخبار العلاجية التي هي في مقام ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى ، لا في مقام تمييز الحجة عن اللّاحجة كما استفاده المصنف سابقا من تلك الأخبار ، وأيّد هذه الاستفادة بأخبار العرض على الكتاب الدالّة على عدم حجية الخبر المخالف للكتاب من أصله ولو بدون المعارض ، وسيأتي تقريب هذا التأييد عند شرح كلام المصنف.

(١) أي : في المخالفة بالعموم والخصوص المطلق ، وضمير «بينه» راجع إلى «الخبر المخالف».

(٢) معطوف على «ملاحظة» وضمير «به» راجع إلى الخبر المخالف.

(٣) قيد لقوله : «تخييرا» غرضه : أنّه يخصّص الكتاب بالخبر الموافق تعيينا إن كان له مرجح ، وتخييرا إن لم يكن له مرجح.

(٤) قيد لقوله : «وتخصيص الكتاب به» إذ بدون هذا البناء لا وجه لتخصيص الكتاب به.

(٥) استثناء من قوله : «فقضية القاعدة وان كانت ملاحظة المرجحات ... إلخ» ومحصله كما تقدم آنفا هو : أنّ قاعدة التعارض وإن كانت مقتضية لملاحظة الترجيح بين الخبر الموافق والمخالف للكتاب بنحو العموم المطلق كما أفاده الشيخ «قده» وتقديم الخبر المخالف إن كان راجحا على الموافق وتخصيص الكتاب به ، والتخيير بين الموافق والمخالف إن كانا متكافئين ، إلّا أنّ أخبار الترجيح بموافقة الكتاب تشمل هذه الصورة ، فيرجّح بها الخبر الموافق لعموم الكتاب على المخالف لعمومه وإن كان المخالف مع عدم المعارضة مخصّصا لعموم الكتاب ، لأخصيته منه.

٣٥٣

الموافق من المتعارضين غير قاصرة عن العموم لهذه الصورة (١) لو قيل (٢) بأنّها في مقام ترجيح أحدهما ، لا تعيين الحجية عن اللاحجة كما نزّلناها عليه (٣). ويؤيده (٤) أخبار العرض على الكتاب الدالّة على عدم حجية المخالف من أصله ، فإنّهما (٥) تفرغان عن لسان واحد ، فلا وجه لحمل المخالفة في إحداهما على خلاف المخالفة في الأخرى ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

هذا بناء على القول بكون أخبار الترجيح بموافقة الكتاب والسنة في مقام ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى. وأمّا بناء على كونها في مقام تعيين الحجة عن اللّاحجة ، فلا مرجّح للخبر الموافق على المخالف حتى يقدّم عليه لأجل موافقته للكتاب.

(١) أي : صورة كون المخالفة بنحو العموم المطلق.

(٢) قيد لقوله : «غير قاصرة» إذ مع عدم كونها في مقام الترجيح ـ بل في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة ـ تكون أجنبيّة عن تعارض الحجتين الّذي هو مورد البحث.

(٣) يعني : كما نزّلنا الأخبار الدالّة ـ على أخذ الموافق ـ على تعيين الحجة عن اللاحجة ، حيث قال عند الجواب عن أخبار الترجيح : «مع أن في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظرا ... إلخ».

(٤) يعني : ويؤيّد تنزيل تلك الأخبار ـ على أنّها في مقام تعيين الحجة عن اللاحجة ـ أخبار العرض على الكتاب الدالّة على عدم حجية المخالف من أصله وإن لم يكن له معارض ، للتعبير عنه بالزخرف والباطل ونحوهما.

(٥) هذا وجه التأييد. توضيحه : أنّ أخبار العرض على الكتاب ـ الدالّة على عدم حجية المخالف من أصله و «أنه زخرف وباطل» ونحو ذلك ـ وأخبار الأخذ بالموافق مع وحدة الموضوع فيهما كيف تحمل إحداهما وهي أخبار العرض على المخالفة التباينية ، والأخرى وهي أخبار العلاج على غير المخالفة التباينية؟ فإنّه مع وحدة الموضوع ـ وهي المخالفة ـ فيهما ، وأنّهما تفرغان عن لسان واحد لا وجه للتفكيك بينهما بحمل إحداهما على معنى ، والأخرى على معنى آخر.

٣٥٤

اللهم (١) إلّا أن يقال : نعم ، إلّا أنّ دعوى اختصاص هذه الطائفة (٢) بما إذا كانت المخالفة بالمباينة ، بقرينة (٣) القطع بصدور المخالف غير المباين عنهم عليهم‌السلام كثيرا ، وإباء (٤) مثل «ما خالف قول ربنا لم أقله» أو «زخرف» أو «باطل» عن التخصيص غير (٥) بعيدة.

______________________________________________________

(١) هذا عدول عما ذكره من تأييد وحدة معنى المخالفة في الطائفتين من الأخبار بقوله : «فلا وجه لحمل المخالفة في إحداهما» وبيان للفرق بين المخالفة التي هي من المرجحات ، وبين المخالفة التي هي من شرائط حجية خبر الواحد.

ومحصل وجه العدول : أنّه لا بدّ من التفكيك بين المخالفتين في هاتين الطائفتين ، لوجهين

أحدهما : العلم الإجمالي بصدور المخالف بنحو العموم والخصوص المطلق.

والآخر : إباء بعض الأخبار العرض على الكتاب عن التخصيص.

فهذان الوجهان قرينتان على التفكيك المزبور ، بحمل أخبار العرض على المخالفة التباينية ، إذ لا معنى لأن يقال : «ما خالف قول ربّنا لم نقله أو باطل إلّا ما علم صدوره» ، وحمل أخبار الأخذ بالموافق وطرح المخالف على الأعم والأخص المطلقين ، فيما يكون من المرجحات هو المخالفة بنحو العموم والخصوص المطلق ، وما يكون مميّزا للحجة عن اللاحجة هو المخالفة التباينية.

(٢) وهي أخبار العرض على الكتاب ، و «بما» متعلق بـ «اختصاص».

(٣) متعلق بـ «اختصاص» والباء للسببية ، وقوله : «بقرينة» إشارة إلى الوجه الأوّل المذكور بقولنا : «أحدهما العلم الإجمالي بصدور المخالف بنحو العموم ... إلخ».

(٤) معطوف على «بقرينة» وهو إشارة إلى الوجه الثاني المتقدم بقولنا : «والآخر إباء بعض أخبار العرض على الكتاب عن التخصيص» فقوله : «عن التخصيص» متعلق بـ «إباء».

(٥) خبر «دعوى» وعليه فإذا ورد خبر يدل على حرمة الرّبا بين الوالد والولد ، وخبر آخر يدلّ على جوازها ، والأوّل موافق للعام الكتابي وهو قوله تعالى : «وحرّم الرّبا» والثاني

٣٥٥

وإن (١) كانت المخالفة بالعموم والخصوص من وجه فالظاهر أنّها كالمخالفة في الصورة الأولى (٢) كما لا يخفى.

وأما (٣) الترجيح بمثل الاستصحاب ـ كما وقع في كلام غير واحد من

______________________________________________________

مخالف له مخالفة العموم والخصوص المطلق ، قدّم الموافق إن لم يكن ترجيح للمخالف ، وإلّا فيقدم المخالف ويخصّص به عموم الكتاب ، ويحكم بجواز أخذ الرّبا للوالد من ولده بناء على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد كما لا يخفى.

(١) معطوف على قوله : «ان كانت مخالفته بالمباينة الكلية» توضيحه : أنّه إن كانت المخالفة للكتاب أو السنة بالعموم من وجه فالظاهر أنّ حكمها في المجمع حكم المخالفة التباينية ، لتحيّر العرف في الجمع بين العامين في مورد اجتماعهما ، وعدم تحيره في الجمع بين العام والخاصّ المطلقين ، فتندرج المخالفة بالعموم من وجه في أخبار العرض ، لعدم موجب لخروج المخالفة بالعموم من وجه عنها ، كما كان لخروج مخالفة العموم والخصوص المطلق عنها وجه ، وهو ما تقدم من العلم الإجمالي بصدور روايات مخالفة للكتاب مخالفة الأخصّ المطلق ، ومن إباء بعض أخبار العرض عن التخصيص.

وبالجملة : تكون المخالفة بالعموم من وجه من مصاديق المخالفة عرفا.

(٢) وهي المخالفة التباينيّة.

(٣) هذا إشارة إلى حال القسم الرابع من أقسام المرجحات الخارجية ، وهو الدليل المعتبر في نفسه غير المعاضد لمضمون أحد الخبرين ، نظير الاستصحاب وغيره من الأصول العملية. وتعبير المتن «بمثل الاستصحاب» يدل على عدم اختصاص هذا البحث بالاستصحاب ، وقد صرّح الشيخ «قده» بتعميمه ، حيث قال : «ولا فرق في ذلك بين الأصول الثلاثة أعني أصالة البراءة والاحتياط والاستصحاب».

ومحصل ما أفاده المصنف : أنّ الأصل إن كان اعتباره من باب الظن ، فعلى القول بعدم التعدّي من المرجحات المنصوصة لا مجال للترجيح بالأصل ، وعلى القول بالتعدي فإن كان ذلك الظن موجبا للظن بالصدور أو الأقربيّة إلى الواقع فالترجيح به واضح ، وإن لم يكن موجبا لأحد هذين الأمرين ـ اللذين أنيط بهما التعدي ـ فلا وجه للترجيح أيضا.

٣٥٦

الأصحاب ـ فالظاهر أنّه (١) لأجل اعتباره من باب الظن والطريقية عندهم ، وأمّا بناء على اعتباره (٢) تعبّدا من باب الأخبار وظيفة للشاك ـ كما هو المختار كسائر الأصول العملية التي تكون كذلك (٣) عقلا أو نقلا ـ فلا (٤) وجه للترجيح به أصلا ، لعدم (٥) تقوية مضمون الخبر بموافقته (٦) ولو بملاحظة دليل اعتباره (٧)

______________________________________________________

وإن كان اعتبار تعبّدا من باب الأخبار الدالة على أنّ الأصل وظيفة للشاك ، فلا وجه للترجيح به أصلا ، لعدم اعتضاد أحد الخبرين المتعارضين به ، بداهة أنّ الأصل ليس كاشفا عن الواقع حتى يكون في رتبة الأمارة ومعاضدا لها ومقرّبا لمضمونها إلى الواقع ، كيف يمكن أن يكون كاشفا عن الواقع؟ مع تقوم موضوعه بالشك الّذي لا يعقل فيه الكشف والطريقية.

(١) أي : أن الترجيح لأجل اعتبار الأصل من باب الظن والطريقية. والظاهر كون الظن أعم من النوعيّ والشخصي ، إلّا أنّ الترجيح بالأوّل مشكل بناء على استناد التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى الظن بالصدور أو الأقربية إلى الواقع كما لا يخفى.

(٢) أي : اعتبار الأصل تعبدا ووظيفة للشاك. ولا يخفى أن سوق العبارة يقتضي رجوع ضمير «اعتباره» إلى «مثل» لا إلى خصوص الاستصحاب ، لكنه لمنافاته لقوله : «لأجل اعتباره من باب الظن» لعدم التزامهم بحجية أصالتي البراءة والاحتياط بمناط الظن ، فلا بد من إرجاع الضمير إلى خصوص الاستصحاب ، فإنّه مورد البحث بين القدماء والمتأخرين في استناد حجيته إلى الظن ببقاء الحالة السابقة ، أو إلى الأخبار.

(٣) أي : وظائف للشاك عقلا كقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو نقلا كالبراءة الشرعية.

(٤) جواب «وأما» وضمير «به» راجع إلى «بمثل الاستصحاب».

(٥) تعليل لقوله : «فلا وجه» وقد مر توضيحه آنفا بقولنا : «بداهة أن الأصل ليس كاشفا ... إلخ». والأولى أن يقال : «لعدم تقوّي مضمون».

(٦) أي : بموافقة الخبر لمثل الاستصحاب.

(٧) أي : اعتبار مثل الاستصحاب ، والوجه في ذلك : أنّ دليل اعتبار الأصل العملي

٣٥٧

كما لا يخفى (*).

هذا آخر ما أردنا إيراده ، والحمد الله أوّلا وآخرا وباطنا وظاهرا.

______________________________________________________

لا يدلّ إلّا على أنّه وظيفة الشاك عملا ، ومن المعلوم أنّه أجنبي عن الإحراز والكشف ، فإنّ مدلول الخبر هو الحكم الواقعي ، ومؤدّى الأصل العملي هو الحكم الظاهري ، ومن المعلوم عدم وحدة رتبة هذين الحكمين حتى يتقوّى مدلول الخبر بمؤدّى الأصل.

فتحصل من جميع ما أفاده المصنف من أوّل بحث المرجحات الخارجية إلى هنا : أنّ الأمر الخارجي الموافق لأحد الخبرين المتعارضين إن كان أمارة غير معتبرة ـ سواء أكان عدم اعتبارها لعدم الدليل على اعتبارها كالشهرة الفتوائية والأولوية الظنية ، أم لقيام الدليل الخاصّ على عدم اعتبارها كالقياس ـ لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين المتعارضين.

وإن كان دليلا مستقلا في نفسه كالكتاب والسنة القطعية ، فإن كان الخبر المعارض مخالفا للكتاب أو السنة القطعية بالتباين أو العموم من وجه قدّم الخبر الموافق ، ويسقط المخالف عن الاعتبار رأسا ، ولا يكون هذا التقديم من باب ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى ، بل من باب تقديم الحجة على اللاحجة.

وإن كان مخالفا للكتاب أو السنة بالعموم والخصوص المطلق كانت موافقة الكتاب من المرجحات ، فإن لم يكن للخبر المخالف مرجّح يوجب تقدّمه على الموافق يؤخذ بالموافق ، ويطرح ذلك ، وإلّا يؤخذ بالمخالف ويخصّص به عموم الكتاب.

__________________

(*) ثم إنّه قد ذكر الشيخ «قده» مرجحين آخرين للخبرين المتعارضين :

أحدهما : الموافقة للأصل ، فيقدّم بها الخبر الموافق له المسمّى بالمقرّر على المخالف له المسمّى بالناقل ، وقال : «والأكثر من الأصوليين منهم العلامة «قده» وغيره على تقديم الناقل ، بل حكي هذا القول عن جمهور الأصوليين معلّلين ذلك بأنّ الغالب فيما يصدر من الشارع الحكم بما يحتاج إلى البيان ، ولا يستغنى عنه بحكم العقل ... إلخ».

ثانيهما : ما أفاده بقوله : «ومن ذلك كون أحد الخبرين متضمّنا للإباحة ، والآخر مفيدا للحظر ، فإنّ المشهور تقديم الحاظر على المبيح ، بل يظهر من بعضهم عدم الخلاف فيه ، وذكروا في وجهه ما لا يبلغ حدّ الوجوب ، ككونه متيقنا في العمل ، استنادا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال».

٣٥٨

وأمّا الخاتمة (١)

فهي فيما يتعلّق بالاجتهاد والتقليد

______________________________________________________

الاجتهاد والتقليد

(١) معطوف على قوله في أوّل الكتاب : «أما المقدّمة» فإنّه «قده» رتّب كتابه على مقدمة ومقاصد ثمانية وخاتمة ، وهي الباحثة عن أحكام الاجتهاد والتقليد. ولم يجعل المصنف البحث عما يتعلّق بالاجتهاد والتقليد من مسائل علم الأصول ، لما تقدم منه في أوّل الكتاب من تعريف هذا العلم بقوله : «صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام ، أو التي ينتهي إليها في مقام العمل ...». ومن المعلوم خروج أحكام الاجتهاد والتقليد عن مقاصد الفن ، لعدم كون البحث فيها بحثا عن الكبريات الواقعة في طريق الاستنباط كمسألة حجية الخبر والظواهر ، ولا عن الوظائف المقرّرة للشاك كالبراءة والاستصحاب ، وإنّما هي أحكام فقهية كحرمة رجوعه إلى مجتهد آخر ، وجواز تقليد العامي له ، ونفوذ قضائه في المرافعات ، وولايته على القصّر ، ونحوها ، وهي ممّا لا تطلب إلّا من الفقه الشريف كسائر الأحكام الفرعية.

إلّا أن الوجه في التعرّض لأحكام الاجتهاد والتقليد هنا ـ بعد الفراغ من مقاصد علم الأصول ـ هو : شدّة المناسبة بين الأمرين ، وذلك لأنّ الباحث عن علم الأصول إذا أتقن جميع قواعد هذا العلم ومسائله حصلت له ملكة يقتدر بها على استنباط الأحكام الفرعية ، بإرجاع الفروع إلى القواعد التي نقّحها في علم الأصول ، وتعيين مجاري الأصول العملية ، وحيث إنّ المجتهد موضوع للأحكام المشار إليها آنفا كان المناسب التعرّض لهذه

٣٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الأحكام بعد دراسة هذا العلم وصيرورته عارفا بالأدلة وأحوالها ، لما تقدم من أنّ القدرة على الاستنباط ثمرة للعلم بالمسائل الأصولية ، ومن المعلوم عدم كون البحث عن الثمرة أجنبيّا عن البحث عن المقاصد المنتجة لها.

وبما ذكرناه ظهر متانة ما صنعه المصنف من جعل بحث الاجتهاد خاتمة الكتاب ، وعدم جعله من المقاصد ، وعدم إهماله كلّيّة. نعم البحث عن التقليد وأحكامه ليس ثمرة لعلم الأصول ، فالبحث فيها استطرادي بتبع البحث عن الاجتهاد ، لترتب التقليد عليه.

٣٦٠