منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

لا يوجب إلّا المخالفة الالتزامية (*) وهو ليس بمحذور لا شرعا ولا عقلا (١).

ومنه (٢) قد انقدح عدم جريانه في أطراف العلم بالتكليف فعلا (٣)

______________________________________________________

جريانهما فيما لم يلزم منه محذور المخالفة القطعية».

وعليه فيجري استصحاب الحدث وطهارة البدن في التوضؤ بمائع مردد بين الماء والبول مع العلم إجمالا بارتفاع الحدث أو طهارة الأعضاء. وكذا يجري استصحاب النجاسة في الإناءين النجسين اللذين علم إجمالا بطهارة أحدهما ، دون العكس ، وهو ما إذا كانا طاهرين وعلم إجمالا بنجاسة أحدهما ، فان استصحاب الطهارة لا يجري ، للزوم المخالفة العملية فيه ، دون المثالين الأولين.

(١) لما تقدم في الأمر الخامس من مباحث القطع من عدم وجوبها.

(٢) أي : ومما تقدم من أن المانع من جريان الاستصحاب هي المخالفة العملية دون الالتزامية ظهر ... إلخ ، وهذا إشارة إلى صورة عرضية الشكين والعلم الإجمالي بانتقاض أحد المستصحبين ، ولزوم المخالفة القطعية العملية من جريان الاستصحاب فيهما ، والمخالفة الاحتمالية من جريانه في بعضها. ومحصل ما أفاده في حكمها : عدم جريان الاستصحاب لا في جميع الأطراف ، للقطع بالمخالفة ، ولا في بعضها لاحتمال المخالفة ، وكلاهما محذور عقلي مع فرض العلم بفعلية التكليف على كل تقدير كما تقدم تفصيل ذلك في مباحث العلم الإجمالي من مباحث القطع وفي أوائل الاشتغال.

(٣) قيد للتكليف ، يعني : أن عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي إنما يكون فيما كان المعلوم بالإجمال حكما فعليا على كل تقدير.

__________________

(*) بل لا يوجبها أيضا ، لتحقق الموافقة الالتزامية بالالتزام بالتكليف على ما هو عليه من دون توقفه على معرفته بخصوصيته ، فجريان الاستصحاب في الأطراف لا يوجب المخالفة الالتزامية.

٨٠١

أصلا ولو (١) في بعضها ، لوجوب (٢) الموافقة القطعية له عقلا ، ففي جريانه لا محالة يكون محذور المخالفة القطعية أو الاحتمالية (٣) كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) قيد لقوله : «أصلا» يعني : لا يجري الاستصحاب مطلقا لا في جميع الأطراف ولا في بعضها ، وضمير «له» راجع إلى التكليف المعلوم بالإجمال.

(٢) تعليل لعدم جريان الاستصحاب ، وحاصله : أنه مع فعلية التكليف على كل تقدير يحكم العقل بوجوب موافقته القطعية ، لعدم حصول الأمن من العقوبة إلّا بها ، وضمير «بعضها» راجع إلى «أطراف» وضميرا «جريانه» في الموضعين راجعان إلى الاستصحاب.

(٣) هذا في جريان الاستصحاب في بعض الأطراف ، وما قبله في جريانه في جميع الأطراف ، وممنوعية المخالفة عقلا إنما هي لكونها ترخيصا في المعصية التي يستقل العقل بقبحها ، وباستحقاق مرتكبها للعقوبة.

٨٠٢

تذنيب (١) : لا يخفى أن مثل (٢) قاعدة التجاوز (٣) في حال الاشتغال (٤)

______________________________________________________

(تذنيب : النسبة بين الاستصحاب والقواعد)

(١) الغرض من عقد هذا التذنيب بيان النسبة بين الاستصحاب وبين الأصول التنزيلية والقواعد الجارية في الشبهات الموضوعية كقاعدتي التجاوز والفراغ ، وأصالة الصحة في عمل الغير ، والقرعة وغيرها ، واقتصر على ذكر نسبتها مع الاستصحاب ، ولم يتعرض لمباحثها ، لكونها قواعد فقهية أجنبية عن علم الأصول ، ولذا تعرض لها بعنوان التذنيب. والظاهر أن ما أفاده من تقديم هذه القواعد الثلاث على الاستصحاب بالتخصيص منوط بكونها أصولا تنزيلية ، إذ بناء على كونها أمارات تكون واردة على الاستصحاب.

(٢) التعبير بالمثل للإشارة إلى عدم اختصاص البحث بها ، وجريانه في سائر القواعد الجارية في الشبهات الموضوعية كقاعدة الفراش.

(٣) وهي قاعدة مجعولة لحكم الشك في وجود الشيء بمفاد كان التامة بعد الخروج عن محله والدخول في غيره ، وهو البناء على وجود المشكوك فيه وعدم الاعتناء بالشك. ويدل عليه جملة من الروايات كصحيح زرارة : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء» (١) ورواية إسماعيل بن جابر «كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» (٢) وغير ذلك من النصوص الدالة على ذلك. وتقريب الدلالة : أن المراد من الشك في شيء الشك في أصل وجوده ، والمراد من التجاوز عن الشيء الخروج عن محل الشيء والدخول في غيره ، كما إذا شك في وجود جزء الصلاة كالقراءة بعد تجاوز محلها بالدخول في الركوع ، ومقتضى الخبرين عدم الاعتناء بالشك ، والبناء على وجوده.

(٤) الظاهر أن مراده (قده) خصوصا بقرينة قوله : «وقاعدة الفراغ بعد الفراغ

__________________

(١) الوسائل ، ج ٥ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث : ١ ، ص ٣٣٦

(٢) الوسائل ، ج ٤ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث : ٤ ، ص ٩٣٧

٨٠٣

بالعمل ، وقاعدة (١) الفراغ بعد الفراغ عنه ، وأصالة (٢) صحة عمل الغير

______________________________________________________

عنه» اختصاص مورد قاعدة التجاوز بالشك في نفس الأجزاء حال الاشتغال بالعمل المركب قبل الفراغ عنه. ولعل وجهه عدم إطلاق كلمة «في غيره» في صحيحة زرارة لغير أجزاء المركب من الأعمال الأجنبية عن أجزائه ، بل لا بد أن يكون الغير المترتب على المشكوك فيه مثل المشكوك فيه من حيث الجزئية. وعليه فلا تجري قاعدة التجاوز بعد الفراغ عن العمل. لكن فيه بحث طويل لا يسعنا التعرض له فعلا.

(١) معطوف على «قاعدة» وضمير «عنه» راجع إلى العمل. وقاعدة الفراغ شرّعت للحكم بصحة العمل الموجود إذا شك في صحته بمفاد كان الناقصة بعد الفراغ عن العمل الّذي شك في صحته. ويدل عليه موثق محمد بن مسلم : «كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو» (١) فان ظهور «فامضه» في الأمر بالبناء على وجود المشكوك فيه على النحو الّذي ينبغي أن يقع عليه وهو وجوده على الوجه الصحيح مما لا ينكر.

وكذا قوله عليه‌السلام : «مما قد مضى» إذ معناه مما قد أتي به ، إذ بدون الإتيان به لا يصدق المضي عليه ، فلا يتطرق فيه احتمال إرادة المضي عن المحل لا عن نفس الشيء ليكون مساوقا لمثل رواية ابن جابر المتقدمة مما يشتمل على لفظ التجاوز الظاهر في التجاوز عن محل الشيء المنطبق على قاعدة التجاوز.

وعليه فمفاد الأخبار بنظر المصنف كما صرّح به في الحاشية جعل قاعدتين إحداهما : البناء على وجود الشيء بمفاد كان التامة ، وهي قاعدة التجاوز ، وثانيتهما : البناء على وجود الشيء على النحو الّذي ينبغي أن يقع عليه من كونه واجدا لشرطه وجزئه وهي قاعدة الفراغ.

(٢) معطوف على «قاعدة» وهذا الأصل أيضا من الأصول الجارية في صحة عمل الغير في قبال صحة عمل النّفس بترتيب آثار صحة الشيء لا فساده ، والقدر المتيقن منه جريانه بعد إحراز أمرين ، أحدهما : أهلية الفاعل لصدور الفعل الصحيح منه ،

__________________

(١) الوسائل ، ج ٥ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث : ٣ ، ص ٣٣٦

٨٠٤

إلى غير ذلك من القواعد المقررة في الشبهات الموضوعية (١) إلّا القرعة (٢) تكون مقدمة (٣) على استصحاباتها المقتضية

______________________________________________________

وثانيهما : قابلية المورد. وقد استدل الشيخ (قده) على اعتبارها بوجوه من الإجماع والسيرة وغيرهما من أراد الوقوف عليها فليراجع الرسائل ، قال المصنف في الحاشية بعد المناقشة في الإجماع القولي والعملي الّذي استدل به الشيخ : «نعم سيرة عامة الناس بدليل عدم ردعهم عنها يكشف عن إمضائها والرضا بها ، وإلّا كان عليهم الردع عنها. فالأولى كان التمسك بسيرة العقلاء كما لا يخفى وإن كان الإنصاف استقلال العقل به لأجل اختلال نظام المعاش والمعاد كما أفاد» (١).

(١) كقاعدة الفراش وأصالة الحرية في الإنسان وقاعدة اليد بناء على كونها من الأصول لا الأمارات.

(٢) استثناء من القواعد المقدمة على الاستصحاب ، يعني : أن تلك القواعد غير القرعة مقدمة على الاستصحاب ، وأما القرعة فالاستصحاب يقدم عليها لما سيأتي.

(٣) وجه تقدم هذه القواعد على الاستصحابات الجارية في مواردها هو أخصيتها من الاستصحاب حقيقة أو حكما. والأخصية الحقيقية تكون في قاعدة التجاوز ، لأن وجود الحادث مسبوق بالعدم ، فالشك في وجوده مورد الاستصحاب العدمي ، كالشك في القراءة بعد تجاوز محلها. والأخصية الحكمية تكون فيما إذا كانت النسبة بين الاستصحاب وبعض تلك القواعد عموما من وجه ، ولكن لو قدّم الاستصحاب في مورد الاجتماع استلزم ذلك قلة المورد لتلك القواعد بحيث يكون سوق الدليل لبيان أحكام الموارد القليلة مستهجنا عند أهل اللسان ، فان موارد اليد غير المسبوقة بيد الغير في غاية القلة بحيث يكون سوق دليلها لبيان تلك الموارد القليلة مستهجنا عند أبناء المحاورة ، كاستهجان حمل المطلق على الفرد النادر ، هذا.

مضافا إلى الإجماع على عدم الفصل بين مواردها من كونها مسبوقة باليقين السابق وعدمه ، فالنسبة وإن كانت عموما من وجه ، إلّا أن هذا الإجماع يوجب

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٤٣

٨٠٥

لفساد (١) ما شك فيه من الموضوعات ، لتخصيص (٢) دليله بأدلتها. وكون (٣)

______________________________________________________

تخصيص دليل الاستصحاب في مورد الاجتماع وتقديم أدلة تلك القواعد على دليله فيه ، فان في التخصيص جمعا بين الدليلين ، وضمير «استصحاباتها» راجع إلى الشبهات.

(١) كاستصحاب عدم الإتيان بالركوع المشكوك فيه بعد التجاوز عن محله ، فان قاعدة التجاوز تقتضي الصحة ، إلا أن الاستصحاب يقتضي الفساد. لكن ليس الفساد مطلقا مقتضى الاستصحاب ، إذ المشكوك فيه إن لم يكن ركنا لا يقتضي استصحاب عدم الإتيان به فساد الصلاة ، فقاعدة التجاوز تجري وتنفي سجدة السهو أو قضاء المتروك مما يقتضيه استصحاب عدمه.

(٢) تعليل لتقديم أدلة القواعد على دليل الاستصحاب ، وضمير «دليله» راجع إلى الاستصحاب ، وضمير «بأدلتها» إلى القواعد. وحاصل التعليل كما مر آنفا تخصيص عموم دليل الاستصحاب بأدلة القواعد ، فالمقام من صغريات العام والخاصّ ، ولا شبهة في اقتضاء القاعدة تخصيص العام به.

(٣) هذا إشكال على تخصيص دليل الاستصحاب بأدلة تلك القواعد ، ومحصله : أن نسبة بعض تلك القواعد إلى الاستصحاب ليست بالأخصية حتى تقدم عليه ، بل بالعموم والخصوص من وجه. وتوضيحه منوط ببيان نسبة كل واحدة من هذه القواعد مع الاستصحاب ، فنقول : أما نسبة الاستصحاب مع قاعدة الفراغ فهي العموم من وجه ، لجريان الاستصحاب في جميع الشبهات الحكمية والموضوعية كوجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة وعدالة زيد ، ولا معنى لجريان قاعدة الفراغ. وأما جريانها دونه فهو فيما إذا توارد حالتان على المكلف قبل الصلاة وشك بعد الفراغ في المتقدم والمتأخر منهما كالحدث والطهارة ، فانه لا يجري فيه الاستصحاب إما لقصور المقتضي وإما لوجود المانع وهو المعارضة المقتضية للسقوط. وتجري القاعدة ويحكم لأجلها بصحة الصلاة. ومورد الاجتماع هو أغلب موارد قاعدة الفراغ إذا كان الشك في إتيان جزء المركب أو شرطه ، لاقتضاء الاستصحاب عدم تحققه ، لكون

٨٠٦

النسبة بينه وبين بعضها عموما من وجه

______________________________________________________

عدمه متيقنا فيستصحب ، واقتضاء القاعدة التعبد بإتيانه لقوله عليه‌السلام : «بلى قد ركعت» أو «فامضه كما هو».

نعم إذا كان الشك في صحة العمل ناشئا من الشك في الزيادة المانعة كان مقتضى الاستصحاب أيضا صحة العمل ، لأصالة عدم الزيادة كما كان يقتضيها قاعدة الفراغ ، فالصلاة محكومة بالصحّة حتى لو لم تشرع قاعدة الفراغ أصلا ، لكفاية الاستصحاب في إثبات صحتها. مع أن مورد بعض أخبار القاعدة هو الشك في النقيصة بحيث لا يمكن حمل القاعدة على خصوص الشك في الزيادة. وعليه فتصحيح الصلاة بخصوص القاعدة منحصر في ما كان الشك في النقيصة ، ومن المعلوم أنه لو قدّم الاستصحاب فيه للزم اختصاص القاعدة بمورد نادر وهو توارد الحالتين الّذي لا يجري فيه الاستصحاب ، فلا بد من تقديم القاعدة فرارا من محذور تنزيل الأخبار على الفرد النادر.

وأما نسبة الاستصحاب مع أصالة الصحة الجارية في عمل الغير فهي أيضا عموم من وجه ، فتجري القاعدة دون الاستصحاب فيما إذا علمنا بوقوع عقد من المكلف وشككنا في كيفية وقوعه وأنه هل وقع باللفظ العربي أم وقع بالفارسي؟ مع فرض كون موضوع الأثر هو العقد العربي خاصة ، فأصالة الصحة تقتضي التعبد بوقوعه عربيا. وحيث انه لا علم بالحالة السابقة فلا يجري الاستصحاب ، إذ ليس الشك في أصل الوقوع بل في كيفيته ، إلّا بناء على جريانه في الأعدام الأزلية. وكذا لو شك في صحة عقد لأجل الشك في وقوعه حال الإحرام أو الإحلال. ومورد الافتراق من ناحية الاستصحاب جميع الشبهات الحكمية والموضوعية التي لا تتعلق بفعل الغير.

ومورد الاجتماع الشبهات الموضوعية المتعلقة بفعل الغير ، فأصل الصحة يقتضي التعبد بوجود الشرط والجزء وفقد المانع ، والاستصحاب يقتضي الفساد بعدم تحقق الجزء والشرط.

والاستصحاب يكون حكميا تارة وموضوعيا أخرى ، فالأوّل كاستصحاب عدم ترتب النقل والانتقال علي العقد الفارسي ، لاحتمال اعتبار العربية فيه.

٨٠٧

لا يمنع (١) عن تخصيصه بها ـ بعد الإجماع على عدم الفصل بين مواردها ـ مع لزوم (٢) قلة الموارد لها جدّاً لو قيل

______________________________________________________

والثاني كاستصحاب عدم تحقق عقد البالغ الّذي هو موضوع الأثر.

وأما نسبة قاعدة اليد مع الاستصحاب ، فهي أيضا عموم من وجه ، فمورد الاجتماع أغلب موارد اليد المسبوقة بيد الغير ، ومورد الافتراق من ناحية اليد تعاقب حالتين من يد واحدة على مال كما إذا كان المال لزيد في زمان وكان عارية عنده في زمان آخر ، فالاستصحاب لا يجري. ومن ناحية الاستصحاب ما إذا كانت حال اليد معلومة كما إذا كانت عين وديعة ثم شك في تملك الودعي لها ، فان الاستصحاب فيها يجري دون اليد.

إذا عرفت النسبة بين هذه القواعد والاستصحاب فاعلم أنه لا بد من إعمال قواعد التعارض في مورد الاجتماع لا تقديم تلك القواعد على الاستصحاب.

(١) خبر «كون» وإشارة إلى دفع الإشكال المزبور ، بوجهين ، أحدهما الإجماع والآخر اللغوية. وتقريب الأول : أن الإجماع على عدم الفصل بين موارد تلك القواعد وتقديمها مطلقا على الاستصحاب يجعلها حكما كالخاص في تخصيصها للاستصحاب وتقديمها عليه.

فالنتيجة : أن تلك القواعد الثلاث وإن كانت أعم من وجه من الاستصحاب ، لكنها بحكم الخاصّ في تخصيصها للاستصحاب ، وضمير «تخصيصه» راجع إلى «دليله» أي دليل الاستصحاب ، وضمير «بها» إلى «أدلتها» وضمير «مواردها» إلى «القواعد».

(٢) هذا هو الوجه الثاني لتقديم تلك القواعد على الاستصحاب ، ومحصله : أنه مضافا إلى الإجماع المزبور لا بد من تقديمها أيضا على الاستصحاب ، إذ لو قدّم عليها لقلّ موردها ، لقلة مورد منها لم يكن فيه استصحاب على خلافه ، وقد ثبت في محله من التعادل والترجيح أن قلة المورد لأحد العامين ـ إذا قدّم عليه الآخر في المجمع ـ من مرجحات باب التعارض. وقد مثّلوا له بتقديم أدلة اعتصام الماء

٨٠٨

بتخصيصها (١) بدليله ، إذ قلّ مورد منها لم يكن هناك استصحاب على خلافها كما لا يخفى.

وأما القرعة (٢) فالاستصحاب في موردها يقدم عليها ،

______________________________________________________

الجاري القليل على مفهوم أدلة عاصمية الكر ، لاقتضاء إطلاق المفهوم انفعال القليل راكدا كان أم جاريا ، إذ لو قدم دليل عاصمية الكر وحكم بانفعال القليل الجاري لزم كون مناط الاعتصام دائما هو الكر ، ولغوية عنوان الجاري عن موضوعيته للاعتصام. بخلاف عدم الأخذ بمفهوم أدلة عاصمية الكر ، لكثرة الماء الراكد القليل الّذي هو موضوع الانفعال بمفهوم «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء».

(١) أي : أدلة القواعد ، يعني : لو قيل بتخصيص أدلة القواعد بدليل الاستصحاب لزم المحذور المذكور وهو قلة المورد لها ، بخلاف تخصيصه بأدلتها وتقديمها على الاستصحاب ، فانه لا يلزم ذلك المحذور أصلا ، لكثرة موارد الاستصحاب ، وضمائر «لها ، منها ، خلافها» راجعة إلى «القواعد».

(٢) قد عرفت آنفا استثناء القرعة من سائر القواعد التي مر الكلام في تقدمها على الاستصحاب ، ووجه استثنائها وتقدم الاستصحاب عليها أمران :

أحدهما : الأخصية ، والآخر : وهن دليل القرعة بكثرة التخصيص. أما الأول وهو أخصية دليل الاستصحاب من دليل القرعة فلظهور دليلها في اعتبارها مطلقا من غير فرق فيه بين العلم بالحالة السابقة وعدمه ، بخلاف الاستصحاب ، فان مورده خصوص العلم بالحالة السابقة ، ومقتضى قاعدة تخصيص العام بالخاص تخصيص عموم دليل القرعة بدليل الاستصحاب.

وحاصل الوجه في أعمية دليل القرعة هو أن الأخبار المستدل بها على اعتبارها طائفتان : إحداهما خاصة وهي الأخبار الواردة في موارد متفرقة كقطيع غنم نزا الراعي على واحدة منه (١) ، والوصية بعتق ثلث مماليكه وهم ستون مملوك (٢) ، واشتباه الحرّ

__________________

(١) الوسائل ج ١٦ ، كتاب الأطعمة والأشربة ، الباب ٣٠ من أبواب الأطعمة المحرمة ، الحديث ١ و ٤ ، ص ٣٥٨

(٢) الوسائل ، ج ١٣ ، الباب ٧٥ من أحكام الوصايا ، ص ٤٦٤

٨٠٩

لأخصية (١) دليله من دليلها ، لاعتبار (٢) سبق الحالة السابقة فيه ، دونها. واختصاصها (٣) بغير الأحكام إجماعا

______________________________________________________

بالعبد في سقوط بيت على قوم لم يبق منهم إلّا صبيان (١) ، وتعيين مولود جارية اجتمع عليها رجلان أو ثلاثة (٢) ، وغير ذلك مما ورد في أبواب الوصية والعتق والميراث والطلاق (٣) ، ودل على حجية القرعة في تلك الشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي.

ثانيتهما : الأخبار العامة المشتملة على عنوان «المشكل والمجهول والمشتبه» وأن «القرعة سنة». والمقصود من أخصية دليل الاستصحاب من دليل القرعة هو أخصيته من الطائفة الثانية الشاملة لما إذا كانت الحالة السابقة معلومة ومجهولة ، إذ بهذا اللحاظ يكون دليل الاستصحاب أخص منها. وأما الطائفة الأولى فلا ريب في لزوم العمل بها في مواردها عند اجتماع شرائط الحجية. هذا كله في إثبات الوجه الأول ، وأما الثاني فسيأتي.

(١) هذا هو الأمر الأول المتقدم بقولنا : «أما الأول وهو أخصية دليل الاستصحاب من دليل القرعة ...» وضميرا «دليله ، فيه» راجعان إلى الاستصحاب ، وضمائر «دليلها موردها ، عليها ، دونها» راجعة إلى «القرعة».

(٢) تعليل لـ «لأخصية دليله» وقد مر آنفا تقريب الأخصية.

(٣) أي : واختصاص القرعة بغير الأحكام إجمالا ... إلخ. ثم ان هذا إشكال على أخصية دليل الاستصحاب من دليل القرعة بما محصله : أن النسبة بين دليلي القرعة والاستصحاب تنقلب من الأخص المطلق إلى الأخص من وجه ، فلا بد حينئذ من معاملة التعارض معهما ، لا تخصيص دليل القرعة بدليل الاستصحاب. توضيح انقلاب النسبة : أن الإجماع على عدم اعتبار القرعة في الأحكام أوجد خصوصية فيها صارت القرعة بها أخص من وجه من الاستصحاب ، لاختصاصها لأجل هذا الإجماع بالشبهات

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٧ ، الباب ٤ من أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم ، ص ٥٩٢

(٢) راجع الوسائل ، ج ١٨ ، كتاب القضاء ، الباب ١٣ من أبواب كيفية الحكم ، ص ١٨٧

(٣) راجع الوسائل ، ج ١٨ ، كتاب القضاء ، الباب ١٣ من أبواب كيفية الحكم ، ص ١٨٧

٨١٠

لا يوجب (١) الخصوصية في دليلها بعد عموم (٢) لفظها لها (*) هذا ،

______________________________________________________

الموضوعية ، كما أنها أعم من الاستصحاب ، لاعتبارها مع العلم بالحالة السابقة وبدونه. والاستصحاب أعم من القرعة ، لكون مورده كلتا الشبهتين الحكمية والموضوعية ، وأخص منها ، لاختصاصه بصورة العلم بالحالة السابقة ، فيتعارضان في مورد الاجتماع وهي الشبهة الموضوعية المسبوقة باليقين.

(١) خبر «واختصاصها» ودفع للإشكال المذكور ، ومحصله : أن المعيار في لحاظ النسبة بين الدليلين من حيث العموم والخصوص ـ بحيث تكون نسبة الأخصية محفوظة بين المخصصات على كثرتها وغير منقلبة إلى نسبة أخرى ، لتساويها في الأخصية ، وعدم تقدم بعضها رتبة على الآخر حتى يتعين تخصيص العام به ، فتنقلب نسبته مع سائر المخصصات من الأخصية إلى الأعم من وجه ـ هو ظاهر لفظ العام من دون نظر إلى شيء معه ، مثلا إذا قال : «أكرم الأمراء» ثم قال : «لا تكرم مبدعيهم وأهن أعداءهم لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام واقتل ناصبيهم» إلى غير ذلك من المخصصات ، فان نسبة كل واحد من هذه الخصوصات إلى «الأمراء» نسبة الخاصّ إلى العام ، ومن المعلوم أن دليل القرعة المشتمل على عنوان «المشكل والمشتبه والمجهول» عام يشمل الشبهات الموضوعية والحكمية والمسبوقة باليقين وغيرها ، ودليل الاستصحاب أخص منه ، فيخصصه ، فيختص القرعة بما لم يكن مسبوقا باليقين. وتخصيص دليل القرعة بعدم جريانها في الأحكام لا يوجب انقلاب النسبة بينها وبين الاستصحاب إلى الأعم من وجه حتى يتعارضا في المجمع وهو المشتبه المقرون باليقين السابق.

(٢) أي : عموم لفظ القرعة ، وفي العبارة مسامحة ، إذ المقصود عموم الألفاظ الواردة في دليل القرعة من «المشكل والمشتبه والمجهول» وضمير «لها» راجع إلى الأحكام المراد بها الشبهات الحكمية.

__________________

(*) هذا في المخصص المنفصل الّذي لا يزاحم ظهور العام في العموم صحيح. وأما في المتصل المانع عن انعقاد ظهوره فيه فلا محيص فيه عن انقلاب النسبة ،

٨١١

مضافا (١) إلى : وهن دليلها بكثرة (٢) تخصيصه حتى صار العمل به في مورد محتاجا إلى الجبر (*) بعمل المعظم كما قيل ، وقوة (٣) دليله بقلة (٤)

______________________________________________________

(١) هذا هو الأمر الثاني من الأمرين الموجبين لتقدم الاستصحاب على القرعة وحاصله : أن كثرة تخصيص دليل القرعة أوجبت ضعف ظهوره في العموم المانع عن جريان أصالة الظهور فيه ، ولذا اشتهر بينهم أن العمل به في كل مورد منوط بعمل المشهور. وعليه فلا مجال للعمل بالقرعة في مورد الاستصحاب استنادا إلى عمومها.

(٢) متعلق بـ «وهن» والباء للسببية ، يعني : مضافا إلى وهن دليل القرعة بسبب ... إلخ.

(٣) معطوف على «وهن» يعني : مضافا إلى وهن دليل القرعة ، فلا سبيل إلى العمل بعمومه ، وقوة دليل الاستصحاب ، فلا مانع من العمل بأصالة العموم فيه.

(٤) الباء للسببية ، يعني : وقوة دليل الاستصحاب بسبب قلة تخصيصه ، حيث ان كثرة التخصيص ـ في عمومات القرعة ـ الموجبة لضعف الظهور ربما تمنع عن

__________________

فإذا قال : «أكرم الأمراء البصريين» ثم قال : «لا تكرم الأمراء المبدعين» فلا إشكال في كون النسبة بينهما عموما من وجه ، لاجتماعهما في الأمير المبدع البصري ، وافتراقهما في المبدع غير البصري وفي البصري غير المبدع ، لكون الأول موردا لدليل النهي فقط ، والثاني موردا لدليل الأمر كذلك. ويأتي التفصيل في التعادل والترجيح إن شاء الله تعالى.

(*) لفظ الجبر ظاهر في جبر ضعف السند ، لكنه غير مراد للمصنف هنا ، لتعليل الوهن بكثرة التخصيص ، وهي توجب ضعف الدلالة دون السند. مضافا إلى صحة أسناد بعض روايات القرعة ، وحيث إن بناءهم على عدم انجبار ضعف الدلالة بعمل الأصحاب ، وأنه جابر لضعف السند فقط ، فلا بد أن يكون مراد المصنف من الجبر بعمل المعظم ما نبّه عليه بعض أعاظم المحشين (قده) من تلامذة المصنف من : أنه لمّا قام الإجماع على خروج مصاديق عديدة عن عموم دليل القرعة ولم نعلمها بعينها ، فلا بد في التمسك بعموم دليلها في مورد من إحراز عدم كونه مما

٨١٢

تخصيصه بخصوص دليل (١).

لا يقال : كيف (٢) يجوز تخصيص دليلها بدليله؟

______________________________________________________

جريان الأصل العقلائي وهو أصالة العموم فيه ، فيعامل معه معاملة المجمل ، وضمير «تخصيصه» راجع إلى «دليله» وضميره راجع إلى الاستصحاب.

(١) كتخصيص دليله بأدلة البناء على الأكثر في الركعتين الأخيرتين ، إذ الاستصحاب يقتضي البناء على الأقل ، لكن تلك الأدلة خصّصته ، ولذا لا يجوز البناء فيهما على الأقل ، فتأمل.

(٢) يعني : كيف يجوز تخصيص دليل القرعة بدليل الاستصحاب؟ والحال أن دليل القرعة رافع لموضوع دليل الاستصحاب ، وغرضه من «لا يقال» الإشكال على ما أفاده قبل ذلك من تقديم دليل الاستصحاب على دليل القرعة بالأخصية ، لا ما ذكره أخيرا من صيرورة المراد من دليل القرعة مجملا لكثرة التخصيص ، إذ مع الإجمال لا معنى لتقديم دليل القرعة ورودا أو حكومة على الاستصحاب كما هو مقصود المستشكل كما سيظهر ، وعلى هذا كان الأولى ذكر الإشكال وجوابه قبل قوله : «مضافا إلى وهن دليلها» لئلا يتوهم ارتباط الإشكال بالوجه الثاني.

وكيف كان فتوضيح الإشكال : أن القرعة على ما يظهر من بعض الروايات تكون من الأمارات كقوله عليه‌السلام في خبر محمد بن حكيم : «كلما حكم الله به فليس

__________________

خرج عنه بالإجماع ، ولا يحرز هذا الخروج إلّا بتمسك الأصحاب بدليل القرعة في ذلك المورد ، ضرورة أن تمسكهم به حينئذ يكشف إنّا عن عدم كون ذلك المورد من الموارد الخارجة عن عموم دليلها.

وهذا أجنبي عن جبر ضعف الدلالة بالعمل ، بل المقام نظير الرجوع إلى العرف في الشبهة الموضوعية ، كالرجوع إليهم في تشخيص كون هذا المائع خمرا أو خلّا ، حيث ان ظهور دليل القرعة في العموم مسلّم لكن المخصص مشتبه ، وفي تمييزه يرجع إلى أهل الخبرة ، فان تمسكوا بالعموم في مورد كشف تمسكهم إنّا عن عدم تخصيص العموم به وبقائه تحته.

٨١٣

وقد (١) كان دليلها رافعا لموضوع دليله لا لحكمه (٢) ، وموجبا (٣) لكون نقض اليقين باليقين بالحجة على خلافه ، كما هو (٤) الحال بينه وبين أدلة سائر الأمارات ، فيكون هاهنا أيضا (٥) من دوران الأمر بين

______________________________________________________

بمخطئ» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما رواه أبو بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام : «ليس من قوم تقارعوا ثم فوضوا أمرهم إلى الله إلّا خرج سهم المحق» لظهورهما في إصابة القرعة بالواقع ، ومن المعلوم أن ما جعله الشارع حجة بلحاظ كشفه عن الواقع يكون أمارة ، وقد ثبت أن الأمارة رافعة للشك الّذي هو موضوع الأصول التي منها الاستصحاب ، وعليه فلا وجه لتقديمه على القرعة بما تقدم من تخصيص دليلها بدليله.

(١) الواو للحالية ، يعني : كيف يقدم دليل الاستصحاب على دليل القرعة؟ والحال أن دليلها رافع للشك الّذي هو موضوع دليل الاستصحاب. وهذا ناظر إلى بعض روايات القرعة الظاهرة في كشف القرعة عن الواقع وكونها واسطة إثباتية له ، وهذا شأن الأمارة ، وليس في الاستصحاب جهة كشف وحكاية عن الواقع ، بل هو حكم على الشك الّذي يرتفع بالقرعة ، فهي كسائر الأمارات واردة أو حاكمة على الاستصحاب ، وضمير «دليلها» راجع إلى القرعة ، وضمير «دليله» إلى الاستصحاب.

(٢) يعني : لا لحكم الاستصحاب مع بقاء موضوعه حتى يبقى مجال للبحث عن تقدمه على القرعة بدعوى تحقق موضوع كل منهما وكونهما متعارضين.

(٣) معطوف على «رافعا» ومفسّر له ، حيث ان الأمارة الكاشفة عن الواقع ترفع الشك وتوجب كون نقض اليقين باليقين بالحجة ـ وهي القرعة ـ على خلاف اليقين السابق ، وضمير «خلافه» راجع إلى اليقين في قوله : «نقض اليقين» وقوله : «بالحجة» متعلق بـ «باليقين» أي : القطع بحجية القرعة في موارد الشبهة.

(٤) أي : رفع الموضوع حال سائر الأمارات مع الاستصحاب ، وضمير «فيكون» راجع إلى تقديم الاستصحاب.

(٥) يعني : كغير القرعة من سائر الأمارات في دوران الأمر (بين) تخصيص

٨١٤

التخصيص بلا وجه غير دائر (١) والتخصص (٢).

فانه يقال (٣) : ليس الأمر كذلك (٤) ، فان (٥) المشكوك فيما كانت

______________________________________________________

دليل القرعة بدليل الاستصحاب بلا وجه أي اقتراحا وبلا ميزان أو بوجه دائر ، حيث ان مخصّصيّته لدليل القرعة موقوفة على اعتباره ، وهو موقوف على مخصصيته ، بالتقريب الّذي تقدم في تقديم الاستصحاب على سائر الأصول ، وهذا دور محال (وبين) التخصص أعني به الخروج الموضوعي ، حيث إن الأخذ بالقرعة يوجب ارتفاع الموضوع ، وهو نقض اليقين بالشك ، والاندراج في نقض اليقين باليقين بالحجة على الخلاف. لكن المراد بالتخصص هنا هو الورود ، فان الخروج وإن كان موضوعيا ، لكنه تشريعي لا تكويني.

(١) وهو الوجه الاقتراحي الخارج عن الموازين.

(٢) معطوف على «التخصيص» وقد مر آنفا ما يراد من التخصص.

(٣) هذا جواب الإشكال المزبور ، ومرجع هذا الجواب إلى فساد قياس القرعة بسائر الأمارات المقدمة على الاستصحاب ورودا أو حكومة ، توضيحه : أن موضوع سائر الأمارات مجهول الحكم بالعنوان الأوّلي كحرمة شرب الخمر وحلية الخل ونظائرهما من أحكام العناوين الأولية ، فإذا قام خبر الثقة على حرمة شرب التتن مثلا كان رافعا للشك الّذي هو موضوع الاستصحاب وواردا أو حاكما عليه ، وموضوع القرعة هو مجهول الحكم مطلقا وبكل عنوان ـ لا في الجملة ـ فلو علم الحكم بعنوان الاستصحاب ارتفع المشكل الّذي هو موضوع القرعة ، لكون الاستصحاب رافعا لموضوعها ، فيقدم عليها ، واختلاف الموضوع في القرعة وسائر الأمارات أوجب الفرق بينهما في تقدم الاستصحاب على القرعة ، وتقدم سائر الأمارات على الاستصحاب.

(٤) أي : دائرا بين التخصيص بلا وجه غير دائر ، والتخصص ، على التفصيل الّذي تقدم في الحاشية المتعلقة بقوله : «أيضا من دوران الأمر بين التخصيص بلا وجه»

(٥) تعليل لقوله : «ليس الأمر كذلك» وبيان لعدم كون القرعة مقدمة على

٨١٥

له حالة سابقة وإن كان من المشكل والمجهول والمشتبه (١) بعنوانه الواقعي ، إلّا (٢) أنه ليس منها بعنوان ما طرأ عليه من نقض اليقين بالشك ، والظاهر من دليل القرعة أن يكون منها بقول مطلق (٣) لا في الجملة (٤) ،

______________________________________________________

الاستصحاب كتقدم سائر الأمارات عليه ، وحاصله ما تقدم من : أن الموضوع في القرعة هو المجهول من جميع الجهات والعناوين ولو بعنوان نقض اليقين بالشك ، إذ الظاهر من لفظ «المشكل» ونظائره هو الجهل والاشتباه بقول مطلق وبكل عنوان ، والاستصحاب بيان لحكم المجهول بعنوان ثانوي وهو نقض اليقين بالشك ، ورافع لموضوع دليل القرعة بهذا العنوان الثانوي ، فالمشكوك الّذي يجري فيه الاستصحاب لا يشمله دليل القرعة ، لعدم كونه مجهول الحكم بقول مطلق.

(١) وغيرها كعنوان «الملتبس» مما هو مذكور في أدلة القرعة ، يعني : وإن كان المشكوك في الاستصحاب مجهول الحكم بعنوانه الواقعي كسائر الأمارات غير القرعة ، ولذا يرتفع الشك في الاستصحاب بالأمارة القائمة على الحكم الواقعي ، لكن القرعة ليست كذلك ، لأن موضوعها هو الجهل المطلق وبجميع العناوين ، ومن المعلوم ارتفاعه بالاستصحاب ، لأنه موجب لوضوح الحكم في الجملة بعنوان ثانوي وهو نقض اليقين بالشك.

(٢) أي : إلّا أن المشكوك الّذي له حالة سابقة ليس من «المشكل ونظائره» بعنوان ثانوي ، إذ المراد به هو المجهول في الجملة لا مطلقا ، بخلاف الجهل في دليل القرعة ، فانه الجهل المطلق ، ولذا يرتفع بوضوح الحكم في الجملة ولو بعنوان نقض اليقين بالشك.

(٣) إذ المشكل المطلق ومثله «المجهول والمشتبه والملتبس» ظاهر في الجهل الّذي لا سبيل إلى رفعه كما مرت الإشارة إليه آنفا ، والضمير المستتر في «أن يكون» راجع إلى المشكوك ، وضمير «منها» إلى عناوين «المشكل والمجهول والمشتبه».

(٤) يعني : كما في سائر الأمارات ، فان الموضوع فيها هو مجهول الحكم

٨١٦

فدليل (١) الاستصحاب الدال على حرمة النقض الصادق (٢) عليه حقيقة رافع لموضوعه أيضا (٣) ، فافهم (٤). فلا بأس (٥) برفع اليد عن دليلها

______________________________________________________

بعنوانه الواقعي لا مطلقا.

(١) هذه نتيجة كون موضوع دليل القرعة المجهول المطلق وبكل عنوان ، ومقتضاه تقدم الاستصحاب على القرعة ، لكونه بيانا للحكم بعنوان ثانوي ، ورافعا للجهل المطلق بوجه.

(٢) هذا و «الدال» نعتان لـ «دليل» وضمير «عليه» راجع إلى «المشكوك» الّذي له حالة سابقة ، وضمير «لموضوعه» راجع إلى دليل القرعة ، يعني : فدليل الاستصحاب يدل على أمرين : الأول حكم الشك الّذي له حالة سابقة وهو حرمة النقض ، والثاني : رفع الجهل الّذي يكون موضوع دليل القرعة بعد صدق المشكوك عليه حقيقة.

(٣) يعني : كما أن دليل الاستصحاب يكون مثبتا لحكم موضوعه أعني الشك المسبوق باليقين كذلك يكون رافعا لموضوع دليل القرعة.

(٤) يحتمل قويا أن يكون إشارة إلى ضعف التفصيل بين القرعة والاستصحاب في كون الجهل في القرعة هو الجهل المطلق وفي الاستصحاب هو الجهل في الجملة ، بل المراد بالجهل في كليهما واحد ، وهو إما عام في كل منهما وإما خاص كذلك.

نعم قيل بظهور عنوان «المشكل» في بعض أخبار القرعة فيما ادعاه المصنف من عدم وضوح الوظيفة لا واقعا ولا ظاهرا ، إذ مع تعيين الوظيفة بالاستصحاب وجعل الحكم المماثل يتعين العمل به وإن لم ينكشف الواقع به ، ويرتفع الإشكال الموضوع في دليل القرعة ، وهذا بخلاف عنوان «المجهول» لظهوره في الجهل بالواقع خاصة ، فتأمل.

(٥) سوق الكلام يقتضي تفرّعه على ما أفاده من كون دليل الاستصحاب رافعا لموضوع دليل القرعة ، لكن لا يناسبه حينئذ التعليل بقوله : «لوهن عمومها» لعدم المناسبة بينه وبين المعلّل ، بل لا بد من التعليل برافعية دليل الاستصحاب لموضوع دليل القرعة. ولذا احتملنا قويا كون الأمر بالفهم إشارة إلى ضعف ما أفاده في وجه

٨١٧

عند دوران الأمر بينه (١) وبين رفع اليد عن دليله ، لوهن عمومها وقوة عمومه (*)

______________________________________________________

تقديم الاستصحاب على القرعة من التفصيل بينهما في الجهل الّذي مرجعه إلى رافعيته لموضوع دليل القرعة ، وبعد تضعيفه اختار في تقديمه على القرعة الوجه الّذي ذكره قبل ذلك بقوله : «مضافا إلى وهن دليلها بكثرة تخصيصه حتى صار العمل به في مورد محتاجا إلى الجبر» ولذا أعاده هنا معتمدا عليه ومعلّلا به ، وقال : «لوهن عمومها وقوة عمومه» وهذا التعليل يشهد بتضعيف التفصيل المزبور بقوله : «فافهم» واختيار الوجه السابق بشهادة هذا التعليل.

(١) أي : بين رفع اليد عن دليل القرعة وبين رفع اليد عن دليل الاستصحاب وضمير «عمومها» راجع إلى القرعة ، وضمير «عمومه» إلى الاستصحاب.

__________________

(*) لا يخفى أن الوجوه المحتملة في تقديم الاستصحاب كثيرة ، منها : الوجهان المذكوران في المتن.

ثالثها : أخصية الاستصحاب من القرعة ، لشمولها للمشكوك المسبوق باليقين وعدمه ، واختصاص الاستصحاب بالمسبوق باليقين.

وفيه : أن النسبة بينهما عموم من وجه ، لشمول الاستصحاب للشبهة الحكمية والموضوعية ، فيجتمعان في الشبهة الموضوعية المسبوقة باليقين.

رابعها : عدم اجتماعهما موردا ، لاختصاص الاستصحاب بالشبهات البدوية ، والقرعة بالعلم بالحكم مع تردد موضوعه بين المتباينين.

وفيه : أن المعيار في لحاظ النسبة بين الدليلين هو معنى اللفظ مع الغض عن القرائن الخارجية ، ومن المعلوم أن كلّا من دليلي القرعة بالمعيار المزبور عام.

ثم ان ما ذكر في التذنيب من القواعد المهمة المبتلى بها مما ينبغي استقصاء البحث فيه ، إلّا أن اختلال الحال وتراكم الأهوال منعني عن ذلك ، ولذا اقتصرت على شرح كلمات المصنف من بيان النسبة بينها وبين الاستصحاب ، سائلا منه سبحانه وتعالى أن يوفقني عاجلا للتعرض له مفصلا في رسالة مستقلة.

٨١٨

كما أشير إليه آنفا (١) ، والحمد لله أوّلا وآخرا ، وصلى الله على محمد وآله باطنا وظاهرا.

______________________________________________________

(١) وهو ما نقلناه قبيل هذا ، وهو : «مضافا إلى وهن دليلها بكثرة تخصيصه».

إلى هنا انتهى ما وفقني الله تعالى له من شرح مباحث الاستصحاب من كفاية الأصول للمحقق الخراسانيّ قدس‌سره في الأرض الأقدس الغروية على مشرفها أفضل الصلاة وأكمل التحية ، ونحمده تبارك وتعالى على ما أنعم به عليّ من التعليق على كتاب الكفاية من أوّله إلى هنا ، وأسأله جل شأنه متوسلا بسادة خلقه محمد وآله الأئمة الطاهرين وأمهم الصديقة الكبرى صلى الله عليها وعليهم من الآن إلى يوم الدين وأشد اللعائن على أعدائهم أجمعين أن يوفقني لشرح ما بقي من الكتاب مخلصا لوجهه الكريم ، فانه الرءوف الرحيم.

٨١٩

الفهرست

الموضوع

الصفحة

فصل في الاستصحاب............................................................ ٥

تعريف الاستصحاب............................................................. ٨

عدول المصنف عن تعريف الشيخ.................................................. ٨

مناقشة المحقق الأصفهاني في التعريف.............................................. ١٢

الاستصحاب مسألة أصولية..................................................... ٢٢

كلام الشيخ في ضابط المسألة الأصولية والنظر فيه.................................. ٢٦

اليقين السابق والشك اللاحق ركنا الاستصحاب.................................... ٣٠

اعتبار وحدة القضيتين........................................................... ٣٠

جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف بحكم العقل والمناقشة في تفصيل الشيخ ٤٠

منع المحقق الأصفهاني لاستصحاب ما يثبت بقاعدة الملازمة........................... ٥٠

أدلة حجية الاستصحاب الدليل الأول : بناء العقلاء................................ ٥٥

منع بناء العقلاء صغرى وكبرى.................................................... ٥٦

اشكال المحقق النائيني على المصنف................................................ ٦٢

الدليل الثاني : حجية الاستصحاب من باب الظن ، ورده............................ ٦٦

الدليل الثالث : الاجماع ، ورده................................................... ٦٨

الدليل الرابع : الاخبار المستفيضة................................................. ٧٠

الخبر الأول : مضمرة زرارة في الشك في الوضوء..................................... ٧١

٨٢٠