منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

الزبيب ، ويرون العنبية والزبيبية من حالاته المتبادلة (١) بحيث (٢)

______________________________________________________

(١) أي : الحالات التي لا يوجب انتفاؤها ارتفاع الموضوع ، بخلاف أوصافه المقومة التي يوجب زوالها انتفاء الموضوع. ومن الموارد التي يمتاز فيها الوصف المقوم عن غيره ما ذكروه في الفقه من أنه إذا قال البائع : «بعتك هذا الفرس بكذا» فبان كونه شاة كان البيع باطلا ، لأن الصورة النوعية الفرسية مقومة للمبيع ، بخلاف ما لو قال : «بعتك هذا العبد الكاتب» فانكشف كونه أميّا ، فالبيع صحيح ، لعدم كون الوصف مقوما للمبيع بنظر العرف ، بل من أوصاف الكمال ، وتخلفه يوجب الخيار للمشتري.

(٢) غرضه إقامة الأمارة على كون الزائل من الحالات المتبادلة على الموضوع

__________________

وأما العرفي والدليلي فلتصادقهما على مثل وجوب صلاة الجمعة إذا شك في وجوبها تعيينا أو مطلقا في عصر الغيبة ، إذ يجري فيه الاستصحاب ، حيث ان موضوع وجوبها في الآية الشريفة «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله» هو المؤمن من دون دخل لحضور الإمام عليه الصلاة والسلام في وجوبها ، فإذا شك في زمان الغيبة في وجوبها لاحتمال اعتبار حضوره عليه‌السلام في ذلك جرى فيه الاستصحاب ، لكون موضوعه أعني به المؤمنين باقيا على كلا النظرين أي العرفي والدليلي.

وتفارقهما في أحكام العنب المتبدل بالزبيب إذا شك في بقائها لأجل تبدله بالزبيب ، فانه بناء على الموضوع العرفي يجري الاستصحاب في جميع أحكام العنب من الفعلية والتعليقية ، وبناء على الموضوع الدليلي لا يجري ، لكونه نفس العنب ، والزبيب أجنبي عنه ، فالموضوع غير باق.

وفي موارد الاستحالة ، كما إذا ورد «كل جسم لاقى نجسا ينجس» فإذا لاقى خشب نجاسة ثم صار رمادا ، فانه بناء على الموضوع العرفي لا يجري استصحاب نجاسته ، لمغايرة الرماد للخشب عرفا ، وبناء على الموضوع الدليلي يجري ، لبقاء الموضوع وهو الجسم.

٧٤١

لو لم يكن الزبيب محكوما بما حكم به العنب كان (١) عندهم من ارتفاع الحكم عن موضوعه ، ولو كان (٢) محكوما به كان من بقائه ، ولا ضير (٣) في أن يكون الدليل بحسب فهمهم على خلاف ما ارتكز في أذهانهم بسبب ما تخيلوه من الجهات والمناسبات فيما (٤) إذا لم تكن

______________________________________________________

لا من مقوماته ، وحاصل تلك الأمارة : أنه إذا صدق ارتفاع الحكم عن موضوعه على عدم كون الزبيب محكوما بأحكام العنب وصدق على ترتيب أحكامه على الزبيب بقاء الحكم على موضوعه كان الوصف الزائل كالعنبية في المثال من حالات الموضوع المتبادلة ، لا من مقوماته التي يكون الدليل ظاهرا فيها.

وإذا لم يكن كذلك بأن لم يصدق البقاء والارتفاع على ترتيب أحكام العنب على الزبيب وعدم ترتيبها عليه كان الوصف الزائل من المقومات التي ينتفي الموضوع بانتفائها.

(١) أي : كان عدم محكومية الزبيب بحكم العنب عندهم من ارتفاع ... إلخ.

(٢) معطوف على «لو» في قوله «لو لم يكن» يعني : بحيث لو كان الزبيب محكوما بما حكم به العنب كان من بقاء الحكم على موضوعه ، ومن المعلوم الضروري توقف صدق البقاء والارتفاع على وحدة الموضوع.

(٣) غرضه التنبيه على أن المغايرة بين الموضوع الدليلي والعرفي غير قادحة لما ستعرف.

(٤) متعلق بقوله : «ولا ضير» يعني : لا ضير في اختلاف الموضوع الدليلي مع الموضوع العرفي فيما إذا لم تكن الجهات بمثابة ... إلخ ، وغرضه من هذا البيان توجيه عدم قدح الاختلاف بين الموضوع الدليلي والعرفي مع كون المرجع في فهم الدليل هو العرف أيضا ، وتوضيح توجيهه : أن المناسبة بين الحكم والموضوع تارة تكون لوضوحها كالقرينة الحافة بالكلام المانعة عن انعقاد الظهور في خلاف ما تقتضيه تلك المناسبة ، كما في قولهم عليهم‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر كر

٧٤٢

بمثابة تصلح (١) قرينة على صرفه عما هو ظاهر فيه (*).

______________________________________________________

لم ينجسه شيء» فان المناسبة بين انفعال الماء بالنجاسة تقتضي انفعاله بالملاقاة لا مطلقا ولو بالمجاورة ، ولذا لم يفت أحد ظاهرا بانفعاله بالمجاورة ، مع عدم ورود دليل بالخصوص على اعتبار الملاقاة في الانفعال.

وأخرى لا تكون بذلك الوضوح ، كمثال «العنب حلال» أو «إذا غلى يحرم» فان العرف يرى بالنظر البدوي نفس العنب من حيث هو موضوعا للحكم ، ولا يحكم بموضوعية ذاته وكون العنبية والزبيبية من حالاته المتبادلة إلّا بعد التأمل في أن الرطوبة واليبوسة في نظر العرف من حالات الموضوع ، لا من القيود المقومة له بحيث يدور الحكم مدارها ، فمناسبة الحكم والموضوع هنا ليست كالقرينة المتصلة المانعة عن انعقاد الظهور كما كانت كذلك في «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء».

فان كانت المناسبة من قبيل القسم الأول بأن تكون كالقرينة الحافة بالكلام اتحد الموضوع الدليلي والعرفي. وإن كانت المناسبة من قبيل القسم الثاني بأن تكون كالقرينة المنفصلة غير المانعة عن انعقاد الظهور فلا محالة يتعدد الموضوع الدليلي والعرفي ، فتأمل.

(١) إذ لو كانت المناسبات بمثابة تصلح لصرف الدليل عما هو ظاهر فيه من موضوعية العنوان المذكور فيه كالعنب وجعله من حالات الموضوع المتبادلة اتحد الموضوع الدليلي مع الموضوع العرفي ، فتعددهما يكون في القسم الثاني من المناسبات ، فتأمل. وضميرا «صرفه ، هو» راجعان إلى «الدليل» وضمير «فيه» إلى «ما» الموصول.

هذا تمام الكلام في المقام الأول المتكفل لبيان احتمالات اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة ثبوتا ، وقد عرفت أنها ثلاثة دليلي وعرفي وعقلي.

__________________

(*) سيأتي عدم الفرق بين القرائن والجهات والمناسبات المتصلة والمنفصلة إلّا في منع الأولى عن انعقاد الظهور ، ومنع الثانية عن حجيته ، إذ هما على حد سواء في تحديد الموضوع الدليلي.

٧٤٣

ولا يخفى (١) أن النقض وعدمه حقيقة يختلف بحسب الملحوظ

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى المقام الثاني أي مقام الإثبات وتعيين أحد الاحتمالات الثلاثة بحسب اقتضاء الدليل ، حيث ان النقض يختلف باختلاف الموضوع دليلا وعقلا وعرفا ، فيصدق بالنسبة إلى موضوع الدليل مثلا ، ولا يصدق بالنسبة إلى الموضوع العرفي ، فلا يصدق النقض على عدم ترتيب أحكام العنب على الزبيب بحسب موضوع الدليل ، ويصدق بحسب الموضوع العرفي ، فلا بد من تعيين الموضوع بالدليل حتى يكون هو المناط في الاتحاد.

وتوضيح ما أفاده المصنف (قده) في ذلك هو : أن خطاب «لا تنقض» الّذي هو مستند الاستصحاب من الخطابات الشرعية الملقاة إلى العرف ، ومن المعلوم أن المرجع في فهمها وتشخيص مرادات الشارع منها هو العرف ، إذ لو لم يكن نظرهم في ذلك حجة مع أنهم هم المخاطبون بها فلا بد من نصب قرينة عليه ، كأن يقول : «استظهار العرف من جميع الخطابات حجة الا في باب الاستصحاب فان المعتبر فيه هو حكم العقل بصدق النقض» وإلّا يلزم الإخلال بالغرض ، وحيث انه لم يرد هذا التخصيص من الشارع فيستكشف منه اعتبار ما يستفيدونه من الخطابات وان لم يساعده العقل ولا ظاهر الدليل. وعليه فيكون مناط الاتحاد هو الموضوع العرفي دون الموضوع الدقي العقلي والدليلي.

وبالجملة : فحمل أدلة الاستصحاب على نظر العقل تخصيص في الخطابات بلا قرينة توجبه.

ويمكن أن يكون كلام المصنف ناظرا إلى منع ما يتوهم من «أن المحذور في التعويل على نظر العقل في المقام هو اقتضاؤه لاختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع» لوضوح عدم سلامة هذا التعليل عن العلة ، لأن الشيخ (قده) التزم باختصاص أدلة الاستصحاب بالشك في الرافع استنادا إلى الشك في صدق النقض عرفا ، وليس منشأ ذلك التفصيل عرض أدلة الاستصحاب على النّظر العقلي حتى يكون الحاكم بعدم حجية الاستصحاب في الشك في المقتضي هو العقل.

٧٤٤

من الموضوع (١) ، فيكون نقضا بلحاظ موضوع (٢) ولا يكون بلحاظ موضوع آخر ، فلا بد في تعيين أن المناط في الاتحاد هو الموضوع العرفي أو غيره من بيان أن خطاب «لا تنقض» قد سيق بأي لحاظ (٣)؟

فالتحقيق (٤) أن يقال : ان قضية إطلاق خطاب «لا تنقض» هو أن يكون بلحاظ الموضوع العرفي ، لأنه المنساق من الإطلاق في المحاورات العرفية ، ومنها الخطابات الشرعية (٥) ، فما لم يكن هناك دلالة على أن النهي (٦) فيه بنظر آخر غير ما هو الملحوظ في محاوراتهم

______________________________________________________

وعليه فتمام الإشكال في حمل أدلة الاستصحاب على نظر العقل هو ما تقدم من لزوم التخصيص في الخطابات بلا قرينة توجبه.

(١) من كونه عقليا أو عرفيا أو دليليا.

(٢) كنفي أحكام العنب عن الزبيب ، فانه نقض بلحاظ الموضوع العرفي دون الدليلي ، لما مر من أن الموضوع الدليلي هو العنب بعنوانه ، فنفي أحكامه عن الزبيب ليس نقضا لأحكام العنب عن العنب ، بل عن موضوع آخر ، كما أن إثبات أحكامه للزبيب ليس إبقاء لأحكام العنب ، بل تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر.

(٣) من لحاظ الموضوع عقليا أو عرفيا أو دليليا حتى يتميز به اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة.

(٤) وقد تقدم تقريب هذا التحقيق بقولنا : «وتوضيح ما أفاده المصنف ... إلخ»

(٥) لأنهم المخاطبون بتلك الخطابات ، ولو لم يكن فهمهم فيها حجة لوجب على المتكلم التنبيه على ذلك وبيان مراده منها كما أشرنا إليه آنفا ، وضمير «لأنه» راجع إلى لحاظ الموضوع العرفي.

(٦) أي : أن النهي عن النقض في خطاب «لا تنقض» بنظر آخر غير النّظر العرفي الملحوظ في محاوراتهم ، فلا بد من الحمل على أن النهي عن النقض يكون باللحاظ العرفي.

٧٤٥

لا محيص (١) عن الحمل على أنه بذاك اللحاظ (٢) ، فيكون (٣) المناط في بقاء الموضوع هو الاتحاد بحسب نظر العرف وإن لم يحرز بحسب العقل (٤) أو لم يساعده النقل (٥) ، فيستصحب (٦) مثلا ما يثبت

______________________________________________________

(١) جواب «فما لم يكن» والأولى اقترانه بالفاء.

(٢) أي : اللحاظ العرفي ، وضمير «أنه» راجع إلى النهي ، يعني : فلا محيص عن الحمل على أن النهي عن النقض يكون بذاك اللحاظ العرفي لا العقلي ولا الدليلي.

(٣) هذه نتيجة عدم نصب قرينة على لحاظ نظر آخر غير ما هو الملحوظ في محاورات العرف ، وحاصله : أن المعيار في بقاء الموضوع ـ حتى يصدق على إثبات الحكم له في ظرف الشك إبقاؤه وعلى نفيه عنه نقضه ـ هو الموضوع العرفي لا العقلي ولا الدليلي ، ولذا يجري الاستصحاب في أحكام العنب المتبدل بالزبيب ، لكون الموضوع عند العرف وهو ذات العنب لا عنوانه باقيا حال الزبيبية ، ولا يجري فيما إذا كان المشكوك من مراتب المتيقن ، كالاستحباب الّذي هو من مراتب الوجوب إذا ارتفع الوجوب وشك في بقاء الاستحباب الّذي هو أيضا من الطلب ، وليس التفاوت بينه وبين الوجوب إلّا بشدة الطلب وضعفه ، فالموضوع العقلي وهو الطلب وإن كان باقيا ، لكن الموضوع العرفي منتف ، لكون الوجوب والاستحباب بنظر العرف متباينين.

(٤) كما مر في مثل «الماء المتغير» إذا كان الشك في البقاء ناشئا من زوال وصف من أوصاف الموضوع.

(٥) كما في مثال العنب ، إذ بعد جفافه وتبدله بالزبيب لا يصدق عليه موضوع الدليل.

(٦) يعني : بعد البناء على كون المعيار في الاتحاد نظر العرف يجري الاستصحاب في أحكام العنب الّذي صار زبيبا ، لبقاء الموضوع عرفا ، وهو ذات العنب المحفوظ بين حالتي الرطوبة والجفاف ، والمراد بـ «ما يثبت» هي الأحكام.

٧٤٦

بالدليل للعنب إذا صار زبيبا ، لبقاء (١) الموضوع واتحاد القضيتين عرفا ، ولا يستصحب (٢) فيما لا اتحاد كذلك (٣) وإن كان هناك اتحاد عقلا كما مرت الإشارة إليه في القسم الثالث (٤) من أقسام استصحاب الكلي ، فراجع (*).

______________________________________________________

(١) متعلق بـ «فيستصحب» و «للعنب» متعلق بـ «يثبت».

(٢) معطوف على «فيستصحب» يعني : ولا يستصحب ما يثبت بالدليل في الموارد التي لا اتحاد فيها عرفا بين القضيتين.

(٣) أي : عرفا وإن كان هناك اتحاد عقلا كما مر في مثال الوجوب والندب.

(٤) وهو ما إذا كان المشكوك من مراتب المتيقن كالشك في الاستحباب بعد القطع بارتفاع الإيجاب ، وقد تعرض له في أواخر التنبيه الثالث ، حيث قال هناك : «إلّا أن العرف حيث يرى الإيجاب والاستحباب المتبادلين فردين متباينين ... إلخ» وقد تحصل مما أفاده المصنف : أن المرجع في تشخيص مفهوم «لا تنقض» هو العرف ، والرجوع إليهم إنما هو في تمييز المفهوم لا في تطبيقاتهم المسامحية غير المعتبرة.

__________________

(*) ينبغي لتنقيح البحث التعرض لجهات ثلاث ، الأولى : في بيان المراد بالموضوع ، الثانية : في الدليل على اعتباره ، الثالثة : فيما يحرز به الموضوع.

أما الجهة الأولى فمحصلها : أن المراد بالموضوع هو معروض المستصحب بجميع ما له دخل في عروضه وقيامه به من الخصوصيات الدخيلة في العروض ، وهذا يختلف بحسب اختلاف المقامات ، إذ قد يكون المعروض الماهية الموجودة كما إذا كان المحمول في القضية الأوصاف الخارجية المعبر عنها في لسان بعض الأساطين بالمحمولات المترتبة كالقيام والجلوس والمشي والركوب ونحوها من الأعراض الخارجية ، وكذا الأحكام الشرعية من الوجوب والحرمة وغيرهما. فان الموضوع في الأعراض الخارجية هو وجود الماهية كوجود زيد الّذي هو معروض

٧٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

القيام والجلوس مثلا. وقد يكون المعروض نفس الماهية ، كما إذا كان المحمول في القضية هو الوجود الّذي يسمى بالمحمول الأوّلي في مقابل المحمولات المترتبة من الأعراض الخارجية ، فيكون معروض الوجود في مثل قضية «زيد موجود» ماهية زيد القابلة لكل من الوجود والعدم.

وأما إذا كان المحمول في القضية من لوازم الماهية كالزوجية للأربعة فهو خارج عن المقام ، لعدم تصور الشك في بقاء المحمول حتى يجري فيه الاستصحاب.

وكيف كان فيظهر مما ذكرنا صحة التعبير عن اعتبار بقاء الموضوع بما في المتن من اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة موضوعا ومحمولا ، وانحصار التغاير بينهما في القطع والشك بالنسبة إلى المحمول كقيام زيد ، فانه كان معلوما ثم صار مشكوكا فيه. كما يظهر مما مر أن المراد ببقاء الموضوع في الاستصحاب بقاؤه في الوعاء المناسب له سواء أكان وجودا خارجيا أم غيره. فتوهم اعتبار بقائه بحسب الوجود الخارجي فاسد كما مر تفصيله في التوضيح.

وأما الجهة الثانية ، فمحصل الكلام فيها : أنه قد استدل على المدعى بوجوه :

الأول : الإجماع المصرح به في كلام بعض. وفيه : أنه ليس المقام موردا للإجماع ، لأنه راجع إلى تحقق موضوع الاستصحاب حتى يشمله دليل اعتباره ، وليس راجعا إلى ما يؤخذ من الشارع حتى يكون الإجماع حجة فيه ، فان المقام مندرج في الشبهات الموضوعية لا الحكمية ، ضرورة أن تشخيص معنى الخمر مثلا الّذي هو موضوع حكم الشارع بالحرمة ليس وظيفة الشارع حتى يرجع فيه إليه.

الثاني : الدليل العقلي ، وهو الّذي تمسك به جماعة كشيخنا الأعظم وجمع من مشايخه وغيرهم (قدس‌سرهم) وقد اتضح تقريبه في التوضيح عند شرح قول المصنف «والاستدلال عليه باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر» كما اتضح أيضا هناك جوابه وعدم صحة الاستدلال به ، فراجع.

٧٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الثالث : حكم العرف بذلك بالنظر إلى الأخبار المتضمنة للنهي عن نقض اليقين بالشك ، حيث انه لا يصدق هذا النقض إلّا مع اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة من جميع الجهات إلّا من حيث القطع والشك ، لأن ثبوت المحمول للموضوع في الزمان الأول قطعي وفي الزمان الثاني مشكوك فيه ، فلو لم تكن القضية المشكوكة عين المتيقنة ولو باختلال وصف من أوصاف الموضوع لم يتحقق موضوع الاستصحاب ، لعدم إحراز الوحدة ، فمع الشك في الاتحاد لا يمكن التمسك بالأخبار ، للشك في موضوعها. وهذا الوجه هو الّذي اختاره المصنف وغيره كما تقدم في التوضيح.

ويظهر مما ذكرنا في اشتراط بقاء الموضوع اعتبار وحدة المحمول أيضا ، لتوقف وحدة القضيتين على ذلك كما هو واضح.

وأما الجهة الثالثة ـ وهي ما يحرز به الموضوع ـ فمحصلها : أن الميزان في إحرازه أحد أمور على سبيل منع الخلو :

أحدها : العقل ، بأن يقال : ان مقتضاه اتحاد القضيتين من جميع الجهات والاعتبارات التي يحتمل دخلها في الحكم سواء أكانت من الأمور الوجودية أم العدمية ، فلو اختل بعضها كان اختلاله موجبا للشك في بقاء الموضوع ومانعا عن إحراز وحدة القضيتين.

وعليه فلا يجري الاستصحاب في الشبهات الحكمية إلّا في الشك في الرافع ذاتا أو صفة. لكن يجري في الشبهات الموضوعية ، لأن الموضوع في استصحاب وجود الموضوعات وهو الماهية القابلة لكل من الوجود والعدم باق وغير زائل ، هذا.

وفيه أولا : أنه لا دليل على لزوم متابعة العقل هنا مع كون الخطابات ملقاة إلى العرف ، واقتضاء إلقائها إليهم مرجعيتهم في تشخيص مفاهيمها من ألفاظها ، فلو لم يكن فهمهم في هذا الباب حجة لكان اللازم التنبيه على ذلك والإرجاع إلى العقل ، ولم ينبه عليه ، فلا بد من متابعة العرف في تشخيص موضوع الاستصحاب من

٧٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أخباره كغيرها من الخطابات الشرعية.

نعم بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظن لا بد من إحراز الموضوع بالدقة العقلية ، إذ بدون إحرازه بجميع ما له دخل في الحكم لا يحصل الظن ولو نوعا بالحكم ، لامتناع حصوله مع الشك في الموضوع الّذي هو كالعلة للحكم ، حيث ان لازمه حصول الظن بالمعلول مع الشك في العلة كما لا يخفى.

وثانيا : أنه بناء على لزوم إحراز الموضوع بالدقة العقلية لا يبقى فرق بين الشك في المقتضي والشك في الرافع وجودا أو رفعا في عدم حجية الاستصحاب ، حيث ان لعدم الرافع أيضا دخلا في مناط الحكم وملاكه ، فلا بد من إحراز عدمه كلزوم إحراز أجزاء الموضوع وقيوده ، وهو خلاف ما التزم به القائلون بحجية الاستصحاب من اعتباره في الشك في وجود الرافع ورافعية الموجود ، فتأمل.

ثانيها : الرجوع إلى دليل الحكم الشرعي ، فالموضوع حينئذ هو ما حمل عليه الحكم في دليله ، وعليه فالموضوع في الحكم بالنجاسة في الماء المتغير بها هو ذات الماء إن كان لسان الدليل هكذا «الماء ينجس إذا تغير» والماء بوصف التغير إن كان لسان الدليل «الماء المتغير ينجس» ومقتضى هذا الوجه الجمود على ظاهر العنوان المأخوذ في الدليل ، ففي الفرض الأوّل إذا زال التغير بنفسه وكان للدليل إطلاق يشمل حالات الموضوع يتمسك به ولا يرجع معه إلى الاستصحاب ، وإلّا فهو المرجع. وفي الفرض الثاني يحكم بانتفاء الموضوع ، ولا يجري فيه الاستصحاب ، بل يرجع فيه إلى قاعدة الطهارة. ولازم هذا الوجه عدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان الدليل لبيا أو مجملا لفظيا من حيث الموضوع ، إذ لا سبيل إلى إحراز الموضوع حينئذ.

ثالثها : الرجوع إلى العرف في تشخيص الموضوع ، ففي كل مورد حكم فيه العرف بوحدة القضيتين وأن هذا كان كذا يجري فيه الاستصحاب مطلقا سواء علم بكون المشار إليه بالدقة العقلية أو بالنظر إلى دليل الحكم موضوعا أم لا ، إلّا مع

٧٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

قيام الدليل على خلاف ما يقتضيه الاستصحاب كما في بعض الموارد ، كالإنسان بعد الموت ، فان الموضوع للطهارة والنجاسة بنظر العرف واحد وهو البدن ، ولذا يقولون بأن طهارته ارتفعت بالموت ، وإن كان موضوع الطهارة بالدقة العقلية غير موضوع النجاسة ، لمغايرة الحي عقلا الّذي هو موضوع الطهارة للميت الّذي هو موضوع النجاسة.

وكذا بالنظر إلى الموضوع الدليلي ، فان موضوع الطهارة هو الإنسان الّذي لا يصدق على الميت ، لكونه جمادا. وأما العرف فهم يجعلون الموضوع أعم من الحي والميت ، ومقتضى الاستصحاب حينئذ هو طهارة الإنسان بعد الموت ، لكن الدليل قام على نجاسته بالموت.

وبالجملة : فالمدار في وحدة القضيتين هو العرف الارتكازي لا الموضوع العقلي أو الدليلي. هذا ما يستفاد من كلمات الأعلام.

أما عدم اعتبار الموضوع العقلي في المقام الراجع إلى استظهار المعاني من ألفاظ الخطابات الشرعية فواضح. وأما عدم اعتبار الموضوع الدليلي في مقابل الموضوع العرفي وجعل المدار في تشخيص وحدة القضيتين على الثاني دون الأول فغير ظاهر بعد بنائهم على اعتبار وحدة الموضوع في القضيتين ، حيث إن تحقق هذه الوحدة مع مغايرة الموضوع الدليلي للموضوع العرفي ممتنع ، إذ العنب الموضوع للحرمة حال الغليان في لسان الدليل غير ما هو أعم منه ومن الزبيب ولا يتحدان.

والوجوه المذكورة لدفع هذه الشبهة وإثبات وحدة القضيتين مع الالتزام بتغاير الموضوع الدليلي مع العرفي لا تخلو من الإشكال ، فان منها : ما أفاده المحقق الآشتياني (قده) في الشرح من قوله : «ان الوجه في اعتبار المسامحة العرفية في المقام هو : أنه بعد حكمهم باتحاد القضيتين يصدق النقض على ترك الالتزام بما كان محمولا في القضية الأوّلية المتيقنة قطعا ، كما أنه يصدق على الالتزام به أنه إبقاء للمتيقن السابق جزما ، فالمسامحة وإن وقعت منهم في جعل المعروض

٧٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الأعم من الواجد للوصف العنواني الّذي كان موضوعا في الأدلة الشرعية والفاقد له ، إلّا أن صدق النقض والبقاء على التقديرين حقيقي غير مبني على المسامحة.

والمفروض أن المتبع بناء على القول باعتبار الاستصحاب ليس إلّا صدق المفهومين بحكم العرف ، فانه المتبع في باب الألفاظ» (١).

ومحصل مرامه (قده) هو اعتبار المسامحة العرفية في المقام دون سائر المقامات كما صرح بذلك قبيل هذا ، ببيان : أن العرف يتسامح في جعل الموضوع أعم من الواجد للوصف المأخوذ في موضوع الحكم في لسان الدليل والفاقد له ، وبعد هذه المسامحة يكون صدق النقض والإبقاء حقيقيا.

إذ فيه أولا : أنه لا ملزم بالالتزام بهذه المسامحة بعد إمكان حمل الموضوع الأوّلي على هذا المعنى الأعم من أوّل الأمر حتى لا يلزم تسامح ومجاز أصلا.

وثانيا : أن هذه المسامحة لا توجب وحدة القضيتين وهما «العنب إذا غلى يحرم» و «الزبيب إذا غلى يحرم» بل توجب عدم الاعتناء بالموضوع الدليلي وهو «العنب إذا غلى يحرم» وكون الموضوع خصوص العرفي الارتكازي الّذي هو أعم من الموضوع الدليلي.

وعليه فالمراد من العنب مثلا بمقتضى مرتكزات العرف هو المعنى العام الشامل للزبيب ، والمفروض مرجعية العرف في هذه الخطابات ، فصدق النقض والإبقاء حقيقة برهان إنّي على كون العنب مثلا في الخطاب الأوّلي هو هذا المعنى العام.

والحاصل : أن النقض والإبقاء حقيقة منوطان بوحدة الموضوع في القضيتين ، فلا بد أن يضافا إلى موضوع الدليل ، لأنه موضوع القضية المتيقنة ، فيلاحظ النقض والإبقاء بالنسبة إلى ذلك الموضوع لا إلى غيره ، فالمناسبات الثابتة بين الموضوع والحكم الموجبة لسعة دائرة الموضوع أو ضيقها تلاحظ بالنسبة إلى موضوع

__________________

(١) بحر الفوائد ، ٣ ـ ١٧٤ و ١٧٥

٧٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الدليل ، لأن الاستصحاب يوجب بقاء ذلك واستمراره ، لا تعيينه وتشخيصه ، فان دليل الاستصحاب ناظر إلى ما ثبت بدليل الحكم ومتفرع عليه ، لأنه متكفل لبقاء ما علم به سابقا ، وليس في مقام تشخيص موضوع القضية المشكوكة وتعيينه حتى يقال بعدم قدح مسامحة العرف هنا ، لكونه من موارد الشك في الصدق دون الشك في المصداق ليكون من المسامحة العرفية غير المعتبرة في مقام تطبيق المفهوم المبين بجميع حدوده وقيوده على ما ليس مصداقا له حقيقة ، كتطبيق الكر على ما دونه بمثقال ، والمسافة على ما دونها بذراع مثلا ، وهكذا سائر المفاهيم المبينة.

فتحصل : أنه لم يظهر وجه للترديد بين الموضوع الدليلي والعرفي وجعلهما متقابلين ، بل الموضوع هو الدليلي فقط ، واستظهاره بحدوده وقيوده منوط بنظر العرف ، فالموضوع العرفي الارتكازي هو عين الموضوع العرفي الدليلي لا غيره حتى يتجه الترديد بينهما وجعلهما متقابلين ، فلاحظ وتأمل.

ومنها : ما عن المحقق النائيني في مقام دفع الإشكال عما أفاده الشيخ الأعظم من الترديد في أخذ الموضوع بين العقل والعرف والدليل. أما الإشكال فيقرر تارة بأن الرجوع إلى العقل إنما بتقسيم في المستقلات العقلية دون الموضوعات الشرعية التي ليس للعقل إلى ملاكاتها سبيل.

وأخرى : بأنه لا وجه للمقابلة بين ما أخذ في الدليل موضوعا وبين ما يراه العرف موضوعا ، إذ العرف ليس مشرعا لموضوع في مقابل موضوع الدليل. وإن أريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في معرفة معنى موضوع الدليل فهو صحيح ، إلّا أنه لا يختص بالمقام ، بل تشخيص معنى اللفظ ومفهومه إنما يرجع فيه إلى العرف مطلقا ، فلا معنى لجعل الموضوع العرفي مقابلا لموضوع الدليل في خصوص باب الاستصحاب.

وإن أريد من الموضوع العرفي ما يتسامح فيه العرف ويراه من مصاديق موضوع الدليل مع أنه ليس منها حقيقة فقد عرفت أنه لا عبرة بالمسامحات العرفية.

٧٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وأما دفع الإشكال فهو : أن الترديد بين العقل والعرف والدليل إنما يكون بلحاظ بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، لا بلحاظ مقام تعيين أصل الموضوع حتى يقال : ان تعيين الموضوع إنما يكون بيد الشرع وليس للعقل والعرف إلى ذلك سبيل ، فان ذلك مما لا ينبغي توهمه في المقام ، بل المقصود هو أنه هل يعتبر في اتحاد القضيتين أن يكون المشكوك فيه عين المتيقن عقلا مطلقا؟ أو أنه يكفي في الاتحاد العينية العرفية مطلقا ، أو أنه لا هذا ولا ذاك ، بل تختلف الموارد حسب اختلاف ما يقتضيه ظاهر الدليل (١).

أقول : الظاهر أنه لا يتوهم أحد كون العرف مشرّعا لموضوع في قبال الشارع ، إذ تحديد موضوع كل حكم بيد الحاكم لا كلّ أحد. وأما الترديد بين العقل وأخويه فجعل مورده بقاء الموضوع لا تعيينه غير ظاهر ، إذ لو أريد بقاؤه مع الغض عن تعيينه حدوثا أي ما أخذ موضوعا في دليل الحكم فلا معنى له ، إذ البقاء وجود استمراري لموضوع القضية المتيقنة ، وليس مغايرا له ، وإلّا كان أجنبيا عن الاستصحاب ، إذ لا فرق بين القضية المتيقنة والمشكوكة إلّا في الإدراك الّذي هو في المتيقنة جزمي وفي المشكوكة شكي. وعليه فلا بد أن يكون مورد الترديد تعيين موضوع الدليل الّذي هو موضوع القضية المتيقنة ، فان البحث عن البقاء مع إجمال الموضوع لغو.

وإن أريد بقاؤه مع لحاظ الحدوث كما هو كذلك في الاستصحاب فلا بد أن يكون موضوع المشكوكة عين موضوع الدليل ، لأنه موضوع المتيقنة دون غيره ، فان العنب المغلي مثلا الّذي هو موضوع الحرمة في الدليل وفي القضية المتيقنة غير الزبيب المغلي الّذي هو موضوع القضية المشكوكة. واتحاد الموضوع في هاتين القضيتين منوط بتوسعة دائرة موضوع الدليل حتى يعم الزبيب ، وإلّا فلا يعقل الاتحاد والعينية في موضوع القضيتين مع تغاير موضوع المتيقنة الّذي هو

__________________

(١) فوائد الأصول ، ٤ ـ ٢١٣

٧٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

موضوع الدليل مع موضوع القضية المشكوكة ولو كان التغاير بالأعمية والأخصية كما لا يخفى.

وعليه فلا بد في تعيين موضوع الدليل من مراعاة المرتكزات العرفية والمناسبات الموجودة بين الحكم والموضوع الدخيلة في استظهار المعاني من الخطابات الشرعية.

والحاصل : أنه لا مورد للموضوع العرفي الارتكازي في قبال الموضوع الدليلي حتى يقع الترديد بينهما ، بل الموضوع الدليلي هو عين الموضوع العرفي الارتكازي ، إذ الدلالة التصديقية الكاشفة عن مراد المتكلم في الجمل التركيبية منوطة بمراعاة جميع ما له دخل في تشخيص الموضوع الدليلي من الأمور الارتكازية سواء أكانت من قبيل القرائن المتصلة أم المنفصلة ، ولا وجه لملاحظتها في غير دليل الحكم ، إذ يضاف البقاء إلى ما يستفاد من دليل الحكم لا إلى غيره ، لتوقف صدق النقض والإبقاء على لحاظ ما أخذ موضوعا في لسان دليل الحكم ، فالتوسعة والتضييق بحسب النّظر العرفي يلاحظان في موضوع الدليل لا في غيره.

وبالجملة : فإشكال الترديد بين الموضوع الدليلي والعرفي لا يندفع ظاهرا بما نسب إلى المحقق النائيني ، ولا بد من مزيد التأمل فيما أفاده أعلى الله مقامه.

ومنها : ما تعرض له المصنف (قده) في المتن وحاشيته على الرسائل وأوضحناه بقولنا : «هذا ما أفاده المصنف في حاشيته من الفرق بين الموضوع العرفي والدليلي بعد سؤال الفرق بينهما بقوله قلت» لكنه لا يجدي أيضا ، لأن دليل الحكم لا يكون دليلا فعليا إلّا بعد تحقق دلالته التصديقية المتوقفة على لحاظ جميع القرائن والمناسبات فيه ، لدخلها في تحديد الموضوع الدليلي سواء أكانت تلك القرائن والمرتكزات العرفية من قبيل القرينة المتصلة بالكلام المانعة عن انعقاد الظهور ، أم من قبيل القرينة المنفصلة المانعة عن حجيته دون أصله ، ولا نتصور شيئا آخر يسمى بالموضوع العرفي.

٧٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ففي مثل «الماء المتغير نجس» وإن كان ظاهره بدوا موضوعية الماء المتصف بالتغير للنجاسة ، لكن العرف بمقتضى ما ارتكز عنده من المناسبات يرى أن موضوعها ذات الماء ، وأن التغير واسطة لعروض النجاسة عليه. وكذا «الكلب نجس» فان ظاهره بمقتضى اللغة أو غيرها وإن كان موضوعية الكلب الحي للنجاسة ، لكن العرف بنظره الثانوي يرى أن موضوعها جسمه المعروض للموت والحياة. وكذا نظائر هذين الموردين.

والحاصل : أن كل ما له دخل في تحديد الموضوع الدليلي من مرتكزات العرف لا بد من لحاظه ، لتوقف دليلية الخطاب وحجيته حتى يصح الاستناد إليه والاستدلال به على لحاظه ، ومعه لا يتصور موضوع عرفي في مقابل الموضوع الدليلي حتى يقع الترديد بينهما ، بل الموضوع واحد وهو الدليلي ، وإن شئت فسمّه بالعرفي أيضا ، لكون مستظهره من الدليل هو العرف ، ولا مشاحة في الاصطلاح.

نعم يمكن توجيه الترديد بين الموضوعين بوجه آخر وإن كان بعيدا بل فاسدا ، وهو أن يقال : ان المراد بالموضوع الدليلي معناه الإفرادي الثابت له بالعرف الخاصّ من اللغة أو غيرها ، وهو المدلول عليه بالدلالة التصورية من دون لحاظ المعنى الجملي الّذي هو مركب الدلالة التصديقية ، والمراد بالموضوع العرفي هو المعنى الجملي التصديقي الّذي يصح إسناده إلى المتكلم ، بأن يقال : انه قال كذا ، فحينئذ يكون كل من الموضوعين مغايرا للآخر ، ويتجه الترديد بينهما.

لكن هذا التوجيه غير وجيه ، إذ مرجعه إلى الترديد بين العرف الخاصّ والعرف العام ، ومن الواضح تقدم الثاني على الأول بلا ترديد.

وببيان آخر : ليس المدار في استظهار مرادات المتكلمين على المعاني الإفرادية ، بل على المعاني الجملية المنوطة بمراعاة القرائن والمناسبات الارتكازية ، ومن المعلوم أنه لا بد أن يكون الترديد بين موضوعين فعليين ، لا موضوع فعلي وموضوع شأني كالمقام ، لتوقف الحكم على فعلية موضوعه.

٧٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وبالجملة : فلم يظهر وجه صحيح للترديد المزبور ، فالمتعين بلا إشكال وترديد الأخذ بالموضوع العرفي الّذي هو عين الموضوع الدليلي.

نعم الإشكال كله في جريان الاستصحاب في الشك في الحكم الشرعي إذا كان منشأ الشك انتفاء بعض خصوصيات الموضوع أو وجود ما كان فاقدا له ، حيث ان العرف حينئذ إما جازم ببقاء الموضوع أو ارتفاعه وإما شاك في بقائه ، وعلى التقادير الثلاثة لا مجال للاستصحاب ، للعلم ببقاء الموضوع في الأول ، وارتفاعه في الثاني ، والشك في بقائه في الثالث ، ومن المعلوم أن الشك في بقائه كالعلم بعدمه في عدم جريان الاستصحاب ، فينحصر جريانه في موردين :

أحدهما : الشك في النسخ ، لأن الشك في الحكم مع بقاء موضوعه بتمام خصوصياته لا يتصور إلّا في الشك في النسخ. لكنه لا حاجة حينئذ إلى الاستصحاب لوجود الدليل على بقاء الحكم وهو إطلاقه الأحوالي والأزماني إن كان ، وإلّا فهو ما دل على استمرار الحلال والحرام إلى يوم القيامة.

ثانيهما : الشك في وجود الرافع ورافعية الموجود.

لا يقال : كما في حاشية المحقق الآشتياني (قده) انه يمكن منع جريان الاستصحاب فيه أيضا ، لكون عدم الرافع قيدا للموضوع ، حيث ان وجوده رافع للموضوع ، فإذا كانت الطهارة مقيدة بعدم النوم ونحوه من النواقض ، فلا بد من إحراز هذا القيد العدمي حتى يحرز بقاء الموضوع ، إذ بدونه يشك في بقائه ، فلا يجري فيه الاستصحاب.

فانه يقال : بامتناع التقييد بعدم الرافع ، لأن التقييد فرع إمكان الإطلاق ، ومن المعلوم استحالته هنا ، إذ الطهارة والحدث ضدان ، وليس عدم أحدهما مقدمة لوجود الآخر كما ثبت في محله ، وإطلاق الطهارة معناه وجودها مطلقا ولو مع الحدث ، وهو مستحيل ، لاستحالة اجتماع الضدين ، واستحالة الإطلاق

٧٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

توجب امتناع التقييد بناء على كون تقابل الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة.

وبعبارة أخرى : الرافع والمرفوع لا يجتمعان حتى يمكن التقييد.

وبالجملة : فاعتبار الاستصحاب يكون في موردين ، أحدهما : كون الشك في الرافع وجودا ورفعا ، والآخر كون الشك في كيفية علية العنوان كالتغير ، وأنه علة لنجاسة الماء حدوثا وبقاء ، فيرتفع الحكم بارتفاعه ، أو حدوثا فقط ، فلا يرتفع بارتفاعه بل هو باق. فلا يجري في النسخ ، ولا في اختلال حال من حالات الموضوع ، لما مر آنفا من أن الموضوع حينئذ إن كان باقيا بنظر العرف فنفس دليل الحكم محكّم ، وإن لم يكن باقيا فلا يجري الاستصحاب ، لانتفاء الموضوع.

وكذا الحال فيما إذا شك العرف في بقاء الموضوع. وهذا الإشكال أي الشك في بقاء الموضوع هو العمدة في وجه عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية لا معارضة الاستصحاب الوجوديّ مع العدمي فيها كما ذهب إليه بعض الأجلة على ما تقدم في التنبيه الرابع.

ولا يخفى أن ما ذكرناه من انحصار مجرى الاستصحاب بالموردين المذكورين لا ينافي ما تقدم في أولى صحاح زرارة من حجيته في الشك في المقتضي أيضا ، لأن المانع عن جريانه في المقام هو عدم إحراز الموضوع بتبدل حال من حالاته ، لرجوع الشك فيه إلى عدم إحراز بقاء الموضوع لعدم إحراز مقتضية ، بخلاف الشك في المقتضي ، فان الموضوع محرز ، وإنما يشك في بقائه في عمود الزمان لعدم العلم بمدة عمره.

وبعبارة أخرى : منشأ الشك في المقتضي هو الشك في مقدار عمر المستصحب وبقائه في عمود الزمان ، ومنشأ الشك في المقام الشك في بقاء نفس الموضوع ، للشك في دخل أمر زماني فيه يوجب عدم إحراز وحدته في القضيتين ، فتفطن كيلا يلتبس عليك الأمر.

هذا تمام الكلام في المقام الأول. وأما المقام الثاني فسيأتي.

٧٥٨

المقام الثاني (١) : أنه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة في مورده (٢) ، وإنما الكلام في أنه (٣) للورود أو الحكومة (٤) أو التوفيق (٥) بين دليل اعتبارها وخطابه.

______________________________________________________

(المقام الثاني : تقدم الأمارة على الاستصحاب بالورود)

(١) الغرض من بيان هذا المقام هو التعرض لوجه تقدم الأمارة المعتبرة غير العلمية على الاستصحاب بعد أن نفي الشبهة عن تقدمها عليه ، ولكنه لا بد من حمل نفى الشبهة على كون الاستصحاب أصلا عمليا ، وأما بناء على أماريته فمقتضى القاعدة تعارضهما وتساقطهما لا تقدم الأمارة عليه ، فما يتراءى في كلمات بعض من معاملة التعارض مع الأمارة والاستصحاب مبني على كونه من الأمارات لا من الأصول العملية.

(٢) أي : في مورد الاستصحاب ، كما إذا كان الثوب مثلا متنجسا وشكّ في طهارته ، وشهدت بينة بطهارته ، فانه تقدم شهادة هذه البينة على استصحاب نجاسته ويحكم بطهارته.

(٣) أي : في أن عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة وتقديمها عليه هل هو للورود أم غيره؟ والورود عبارة عن خروج شيء عن دائرة موضوع دليل حقيقة بعناية التعبد ، في مقابل التخصص الّذي هو الخروج الموضوعي أيضا ، لكن لا بالتعبد بل بالتكوين ، كخروج الجاهل عن موضوع «أكرم العلماء».

(٤) وهي بنحو الإجمال خروج شيء عن موضوع دليل بالتعبد وبإثباته للمؤدى ، كخروج وجوب السورة مثلا في الصلاة عن موضوع دليل البراءة الشرعية بقيام أمارة معتبرة غير علمية على وجوبها ، فان هذه الأمارة بإثباتها لوجوب السورة تقدم على أصل البراءة حكومة. وقد تقدم تفصيل الحكومة وأخواتها في رسالة قاعدة نفى الضرر ، فراجع.

(٥) للتوفيق العرفي إطلاقان :

٧٥٩

والتحقيق أنه (١) للورود ، فان (٢) رفع اليد عن اليقين السابق بسبب

______________________________________________________

أحدهما : نحو خاص من الجمع العرفي بين الدليلين المتعارضين بالنظر البدوي ، وهو في قبال سائر أنحاء الجمع بينهما كالورود والحكومة والتخصيص.

وثانيهما : معنى عام لمطلق الجمع الدلالي بين المتعارضين ، فيندرج فيه الورود ، والحكومة ، والتخصيص ، وحمل الظاهر على النصّ أو الأظهر ، وحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي والآخر على الفعلي. والمقصود من التوفيق العرفي في آخر هذا البحث هو المعنى الثاني ، كما أن المراد به في المقام بقرينة مقابلته للورود والحكومة هو الأول ، فهو عبارة عن حمل أحد الدليلين المعروضين على العرف على الحكم الاقتضائي والآخر على الفعلي ، كالجمع بين دليلي وجوب الوضوء ونفي الضرر بحمل الأوّل على الاقتضائي والآخر على الفعلي ، أي نفى الوجوب فعلا لأجل الضرر. وتقريبه في المقام أن يقال : ان البناء على الحالة السابقة المتيقنة ثابت لو لا اعتبار الأمارة شرعا القائمة على خلافها ، فالحكم الاستصحابي اقتضائي ، والحكم الثابت بالأمارة فعلي. وضمير «اعتبارها» راجع إلى الأمارة وضمير «خطابه» إلى الاستصحاب.

(١) أي : أن عدم جريان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة يكون للورود ، هذا ما اختاره المصنف هنا وفي تعليقته على استصحاب الرسائل ، لكنه عدل في ما علّقه على بحث البراءة من الرسائل إلى الحكومة ، وجعل مورد الورود خصوص الدليل العلمي على الأصل العملي ، حيث قال في جملة كلامه : «وإما حاكم عليه برفع موضوعه حكما كما هو الحال في الدليل غير العلمي بالنسبة إلى كل أصل كان مدركه النقل» (١).

(٢) تعليل لقوله : «والتحقيق» وبيان له. ويمكن تقريب الورود بوجهين :

الأول : ما أفاده في حاشية الرسائل من اقتضاء الأمارة لليقين الرافع للشك حقيقة ، وتوضيحه : أن موضوع أدلة الاستصحاب هو «نقض اليقين بالشك» لتعلق النهي المدلول عليه بـ «لا» بـ «تنقض» وليس الموضوع نفس «الشك» حتى

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١١٢

٧٦٠