منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

لما مر (١) آنفا ، فلا بد من الرجوع إلى سائر الأصول.

وإن كان (٢) مفاد هما على العكس (٣) كان (٤) المرجع هو العام ، للاقتصار (٥) في تخصيصه بمقدار دلالة الخاصّ ،

______________________________________________________

(١) في القسم الأول ، حيث قال : «لعدم دلالة للعام على حكمه ، لعدم دخوله على حدة في موضوعه ، وانقطاع الاستمرار بالخاص».

(٢) معطوف على «فان كان» وهو إشارة إلى القسم الرابع أعني ما إذا كان الزمان مفرّدا للعام وظرفا للخاص ، والمرجع حينئذ في غير مورد دلالة الخاصّ هو العام ، إذ المفروض أن ما بعد زمان الخاصّ فرد أيضا من أفراد العام ، ويشك في تخصيصه زائدا على التخصيص المعلوم ، وقد قرر في محله مرجعية العام في الشك في التخصيص الزائد كمرجعيته في الشك في أصل التخصيص ، ومع دلالة العام على حكم غير مورد دلالة الخاصّ لا مجال لاستصحاب حكم الخاصّ أصلا ، لعدم جريان الأصل مع الدليل.

(٣) وهو مفردية الزمان في العام وظرفيته للخاص.

(٤) جواب «وان كان» وضمير «مفادهما» راجع إلى العام والخاصّ.

(٥) تعليل لمرجعية العام في هذه الصورة ، وحاصله : الاقتصار في تخصيص العام على القدر المتيقن ، وهو مقدار دلالة الخاصّ ، ففي غيره يرجع إلى العام ، لكونه شكا في التخصيص الزائد ، وضمير «تخصيصه» راجع إلى العام.

__________________

العام والخاصّ أيضا على مورد الشك كان الأولى بيان وجه عدم دلالتهما عليه أوّلا ثم التعرض لوجه عدم جريان استصحاب حكم الخاصّ ثانيا ، فلو قيل هكذا : «وان لم يكن هناك دلالة أصلا لا للعام ولا للخاص حتى يرجع إليهما ، إذ في العام ما مر آنفا ، وفي الخاصّ كون غير مورد دلالته موضوعا آخر ، إلّا أن انسحاب حكم الخاصّ إلى غير مورد دلالته قياس ، لأنه تسرية حكم موضوع إلى آخر ، لا استصحاب حكم لموضوع ، فلا بد من الرجوع إلى سائر الأصول» كان أوفق بالميزان الطبيعي لبيان المطلب.

٧٠١

ولكنه (١) لو لا دلالته لكان الاستصحاب مرجعا ، لما (٢) عرفت من أن الحكم في طرف الخاصّ قد أخذ على نحو (٣) صحّ استصحابه ، فتأمل تعرف أن إطلاق كلام شيخنا العلامة أعلى الله مقامه في المقام نفيا (٤)

______________________________________________________

(١) الضمير للشأن ، يعني : ولكن لو لا دلالة العام على حكم ما بعد زمان الخاصّ لكان استصحاب حكم الخاصّ مرجعا في هذه الصورة ، إذ المفروض ظرفية الزمان له المستلزمة لوحدة الموضوع في مورد دلالة الخاصّ وغيره الموجبة لعدم كون الاستصحاب فيه تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر حتى يكون قياسا لا استصحابا ، ولذا يرجع إليه إذا ابتلي العام بمانع ، كما إذا كان له معارض أو علم إجمالا بتخصيصه بين مورد الشك وغيره ، وغير ذلك مما يوجب سقوط أصالة العموم عن الحجية ، كما إذا ورد «أكرم العلماء كل يوم» وخصصه بقوله : «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» وكان المنهي عنه أصل الإكرام لا خصوصية وقوعه في يوم الجمعة حتى يكون الزمان قيدا له ، ثم قال : «لا يجب إكرام العلماء» فيسقط العامان بالتعارض ويستصحب حكم الخاصّ أعني الحرمة.

(٢) تعليل لاستصحاب حكم الخاصّ ، وحاصله كما مر آنفا : أن مقتضى ظرفية الزمان في الخاصّ صحة استصحاب حكمه في غير مورد دلالته ، لوحدة الموضوع في زماني الخاصّ وما بعده ، لكن العام مانع عن جريانه ، لدلالته على حكم ما بعد زمان الخاصّ.

(٣) المراد بهذا النحو هو ظرفية الزمان للخاص لا قيديته له ، إذ مع الظرفية لا تنثلم وحدة الموضوع ، فيصح الاستصحاب فيما بعد زمان الخاصّ. ومع القيدية تنثلم وحدته ويتعدد الموضوع ، ومع تعدده لا يجري الاستصحاب ، وضمير «استصحابه» راجع إلى الحكم.

(٤) قال شيخنا الأعظم : «الحق هو التفصيل في المقام بأن يقال : إن أخذ فيه عموم الأزمان أفراديا بأن أخذ كل زمان موضوعا مستقلا لحكم مستقل لينحل

٧٠٢

وإثباتا (١) في غير محله (*).

______________________________________________________

العموم إلى أحكام متعددة بتعدد الأزمان كقوله : أكرم العلماء كل يوم ، فقام الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم يوم الجمعة ، ومثله ما لو قال : أكرم العلماء ، ثم قال : لا تكرم زيدا يوم الجمعة ، إذا فرض أن الاستثناء قرينة على أخذ كل زمان فردا مستقلا ، فحينئذ يعمل عند الشك بالعموم ولا يجري الاستصحاب. وإن أخذ لبيان الاستمرار كقوله : أكرم العلماء دائما ، ثم خرج فرد في زمان ، وشك في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزمان ، فالظاهر جريان الاستصحاب ، إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم ، لأن مورد التخصيص الأفراد دون الأزمنة ، بخلاف القسم الأول».

ومحصل كلامه في طرف النفي هو : أنه في صورة ظرفية الزمان للعام لا يرجع إلى العام في صورة الشك ، ومقتضى إطلاق حكمه بعدم مرجعية العام هو عدم الفرق بين كون الزمان مأخوذا في الخاصّ ظرفا كالعام ، وكونه قيدا. كما أن مقتضى إطلاقه عدم الفرق أيضا بين كون الخاصّ مخصصا من الابتداء كخياري المجلس والحيوان ، ومن الأثناء كالخيارات الحادثة بعد العقد. وقد عرفت أن المصنف اعترف بالإطلاق الأول وأنكر الإطلاق الثاني ، وادعى صحة الرجوع إلى العام إذا كان التخصيص من الأوّل ، وعدم صحته إذا كان التخصيص في الأثناء مع كون الزمان ظرفا ، فعدم صحة الرجوع إلى العام مع ظرفية الزمان مختص بالتخصيص في الأثناء. هذا في إطلاق كلامه في طرف النفي.

(١) محصل كلام الشيخ (قده) في طرف الإثبات هو : أن إطلاق الرجوع إلى استصحاب حكم الخاصّ فيما إذا كان الزمان ظرفا للعام يشمل ما إذا أخذ الزمان مفرّدا للخاص وإن كان ظرفا في العام. وهذا الإطلاق أيضا في غير محله ، لما عرفت من أن مفردية الزمان توجب تعدد الموضوع في زمان الخاصّ وما بعده ، ومع هذا التعدد يخرج انسحاب حكم الخاصّ إلى غير زمانه عن الاستصحاب

__________________

(*) لا يخفى أن في تقريرات سيدنا الفقيه صاحب الوسيلة قدس‌سره توجيه

٧٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى القياس ، فإطلاق كلامه في إثبات استصحاب حكم الخاصّ في غير محله ، بل لا بد من تقييده بما إذا أخذ الزمان ظرفا فيه لا قيدا ومفردا له ، وإلّا فلا يجري فيه الاستصحاب ، بل يرجع فيه إلى سائر الأصول العملية.

فالمتحصل : أن إطلاق كلامه (قده) في نفي مرجعية العام مخدوش ، لأنه مرجع فيما إذا كان التخصيص من الابتداء أو في الانتهاء. وكذا إطلاق كلامه في إثبات مرجعية الاستصحاب ، لما عرفت من تقييد مرجعيته بما إذا كان الزمان ظرفا في الخاصّ ، وأما إذا كان قيدا له وان كان ظرفا للعام فلا مجال لاستصحابه ، بل يرجع إلى سائر الأصول.

ولا يخفى أن تفصيل المصنف في طرف الخاصّ بين ظرفية الزمان وقيديته قد تعرض له بعض أعلام تلامذة الشيخ أيضا ، فراجع شرح الميرزا الآشتياني والشيخ التبريزي صاحب الأوثق ، فانهما ذكرا الأقسام الأربعة المذكورة في المتن قدس الله تعالى أسرارهم وشكر مساعيهم وجزاهم عن العلم وأهله خير الجزاء ، ووفقنا لاقتفاء آثارهم.

__________________

تقسيم الشيخ العام والخاصّ باعتبار الزمان إلى قسمين ـ لا إلى أقسام أربعة كما صنعه المصنف ـ بالملازمة بين اعتباري أخذ الزمان في العموم مع اعتباري أخذه في الخاصّ أيضا ، فإذا كان قيدا في العام كان قيدا في الخاصّ أيضا ، وكذلك إذا كان ظرفا في العام (١).

أقول : إن كان الأمر كذلك كان ما أفاده الشيخ صوابا ، لأنه مع قيدية الزمان لا محيص عن التشبث بالعامّ ، لكون الشك حينئذ في التخصيص الزائد ، والمفروض أن الزمان في الخاصّ قيد أيضا ، ولا وجه معه للتمسك بالاستصحاب ، لتعدد الموضوع. ومع ظرفية الزمان لا بد من التمسك بالاستصحاب ، لأنه في الخاصّ أيضا ظرف ، ووحدة الموضوع محفوظة فيه ، فلا محيص عن جريان الاستصحاب.

__________________

(١) منتهى الوصول ، ص ١٨٧

٧٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وعلى ما أفاده سيدنا الأجل المتقدم رفع في الخلد مقامه يكون النزاع بين الشيخ والمصنف صغرويا لا كبرويا ، لأن المسلّم عند الكل عدم الرجوع إلى الاستصحاب مع تعدد الموضوع ، والمفروض أن الزمان إذا كان قيدا للخاص فلا محالة يتعدد به الموضوع سواء أكان الزمان حينئذ ظرفا للعام أم قيدا له ، غاية الأمر أنه إذا كان قيدا له يرجع إلى العام ، لأن مرجع الشك حينئذ إلى الشك في التخصيص الزائد ، وإذا كان ظرفا له لا يرجع إلى شيء من العام والخاصّ ، بل إلى استصحاب حكم الخاصّ ، هذا.

ولكن لم نظفر في كلام الشيخ بما يدل على الملازمة التي احتملها ، وهو (قده) أعلم بما قال ، وذلك توجيه وجيه رافع للنزاع حقيقة ، إذ النزاع الصغروي لا يعد نزاعا.

ويحتمل أن يكون نظر الشيخ (قده) إلى حال العام فقط من حيث جواز التمسك به وعدمه ، وأن جواز التمسك به إنما هو فيما إذا كان الزمان قيدا له ، وأما إذا كان ظرفا له فلا يصح التمسك به وإن كان قيدا في الخاصّ ، فملاك جواز التشبث بالعامّ هو لحاظ قيدية الزمان فيه سواء أكان كذلك في الخاصّ أيضا أم كان ظرفا فيه ، وهذا لا ينافى عدم جواز التمسك بالعامّ لأجل المعارضة إذا كان الزمان ظرفا له. وأن كلامه ليس مسوقا لبيان حكم الخاصّ. ويمكن الذب عن كلام الشيخ في صورة قيدية الزمان بأنه (قده) مثّل للخاص بقوله : «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» ومع تقيد حرمة الإكرام بهذا الزمان لا معنى لاستصحاب حكمه ، لتعدد الموضوع ، وقد جزم الشيخ والمصنف بعدم جريان الاستصحاب في الفعل المقيد بالزمان ، لانتفاء الموضوع بعد انقضائه على ما تقدم في التنبيه الرابع.

وعليه فما أورده المصنف على الشيخ من لزوم التفصيل في طرف الخاصّ بين ظرفية الزمان وقيديته قد تفطن له الشيخ أيضا ، فلا يبقى مجال للإيراد عليه نعم لا بأس بتفصيل المصنف بين التخصيص في الأثناء وغيره.

٧٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وكيف كان فتوضيح المقام منوط ببيان أمرين :

الأول : أن الزمان في دليل العام إما أن يكون قيدا للحكم أو موضوعه وإما أن يكون ظرفا لهما ، وفي كل منهما يتصور على نحوين. أما على القيدية فلأنه قد يلاحظ مجموع آنات الزمان على وجه الارتباط قيدا واحدا نظير العام المجموعي بحيث لو خلا آن واحد عن وجود الموضوع أو الحكم لارتفع من أصله كما هو أحد الاحتمالين في الصوم من أنه الإمساك المتقيد بكونه في مجموع النهار من حيث المجموع ، لانتفاء المأمور به بعصيانه بخلوّ آن من آنات النهار عن الإمساك تعمدا.

وقد يلاحظ كل قطعة من الزمان المأخوذ في الدليل قيدا مستقلا بنحو يتكثر الموضوع أو الحكم بعدد القطعات المأخوذة في الدليل إجمالا ، ويتفرع عليه صيرورة الموضوع الوحدانيّ موضوعات متعددة ويتبعها أحكام متعددة ، فان انقسام العام إلى المجموعي والأصولي كما يجري في العموم الأفرادي كذلك يجري في العموم الأزماني ، غير أن الارتباط والاستقلال يلاحظان في العموم الأفرادي بالنسبة إلى الأفراد العرضية ، وفي العموم الأزماني بالنسبة إلى أجزاء الزمان الطولية.

وأما على الظرفية فتارة يكون مفاد العام إثبات حكم شخصي مستمر لكل فرد من أفراد موضوعه المستمر على نحو غير قابل للتكثر ولو تحليلا بحيث لو انقطع حكم هذا الشخص لم يكن الخطاب العام متكفلا لشخص هذا الفرد ، كما إذا قال : «أكرم العلماء دائما» بنحو كان أخذ الزمان لمحض الإشارة إلى استمرار الحكم لا لدخله بتمامه أو بقطعاته في الحكم أو الموضوع حتى يكون قيدا كما كان في القسم الأول ، ثم قال : «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» حيث لا يتكفل ذلك العموم الأفرادي لحكم إكرامه بعد يوم الجمعة.

وأخرى يكون مفاده إثبات حكم سنخي لطبيعة الموضوع القابل للانطباق على كل فرد من أفراده على وجه الإطلاق بالنسبة إلى الحالات والأزمان.

٧٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وهذا القسم وإن اتحد حكما مع ما إذا كان الزمان مكثّرا للموضوع ، لتعدد الإطاعة والعصيان في كل منهما ، إلّا أنهما يختلفان من جهة كيفية لحاظ الشارع ، فان جعل كل قطعة من الزمان قيدا للعام لقيام مقدار من المصلحة به كما هو الحال في الموقتات انحل العام بحسب الأزمان كانحلاله بحسب الأفراد ، لكونه حينئذ عاما استغراقيا.

وإن جعل الزمان ظرفا له كان متعلق الحكم هو الطبيعة السارية ووجودها السّعي ، فلا انحلال بحسب الأفراد ، وإنما يلاحظ الامتثال والعصيان بالإضافة إلى نفس الطبيعة. قال المصنف في الحاشية : «انه لا ينافي استمرار حكمه على وحدته تعدد إطاعته ومعصيته ، بل هو قضية استمراره» (١).

ويترتب على الحكم الشخصي والسنخي في صورة ظرفية الزمان جواز التمسك بالعامّ مطلقا إذا خصص في الأثناء أو في الابتداء في القسم الثاني كما سيأتي.

وما تقدم من كيفية أخذ الزمان في الحكم أو الموضوع راجع إلى مقام الثبوت. وأما مقام الإثبات فاستفادة كل واحد من الظرفية والقيدية منوطة بدلالة الدليل سواء أكان قرينة متصلة بالعامّ أم دليلا خارجيا ، وسواء أكان الخطاب أمرا أم نهيا ، وسواء كان مصب العموم الزماني متعلق الحكم كقوله : «يجب إكرام العلماء في كل زمان أو مستمرا» وبين أن يكون مصبه نفس الحكم من الوجوب أو الحرمة كقوله : «يجب مستمرا إكرام كل عالم» أو «أن إكرام العلماء واجب بوجوب مستمر» ونحو ذلك. ويمكن بيان الاستمرار بدليل منفصل فيقول : «أكرم العلماء» ثم يقول هذا المطلوب مستمر إلى الأبد.

ومثال ظرفية الزمان للحكم الواحد بالنوع وجوب الوفاء بالعقود المبحوث عنه في هذا التنبيه ، وذلك لانحلاله بعمومه الأفرادي إلى كل عقد صادر من كل مكلف له أهلية المعاملة ، وبعمومه الأزماني إلى وجوب الوفاء بكل عقد من أول حدوثه

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٢٥

٧٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إلى الأبد. وليس هذا الوجوب واحدا شخصيا ، بل هو حكم واحد مستمر لموضوعه أعني الوفاء الملحوظ على نحو الطبيعة السارية بمعنى عدم لحاظ خصوصية كل وفاء في كل آن ، بل بلحاظ سريان الوفاء الواحد في جميع الأزمنة.

ويدل على وحدته الطبيعية دون الشخصية أن البائع لو وفى بعقده في زمان ولم يف به في زمان آخر كان مطيعا تارة وعاصيا أخرى ، ومن الواضح أن وجوب الوفاء لو كان واحدا شخصيا لكانت إطاعته باستمرار الوفاء بالبيع في الزمان المستمر بحيث يكون انقطاع الوفاء في بعض الأزمنة موجبا لسقوط الأمر بالوفاء رأسا ، مع أنه لا ريب في وجوب الوفاء بالبيع في الآنات المتأخرة.

وليس وجوب الوفاء في كل آن لأجل قيام مقدار من مصلحة الوفاء بنفس قطعات الزمان حتى يندرج في ما إذا كان الزمان قيدا مكثرا للموضوع أو الحكم ، وذلك لتوقف القيدية على إحراز دخل نفس الزمان في الحكم أو موضوعه ، ومن المعلوم أن الزمان ليس مقوما لمصلحة الوفاء. مضافا إلى : أن الأصل في الزمان هو الظرفية لا القيدية كما تقدم في التنبيه الرابع.

هذا ما يتعلق بالأمر الأول ، الّذي أشرنا فيه إلى كيفية أخذ الزمان في العموم ثبوتا وإثباتا. ولا يخفى أن للمحقق النائيني (قده) تفصيلا آخر في مقام الإثبات والاستظهار من الدليل ، وهو الفرق بين كون مصب العموم الزماني متعلق الحكم ونفسه ، فحكم بالرجوع إلى عموم العام في الأول ، وباستصحاب حكم المخصص في الثاني ، وحمل عليه كلام الشيخ الأعظم (١). لكنه مع كونه خلاف ظاهر كلام الشيخ (قده) لا يخلو في نفسه من المناقشة التي تعرض لها المحققان العراقي والأصفهاني ، فراجع (٢).

الأمر الثاني : أن التخصيص متوقف على عدم كون الحكم واحدا شخصيا كما إذا قال : «أكرم زيدا العالم مرة واحدة» فانه لا معنى لتخصيصه لبساطته ،

__________________

(١) فوائد الأصول ، ٤ ـ ١٩٧ إلى ٢٠٠

(٢) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٢٢٨ نهاية الدراية ، ٣ ـ ١١٨ و ١١٩

٧٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فلو ورد خطاب آخر كان معارضا له لا مخصصا ، فصحة التخصيص منوطة بتعدد الحكم سواء تعدد الإنشاء كما إذا قال : «أكرم العلماء» فانه في قوة إنشاءات متعددة بعدد أفراده ، أم لم يتعدد كما إذا قال : «تواضع للفقير» فان المنشأ هو طبيعة التواضع ، فوحدته نوعية لا شخصية ، فالمتكلم يقصد البعث إلى طبيعة التواضع للفقير ، ولذا يصح تقييده بقوله : «ولا تواضع له إذا صار فاسقا» ومقتضى تعلق طبيعي البعث بطبيعي التواضع هو تعلق فرد من الوجوب بفرد من التواضع ، ولأجله يتعدد إطاعته وعصيانه ، مع أن الواحد الشخصي له امتثال واحد وعصيان كذلك.

وبوضوح ما ذكرناه في الأمرين تعرف أن الحق في المقام ما حكي عن ثاني المحققين في جامع المقاصد من فورية خيار الغبن معلّلا له «بأن العموم في أفراد العقود يستتبع عموم الأزمنة ، وإلّا لم ينتفع بعمومه» فان ظاهره توقف الانتفاع بعمومه الأفرادي على الملازمة بينه وبين العموم الأزماني ، وإلّا كان جعل اللزوم لكل فرد من أفراد العقود لغوا ، فان البيع من أجلى أفراد العقود المتداولة ، فإذا كان وجوب الوفاء به مختصا بآن وقوعه وجاز فسخه في سائر الآنات لم يترتب فائدة على هذا اللزوم ، بل ربما يختل به النظام ، فلا بد في دفع هذا المحذور من عموم وجوب الوفاء لجميع الأزمنة.

وعليه فلا يتم ما فصّله الشيخ والمصنف بين قيدية الزمان وظرفيته ، فان الزمان وإن كان ظرفا في ظاهر الآية الشريفة ولا دخل له في مصلحة الوفاء بالعقد ، إلّا أن المجعول حيث كان طبيعي الوجوب لطبيعي الوفاء بكل عقد فورود المخصص سواء أكان في الابتداء أم في الأثناء لا يمنع التمسك بالعامّ في غير زمان الخاصّ ، وذلك لأن للآية الشريفة دلالتين :

إحداهما : دلالتها على العموم الأفرادي بمقتضى الجمع المحلى باللام ، فتدل على وجوب الوفاء بكل عقد.

وثانيتهما : دلالتها على إطلاقها الأزماني والأحوالي من حيث خصوصيات

٧٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الزمان والأحوال الطارئة على العقد ، لا بمعنى الجمع بين قطعات الزمان حتى يكون عاما مجموعيا ويلزم خلف فرض ظرفية الزمان لحكم واحد مستمر ، بل بمعنى أن الشارع لاحظ جميع خصوصيات طبيعة الزمان الوحدانيّ ورفضها ، لعدم دخل شيء منها في نفس مصلحة الوفاء بكل عقد.

وحيث كان في الآية الشريفة حجتان كان مقتضى عمومها الأفرادي وجوب الوفاء بكل عقد ، ومقتضى إطلاقها الأزماني ثبوت هذا الحكم له في الزمان المستمر من دون تخصصه بوجود خصوصية محددة له ولا بعدمها.

والتخصيص تارة يكون بإخراج نفس الفرد كخروج العقود الجائزة عن عموم وجوب الوفاء بكل عقد ، فعقد الوكالة مثلا خارج عن هذا العموم الأفرادي في جميع الأزمنة ، إذ لا يندرج في العام بعد خروجه عنه ، لأنه تخصيص أفرادي ، فخروجه يكون بقول مطلق. وفي هذا الفرض لا معنى للشك في شمول حكم العام له أصلا ، فهو نظير قوله : «أكرم العلماء دائما ولا تكرم زيد العالم أبدا» فان خروج زيد عن العموم يكون أفراديا فيعم جميع الأزمان والحالات الطارئة عليه ، لتبعية كل من العموم الأزماني والأحوالي للعموم الأفرادي ، فلا يبقى لهما موضوع بعد خروج الفرد عنه.

وأخرى يكون التخصيص بلحاظ بعض أزمنة وجود الفرد أو بعض حالاته بحيث لو لا دليل المخصص كان إطلاق العام أزمانيا وأحواليا شاملا له ، كما إذا قال : «أكرم العلماء دائما ولا تكرم زيدا في الخامس عشر من هذا الشهر» أو «لا تكرم زيدا حال فسقه» ونحو ذلك ، فان أصالة العموم كما تكون حجة في الشك في أصل التخصيص والتخصيص الزائد ، كذلك أصالة الإطلاق حجة في الشك في كليهما ، إذ المفروض أن إكرام زيد ليس واحدا شخصيا ، بل هو واحد نوعي قابل للتقييد. والتخصيص الوارد على عموم الآية الشريفة بأدلة الخيارات أو غيرها من هذا القبيل.

فعموم الآية أزمانيا وأحواليا يدل على وجوب الوفاء بالبيع مثلا في كل حال

٧١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

من أول حدوثه إلى الأبد ، وأدلة الخيارات تدل على عدم وجوب الوفاء به في بعض الحالات أو الأزمنة ، ولا توجب خروج أصل البيع عن فرديته لعنوان العقد ، فدليل خيار المجلس يدل على جواز المعاملة ما دام المتبايعان في المجلس ، ودليل خيار الغبن يدل على عدم وجوب الوفاء بالبيع الغبني حين ظهور الغبن ، وهكذا سائر أدلة الخيارات ، فانها لا توجب تخصيص الفرد وإخراجه عن العموم ، وإنما تقيد إطلاق ذلك الوفاء الوحدانيّ المستمر سواء أكان زمان التقييد قصيرا أم طويلا ، ولو شك في طول زمان المقيد وقصره كان المرجع أصالة الإطلاق.

وحيث كان المقصود التمسك في المقام بإطلاق الآية فلا فرق فيه بين التخصيص في الابتداء والانتهاء والأثناء بعد أن كان المجعول طبيعي الحكم لطبيعي الوفاء في طبيعي الزمان ، وليست وحدة الوفاء الواجب شخصية حتى يتوهم تبعض الواحد وتجزئة البسيط كما تقدم بيانه في الأمر الأول.

نعم فرق بين هذا المطلق وسائر المطلقات في كون أفراده طولية ، لأن الأفراد والوفاءات طولية باعتبار أجزاء الزمان المتلاحقة وجودا ، بخلاف أفراد سائر المطلقات فانها عرضية مجتمعة في الوجود كإطلاق الرقبة الشامل للعالم والجاهل والأبيض والأسود ، لكنك خبير بعدم كون طولية الأفراد فارقة ولا قادحة في التمسك بأصالة الإطلاق.

فتلخص مما ذكرناه أن أصالة الإطلاق في مثل الآية الشريفة هي المرجع في الشك في التقييد الزائد ، ولا يجدي فرض ظرفية الزمان للعام في المنع من التمسك به مطلقا كما لعلّه مقتضى كلام الشيخ أو في خصوص الأثناء كما التزم به المصنف هنا وفي الحاشية ، وذلك لما عرفت من أن وحدة وجوب الوفاء ليست شخصية بل نوعية ، وإطلاق هذا الواحد النوعيّ حجة في الشك في أصل التقييد وفي التقييد الزائد ، فتأمل في المقام فانه به حقيق. وقد اعتمدنا في كثير مما تقدم على إفادات العلمين المحققين العراقي والأصفهاني ، فراجع كلاميهما لمزيد الاطلاع على أنظارهما الشريفة.

٧١١

الرابع عشر (١) : الظاهر أن الشك في أخبار الباب وكلمات الأصحاب (*) هو خلاف (٢) اليقين ، فمع (٣) الظن بالخلاف فضلا عن

______________________________________________________

(التنبيه الرابع عشر : المراد بالشك في الاستصحاب خلاف اليقين)

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه الّذي جعله في الرسائل الأمر الثاني عشر هو تنقيح ما يراد بالشك الّذي هو أحد ركني الاستصحاب ، فان معرفة الموضوع مما لا بد منه في إحراز حكمه ، وحيث إن الشك يطلق تارة على خصوص تساوي الاحتمالين في مقابل الظن الّذي هو رجحان أحد الاحتمالين ، وأخرى على الأعم ـ وهو خلاف اليقين الشامل لمتساوي الاحتمالين وراجحهما ومرجوحهما أعني الشك والظن والوهم ـ تصدى غير واحد من الأصوليين لبيان المراد منه.

(٢) هذا معناه الأعم الشامل للشك والظن والوهم كما مر آنفا ، ووجه الظهور هو جعل الناقض لليقين السابق في أخبار الباب منحصرا في اليقين بالخلاف ، فما لم يحصل هذا الناقض يبنى على اليقين السابق وإن حصل الظن بخلافه ، إلّا مع قيام الحجة على اعتباره.

(٣) هذه نتيجة أعميته ، إذ مع تساوي الاحتمالين كما هو المصطلح من الشك لا يندرج شيء من الظن بالخلاف والوفاق في الشك بمعناه الاصطلاحي.

__________________

(*) الظاهر الاستغناء عن هذا البحث بعد تعرض الأخبار لنقض اليقين باليقين وبعد تسليم تقدم الأمارات غير العلمية حكومة أو غيرها على الاستصحاب ، ضرورة أن خلاف اليقين إن كان ما تساوى طرفاه فلا إشكال في حجية الاستصحاب فيه ، سواء أكان المراد بالشك في المحاورات هذا المعنى كما هو المتبادر أم غيره. وكذا إذا كان أحد طرفيه راجحا ـ المعبر عنه بالظن ـ ولم يقم دليل على اعتباره ، إذ الناقض لليقين السابق ليس إلّا اليقين بالخلاف على ما هو صريح أخبار الباب ، فالظن غير المعتبر سواء أكان عدم اعتباره لأجل دلالة دليل خاص عليه أم لعدم دليل على اعتباره مما تشمله أخبار الاستصحاب سواء أكان الشك شاملا له لغة أم لا.

٧١٢

الظن بالوفاق يجري الاستصحاب. ويدل عليه (١)

______________________________________________________

(١) أي : ويدل على كون الشك خلاف اليقين أمور ، هذا أولها ، وبيانه : أن غير

__________________

وأما الظن المعتبر فلحكومة الأمارات على الاستصحاب كما سيجيء إن شاء الله تعالى يقدم على الاستصحاب ويتصرف لأجل حكومتها في اليقين الناقض ويراد به الحجة على خلاف اليقين السابق.

فالمتحصل : أنه بناء على حجية الاستصحاب من باب التعبد لا ثمرة لهذا البحث ، لعدم دخل للمعنى اللغوي أو العرفي للشك فيه ، لتعين المراد به من نفس أخبار الباب سواء وافق معناه اللغوي أو العرفي أم خالفه ، وذلك المعنى المراد هو خلاف اليقين أي الحجة ، سواء أكان طرفاه متساويين أم أحدهما راجحا مع موافقته للحالة السابقة أو مخالفته لها بشرط عدم قيام حجة عليه ، إذ معه يقدم على الاستصحاب حكومة وإن كان موافقا له كما قرر في محله.

وكذا الحال بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظن النوعيّ ، لإمكان اجتماعه مع الظن الشخصي على خلافه إلّا مع تقييد حجيته بعدم قيامه على خلافه. وبناء على اعتباره من باب الظن الشخصي لا محيص عن اعتبار الاستصحاب في خصوص حصول الظن الشخصي على طبق الحالة السابقة وعدم اعتباره بدونه وإن لم يحصل الظن الشخصي على خلافها.

فتلخص : أنه ينبغي جعل معيار البحث في المراد بالشك المعتبر في باب الاستصحاب دليل اعتباره ، لا المعنى اللغوي أو العرفي ، فان كان دليل اعتباره الروايات كان المراد بالشك خلاف اليقين الشامل للظن والشك والوهم.

وإن كان دليل اعتباره الظن ، فان أريد به الظن النوعيّ كان الاستصحاب حجة حتى مع الظن الشخصي على خلاف الحالة السابقة كما مر آنفا إلّا مع التقييد بعدم قيام الظن الشخصي على خلافها.

وإن أريد به الظن الشخصي على طبق الحالة السابقة كانت حجية الاستصحاب مختصة بهذه الصورة ، ولا يكون حجة في غيرها سواء حصل الظن الشخصي على خلاف الحالة السابقة أم لم يحصل.

٧١٣

 ـ مضافا (١) إلى أنه كذلك لغة (٢) كما في الصحاح (٣) ، وتعارف (٤) استعماله فيه في الأخبار في غير باب (٥) ـ قوله (٦) عليه‌السلام في أخبار الباب :

______________________________________________________

واحد من اللغويين صرّح بأن الشك هو خلاف اليقين ، بل يمكن استظهار اتفاقهم على ذلك من كلمات بعضهم ، ففي مجمع البحرين «الشك الارتياب ، وهو خلاف اليقين ، ويستعمل فعله لازما ومتعديا كما نقل عن أئمة اللغة ، فقولهم : خلاف اليقين يشتمل التردد بين الشيئين سواء استوى طرفاه أم رجح أحدهما على الآخر» (١).

(١) هذا إشارة إلى الأمر الأول ، وضمير «أنه» راجع إلى الشك.

(٢) قد عرفت عبارة مجمع البحرين وظهورها في اتفاق أهل اللغة عليه ، وقوله «كذلك» أي : خلاف اليقين.

(٣) قال فيه : «الشك خلاف اليقين» ومثله ما في القاموس.

(٤) معطوف على «أنه» يعني : ومضافا إلى تعارف استعماله ، وهذا إشارة إلى الأمر الثاني ، ومحصله : استعمال لفظ الشك في روايات الشك في عدد الركعات وأخبار قاعدة التجاوز بل وبعض الأصول العملية ، حيث ان المراد بالشك فيها خلاف اليقين ، وتحقيقه موكول إلى محله من الفقه.

(٥) يعني : في أبواب متعددة كباب الشك في الركعات وقاعدتي التجاوز والفراغ وغيرها ، وضمير «استعماله» راجع إلى «الشك» وضمير «فيه» إلى «خلاف اليقين».

(٦) فاعل «ويدل» وهذا إشارة إلى الأمر الثالث ، ومحصله : أنه يدل على إرادة «خلاف اليقين» من «الشك» ما ورد في نفس أخبار الاستصحاب من موارد نبّه عليها شيخنا الأعظم أيضا.

منها : قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة الأولى المتقدمة : «ولكن تنقضه بيقين آخر» حيث إنه يحدد ناقض اليقين باليقين ، وقد ثبت في محله أن التحديد يفيد الحصر ، فان تحديد الكرّ بألف ومائتي رطل عراقي مثلا ينفي الزيادة على

__________________

(١) مجمع البحرين ، ٥ ـ ٢٧٦

٧١٤

 «ولكن تنقضه بيقين آخر» حيث (١) إن ظاهره أنه في بيان تحديد ما

______________________________________________________

هذا المقدار والنقيصة عنه ، ففي المقام ينفي حصر الناقض باليقين كل ما هو خلاف اليقين من الشك المصطلح والظن والوهم ، غاية الأمر أن الظن المعتبر كالعلم في الاعتبار.

وبالجملة : يدل هذا الحصر بقرينة التحديد على أن المراد بالشك في باب الاستصحاب خلاف اليقين ، ثم يراد باليقين بسبب دليل حجية الأمارات غير العلمية الحجة ، فكأنه قيل : «لا تنقض اليقين إلّا بالحجة على خلافه».

ومنها : قوله عليه‌السلام في الصحيحة المتقدمة أيضا : «لا حتى يستيقن أنه قد نام» توضيحه : أن إطلاق جواب الإمام عليه‌السلام بعدم وجوب الوضوء على من تيقن الطهارة وعرضته الخفقة والخفقتان بحيث لم يلتفت إلى تحريك شيء في جنبه مع ترك استفصاله عليه‌السلام بين إفادة الخفقة ـ التي هي من أمارات النوم عادة ـ للظن بالنوم وعدمها مع إفادتها له أحيانا (يدل) على أن الحكم المذكور أعني عدم وجوب الوضوء ثابت ما لم يحصل العلم بالخلاف ولو حصل الظن بالخلاف ، فلا بد أن يراد بالشك حينئذ خلاف اليقين ، فيدل على اعتبار الاستصحاب مطلقا حتى مع الظن بالخلاف.

ومنها : قوله عليه‌السلام : «ولا تنقض اليقين بالشك» تقريبه : أنه عليه‌السلام ـ بعد الحكم بعدم وجوب إعادة الوضوء إلّا بعد اليقين بالنوم ـ نهى عن نقض اليقين بالشك ، وهذا النهي بقرينة ذلك الحكم المغيا باليقين بالخلاف أي النوم يراد بالشك في جملة النهي خلاف اليقين ، الّذي هو مطلق يشمل الشك والظن والوهم ، هذا ما يتعلق بظاهر عبارة المتن ، وهو لا يخلو مما تقف عليه في التعليقة من المسامحة.

(١) هذا تقريب دلالة «ولكن تنقضه بيقين آخر» على إرادة خلاف اليقين من الشك في أخبار الاستصحاب ، وقد عرفت تقريبه بقولنا : «حيث انه يحدد ناقض اليقين باليقين ... إلخ» وضميرا «ظاهره ، أنه» راجعان إلى «قوله» وضمير «به» راجع إلى «ما» الموصول.

٧١٥

ينقض به اليقين ، وأنه (١) ليس إلّا اليقين. وقوله (٢) أيضا : «لا حتى يستيقن أنه قد نام» بعد السؤال منه عليه‌السلام عما إذا حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم ، حيث (٣) دل بإطلاقه مع ترك الاستفصال (*) بين ما إذا أفادت هذه الأمارة (٤) الظن وما إذا لم تفده ، بداهة (٥) أنها لو لم تكن

______________________________________________________

(١) معطوف على «أنه» وضميره راجع إلى الموصول ، يعني : وأن ما ينقض به اليقين ليس إلّا اليقين ، وإذا انحصر الناقض باليقين فلا محالة يراد بالشك خلاف اليقين.

(٢) معطوف على «قوله» وهذا أيضا من الصحيحة الأولى لزرارة.

(٣) هذا تقريب الاستدلال بالجملة المذكورة ، وقد مر آنفا توضيحه ، وضميرا «بإطلاقه» والمستتر في «دل» راجعان إلى «قوله» و «بعد السؤال» ظرف لـ «قوله».

(٤) وهي الخفقة والخفقتان ، حيث إنهما أمارتان تفيدان الظن بالنوم تارة ولا تفيدانه أخرى.

(٥) غرضه إثبات صحة الإطلاق الناشئ عن ترك الاستفصال ، توضيحه : أن الأمارة المزبورة لمّا كانت مفيدة للظن بالنوم ولو نادرا كان لاستفصال الإمام عليه‌السلام عن إفادتها للظن وعدمها مجال ، فترك الاستفصال حينئذ يفيد الإطلاق وعدم وجوب إعادة الوضوء مطلقا سواء أفادت هذه الأمارة الظن بالنوم أم لم تفده ،

__________________

(*) لا حاجة إلى ترك الاستفصال في استظهار الإطلاق ، بل صراحة قوله عليه‌السلام : «حتى يستيقن» في التحديد وكون غاية وجوب إعادة الوضوء هي الاستيقان بالنوم كافية في إرادة خلاف اليقين من الشك ، ومغنية عن إثباتها بالإطلاق المنوط بترك الاستفصال. كما أن الشيخ (قده) لم يتمسك بهذا الإطلاق ، حيث قال : «ومنها قوله عليه‌السلام : حتى يستيقن ، فانه جعل غاية وجوب الوضوء الاستيقان بالنوم ومجيء أمر بيّن منه».

٧١٦

مفيدة له دائما لكانت مفيدة له أحيانا على (١) عموم النفي لصورة الإفادة. وقوله (٢) عليه‌السلام بعده (٣) : «ولا ينقض اليقين بالشك» (*) أن (٤) الحكم في المغيا (٥) مطلقا (٦) هو عدم نقض اليقين بالشك كما لا يخفى.

______________________________________________________

وضمير «أنها» راجع إلى الأمارة.

(١) متعلق بقوله : «دل» والمراد بـ «عموم النفي نفي وجوب الوضوء في كلتا صورتي الظن بالخلاف ـ أي بحصول النوم ـ وعدمه ، وضميرا «له» في كلا الموضعين راجعان إلى الظن.

(٢) معطوف على قوله : «قوله» يعني : ويدل عليه قوله عليه‌السلام بعده : «ولا ينقض اليقين بالشك» وهو إشارة إلى المورد الثالث المتقدم بقولنا : «ومنها : قوله عليه‌السلام : ولا ينقض اليقين بالشك ... إلخ».

(٣) أي : بعد قوله عليه‌السلام : «لا حتى يستيقن أنه قد نام» وقد عرفت أن جملة «ولا ينقض اليقين بالشك» بنفسها لا تصلح لإثبات إرادة خلاف اليقين من الشك ، بل لا بد من ضم جملة «حتى يستيقن أنه قد نام» إليها ، ولا حاجة إلى مثل هذا الاستدلال التكلّفي مع إمكان إثبات المطلوب بغيره بلا تكلف ، كقوله عليه‌السلام : «ولكن ينقضه بيقين آخر» كما صنعه الشيخ.

(٤) الصواب دخول «على» على «أن» وهو متعلق بـ «يدل» يعني : ويدل قوله عليه‌السلام على ... إلخ».

(٥) وهو قوله عليه‌السلام : «لا حتى يستيقن أنه قد نام».

(٦) يعني : وإن كان الظن على خلافه فلا بد من البناء على الوضوء المعلوم سابقا حتى مع الظن بخلافه.

__________________

(*) الظاهر أنه سهو من قلمه الشريف ، إذ المظنون أن مورد استشهاده هو بعينه ما استشهد به الشيخ من قوله : «ومنها قوله عليه‌السلام : ولكن ينقضه بيقين آخر ، فان الظاهر سوقه في مقام بيان حصر ناقض اليقين باليقين» لعدم دلالة نفس

٧١٧

وقد استدل عليه (١) أيضا بوجهين آخرين :

الأول : الإجماع القطعي على اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف على تقدير اعتباره من باب الأخبار.

وفيه : أنه (٢) لا وجه لدعواه (٣) ولو سلّم اتفاق الأصحاب على

______________________________________________________

(١) أي : واستدل على كون الشك في باب الاستصحاب خلاف اليقين بوجهين آخرين ـ غير الوجوه الثلاثة المتقدمة ـ أوّلهما الإجماع ، والمستدل بهما هو الشيخ الأعظم في الرسائل ، ومحصل الوجه الأول منهما الّذي هو الأمر الرابع من الأمور المستدل بها على المدعى هو الإجماع القطعي على حجية الاستصحاب مع الظن بالخلاف بناء على اعتباره من باب الأخبار والتعبد ، لا من باب الظن.

(٢) هذا جواب الاستدلال بالإجماع ، وهو ينحل إلى وجهين :

أحدهما : عدم ثبوت الاتفاق على اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف ، إما لما قيل : من كون المسألة مستحدثة ، وأنه لم يكن لها في كلمات المتقدمين على المفيد (قده) عين ولا أثر. وإما لاختلاف من تعرض لها في حجيته مطلقا ، أو في خصوص الشك الّذي تساوى طرفاه.

ثانيهما : أنه بعد فرض ثبوت الاتفاق المزبور يحتمل استنادهم في ذلك إلى ظهور الأخبار المشار إليها فيه ، ومع هذا الاحتمال يخرج عن الإجماع التعبدي الكاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام إلى الإجماع المدركي الّذي لا يصلح للركون إليه كما لا يخفى ، وضمير «أنه» للشأن ، وضمير «اعتباره» راجع إلى الاستصحاب.

(٣) أي : لدعوى الإجماع ، وهذا إشارة إلى الوجه الثاني المذكور بقولنا «ثانيهما انه بعد فرض ثبوت الاتفاق ... إلخ».

__________________

عدم نقض اليقين بالشك على إرادة خلاف اليقين منه ، بخلاف «ولكن ينقضه بيقين آخر» فانه يدل على عدم نقض اليقين بالوضوء إلّا باليقين بالنوم ، فلا ينقض بغير اليقين وإن كان ظنا بالخلاف.

٧١٨

الاعتبار (١) ، لاحتمال (٢) أن يكون ذلك (٣) من جهة ظهور دلالة الأخبار عليه.

الثاني (٤) : أن الظن غير المعتبر إن علم بعدم اعتباره

______________________________________________________

(١) أي : اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف ، وهذا إشارة إلى الوجه الأول وهو عدم ثبوت الاتفاق ، ومقتضى الترتيب تقديم الوجه الثاني على الأول بأن يمنع أوّلا نفس الاتفاق ، وثانيا اعتباره على فرض تسليمه ، لاحتمال مدركيته.

(٢) تعليل لقوله : «لا وجه لدعواه» وحاصله : أنه مع احتمال استناد المجمعين إلى الروايات لا يصلح هذا الإجماع للحجية ، لاحتمال مدركيته.

(٣) أي : اتفاق الأصحاب ، وضمير «عليه» راجع إلى الاعتبار مع الظن بالخلاف.

(٤) هذا هو الوجه الثاني الّذي استدل به الشيخ وهو الأمر الخامس من الأمور المستدل بها على المدعى ، و بيانه : أن الظن على خلاف اليقين السابق إن كان عدم اعتباره لقيام الدليل الخاصّ عليه كالظن القياسي ، فمعنى عدم حجيته عدم الاعتناء به وفرض وجوده كعدمه ، ولازم هذا الفرض جريان الاستصحاب في صورة قيامه على خلاف اليقين السابق كصورة عدم قيامه على خلاف ذلك اليقين ، لأن من آثار تنزيل وجوده منزلة عدمه جريان الاستصحاب مع وجوده كجريانه مع عدمه.

وإن كان عدم اعتباره لعدم الدليل على حجيته كالشهرة الفتوائية ونحوها من الظنون غير المنهي عنها بدليل خاص فعدم جواز رفع اليد به عن اليقين إنما هو لأجل صدق نقض اليقين بالشك على هذا الرفع ، ومن البديهي عدم جوازه ، وذلك لأن الحكم الواقعي وإن لم يكن مشكوكا في الزمان اللاحق بل مظنون العدم لقيام الظن على خلافه ، إلّا أن الحكم الفعلي المعلوم في السابق يكون مشكوك البقاء في اللاحق ، لأن جواز المضي على طبق الظن بارتفاعه مشكوك أيضا ، فيصير الحكم الفعلي مشكوكا فيه فعلا بعد ما كان متيقنا سابقا ، وهذا بنفسه

٧١٩

بالدليل (١) فمعناه أن وجوده كعدمه عند الشارع ، وأن (٢) كلّما يترتب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتب على تقدير وجوده. وإن كان (٣) مما شك في اعتباره ، فمرجع (٤) رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشك ، فتأمل جيدا (٥).

______________________________________________________

موضوع أدلة الاستصحاب من نقض اليقين السابق بالشك اللاحق.

(١) أي : الدليل الخاصّ كالظن القياسي ، حيث انه نهي عن اتباعه بنص خاص.

(٢) عطف تفسيري لقوله : «أنّ وجوده» ومحصله كما مر توضيحه : أن معنى وجوده كعدمه هو ترتيب أثر عدمه على وجوده ، فكما أنه لو لم يقم الظن القياسي على خلاف الحالة السابقة كان الاستصحاب جاريا ، فكذلك لو قام على خلافها ، وضمير «فمعناه» راجع إلى «عدم اعتباره» وضمائر «وجوده ، كعدمه ، عدمه ، وجوده» راجعة إلى «الظن».

(٣) معطوف على «ان علم» والأولى أن يقال : «وان شك في اعتباره» لكنه عين عبارة الشيخ (قده) ، وكيف كان فهو إشارة إلى صورة كون عدم حجية الظن لأجل عدم الدليل على اعتباره ، وقد مر توضيحه آنفا بقولنا : «وإن كان عدم اعتباره لعدم الدليل ... إلخ».

(٤) جواب «وان» وقوله : «بسببه» متعلق بـ «رفع» وضميره راجع إلى الظن المشكوك الاعتبار ، وقوله : «إلى نقض» متعلق بـ «مرجع».

(٥) لعله إشارة إلى منع صدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن اليقين السابق بالظن المشكوك الاعتبار ، إذ لا بد في صدقه من اتحاد متعلق اليقين والشك حتى يكون الشك في بقاء نفس ما كان على يقين منه ، ومن المعلوم أن الشك هنا لم يتعلق بالمتيقن السابق بل تعلق بأمر آخر وهو حجية الظن ، فرفع اليد عن اليقين حينئذ نقض لليقين بالظن لا بالشك.

والحاصل : أن المشكوك هو الحجية ، وهي غير المتيقن السابق ، فلم يتحد

٧٢٠