منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

وقد عرفت (١) جريانه فيهما (٢) تارة وعدم جريانه كذلك (٣) أخرى.

فانقدح (٤) أنه لا فرق بينهما كان الحادثان مجهولي التاريخ أو كانا

______________________________________________________

(١) أشار بهذا إلى أحكام صور الحادثين المعلوم تاريخ أحدهما دون الآخر.

(٢) أي : في الحادثين المعلوم تاريخ أحدهما فيما إذا كان الأثر مترتبا على وجود كل منهما محموليا بنحو خاص من التقدم وضديه ، فان الاستصحاب يجري فيهما ، لكنه يسقط بالتعارض.

(٣) أي : في الحادثين اللذين يترتب الأثر على وجودهما أو عدمهما نعتيا ، فان عدم جريانه حينئذ إنما هو لأجل عدم اليقين السابق بهذا الاتصاف ، فأول ركني الاستصحاب فيهما مفقود.

(٤) هذا حاصل أبحاث الحادثين من مجهولي التاريخ والمختلفين ، وتعريض بشيخنا الأعظم (قده) حيث إنه اقتصر في مجهولي التاريخ على جريان أصالة العدم فيهما ، ولم يفصّل بين كيفية موضوعيتهما للأثر الشرعي من حيث الوجود المحمولي والنعتيّ ، وكذا العدم بمفاد ليس التامة والناقصة ، مع أنه لا بد من جريان الاستصحاب في أحدهما بلا مانع إذا ترتب الأثر عليه فقط دون الحادث الآخر ، ودون ترتب الأثر على نحو آخر من أنحاء ذلك الحادث ، وإلّا يجري الاستصحاب فيهما أو في نحوي ذلك الحادث ويسقط بالتعارض ، فإطلاق كلامه في جريان أصالة العدم في مجهولي التاريخ لا يخلو من الغموض.

واقتصر (قده) أيضا في الحادثين المجهول تاريخ أحدهما دون الآخر على جريان أصل العدم في المجهول دون المعلوم ، مع أنك قد عرفت التفصيل بين ترتب الأثر على وجود خاص من التقدم وضديه محموليا ، وبين ترتب الأثر على الوجود الخاصّ نعتيا ، بجريان الاستصحاب في الأول دون الثاني.

__________________

صورة الاتصاف فقط من العبارة المذكورة تكون بلا قرينة ، فإضافة الحادث المعلوم التاريخ إلى زمان المجهول التاريخ تكون تارة بنحو العدم المحمولي وأخرى بنحو العدم النعتيّ.

٦٤١

مختلفين ، ولا بين (١) مجهوله ومعلومه في المختلفين (٢) فيما (٣) اعتبر في الموضوع خصوصية ناشئة من إضافة أحدهما إلى الآخر بحسب

______________________________________________________

وغرض المصنف (قده) بيان اختلاف وجه عدم جريان الاستصحاب في الحادثين أو أحدهما من مجهولي التاريخ والمختلفين ، وهو أحد أمور ثلاثة :

أولها : اختلال أول ركني الاستصحاب أعني اليقين السابق فيما إذا كان الأثر مترتبا على اتصاف الحادث بالعدم في زمان حدوث الآخر.

وثانيها : اختلال شرطه وهو إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين فيما إذا ترتب الأثر على أحد الحادثين محموليا في زمان الآخر.

وثالثها : وجود المانع وهو التعارض فيما إذا كان كل من الحادثين موضوعا للأثر ، أو كان أحدهما لأكثر من وصف واحد من التقدم وضديه موضوعا للحكم على ما تقدم مفصلا. وضمير «أنه» للشأن ، وضمير «بينهما» راجع إلى الحادثين. والأولى بإيجاز العبارة وسلاستها أن يقال : «لا فرق بين كون الحادثين مجهولي التاريخ ومختلفيه».

(١) معطوف على «بينهما» يعني : لا فرق في أحكام الحادثين بين مجهولي التاريخ ومختلفيه.

(٢) أي : المختلفين من حيث العدم المحمولي والنعتيّ ، فيجري الأصل في المعلوم والمجهول إذا أخذ العدم فيهما محموليا ، ولا يجري في شيء منهما إذا أخذ العدم فيهما نعتيا. نعم بينهما فرق من هذه الحيثية ، وهي : ما إذا لوحظ العدم في زمان الآخر من دون إضافة خصوصية التقدم أو أحد ضديه ، حيث ان الأصل في هذه الصورة يجري في المجهول دون المعلوم ، لانتفاء الشك كما أفاده.

(٣) متعلق بـ «لا فرق» يعني : لا فرق بين الحادثين مطلقا فيما إذا اعتبر في الموضوع خصوصية كالتقدم وضديه وشك في تلك الخصوصية ، فان كانت تلك الخصوصية بنحو الاتصاف والنعتية لا يجري فيها الاستصحاب ، وإن لم تكن بنحو الاتصاف جرى فيها الاستصحاب.

٦٤٢

الزمان من التقدم (١) أو أحد ضديه وشك فيها (٢) كما لا يخفى.

كما انقدح أنه (٣) لا مورد للاستصحاب

______________________________________________________

(١) بيان لقوله : «خصوصية» والمراد بـ «ضديه» هو التأخر والتقارن.

(٢) أي : في الخصوصية وهي التقدم أو أحد ضديه ، وقد عرفت أن تلك الخصوصية يختلف حكم الاستصحاب من حيث جريانه فيها وعدمه باختلاف لحاظ تلك الخصوصية من حيث المحمولية والنعتية.

وحاصل مرامه (قده) أن ما ذكر من جريان الاستصحاب وعدمه في الشك في الخصوصية المأخوذة في الموضوع جار في الحادثين مطلقا من مجهولي التاريخ والمختلفين. وضمير «ضديه» راجع إلى «التقدم».

(٣) الضمير للشأن ، وقد أشار بهذا إلى أن حكم تعاقب الحالتين المتضادتين العارضتين لشخص واحد كالطهارة والحدث ، والطهارة والنجاسة حكم الحادثين اللذين يترتب الأثر على العدم المحمولي لأحدهما في زمان الآخر وإن افترقا موضوعا لقيام الحالتين بشخص واحد على التعاقب لا التقارن ، لامتناع وجودهما في آن بخلاف الحادثين ، لقيامهما بشخصين مع إمكان تقارنهما وجودا. ولكون الاستصحاب في الحادثين عدميا وفي الحالتين وجوديا.

وكيف كان فمحصل ما أفاده المصنف (قده) هنا هو : أنه إذا علم المكلف بصدور طهارة وحدث منه في ساعتين ، ولم يعلم المتقدم منهما والمتأخر ، وشك في الساعة الثالثة في حالته الفعلية من الطهارة والحدث ـ إذ لو حصلت الطهارة في الساعة الأولى فقد انتقضت بالحدث الصادر في الساعة الثانية ، فالحالة الفعلية هي الحدث ، ولو تحقق الحدث في الساعة الأولى فالحالة الفعلية هي الطهارة ـ فلا يجري الاستصحاب في بقاء شيء من هاتين الحالتين ، لعدم إحراز اتصال زمان اليقين بحدوثهما بزمان الشك في بقائهما ، وذلك لأن زمان الشك في بقائهما في المثال وهو الساعة الثالثة لا يجري فيه استصحاب الطهارة إلّا إذا كان زمان اليقين بحدوثها الساعة الثانية حتى يتصل زمان اليقين بحدوثها بزمان الشك في بقائها ،

٦٤٣

أيضا (١) فيما تعاقب حالتان متضادتان (٢)كالطهارة والنجاسة (٣) وشك في ثبوتهما (*) وانتفائهما (٤) ، للشك (٥) في المقدم والمؤخر منهما ، وذلك (٦)

______________________________________________________

فإذا كان زمان اليقين بحصول الطهارة الساعة الأولى انفصل زمان الشك عن زمان اليقين ، لتخلل اليقين بالضد وهو الحدث بين الساعة الأولى والثالثة ، ومع هذا الاحتمال لم يحرز اتصال زمان الشك بزمان اليقين في شيء من الحالتين ، فلا يجري الاستصحاب في بقاء شيء منهما.

(١) يعني : كعدم موردية الحادثين للاستصحاب.

(٢) يستفاد من هذه الكلمة وجود القيدين المزبورين ـ وهما وجوديتهما وامتناع تقارنهما في الحالتين ـ الموجبين لتميزهما عن الحادثين.

(٣) كالعلم بنجاسة ثوبه أو بدنه وكذا تطهيره في الساعة الأولى والثانية مع عدم العلم بالمتقدم منهما والمتأخر ، فان الاستصحاب لا يجري في بقاء شيء من الطهارة والنجاسة ، لما تقدم في مثال الطهارة والحدث من عدم إحراز اتصال زمان اليقين بزمان الشك.

(٤) هذا الضمير وضمير «ثبوتهما» راجعان إلى «حالتان».

(٥) متعلق بـ «وشك» وعلة له ، يعني : أن الشك في البقاء ناش من الشك في المتقدمة والمتأخرة من الحالتين ، إذ مع العلم بالتقدم والتأخر لا يحصل الشك في البقاء كما هو واضح ، وضمير «منهما» راجع إلى «حالتان».

(٦) تعليل لقوله : «كما انقدح» وقد عرفت آنفا توضيحه بقولنا : «فلا يجري الاستصحاب في شيء من بقاء هاتين الحالتين لعدم إحراز ... إلخ».

__________________

(*) الأولى أن يقال : «في بقائهما» لكون الشك فيه لا في الثبوت ، إذ المفروض القطع بثبوتهما ، والشك إنما يكون في بقائهما وارتفاعهما. كما أن الأنسب أن يقال : «وشك في بقاء واحد منهما لا بعينه وارتفاعه» إذ ليس الشك في بقائهما معا ، كيف؟ وهما ضدان يمتنع اجتماعهما ، بل يعلم إجمالا ببقاء أحدهما وارتفاع الآخر ، والشك يتعلق بخصوصية إحدى الحالتين بقاء.

٦٤٤

لعدم إحراز الحالة السابقة المتيقنة المتصلة بزمان الشك في ثبوتهما (١) وترددها (٢) بين الحالتين ،

______________________________________________________

(١) أي : في ثبوت الحالتين والمراد به الشك في بقائهما ، فالتعبير به أولى من التعبير بثبوتهما.

وكيف كان فتوضيح عدم إحراز اتصال زمان اليقين السابق بزمان الشك اللاحق هو : أنه لو كان حدوث الطهارة في الساعة الثانية كان زمان اليقين بها متصلا بزمان الشك في بقائها وهي الساعة الثالثة ، ولو كان حدوثها في الساعة الأولى لم يكن زمان اليقين بحدوثها متصلا بالساعة الثالثة التي هي زمان الشك في بقائها ، لتخلل الساعة الثانية التي هي ظرف حصول الحدث بين الساعة الأولى والثانية ، فدوران زمان اليقين بحصول الطهارة بين الساعة الأولى والثانية أوجب الشك في اتصاله بزمان الشك في بقائها ، ومع عدم إحراز الاتصال لا يجري الاستصحاب لا أنه يجري ويسقط بالتعارض.

وبهذا التقريب ظهر الفرق في المانع عن جريان الاستصحاب بين المقام والحادثين ، ضرورة كون المانع في الحادثين عدم إحراز اتصال زمان الشك في كل منهما بزمان اليقين ، لأن المتيقن كان مثلا عدم كل من الإسلام والموت يوم السبت ، وتردد حدوث كل منهما بين يومي الأحد والاثنين ، فزمان المتيقن معلوم وزمان الشك في البقاء غير معلوم. ولكن في الحالتين المتعاقبتين يكون المانع عدم إحراز اتصال زمان المتيقن بزمان المشكوك ، لأن ظرف الشك هو الساعة الثالثة مثلا ، ويدور أمر المتيقن بين حدوثه في الساعة الأولى والثانية.

وعلى كل حال فمناط الإشكال في الجميع عدم إحراز اتصال زماني اليقين والشك ، وعدم إحرازه ملازم للشك في صدق الإبقاء الّذي هو موضوع التعبد الاستصحابي.

(٢) معطوف على «عدم» وضميره راجع إلى «الحالة» ومفسر لقوله : «لعدم إحراز ... إلخ» يعني : أن وجه عدم إحراز الاتصال المزبور هو تردد

٦٤٥

وأنه (١) ليس من تعارض الاستصحابين ، فافهم وتأمل في المقام ، فانه دقيق (*).

______________________________________________________

الحالة السابقة المتيقنة بين الحالتين ، حيث ان الحالة المعلومة المتحققة في الساعة الثانية مرددة بين الحالتين وهما الطهارة والحدث ، أو الطهارة والنجاسة ، ولأجل هذا التردد لا يحرز اتصال زمان اليقين بزمان الشك.

(١) معطوف على «أنه» في قوله : «كما انقدح أنه» وضمير «أنه» للشأن ويمكن أن يكون راجعا إلى تعاقب الحالتين ، يعني : وكما انقدح أن تعاقب الحالتين ليس من تعارض الاستصحابين كما نسب إلى المشهور.

والوجه في عدم كونه من تعارض الاستصحابين : أن التعارض في رتبة المانع المتأخرة عن الشرط ، والمفروض في تعاقب الحالتين عدم إحراز شرط جريان الاستصحاب وهو اتصال زمان الشك بزمان اليقين فيهما ، وبدون إحراز الشرط لا يجريان ، فلا تصل النوبة إلى جريانه فيهما وسقوطه بالتعارض ، بل تجري هنا قاعدة الاشتغال المقتضية لوجوب الغسل أو الوضوء ، لتوقف العلم بفراغ الذّمّة عن التكاليف المشروطة بالطهارة على ذلك.

__________________

(*) لا يخفى أنه بناء على كون معنى نقض اليقين بالشك عدم تخلل اليقين بالخلاف بينهما ـ إذ مع تخلله يندرج المورد في نقض اليقين باليقين لا بالشك ـ لا يجري الاستصحاب بدون إحراز الاتصال المزبور ، لعدم إحراز موضوعه ، فلا وجه للتشبث بعموم دليله كما اتضح ذلك في توارد الحالتين.

والظاهر أنه ليس من قبيل تعاقب الحالتين مسألة تردد حيض المرأة مع العلم بكونه ثلاثة أيام بين كونه في أول الشهر وبين أن يكون في الثلاثة الثانية أو الثالثة أو غيرهما من الثلاثات ، فان استصحاب عدم الحيض يجري فيما عدا الثلاثة الأخيرة من الشهر ، لكون مجموع ما عدا هذه الأخيرة أزمنة الشك في انتقاض عدم الحيض ، وهي متصلة بزمان اليقين بعدم الحيض وهو ما قبل هذا الشهر ، ضرورة عدم حصول اليقين بالحيض قبل الثلاثة الأخيرة ، فشرط جريان الاستصحاب وهو

٦٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إحراز الاتصال موجود في جميع تلك الثلاثات وجدانا.

نعم لا مجال لجريان الاستصحاب في الثلاثة الأخيرة ، للعلم الإجمالي بانتقاض عدم الحيض إما فيها وإما في إحدى الثلاثات المتقدمة ، فان هذا اليقين بالانتقاض مانع عن التعبد الاستصحابي ببقاء عدم الحيض في خصوص الأخيرة دون ما قبلها ، لخلوّها عن العلم بالانتقاض حين جريان الاستصحاب فيها. فالميزان في جريان الاستصحاب هو عدم تخلل اليقين بالخلاف بين زماني اليقين والشك ، إذ مع تخلله يندرج في نقض اليقين باليقين ، ويخرج عن مورد الاستصحاب. وفي مثال الحيض لا يحصل اليقين بالخلاف إلّا في الثلاثة الأخيرة دون ما قبلها.

وبالجملة : فالشك في تحقق الحيض من أول الشهر مستمر إلى الثلاثة الأخيرة من دون حصول العلم بخلافه ، فأزمنة الشك ـ وهي ما عدا الثلاثة الأخيرة ـ متصلة بزمان القطع بعدم الحيض ، وهذا الاتصال محرز وجدانا ، إذ ليس الشك في انتقاض عدم الحيض في تلك الأزمنة إلّا بدويا.

فالمتحصل : أن مقايسة الحالتين وهما الحدث والطهارة بمسألة استصحاب عدم الحيض في جريان الاستصحاب كما في تقريرات بحث سيدنا الفقيه الأعظم الأصفهاني (قده) (١) لم يظهر لها وجه ، لما عرفت من تخلل القطع بين زماني القطع والشك في الحالتين المانع عن إحراز الاتصال الّذي هو شرط جريان الاستصحاب على ما أفاده الماتن ، بخلاف مسألة الحيض ، لعدم تخلل القطع بالخلاف فيها حين جريان الاستصحاب.

فالنتيجة : أن الاستصحاب لا يجري في مسألة تعاقب الحالتين ، ويجري في مثال الحيض المتقدم.

وكيف كان فلما كانت المسألة فقهية فلا بأس بالتعرض لها إجمالا تبركا وتزيينا للأصول بها ، فنقول وبه نستعين :

__________________

(١) منتهى الوصول ، ص ١٦٣

٦٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

مسألة : إذا علم المكلف بوضوء ونوم أو غيره مما ينقض الوضوء من موجبات الحدث الأصغر ، فله صور : إحداها : أن يكون تاريخ كليهما مجهولا ، ثانيتها : أن يكون تاريخ الوضوء مجهولا وتاريخ الحدث معلوما ، ثالثتها : أن يجهل تاريخ الحدث ويعلم تاريخ الوضوء. والحصر في هذه الثلاثة عقلي ، إذ لا يعقل العلم بتاريخ كليهما مع الشك في التقدم والتأخر ، وتسمى هذه الصور الثلاث بتعاقب الحالتين تارة وتواردهما أخرى ، ولا يختص هذا البحث بمسألة الوضوء والحدث ، بل يجري في كثير من أبواب الفقه ، نظير العلم بملاقاة الماء للنجاسة مع العلم بحدوث الكرية والشك في المتقدم منهما والمتأخر. والعلم بالجنابة والغسل مع الشك في التقدم والتأخر. والعلم بتحقق العقد من وليّين في النكاح أو غيره مع الشك المزبور. والعلم بموت المتوارثين مع الشك المذكور. وصلاة الرّجل والمرأة متحاذيين مع العلم بعدم تقارنهما والشك في المتقدم والمتأخر بناء على مانعية محاذاتهما ، إلى غير ذلك من النّظائر.

وكيف كان ففي الصورة الأولى وهي الجهل بتاريخهما أقوال :

أحدها ـ و «هو المشهور» كما في الروضة ، و «هو المشهور قديما وحديثا» كما في طهارة الشيخ الأعظم (قده) و «المنسوب إلى الأصحاب» المشعر بالإجماع كما عن الذكرى ـ وجوب التطهير لما يأتي به مما يشترط فيه الطهارة ، لا لإعادة ما أتى به ، لعدم الحاجة إلى إعادته بعد تصحيحه بقاعدة الفراغ إذا حدث هذا الشك بعد الفراغ عنه. والظاهر المصرح به في بعض الكلمات أن الحكم المزبور المشهور وهو وجوب التطهير مطلق يشمل كلتا صورتي العلم بالحالة السابقة على الحالتين والجهل بها.

وهذا هو الأقوى ، من غير فرق في ذلك بين شرطية الطهارة ومانعية الحدث ، ضرورة أن اليقين بفراغ الذّمّة منوط بإحراز ما له دخل في المأمور به سواء أكان ذلك شرطا له أم مانعا عنه ، فلا بد من إحراز كل من الشرط وعدم المانع ولو بالأصل.

٦٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وبالجملة : فمقتضى قاعدة الاشتغال عقلا هو لزوم الإحراز المزبور بعد انسداد باب الاستصحاب في كل من الطهارة والحدث ذاتا في مجهولي التاريخ كما هو الأصح على ما تقدم وهو خيرة المصنف والمحقق العراقي وغيرهما ، أو عرضا بسبب المعارضة كما هو مختار الشيخ الأعظم وغيره ، أو إنكار حجية الاستصحاب رأسا كما هو مذهب بعض.

فلا وجه للاكتفاء بالشك في الطهارة في صحة المشروط بالطهارة أو عدم الحدث بعد اليقين بالاشتغال الّذي يقتضي لزوم تحصيل العلم بالفراغ.

فلا يصغى إلى دعوى جواز الاكتفاء بالشك في الطهارة في صحة المشروط بها استنادا تارة إلى : قاعدة المقتضي والمانع. إذ فيها أوّلا : أجنبية المقام عن تلك القاعدة ، لأن موردها هو الشك في وجود المانع ، لا القطع به ، حيث ان المفروض هنا حصول العلم بوجود المقتضي والمانع معا ، بل لنا أن نعكس الأمر ونقول : ان المقتضي لعدم جواز الدخول في المشروط بالطهارة وهو اليقين بالحدث موجود ، والمانع وهو الطهارة مشكوك فيه.

وثانيا : بعد تسليم صغروية المقام لتلك القاعدة عدم الدليل على اعتبارها كما بيناه في ذيل أولى صحاح زرارة.

وأخرى إلى : إدراجه في مسألة العلم بالطهارة والشك في الحدث التي يجري فيها استصحاب الطهارة. وذلك لما فيه من معارضته على تقدير جريانه بمثله وهو استصحاب الحدث ، إذ المفروض كونه معلوم الحدوث مشكوك البقاء كالطهارة.

وثالثة إلى : الأخذ بالحالة الأصلية وهي الطهارة ، إذ بعد تعارض الاستصحابين وتساقطهما يرجع إلى تلك الحالة الأصلية ، فلا يجب التطهير لما يأتي به من المشروط بالطهارة ، وذلك لأن المرجع بعد تساقط الأصلين أصل ثالث لا الحالة الأصلية الساقطة ، ضرورة أنه بعد سقوطها يحتاج عودها إلى سبب جديد ، لكونها حينئذ من الحوادث المحتاجة إلى العلة على ما يقتضيه نظام العلة والمعلول ، وكذا

٦٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الحال في الحدث إذا فرض كونه هو الحالة الأصلية ، فان عوده بعد سقوطه منوط بعلة جديدة.

وعليه فالأصل الثالث الّذي يرجع إليه على كل حال هو قاعدة الاشتغال القاضية بلزوم التطهير لما يشترط فيه الطهارة لا أصالة البراءة ، لكون مجراها الشك في الشرطية لا في وجود الشرط ، ولا أدلة الشرطية كقوله تعالى : «إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم» الآية ، لكون موردها هو المحدث ، والمفروض أنه مشكوك فيه ، فالتشبث بها يندرج في التمسك بالدليل في الشبهة الموضوعية كما لا يخفى.

هذا بالنسبة إلى ما يشترط فيه الطهارة.

وأما الأحكام المترتبة على المحدث كحرمة الدخول في المساجد وحرمة قراءة العزائم فتجري فيها البراءة ، لكون الشك فيها في نفس الحكم ، بخلاف المشروط بالطهارة ، فان الشك فيه في المكلف به ، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال.

فتلخص من جميع ما ذكرنا : أن المشهور المنصور هو القول بوجوب التطهير لكل ما يشترط فيه الطهارة ، لقاعدة الاشتغال.

ثانيها : ما عن المعتبر وجامع المقاصد بل المنسوب إلى المشهور بين المتأخرين من التفصيل بين الجهل بالحالة السابقة على الحالتين والعلم بها ، بوجوب التطهير في الأول والأخذ بضد الحالة السابقة في الثاني.

والوجه في الأول ما مر في القول الأول من قاعدة الاشتغال ، وفي الثاني العلم بانتقاض اليقين السابق على الحالتين باليقين بالضد ، إذ لو كان هو اليقين بالطهارة فقد انتقض باليقين بالحدث ، والشك في انتقاض هذا اليقين بالطهارة ، فيستصحب الحدث ، أو يستصحب الطهارة في صورة كون الحالة السابقة على الحالتين هي الحدث.

وبالجملة : فشرط جريان استصحاب الضد موجود ، فيجري فيه بلا معارض ، إذ لا يجري الاستصحاب في نفس الحالة السابقة ، للعلم بانتقاضها ، كما لا يجري

٦٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في مثلها ، لاحتمال تعاقب المتجانسين ، وذلك لعدم العلم بثبوته ، لإمكان عدم تعاقبهما ، فأول ركني الاستصحاب وهو اليقين بالثبوت منتف.

ومرجع هذا القول إلى اليقين بإحدى الحالتين والشك في انتقاضها ، فلو كانت الحالة السابقة على الحالتين هي الحدث جرى استصحاب ضده وهو الطهارة ، وكذا العكس ، فيخرج عن مسألة اليقين بالحالتين والشك في المتقدم منهما ويندرج في مسألة اليقين بإحدى الحالتين والشك في الأخرى ، ولذا قال في محكي الذكرى بعد حكاية هذا التفصيل : «انه إن تمّ ليس خلافا في المسألة ، لرجوعه إما إلى يقين الحدث مع الشك في الطهارة ، أو إلى العكس ، والبحث في غيره» وعن كشف اللثام «الجزم بأن إطلاق الأصحاب الحكم بوجوب التطهير مقيد بعدم علمه حاله قبل زمانهما ، بل حكي عن المسالك تقييد عبارة الشرائع به ، فتأمل»

أقول : الظاهر بطلان هذا التفصيل في نفسه ، ويلزمه عدم صحة تنزيل إطلاقات الأصحاب الحكم بوجوب التطهير على من لم يعلم بحالته قبل الزمانين عليه ، وعدم صحة إرجاعه إلى مسألة أخرى وهي العلم بإحدى الحالتين والشك في الأخرى. توضيح ذلك : أن التفصيل المزبور مبني على كون أثر كل حالة مستندا إليها ، وعدم كفاية وجود الأثر حينها وإن لم يكن مسببا عنها.

وبعبارة أخرى : الملحوظ هو الحدث المؤثر في عدم جواز الصلاة معه ، وكذا الوضوء المؤثر في جواز الصلاة به ، إذ يصح حينئذ أن يقال : ان المحدث قبل الحالتين يعلم بطروء وضوء رافع لذلك الحدث ويشك في ارتفاعه بعروض حدث رافع للطهارة ، لاحتمال عروضه بعد الحدث السابق على الحالتين ، ولا أثر للحدث بعد الحدث ، فتستصحب الطهارة التي هي ضد الحالة السابقة على الزمانين للقطع بثبوته والشك في بقائه ، هذا.

وأنت خبير بما في هذا المبنى من الضعف ، لابتنائه على تقييد إطلاقات أدلة الاستصحاب بما إذا كان أثر المستصحب مستندا إلى نفسه وناشئا عنه حتى لا تشمل

٦٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المستصحب الّذي يترتب عليه الأثر بنحو القضية الحينية. ودون إثبات هذا التقييد خرط القتاد ، بل إطلاق أدلته لا يقتضي أزيد من ترتب أثر شرعي على المستصحب أداء لحق الاستصحاب الّذي هو من الأصول العملية سواء أكان ذلك الأثر مستندا إلى نفس المستصحب ومسببا عنه أم مستندا إلى غيره.

وعليه فيجري استصحاب الحدث ، لأنه بعد وقوعه يعلم بعدم جواز الإتيان بما يشترط فيه الطهارة ، وإن لم يظهر أن هذا أثر له أو للحدث الواقع قبله. وكذا يجري استصحاب الطهارة وإن لم يعلم أن أثرها وهو جواز الإتيان بما يشترط فيه الطهارة مستند إلى نفس هذه الطهارة أو إلى ما قبلها.

إذا عرفت هذا تعرف ضعف ما عن كشف اللثام من الجزم بصرف إطلاق حكم الأصحاب إلى صورة عدم العلم بحاله قبل الزمانين. مضافا إلى : ما في مصباح الفقيه من «ندرة الجهل بالحالة السابقة» فحمل إطلاقات الحكم بوجوب التطهير على الجاهل بحاله قبل الحالتين تنزيل للإطلاقات على فرد نادر.

وضعف تقييد عبارة الشرائع به كما عن المسالك. وضعف إرجاع المقام أعني تيقن الحالتين مع الشك في المتقدم منهما إلى صورة تيقن إحدى الحالتين والشك في وجود الأخرى موضوعا وحكما.

أما الأول : فلأن المفروض في تلك المسألة هو تيقن إحدى الحالتين والشك في وجود الأخرى ، لا في تأثيرها بعد العلم بوجودها كما في طهارة شيخنا الأعظم (قده). وأما المفروض في هذه المسألة فهو اليقين بوجود كلا الحادثين والشك في المتقدم منهما.

وأما الثاني : فلما تقدم من أن المعتبر في الاستصحاب هو كون المستصحب المتيقن مما يترتب عليه الأثر سواء أكان مسببا عنه أم لا ، فترتيبه عليه ولو بنحو القضية الحينية كاف في صحة استصحابه ، فلا يكون تسبب الأثر عن المستصحب معتبرا في جريان الاستصحاب. فعليه يجري كل من استصحابي الطهارة والحدث ،

٦٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لترتب الأثر بالنحو المزبور على كل منهما ، ضرورة أنه بعد تحقق الطهارة يعلم بجواز فعل المشروط بالطهارة ، كما أنه بعد وقوع الحدث يعلم بعدم جواز فعله.

وبالجملة : فالمستصحب هو نفس الطهارة والحدث ، لا أثرهما المسبب عنهما حتى يجري الاستصحاب في ضد الحالة السابقة فقط ، ويحكم بالطهارة فيما إذا كانت الحالة السابقة قبل الزمانين هي الحدث ، أو بالحدث فيما إذا كانت هي الطهارة ، إذ لا موجب لجعل المتيقن خصوص الأثر المسبب عن الحالتين كما عرفت مفصلا.

فالمتحصل : أن المعتبر في الاستصحاب هو وجود الأثر الشرعي عند وجود المستصحب وإن لم يكن مسببا وناشئا عنه ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في الحادثين مع الجهل بتاريخهما سواء علمت حالته السابقة عليهما أم لم تعلم.

نعم قد تقدم عدم جريان الاستصحاب فيهما ، إما لعدم إحراز اتصال زمان اليقين بالشك كما عليه المصنف ، وإما لعدم كون الشك فيهما في الامتداد كما عليه شيخنا العراقي.

ثالثتها : ما عن العلامة في بعض كتبه من التفصيل بين الجهل بالحالة السابقة على الحادثين وبين العلم بها ، بلزوم التطهير في الأول ، والأخذ بالحالة السابقة في الثاني ، استنادا في الثاني إلى سقوط الأصل في الطرفين ، لتكافئهما والرجوع إلى الحالة السابقة على الحالتين.

وأورد عليه تارة : بأنه لا مجال لاستصحاب الحالة السابقة مع العلم بارتفاعها ، ولذا قيل : إن إطلاق الاستصحاب عليه مسامحة. وأخرى : بأنه يحتمل تعاقب الوضوءين في صورة كون الحالة السابقة هي الطهارة ، أو تعاقب الحدثين في صورة كونها هي الحدث ، ومع هذا الاحتمال لا وجه للأخذ بالحالة السابقة.

لكن لا يرد عليه شيء من هذين الإشكالين بعد ملاحظة كلامه في المختلف وتبيّن مرامه ، قال (قده) في محكي المختلف : «إذا تيقن عند الزوال أنه نقض طهارة

٦٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وتوضأ عن حدث ، وشك في السابق ، فانه يستصحب حالة السابق على الزوال ، فان كان في تلك الحال متطهرا بنى على طهارته ، لأنه تيقن أنه نقض تلك الطهارة ثم توضأ ، ولا يمكن أن يتوضأ عن حدث مع بقاء تلك الطهارة ، ونقض الطهارة الثانية مشكوك فيه ، فلا يزول اليقين بالشك.

وإن كان قبل الزوال محدثا فهو الآن محدث ، لأنه تيقن أنه انتقل عنه إلى طهارة ثم نقضها ، والطهارة بعد نقضها مشكوك فيها».

وأنت ترى أن مفروض كلامه (قده) وقوع حالتين تؤثّر كل واحدة منهما في ارتفاع أثر الأخرى مع العلم بالحالة السابقة عليهما ، ومرجع هذا إلى العلم بالطهارة والشك في ارتفاعها ، أو العلم بالحدث والشك في ارتفاعه ، فيخرج عن مسألتنا وهو تعاقب الحالتين.

توضيحه : أنه إذا علم بكونه أول الزوال متطهرا ، ثم صدر منه وضوء ونوم مع فرض رفع كل منهما لأثر الآخر ، فلا محالة يحصل له العلم بأنه متطهر فعلا ، حيث ان رافعية نومه للطهارة منوطة بوقوعه عقيب طهارته التي كانت أول الزوال ، كما أن رافعية وضوئه للحدث تقتضي وقوعه بعد النوم ، فحالته الفعلية بمقتضى الاستصحاب الجاري في بقائها هي الطهارة المماثلة لحالته السابقة قبل الحالتين.

وكذا الحال فيما إذا كانت حالته السابقة على الحالتين هي الحدث ، حيث ان حالته الفعلية بناء على تأثير كل منهما في رفع أثر الأخرى هي الحدث. وهذا فرع آخر لا ربط له بمسألتنا وهي تعاقب الحالتين ، ولا ينبغي عد حكمه من أقوالها ، وذلك لخروجه عنها موضوعا ، وحكمه هو الّذي أفاده في المختلف بلا إشكال.

وبعد الإحاطة بفرض المسألة يظهر عدم ورود شيء من الإشكالين على العلامة.

ويؤيد أجنبية ما ذكره هنا عن مسألة تعاقب الحالتين بل يدل عليها أنه تعرض لهذا الفرع بعد أن اختار مذهب المشهور في تعاقب الحالتين ، فيفهم أن هذا الفرع مغاير لتوارد الحالتين موضوعا وحكما. هذا بعض الكلام في الصورة الأولى وهي

٦٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الجهل بتاريخ الوضوء والحدث.

وأما الصورة الثانية ـ وهي الجهل بتاريخ الوضوء والعلم بتاريخ الحدث والشك في تقدمه على الحدث وتأخره عنه ـ فالحكم فيها أيضا وجوب الوضوء ، إما لعدم جريان الاستصحاب في المجهول التاريخ وجريان استصحاب الحدث ، وإما لسقوطه بالمعارضة ووصول النوبة إلى قاعدة الاشتغال القاضية بلزوم الوضوء لما يشترط فيه الطهارة.

وأما القول بعدم وجوب الوضوء لأصالة تأخر الوضوء ، ففيه : أن أصالة التأخر معتبرة بالنسبة إلى أجزاء الزمان ، لأنه مقتضى الشك في امتداد المستصحب وبقائه الّذي هو ظاهر أدلة الاستصحاب ، دون الشك فيه بالإضافة إلى حادث آخر ، فانه لا يصدق عليه الشك في بقاء المستصحب وامتداده ، بل يصدق عليه الشك في حدوثه قبل الحادث الآخر أو بعده ، وهذا أجنبي عن مفاد أدلة الاستصحاب كما لا يخفى.

وأما الصورة الثالثة ـ وهي العلم بتاريخ الوضوء والشك في تاريخ الحدث ـ فعن المشهور جريان الاستصحاب فيها وسقوطه بالتعارض ، ووجوب الوضوء للمشروط بالطهارة بناء منهم على عدم الفرق بين معلوم التاريخ ومجهوله في جريان الاستصحاب.

لكن الظاهر أنه يجري الاستصحاب في الوضوء ، فيبني عليه ، ولا يجري في الحدث المجهول تاريخه.

أما جريانه في الأول فلاجتماع ركنيه فيه وهما اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، فان الشك يكون في ارتفاع الوضوء بالحدث ، وإن كان منشأ الشك الجهل بتاريخ وقوع الحدث.

وأما عدم جريانه في الثاني فلعدم إحراز اتصال زمان اليقين بالشك فيه ، لاحتمال وقوع الحدث قبل تاريخ الطهارة ، فتخلل اليقين بها بين زماني اليقين بالحدث والشك فيه. وعليه فيجري استصحاب الوضوء بلا مانع.

٦٥٥

الثاني عشر (١) : أنه قد عرفت (٢) أن مورد الاستصحاب لا بد (٣) أن يكون حكما شرعيا أو موضوعا لحكم كذلك (٤) ، فلا (٥) إشكال فيما كان

______________________________________________________

(التنبيه الثاني عشر : استصحاب الأمور الاعتقادية)

(١) الغرض من عقد هذا الأمر الّذي جعله في الرسائل تاسع التنبيهات هو التعرض لحال الأمور الاعتقادية من حيث جريان الاستصحاب فيها وعدمه ، ثم التنبيه على المناظرة التي جرت بين بعض أعلام الإمامية وبعض أهل الكتاب من جريان استصحاب نبوة بعض الأنبياء السابقين عليهم‌السلام وبيان ما هو الحق في ذلك ، وأن الأمور الاعتقادية التي منها النبوة كالأفعال الجوارحية في جريان الاستصحاب فيها أولا.

(٢) يعني : في الأمر العاشر ، حيث قال : «انه قد ظهر مما مر لزوم أن يكون المستصحب حكما شرعيا أو ذا حكم كذلك».

(٣) وجه اللابدية أنه لما كان الاستصحاب من الأصول العملية الشرعية توقف جريانه لا محالة على تحقق أمرين ، أحدهما : كون المستصحب مما تناله يد تشريع الشارع من حيث انه شارع ، أو موضوعا لحكم الشارع ، إذ لو لم يكن كذلك لم يعدّ أصلا تعبديا.

ثانيهما : ترتب الأثر العملي على هذا الحكم ، إذ لو لم يكن موردا لابتلاء المكلف وعمله كان التعبد به لغوا ، وخرج الاستصحاب عن كونه أصلا عمليا مجعولا وظيفة للشاك في مقام العمل.

(٤) أي : شرعي ، وبالجملة : فلا بد أن يكون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا له.

(٥) هذه نتيجة اعتبار كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا له ، فان الأحكام الفرعية المتعلقة بالعمل مثال لكون المستصحب حكما شرعيا من دون فرق بين كونه نفسيا وغيريا ، واستقلاليا وضمنيا ، وإلزاميا وترخيصيا.

٦٥٦

المستصحب من الأحكام الفرعية أو الموضوعات الصرفة الخارجية (١) أو اللغوية (٢) إذا كانت ذات أحكام شرعية.

______________________________________________________

(١) هذا مثال للموضوعات التي تترتب عليها أحكام شرعية ، والمراد بالصرفة هي الموضوعات التي لم يتصرف فيها الشارع أصلا وإن جعلها موضوعات لأحكام كالماء والحنطة واللحم والتمر وغيرها ، في قبال الماهيات المخترعة كالصلاة والصوم والحج ، فانها موضوعات تصرف فيها الشارع.

(٢) كما إذا فرض كون لفظ الصعيد الموضوع لجواز التيمم به حقيقة لغة في مطلق وجه الأرض ، وشك في نقله إلى معنى آخر عند نزول الآية المباركة الآمرة بالتيمم بالصعيد ، فانه لا مانع من استصحاب ذلك المعنى لترتيب الحكم الشرعي وهو جواز التيمم بمطلق وجه الأرض عليه. ومثل لفظ «الصعيد» ألفاظ «الآنية والغناء والمفازة» وغيرها إذا كان لها معان لغوية وشك في بقائها حين تشريع أحكام لها ، فان استصحابها لترتيب أحكامها عليها بلا مانع. وإشكال المثبتية إما غير لازم ، لترتب الأحكام الشرعية على نفس تلك المعاني بلا واسطة ، وإما غير باطل لكون هذا الاستصحاب في أمثال هذه الموارد أصلا لفظيا ، ومثبتات الأصول اللفظية معتبرة كما ثبت في محله.

كذا أفاده في حاشية الرسائل. وحيث ان مقصوده من الاستصحاب في المعنى اللغوي عند الشك في النقل ليس هو نفس الأصل العملي المستند إلى مثل «لا تنقض» فلا مجال لتوجيه جريان الأصل في باب اللغات بما أفاده بعض المحشين من «أن استصحاب الظهور يحقق موضوع الحجية التي هي من المجعولات ، فيحصل للمعنى اللغوي فردان كل منهما حجة ، أحدهما ما هو ظاهر بالفعل بحسب المحاورات العرفية في معنى ، وثانيهما ما هو ظاهر تعبدا بمعنى الحكم ببقاء ظهوره السابق في معنى ، ودليل حجية الظاهر يشمل كلّا منهما» وذلك لما فيه من أن دليل حجية ظواهر الألفاظ هو السيرة العقلائية الممضاة على العمل بالظواهر ، ومن المعلوم أن المتبع عندهم بما هم عقلاء هو الظهور الفعلي. واستصحاب الظهور

٦٥٧

وأما الأمور الاعتقادية (١) التي كان المهم فيها شرعا هو

______________________________________________________

السابق قاصر عن إثباته ، والفرد الادعائي للظهور الثابت بالاستصحاب ليس متبعا عندهم حتى يندرج في دليل حجية الظواهر على حدّ اندراج الظهور الفعلي فيه ، وذلك لأن دليل حجية الظواهر وهي السيرة العقلائية لبي ، فلا إطلاق له حتى يشمل كلّا من الظهور الفعلي والتعبدي ، فموضوع الحجية هو خصوص الظهور الفعلي.

وبالجملة : فما أفاده المصنف (قده) في الحاشية من «أن الأصل الجاري هنا أصل لفظي وهو أصالة عدم النقل ولا ربط له بالاستصحاب» في غاية المتانة ولا وجه لإثبات الظهور التنزيلي كما في بعض الحواشي أصلا.

(١) توضيحه : أن الأمور الاعتقادية على قسمين :

الأول : أن يكون المطلوب فيها شرعا مجرد الالتزام بها وعقد القلب عليها من دون لزوم تحصيل اليقين بها كخصوصيات عالم البرزخ والبعث والجنة والنار ، فان الواجب منها علينا هو التسليم لها والاعتقاد بها على ما هي عليه ، فتتأدى هذه المطلوبية بأن نعتقد بما اعتقد به إمامنا الصادق صلوات الله عليه ، وفي هذا القسم يجري كل من الاستصحاب الموضوعي والحكمي.

أما الأول فكما إذا شك في بقاء سؤال النكيرين أو وحشة القبر أو ضغطته في بعض بقاع الأرض ، لكرامة من دفن فيها من نبي أو إمام صلوات الله عليهما ، فانه يجري الاستصحاب في جميع ذلك ، ويترتب عليه وجوب الاعتقاد بذلك كله ، فان هذا الوجوب حكم شرعي يترتب على استصحاب موضوعه ، إذ لا فرق في الحكم الشرعي بين تعلقه بعمل جارحي وعمل جانحي بعد شمول دليل الاستصحاب لكليهما كما سيأتي.

وأما الثاني فكما إذا فرض الشك في وجوب اعتقادنا بنبوة الأنبياء السابقين عليهم‌السلام ، لاحتمال وجوبه على خصوص المسلمين في صدر الإسلام ، أو شك في وجوب الاعتقاد بالسؤال والضغطة والوحشة مع اليقين بها ، فان استصحاب وجوب الاعتقاد جار في جميعها بلا مانع.

٦٥٨

الانقياد (١) والتسليم والاعتقاد بمعنى عقد القلب عليها (٢) من الأعمال القلبية الاختيارية (٣)

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى القسم الأول الّذي يكون المطلوب فيه هو الالتزام والانقياد دون اليقين والمعرفة ، وقد مر تفصيله بقولنا : «الأول : أن يكون المطلوب فيها شرعا ... إلخ».

(٢) أشار بهذا التفسير إلى مغايرة الاعتقاد لليقين ، فان الثاني مقابل الجهل ، والأول مقابل الجحود والإنكار ولو مع اليقين كما يشهد به قوله تعالى : «جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم كفرا وعلوّا» وكذا الوجدان ، فان بعض الناس مع علمه بأفضلية غيره منه لا يلتزم بذلك ولا يعقد قلبه عليه ، لجهات خارجية ، ومن هنا يقال : ان بعض خلفاء الجور مع تيقنه بإمامة من عاصره من الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين لم يلتزم بما تيقنه ولم يؤدّ وظيفته بالنسبة إليه عليه‌السلام ، بل ظلمه وجفا عليه.

وبالجملة : فلا ينبغي الارتياب في مغايرة الاعتقاد لليقين كما هو المحكي عن أكثر المتكلمين أيضا ، وأن النسبة بينهما عموم من وجه ، لاجتماعهما في الأصول الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها كلّا من اليقين وعقد القلب ، وافتراقهما من ناحية الاعتقاد بخصوصيات البرزخ والحساب والميزان والحوض وكيفيات تعذيب العصاة. ومن ناحية اليقين بحصول العلم بنبوة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأكثر أهل النفاق مع عدم اعتقادهم والتزامهم بذلك.

(٣) غرضه أن الانقياد والتسليم وعقد القلب تعد أعمالا وإن كانت صادرة من الجوانح ، وهي اختيارية ، فيصح تعلق التكليف بها ، وكذا استصحابه لو شك في بقائه. وقد عرفت أن الاعتقاد ليس هو اليقين ، وإلّا لاندرج في القسم الثاني الآتي.

وبالجملة : فجريان الاستصحاب في وجوب الاعتقاد منوط بأمور ثلاثة : أحدها : كون الاعتقاد عملا اختياريا وان كان قلبيا. ثانيها : مغايرته لليقين ، إذ مع الاتحاد يندرج في الأمور الاعتقادية التي يكون المطلوب فيها المعرفة.

٦٥٩

فكذا (١) لا إشكال في الاستصحاب فيها حكما ، وكذا موضوعا (٢) فيما (٣) كان هناك يقين سابق وشك لاحق ، لصحة (٤) التنزيل وعموم (٥) الدليل.

______________________________________________________

ثالثها : عدم التلازم بين الاعتقاد واليقين ، إذ معه كما عن بعض المحققين لا يعقل الشك في بقاء اللازم مع انتفاء الملزوم وهو اليقين.

(١) جواب «وأما الأمور الاعتقادية» يعني : فلا إشكال في جريان الاستصحاب هنا كعدم الإشكال في جريانه في الموضوعات الصرفة واللغوية.

(٢) قد عرفت أمثلة كل من الاستصحاب الموضوعي والحكمي عند شرح قوله : «وأما الأمور الاعتقادية» وضمير «فيها» راجع إلى «الأمور الاعتقادية».

(٣) متعلق بقوله : «لا إشكال» وقيد لكل من الحكم والموضوع ، وهو إشارة إلى التفصيل في متعلق الاعتقاد بين المبدأ تعالى الّذي لا يعتريه شك في البقاء وبين غيره مما يمكن فيه الشك في البقاء.

(٤) تعليل لقوله : «فكذا لا إشكال» ومحصله : أن المقتضي لجريان الاستصحاب في هذا القسم من الأمور الاعتقادية من كلتا مرحلتي الثبوت والإثبات موجود. أما مرحلة الثبوت فلبداهة صحة التنزيل فيها ، وجعل المشكوك فيه موضوعا أو حكما منزلة المتيقن ، فإذا شك في بقاء أصل السؤال أو وجوب الاعتقاد به مثلا مع اليقين ببقاء أصله صح تنزيل المشكوك منهما منزلة المتيقن ، إذ لا مانع من صحة هذا التنزيل أصلا. وأما مرحلة الإثبات فلا قصور فيها أيضا بعد شمول عموم مثل «لا تنقض اليقين بالشك» لهذا القسم من الأمور الاعتقادية كشموله للأحكام الفرعية.

فالنتيجة : أن الاستصحاب الموضوعي والحكمي يجري في هذا النوع من الأمور الاعتقادية.

(٥) معطوف على «صحة» وهذا إشارة إلى مقام الإثبات أي دليل الاستصحاب ، كما أن قوله : «لصحة التنزيل» إشارة إلى مقام الثبوت ، وقد مر تقريب كليهما.

٦٦٠