منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

فان (١) الطريق أو الأمارة حيث أنه كما يحكى (٢) (*) عن المؤدى ويشير إليه كذا يحكي عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وملازماته ، ويشير (٣) إليها كان (٤) مقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في

______________________________________________________

والأحكام ، ويحتمل تغايرهما بما عرفت.

(١) هذا شروع في بيان وجه الفرق بين الأصول العملية وبين الطرق والأمارات وقد مر تقريبه مفصلا عند شرح قوله : «ثم لا يخفى وضوح».

(٢) حكايته إنما هي لأجل دلالته على المؤدى وكشفه عنه ، والدلالة على الملزوم دلالة على اللازم ، فكما يحكي الطريق عن المؤدى مطابقة فكذلك يحكي عن لوازمه وملازماته وملزومه التزاما ، فالحكاية في الأمارة وإن كانت واحدة صورة لكنها تنحل إلى حكايات متعددة لبّا بحسب ما للمحكي من الملزوم واللازم والملازم. وعليه فيشمل دليل اعتبار الخبر كل واحدة من هذه الحكايات. وضمائر «إليه ، أطرافه ، ملزومه ، لوازمه ، ملازماته» راجعة إلى «المؤدى» والأولى تأنيثها ، لرجوعها إلى المؤنث وهو «الأمارة والطريق» التي هي أيضا مؤنث مجازي.

(٣) معطوف على «يحكي» وضمير «إليها» راجع إلى «أطرافه» والمراد بحكاية الطريق كما قيل هو دلالتها على المؤدى وكشف عنه ، لا ظاهرها حتى يرد عليه : أنه ربما لا يكون المخبر ملتفتا إلى لوازم المؤدى ، ومع عدم الالتفات كيف يحكي عنها؟ إلّا أن تفسير الحكاية بالدلالة خلاف الظاهر.

(٤) جواب «حيث» وإشارة إلى الجهة الثانية المذكورة بقولنا : «ثانيتهما : إطلاق دليل الحجية الثابت بمقدمات الحكمة ... إلخ» كما أن قوله : «حيث انه كما يحكي عن المؤدى ويشير إليه» إشارة إلى الجهة الأولى التي بيّناها بقولنا : «إحداهما كشفها عن مدلولها ، لأن شأن كل أمارة ... إلخ» وضمائر «اعتبارها ، تصديقها ، حكايتها» راجعة إلى «الطريق أو الأمارة».

__________________

(*) الأولى سوق العبارة هكذا «حيث إنه يحكى عن ملزوم المؤدى ولوازمه وملازماته كحكايته عن نفس المؤدى كان مقتضى إطلاق ...».

٥٤١

حكايتها ، وقضيته (١) حجية المثبت منها (*) كما لا يخفى. بخلاف (٢)

______________________________________________________

(١) يعنى : ومقتضى لزوم تصديق الأمارة الحاكية عن أطراف مؤداها من ملزومه ولوازمه وملازماته هو حجية مثبتات الأمارة ، إذ المفروض أنها تدل على جميعها وتحكى عنها كما تحكي عن نفس مؤداها. وحيث إن دليل اعتبارها مطلق لعدم ما يوجب تقييده من القدر المتيقن في مقام التخاطب وغيره ـ وهو يدل على اعتبارها من حين الكشف والطريقية ـ فلا محالة تكون حجة في كل ما ينكشف بها من أطراف مؤداها من الملزوم واللازم والملازم ، سواء اعتقد المخبر بالأمارة باللزوم أم لا. فإذا أخبرت البينة بولادة المرأة الفلانية في تاريخ كذا ، وانقضى من ذلك التاريخ إلى زمان شهادتها خمسون سنة ثبت لازمها وهو يأسها إذا كانت غير قرشية وان لم تلتفت البينة إلى هذا اللازم ، ويترتب على هذا اللازم عدم وجوب العدة إذا طلّقت ، وجواز تزويجها بعد الطلاق بلا فصل.

(٢) يعنى : بخلاف دليل الاستصحاب وغيره من الأصول العملية ، فانه يفارق دليل الأمارة من حيث ان الأمارة لمّا كانت حاكية عن جميع مداليلها المطابقية والتضمنية والالتزامية كان مقتضى إطلاق دليل حجيتها اعتبار جميعها ، إذ المفروض فعلية دلالتها على الجميع وعدم مانع عن إطلاق دليل حجيتها. وأما دليل الاستصحاب وغيره من الأصول العملية فلا يقتضي حجيتها في لوازمها ، إذ المفروض عدم دلالة الأصول على مؤدياتها وكشفها عنها حتى تدل على لوازم مؤدياتها وتشملها أدلة الأصول ، فتنزيل الحياة المشكوكة بسبب الاستصحاب عبارة عن التعبد بالأثر الشرعي المترتب على نفس الحياة دون آثار لوازمها كنبات اللحية والبلوغ خمسين سنة مثلا ، لأن التعبد بأحكام اللوازم منوط بإحراز موضوعها أعني نفس اللوازم إما وجدانا وإما تعبدا ، وكلاهما مفقود. أما الأول فواضح. وأما الثاني ، فلأن مورد التعبد الاستصحابي هو نفس الحياة ، لأنها المعلومة حدوثا المشكوكة بقاء ، والتعبد بها لا يقتضي إلّا التعبد بالحكم الشرعي المترتب على نفسها دون

__________________

(*) اعلم أن محصل ما أفاده هنا وفي حاشية الرسائل في وجه حجية مثبتات

٥٤٢

مثل (١) دليل الاستصحاب ، فانه (٢) لا بد من الاقتصار بما فيه من الدلالة

______________________________________________________

غيرها وإن كان من لوازمها كما هو واضح.

(١) التعبير بالمثل إشارة إلى عدم اختصاص عدم حجية الأصل المثبت بالاستصحاب ، وأن أدلة سائر الأصول العملية كدليل الاستصحاب لا تقتضي اعتبار مثبتات الأصول.

(٢) هذا بيان ما يقتضيه الاستصحاب ، يعني : فلا بد من الاقتصار على ما يدل

__________________

الأمارة كما مر في التوضيح هو حكاية الأمارة عن أطراف مؤداها ودلالتها عليها ، وأن مفاد دليل اعتبارها لزوم الأخذ بتمام ما هي حاكية وكاشفة عنه من المؤدى وملازمه وملزومه ولازمه ، وترتيب الأثر الشرعي على كل واحد منها ، هذا.

لكن أورد عليه المحققان النائيني والأصفهاني (قدهما) بما محصله : عدم تحقق الحكاية بالنسبة إلى اللازم والملازم ، بتقريب : أن المقصود بالدلالة إن كان هو التصورية كالدلالة الوضعيّة فلا ريب في دلالة الكلام بهذه الدلالة على جميع مداليلها ، لكن لا يصدق عليها عنوان الحكاية. وإن كان هو التصديقية فهي لكونها متقومة بالالتفات والقصد فالمخبر عن الملزوم إنما يخبر عن لازم كلامه في صورة التفاته إليه كي يصح أن يقال : ان المخبر أخبر عن لازم كلامه ، وهو مخصوص باللام البيّن بالمعنى الأخص ، وأما مطلق اللوازم والملازمات حتى مع عدم الالتفات إليها فهي لوازم المخبر به وليس مخبرا بها ولو إجمالا وارتكازا فلا معنى لأن يؤخذ بها (١)

وقد يوجه كلام الماتن تارة بما في تقرير شيخنا المحقق العراقي (قده) من وجهين : أحدهما : أن المعتبر في الحكاية التصديقية عن المؤدى هو القصد كما أفيد ، وأما بالنسبة إلى لازمه وملازمه فاعتبار القصد ممنوع جدا ، بل يكفي في الأخذ بلوازمه وملزوماته مجرد حكاية الخبر عنها ولو دلالة تصورية قهرية حتى مع القطع بعدم التفات المتكلم إليها. ويشهد له بناء العرف والعقلاء في محاوراتهم وفي باب الإقرار

__________________

(١) أجود التقريرات ، ٢ ـ ٤١٨ نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٠١

٥٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

عليه دليل الاستصحاب من التعبد بالمشكوك بلحاظ أثر نفسه بلا واسطة ، لأنه مورد التعبد والتنزيل ، فلا بد من الاقتصار على أثر نفس المستصحب دون غيره من لوازمه وملزوماته وملازماته.

__________________

وغيره على الأخذ بلوازم كلام الغير وإلزامهم إياه بما يقتضيه كلامه حتى مع قطعهم بغفلته عنها.

وثانيهما : أن المعتبر في الدلالة التصديقية بالنسبة إلى لوازم المؤدى ـ على فرض اعتبارها ـ هو القصد الإجمالي لا التفصيليّ ، ومن المعلوم أن المتكلم المخبر بالملزوم قاصد للوازم كلامه إجمالا. ومع تحقق الإرادة بنحو الإجمال لا قصور في شمول دليل التعبد بالأمارة لجميع ما تحكي عنه من المؤدى ولوازمه وملزوماته (١)

وأخرى بما في حاشية المحقق الأصفهاني (قده) في مقام دفع ما أورده أوّلا على المتن ، قال : «ان الأمارة تارة تقوم على الموضوعات كالبينة على شيء ، فاللازم حينئذ كون ما يخبر به الشاهدان عن عمد وقصد ملتفتا إليه نوعا. وأخرى كالخبر عن الإمام عليه‌السلام ، فان شأن المخبر بما هو مخبر حكاية الكلام الصادر عن الإمام عليه‌السلام بماله من المعنى الملتفت إليه بجميع خصوصياته للإمام عليه‌السلام لا للمخبر ، إذ ربّ حامل فقه وليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، فمجرد عدم التفات المخبر بلوازم الكلام المخبر عنه لا يوجب عدم حجية المداليل الالتزامية للكلام الصادر من الإمام ، فان كلها ملتفت إليها للمتكلم بها» (٢)

لكن الكل لا يخلو من الغموض ، إذ في الأول : أن مفاد أدلة اعتبار الأمارات كما صرح به المصنف في الحاشية هو تصديق الأمارات فيما تحكي عنه ، ومن المعلوم أن عنوان «الخبر والنبأ وما يرويه ثقاتنا» ونحوه من مضامين أدلة الاعتبار يقتضي تصديق العادل في ما أخبر به وحكى عنه وأدّاه ، ولا تصدق هذه العناوين على لوازم الكلام غير الملتفت إليها. ودعوى صدق الحكاية على الدلالات التصورية غير واضحة لو لم يكن عدمه واضحا.

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٨٤

(٢) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٠٢

٥٤٤

على التعبد بثبوته (١) ، ولا دلالة إلّا على التعبد بثبوت المشكوك

______________________________________________________

(١) الأولى أن يقال : «بثبوت المشكوك ، ولا دلالة له إلّا على التعبد بثبوته بلحاظ أثره» حتى يكون مرجع ضمير «بثبوته» مذكورا في الكلام.

__________________

وأما الاستشهاد ببناء العقلاء على مؤاخذة المقرّ بلوازم كلامه فهو وإن كان تاما في مورده ، وهو ما إذا كان اللازم بيّنا بالمعنى الأخص ، أو كان مما يلتفت إليه نوعا وإن ادعى نفس المقرّ عدم التفاته إليه ، لكنه لا يصلح للنقض على المدعى وهو عدم كفاية الدلالة التصورية ، لعدم صدق الاخبار على اللازم بالأخبار عن الملزوم ما لم يكن نفسه مقصودا للمتكلم. بل يمكن منع الأخذ بلازم الكلام في باب الإقرار إذا اعتذر المقر بعدم التفاته إليه وغفلته عنه ، إذا كان ثقة.

وفي الثاني : أنه وإن كان متينا في نفسه ، لكنه أجنبي عن المدعى إذا لم يلتفت المخبر إلى لوازم كلامه أصلا ، فانه كيف يصح الاحتجاج عليه بالأخبار عن لازم كلامه؟ إذ لا حكاية له عنه حتى يكون حجة عليه. نعم لو أحرز الالتفات الإجمالي إلى لازم الكلام فأخبر عن ملزومه ترتب عليه ، وأما مع القطع بالغفلة فلا.

وفي الثالث ـ وهو الّذي أفاده المحقق الأصفهاني ـ : أنه إنما ينفع بناء على كون الواصل بخبر الثقة نفس الواقع وكون أدلة الاعتبار إمضاء لسيرة العقلاء على العمل بخبر الثقة على أنه هو الواقع كما هو المختار. وأما بناء على مفروض الكلام من دلالتها على تصديق العادل في إخباره فيشكل ما أفاده ، ضرورة أن الواجب على الفقيه أو الأفقه الّذي جاء إليه الخبر تصديق الراوي العدل في أخباره ، لأن وصول خبره حقيقة وصول للواقع عنوانا ، فأدلة الاعتبار تقتضي جعل الحكم المماثل لما أخبر به العادل بداعي التحفظ على الواقع ، ولا تقتضي وصول الواقع بنفسه حتى يكون إخبار العدل إخبارا عن قول المعصوم عليه‌السلام بالملزوم المفروض التفاته إلى جميع لوازم كلامه. وحيث ان الواصل الّذي يجب العمل به هو ما أخبر به العادل وهو الواقع العنواني فلا بد من الاقتصار في الأخذ بالمقدار الّذي أخبر به العادل ، وهو حسب الفرض خصوص الملزوم.

٥٤٥

بلحاظ أثره (١)

______________________________________________________

(١) هذا الضمير وضمير «ثبوته» راجعان إلى المشكوك المستفاد من العبارة ، ولو قال : «بلحاظ أثر نفسه» كان أنسب بقوله : «ولا دلالة له إلّا على التعبد ... إلخ» وضمير «فيه» راجع إلى «دليل» و «من الدلالة» بيان للموصول في «بما فيه» وضمير «له» راجع إلى «دليل الاستصحاب».

__________________

والمتحصل مما تقدم : أنه لا مسرح للقول باعتبار مثبتات الأمارات بناء على ما في المتن. كما لا وجه للقول باعتبارها من باب الظن النوعيّ ، أو جعل المحرزية والوسطية في مقام الإثبات المنسوب إلى المحقق النائيني (قده) ، لعدم كون موضوع أدلة حجية الخبر اعتبار الظن النوعيّ ، ولا اعتبار الخبر علما ، بل ليس في تلك الأدلة تعبد وجعل الهوهوية وتتميم الكشف وإنشاء الحكم المماثل للواقع أصلا ، وإنما هو إمضاء لسيرة العقلاء على العمل بخبر الثقة المفيد للعلم النظامي الّذي عليه مدار عمل العقلاء في معاشهم ومعادهم. وهذا المعنى هو مراد المحقق النائيني (قده) على ما حكاه سيدنا الأستاذ كرارا ، وأنكر ما اشتهرت نسبته إلى الميرزا (قده) من التزامه بجعل الوسطية وتتميم الكشف. ولو صحّ ما نسب إليه لكان مخدوشا بوجوه منها ما أورده المحققان العراقي والأصفهاني (قدهما) عليه ، ولا نطيل الكلام بذكرها بعد منع صدق أصل النسبة.

والنتيجة : أن المبنى المنصور في باب حجية الخير لمّا كان إمضاء السيرة على العمل بخبر الثقة فاللازم القول باعتبار مثبتاته ، إذ وصول الملزوم وصول للّازم بنظرهم بحيث يكون عدم ترتيب لوازم المخبر به على الخبر طرحا لنفس الاخبار عن الملزوم. ولو منع من صدق الخبر بالإضافة إلى اللازم لاحتمال غفلته عن لوازم كلامه لم يقدح ذلك في حجية مثبتاته بعد فرض التلازم بين الأمرين واقعا ، وكون المؤدى نفس الواقع لا عنوانه حتى يقتصر على مدلوله المطابقي.

نعم مقتضى هذا البيان اختصاص حجية المثبت بالأمارات التي يستند اعتبارها إلى السيرة الممضاة كأخبار الثقة والإقرار ونحوهما ، وأما ما لا يستند منها إلى مثل هذه السيرة كاليد فالقول باعتبار مثبتاتها مشكل.

٥٤٦

حسبما عرفت (١) ، فلا (٢) دلالة له على اعتبار المثبت منه كسائر الأصول التعبدية ، إلّا (٣) فيما عدّ أثر الواسطة أثرا له ، لخفائها أو شدة وضوحها وجلائها حسبما حققناه.

______________________________________________________

(١) حيث قال : «والتحقيق أن الأخبار إنما تدل على التعبد بما كان على يقين منه فشك بلحاظ ما لنفسه من آثاره ... إلخ».

(٢) هذه نتيجة ما تقدم من عدم دلالة دليل الاستصحاب إلّا على التعبد بالمشكوك ، فان لازم هذا التعبد الاقتصار على الحكم الشرعي المترتب على نفس المستصحب دون غيره وإن كان ذلك لازما أو ملزوما أو ملازما له ، لاختصاص التعبد والتنزيل بما تعلق به اليقين والشك. وضمير «له» راجع إلى «دليل» وضمير «منه» إلى الاستصحاب.

(٣) استثناء من قوله : «فلا دلالة له» يعنى : فلا دلالة لدليل الاستصحاب على اعتبار المثبت منه إلّا في الواسطة التي عدّ أثرها لخفائها أو جلائها أثرا للمستصحب ، فحينئذ يكون دليل الاستصحاب دليلا على اعتبار المثبت منه بالتقرير المتقدم. وضمائر «لخفائها ، وضوحها ، جلائها» راجعة إلى الواسطة ، وضمير «له» إلى «المشكوك».

فتلخص من جميع ما تقدم : أن المصنف (قده) ينكر حجية الأصل المثبت إلّا في موردين ، أحدهما : خفاء الواسطة ، وهو الّذي يقول به الشيخ (قده) أيضا ، كما تقدم في طي المباحث.

ثانيهما : جلاء الواسطة ، وله صورتان ، إحداهما : أن يكون مورد التعبد الاستصحابي العلة التامة أو الجزء الأخير منها. ثانيتهما : أن يكون مورد التعبد الاستصحابي من الأمور المتضايفة ، وقد تقدم توضيح ذلك كله.

٥٤٧

الثامن (١) أنه لا تفاوت في الأثر المترتب على المستصحب بين

______________________________________________________

(التنبيه الثامن : موارد ثلاثة توهّم كون الأصل مثبتا فيها)

(المورد الأول : استصحاب الفرد لترتيب أثر الطبيعي عليه)

(١) الغرض (١) من عقد هذا الأمر دفع توهم مثبتية الأصل في موارد ثلاثة ، وقبل توضيحه نقول : انه قد ظهر من مباحث التنبيه السابع أمران :

أحدهما : أن مفاد أدلة الاستصحاب إنشاء حكم مماثل للمستصحب في استصحاب الأحكام ، ومماثل لأحكامه في استصحاب الموضوعات سواء ترتب الأثر على المستصحب بلا وساطة شيء كاستصحاب عدالة زيد ليترتب عليه جواز الاقتداء به ، أن بوساطة أثر شرعي كاستصحاب طهارة الماء لترتيب أثره الشرعي عليه ، وهذا أعم من ترتبه عليه بلا واسطة كجواز التوضؤ به ، أو بواسطة أثر شرعي كجواز الدخول في الصلاة المترتب على صحة وضوئه ، وهكذا.

ثانيهما : أن الأثر الشرعي المترتب على المستصحب بواسطة لازمه أو ملازمه أو ملزومه أو مقارنه ـ فيما عدا خفاء الواسطة وجلائها ـ لا يترتب عليه ، لعدم اعتبار الأصول المثبتة كما تقدم.

وبعد وضوح حكم هاتين الكبريين ، ربما يقع النزاع في بعض المقامات من جهة صغرويته للكبرى الأولى حتى يجري فيها الاستصحاب أو للكبرى الثانية حتى لا يجري فيه ، وقد ذكر المصنف في هذا التنبيه كما في الحاشية موارد ثلاثة يتوهم كون الأصل مثبتا فيها.

الأول : الأصل الجاري في الموضوعات الخارجية لإثبات الأثر الشرعي لها.

الثاني : الأصل الجاري في الشرط ونحوه لإثبات الشرطية.

الثالث : الأصل الجاري في عدم استحقاق العقوبة لإثبات البراءة.

أما المورد الأول فتقريبه : أن الأحكام ـ على ما تقدم في مباحث الأوامر ـ متعلقة بالطبائع لا الأفراد ، فإثبات الحرمة للمائع الّذي علم بخمريته سابقا باستصحاب

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢١٤ إلى ٢١٦

٥٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

خمريته منوط بالثبات فرديته الطبيعة الخمر ، وبإثبات الملازمة بين بقاء الفرد وبقاء الطبيعة التي هي موضوع الحكم حقيقة ، ومن المعلوم أن هذه الملازمة عقلية وليست بشرعية.

وبالجملة : فإثبات حكم الطبيعة للموضوع الخارجي بإجراء الأصل فيه موقوف على مثبتية الأصل. قال شيخنا الأعظم (قده) في مقام تعميم حجية الأصل المثبت ، وعدم الفرق في مثبتيته بين كون لازم المستصحب متحدا معه في الوجود وبين كونه مغايرا له في الوجود ما لفظه : «لا فرق في الأمر العادي بين كونه متحد الوجود مع المستصحب بحيث لا يتغايران إلّا مفهوما كاستصحاب بقاء الكر في الحوض عند الشك في كرية الماء الباقي فيه ، وبين تغايرهما في الوجود كما لو علم بوجود المقتضي لحادث على وجه لو لا المانع حدث وشك في وجود المانع».

وقد دفع المصنف هذا التوهم بما محصلة : منع إطلاق حكمه (قده) بمثبتية الاستصحاب ، والتفصيل بين كون الواسطة متحدة وجودا مع المستصحب ومغايرة له ، وتوضيحه منوط ببيان أمرين :

أحدهما : أن المعتبر في الحمل اتحاد الموضوع والمحمول وجودا ، فان اتحدا مفهوما أيضا وكان اختلافهما بنحو من الاعتبار كالإجمال والتفصيل في الحد والمحدود فهو الحمل الأوّلي الذاتي ، وإن تعددا مفهوما فهو الحمل الشائع الصناعي. وعلى هذا فمحمولات القضايا تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول : أن يكون المحمول ذاتي الموضوع وحقيقته التي هي جنسه وفصله ، وهي الذاتي في باب الإيساغوجي كحمل «الحيوان الناطق» على الإنسان.

 الثاني : أن يكون المحمول عنوانا مشتقا من مبدأ قائم بذات الموضوع ومنتزع عن نفس ذاته ، بأن يكفي ذاته في انتزاعه من دون حاجة إلى ضم ضميمة ، كالإمكان الّذي ينتزع من ذات الإنسان مثلا ويحمل ما يشتق منه عليه ، فيقال : «الإنسان ممكن» وكذا الزوجية ونحوها من لوازم الماهيات ، فيقال : «الأربعة

٥٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

زوج» فان ذات الإنسان كافية في انتزاع الإمكان له ، وكذا ذات الأربعة لانتزاع الزوجية منها. وهذا المحمول هو الذاتي البرهاني المغاير للذاتي الإيساغوجي المتقدم آنفا ، حيث إن إمكان الممكن أمر اعتباري ، وليس مقوّما ، بخلاف الذاتي الإيساغوجي ، فانه مقوم.

الثالث : أن يكون المحمول عنوانا مشتقا من مبدأ قائم بالموضوع قياما انضماميا أي من دون أن يكون المبدأ ذاتيا برهانيا ولا إيساغوجيا للموضوع ، وهو إما لا وجود له في الخارج كالعلم والعدالة والملكية والزوجية والأبوة وجميع الأمور الاعتبارية ، ونحوها الأمور الانتزاعية كالفوقية والتحتية.

وأما له وجود في الخارج كالسواد والبياض ونحوهما من الأعراض الخارجية المنضمة إلى الأجسام الموجودة ، فان مفاهيم هذه العناوين الاشتقاقية كالعالم والعادل والوكيل والفقيه والأسود والأبيض ونظائرها ليست منتزعة عن نفس الذوات كالإمكان ، بل منتزعة عنها بانضمام مبادئ الاشتقاق من المصادر الأصلية كالعلم والعدل والوكالة والسواد والبياض ، أو المصادر الجعلية كالحرية والرقية والزوجية ونحوها إليها.

ثانيهما : أن بعض أهل المعقول اصطلح على بعض المحمولات بالخارج المحمول وعلى بعضها بالمحمول بالضميمة ، والأول هو الأمور الانتزاعية المحمولة على المعروض بعد انتزاعها من حاقّ الذات وصميمها كعوارض الماهية ، والثاني هو الأمر المتأصل المحمول على المعروض بضميمة الوجود أو بواسطته كعوارض الوجود. قال الحكيم السبزواري في شرح قوله : «والخارج المحمول من صميمه يغاير المحمول بالضميمة» ما لفظه : «أي : قد يقال العرضي ، ويراد به أنه خارج عن الشيء ومحمول عليه كالوجود والموجود والوحدة والتشخص ونحوها مما يقال : انها عرضيات لمعروضاتها ، فان مفاهيمها خارجة عنها ، وليس محمولات بالضمائم. وقد يقال : العرضي ويراد به المحمول بالضميمة كالأبيض والأسود

٥٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

في الأجسام ، والعالم والمدرك في النفوس» (١) هذا.

ولكن ليس مقصود المصنف (قده) من هذين الاصطلاحين مفهومهما عند أهل المعقول ، وذلك لما حكاه المحقق المشكيني في موضعين من حاشيته عن مجلس درس المصنف ونقلناه في بحث المشتق من أن المراد بالخارج المحمول هو مطلق الأمور الاعتبارية ، لا خصوص ما ينتزع عن حاقّ الشيء كإمكان الإنسان ، بل يشمل الأعراض التي ليس لها ما يحاذيها في الخارج كالعدالة والفقاهة والوكالة ونحوها.

إذا عرفت هذين الأمرين ، فاعلم أن مثبتية الأصل إنما تكون فيما إذا كانت الواسطة مغايرة وجودا للمستصحب كالسواد والبياض ونحوهما من المحمولات بالضميمة التي لها ما بإزاء في الخارج وإن كانت قائمة بمعروضاتها ، فان كان لسواد جسم مثلا أثر شرعي لا يترتب على استصحاب الجسم أثر سواده.

والحاصل : أن مورد الأصل المثبت هو ما إذا كانت بين المستصحب والواسطة مغايرة وجودا. وأما إذا كان بينهما اتحاد وجودي بحيث تحمل الواسطة على المستصحب بالحمل الشائع لم يكن الاستصحاب لترتيب أثر الواسطة على المستصحب من الأصل المثبت أصلا ، ضرورة أن متعلق الحكم على ما ثبت في محله وإن كان هو الكلي ، لكنه بلحاظ وجوده ، لعدم قيام الملاكات الداعية إلى تشريع الأحكام بالطبائع بما هي ، بل بلحاظ وجودها ، ومن المعلوم أن الكلي موجود بعين وجود فرده سواء أكان منتزعا عن ذات الفرد كالإنسان المنتزع عن زيد مثلا ، أم منتزعا عن اتصافه بعوارض ليس لها ما بإزاء في الخارج ، بل هي متحدة وجودا مع معروضها كالفقيه والعادل والغنى والفقير ونحوها من العناوين الاشتقاقية التي لا يكون لمبادئها ما يحاذيها في الخارج.

 وعليه فإذا شككنا في بقاء مائع على خمريته فاستصحاب خمريته لترتيب

__________________

(١) شرح المنظومة ، قسم المنطق ، ص ٣٠

٥٥١

أن يكون مترتبا عليه بلا وساطة شيء (١) أو بوساطة (٢) عنوان كلي ينطبق ويحمل عليه بالحمل الشائع ويتحد معه وجودا (*) كان منتزعا

______________________________________________________

حرمة طبيعة الخمر عليه ليس مثبتا. وكذا استصحاب عدالة زيد مثلا لترتيب آثار طبيعة العادل عليه ليس مثبتا. هذا كله بناء على تعلق الأحكام بالطبائع. وأما بناء على تعلقها بالأفراد ، فالأمر أوضح ، لكون الفرد بخصوصيته موضوع الحكم من دون حاجة في إثبات الحكم له إلى انطباق الطبيعي عليه.

(١) كترتب جواز الائتمام على استصحاب عدالة زيد مثلا كما مر آنفا.

(٢) معطوف على «بلا واسطة» يعني : كما لا يكون الاستصحاب لترتيب الأثر المترتب على المستصحب بلا واسطة مثبتا ، كذلك لا يكون مثبتا لترتيب الأثر المترتب عليه بواسطة عنوان كلي ينطبق عليه ويتحد معه ويحمل عليه بالحمل الشائع الّذي ملاكه التغاير المفهومي والاتحاد الوجوديّ سواء أكان ذلك الكلي منتزعا عن مرتبة ذات المستصحب أم بملاحظة اتصافه ببعض العوارض التي لا وجود لها في الخارج. فقوله : «أو بوساطة عنوان كلي» إشارة إلى دفع ما يتراءى من كلام الشيخ (قده) من عدم الفرق في مثبتية الأصل بين كون اللازم العادي متحد الوجود مع المستصحب ومتغاير الوجود معه.

وحاصل وجه الدفع وأن تقدم تفصيله : أن المعيار في مثبتية الأصل هو مغايرة اللازم وجودا للمستصحب بحيث لا يتحدان وجودا ، وأما مع اتحادهما كذلك فليس ترتيب أثر اللازم باستصحاب الملزوم من الأصل المثبت.

__________________

 (*) لا يخفى أن المصنف أجاب عن الإشكال في حاشية الرسائل أيضا من دون تعرض فيها لتقسيم الموضوعات الخارجية إلى ثلاثة أقسام والتفصيل بينها بما عرفت ، قال : «لاتحاد تلك العناوين خارجا مع ما انطبقت عليها من الموضوعات الخارجية ، ضرورة أنها لا بشرط أخذت في موضوعات الأحكام ، وما لا بشرط يجتمع مع ألف شرط ، فأين هذا من الحاجة في ترتيب الأثر إلى الواسطة؟» (١) لكن الظاهر أن الصواب منع إطلاقه وتعين الالتزام بتفصيل المتن أو غيره.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢١٦

٥٥٢

عن مرتبة ذاته (١) أو بملاحظة (٢) بعض عوارضه مما هو خارج المحصول (٣) لا بالضميمة (٤) ، فان (٥) (*) الأثر

______________________________________________________

(١) أي : ذات المستصحب ، بأن يكون الكلي المنطبق عليه الّذي هو موضوع الحكم حقية منتزعا عن ذات المستصحب كزيد ، فان الطبيعي المنتزع عن مرتبة ذاته هو الإنسان المركب من الجنس والفصل ، فاستصحاب زيد لترتيب الأثر المترتب على الإنسان المتحد معه وجودا ليس بمثبت ، وضميرا «عليه ، معه» راجعان إلى «المستصحب».

(٢) معطوف على «عن مرتبة» يعني : بأن يكون الكلي منتزعا بملاحظة بعض عوارض المستصحب من العوارض التي ليس لها ما يحاذيها في الخارج كالولاية والوكالة والفقاهة والعدالة وغيرها مما لا وجود لها في الخارج ، فمن كان متصفا بأحد هذه الأوصاف كزيد مثلا وشك في بقائه فاستصحابه لترتيب الأثر الشرعي المترتب على عنوان الولي أو الوكيل مثلا ليس بمثبت.

(٣) المراد به العوارض التي لا يحاذيها شيء في الخارج كالزوجية والولاية غيرهما مما عرفت ، وضمير «عوارضه» راجع إلى «المستصحب» و «مما» بيان لـ «بعض» يعنى : أن المراد ببعض العوارض هو الخارج المحمول.

(٤) معطوف على «خارج المحمول» يعني : لا المحمول بالضميمة وهو الّذي له ما يحاذيه في الخارج كالسواد والبياض والقيام والقعود وغيرها من الأعراض التي لها وجود في الخارج غير وجود معروضاتها وإن كان قائما بها ، فان أثر هذا الكلي كالأبيض المتحد مع زيد مثلا لا يثبت باستصحاب زيد المنطبق عليه عنوان الأبيض والأسود ، لأن وجود البياض والسواد غير وجود زيد وإن كان قائما به ، وهذه المغايرة الوجودية توجب مثبتية الاستصحاب.

(٥) تعليل لقوله : «لا تفاوت» توضيحه : أن الأثر الشرعي في الصورتين الأوليين ـ وهما : انتزاع الكلي من ذات المستصحب ، وانتزاعه بملاحظة عوارضه

__________________

(*) هذا التعليل يغاير ما سبقه من الدعوى بوجهين ، أحدهما : أن ظاهر عبارته

٥٥٣

في الصورتين (١) إنما يكون له حقيقة ،

______________________________________________________

التي ليس لها ما بإزاء في الخارج ـ أثر لنفس المستصحب حقيقة ، ضرورة أن وجود الكلي عين وجود فرده ، فوجود زيد المستصحب عين وجود الإنسان وعين وجود الفقيه والعادل ونحوهما مما هو من الخارج المحمول. وهذا بخلاف الصورة الثالثة وهي المحمول بالضميمة ، حيث إن الأثر فيها حقيقة للأعراض كالسواد والبياض وغيرهما مما يحاذيها شيء في الخارج لا للمستصحب كزيد ، فاستصحابه لا يوجب ترتب الأثر الشرعي المترتب على عنوان السواد مثلا ، لتغايرهما وجودا ، وعدم كون وجود زيد المستصحب عين وجود السواد مثلا ، إلّا بناء على حجية الأصل المثبت.

(١) وهما كون الكلي منتزعا عن مرتبة ذات المستصحب ، ومنتزعا عن المستصحب بملاحظة اتصافه ببعض العوارض التي تكون من الخارج المحمول.

__________________

قبل التعليل هو مثبتية الأصل في المحمول بالضميمة خاصة في قبال عدم مثبتيته في الطبيعي والخارج المحمول. لكنه في مقام التعليل بقوله : «فان الأثر في الصورتين» زاد موردا آخر لمثبتية الأصل وهو ما إذا كان المحمول عنوانا مباينا للموضوع ومتحدا معه وجودا ، فتأمل في العبارة.

ثانيهما : أن العبارة كما يظهر بالتأمل لا تخلو من اضطراب نبّه عليه تلميذه المحقق الأصفهاني (قده) وذلك لظهور قوله : «ويحمل عليه بالحمل الشائع» في أن العنوان الملحق بالطبيعي والفرد في عدم مثبتية الأصل فيه هو نفس الوصف الاشتقاقي من المبدأ الخارج المحمول ، إذ هو الصالح للحمل ، لا نفس المبدأ. وقرينة المقابلة تقتضي إرادة نفس العنوان المشتق من قوله : «لا المحمول بالضميمة» كي يحصل الفرق بين العادل والأبيض. لكن يستفاد من تمثيله في مقام التعليل للمحمول بالضميمة بالسواد والبياض أن موضوع الأثر نفس المبادئ لا الأوصاف المشتقة منها ، وحينئذ يشكل الأمر في استصحاب الذات لترتيب أثر المبدأ الّذي يكون من الخارج المحمول كالوكالة والعدالة ونحوهما مما جعله المصنف من

٥٥٤

حيث (١) لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سواء ،

______________________________________________________

(١) تعليل لكون الأثر في الصورتين للمستصحب ، وقد مر آنفا توضيحه ، وحاصله : أن موضوع الأثر حقيقة هو المستصحب ، لأنه وجود الطبيعي الّذي اتضح كونه هو الموضوع حقيقة لا مفهومه ، فلا يكون بحذاء الكلي في الخارج سوى المستصحب. وعليه فترتيب أثر الطبيعة باستصحاب الفرد ليس مثبتا. وضميرا «له ، سواه» راجعان إلى «المستصحب».

__________________

الخارج المحمول ، لعدم الاتحاد المصحح للحمل بين المستصحب والأمر الانتزاعي.

وعلى كل من الاحتمالين أورد المحقق الأصفهاني على الماتن بأنه على الأول ـ أعني ترتب الأثر على العنوان الوصفي الاشتقاقي بلحاظ قيام مبدئه بالذات ـ ينبغي التسوية بين الخارج المحمول بالضميمة ، إذ لا فرق في الاتحاد مع الذات بين كون قيام المبدأ بها قياما انتزاعيا وانضماميا ، فكما أن «الفوق» عنوان قائم بالسقف ، فكذا «الأبيض» عنوان قائم بالجسم متحد معه ، فلا فارق بين المحمول بالضميمة وبين الخارج المحمول مع فرض اتحادهما مع الذات.

وعلى الثاني بأن الأمر الانتزاعي إن كان من الحيثيات اللازمة للذات ـ وهو الذاتي في كتاب البرهان ـ فهو متيقن ومشكوك كمنشإ انتزاعه فهو المستصحب وهو الموضوع للأثر ، لا أنهما متحدان في الوجود. وإن كان عرضيا بقول مطلق ، فكما أن استصحاب ذات الجسم وترتيب أثر البياض عليه مثبت ، فكذلك استصحاب ذات زيد وترتيب أثر الأبوة عليه مثبت ، ومجرد اتحادهما في الوجود بقاء لا يجدي شيئا (١).

أقول : ان تهافت الصدر والذيل يمكن أن يجاب عنه بأن مقصود المصنف إعطاء الضابطة وتمييز موارد الأصل المثبت عن غيرها ، وأنه إن كان المحمول عين الموضوع لم يكن من الأصل المثبت ، ومن المعلوم أن الأبيض وإن اتحد مع الجسم وجودا كاتحاد العادل مع زيد والفوق مع السقف. إلّا أن الفارق بينهما

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٠٣

٥٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وجود ما بحذاء الأبيض في الخارج ، لكون المقولات العرضية موجودة في وعاء العين كوجود الجواهر وإن كان وجودها المحمولي عين وجودها النعتيّ. وهذا بخلاف الفوق ، فانه مجرد تصور لا شأن له غير اللحاظ ، والموجود حقيقة هو المنشأ أي السقف. وهذا هو المستفاد من قوله : «حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سواه» إذ لو كان للمحمول ما يحاذيه في الخارج لم ينطبق عليه أنه عين الموضوع ، بل هما موجودان ، كما قد يدعى في حركة المتوسط في الدار المغصوبة من أن الحركة الواحدة صلاة وغصب.

وعليه فتنظير المصنف للمحمول بالضميمة بنفس المبدأ كالسواد والبياض لا ينافي قوله : «ويحمل عليه بالحمل الشائع» إذ المقصود بيان مثال لما يحمل على الشيء مطلقا سواء أكان بوصفه الاشتقاقي كالأبيض أم بمعونة «ذو» كقوله : «الجسم ذو بياض» لأن ضابط المحمول بالضميمة ـ وهو العرض المتأصل الملازم للوجود ـ صادق على كل من المبدأ والوصف المشتق منه كما يشهد له تعبير الحكيم السبزواري في ما نقلناه عنه في التوضيح. وحيث انه لا ظهور لكلام المصنف في إرادة نفس المبدأ بالخصوص من ذيل كلامه فلا سبيل لدعوى التهافت المزبورة.

ثم ان دفع شبهة الإثبات بما أفاده المحقق الأصفهاني (قده) من «اجتماع أركان الاستصحاب في نفس الكلي حقيقة ، إذ اليقين بالفرد يقين بالحصة المتقررة في ذات الفرد والشك فيه شك فيها ، فيجري الأصل فيه لا في الفرد حتى تتجه شبهة الإثبات» (١) أولى مما ادعاه المصنف من العينية والاتحاد ، لما أورده عليه المحقق المزبور في استصحاب الكلي من «أن عينية وجود الطبيعي ووجوده فرده واقعا أجنبية عن مقام التعبد بأثر الكلي ، فانهما متحدان بحسب الوجود الخارجي لا بحسب وجودهما التعبدي ، وليس في التعبد بموضوع ذي أثر جعل الموضوع حقيقة حتى يكون جعل الفرد جعل الطبيعي المتحد معه. وليس أثر الكلي بالنسبة إلى أثر الفرد طبيعيا بالإضافة إلى فرده» (٢).

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ١٠٢

(٢) المصدر ، ص ٦٩

٥٥٦

لا لغيره (١) مما كان مباينا معه

______________________________________________________

(١) معطوف على «له» أي : لغير المستصحب ، غرضه أن الأثر في الصورتين الأوليين إنما يكون للمستصحب حقيقة لا لغيره حتى يكون ترتيبه على المستصحب مبنيا على الأصل المثبت. نعم إن كان ذلك الغير مباينا للمستصحب وملازما له وجودا كما إذا كان المستصحب ـ بالكسر ـ مستقبل القبلة في أواسط العراق وكان الأثر مترتبا على استدبار الجدي لم يترتب هذا الأثر على استصحاب الاستقبال ، لمباينة استقبال القبلة واستدبار الجدي ، وإنما وجدا خارجا منضمين من باب الاتفاق. وقد أشار إلى هذه الصورة بقوله : «مباينا». أو كان ذلك الغير من أعراضه المحمولة عليه

__________________

والأولى في دفع شبهه الإثبات إنكار أصل تعلق الأحكام بالكليات ، ضرورة أن الكلي بما هو كلي ليس موضوعا للأثر ، لعدم قيام ملاك التشريع به ، مع أنه بتعبير بعض أعاظم أساتيذنا (قده) أمّ الموضوع ، ومقوم موضوعيته ، بل الكلي بلحاظ وجوده الخارجي موضوع. وهذا بلا فرق بين دعوى تعلق الأحكام بالطبائع أم بالأفراد ، أما على الثاني فواضح. وأما على الأول فلأن المقصود تعلق الحكم بالطبيعة بوجودها السّعي بحيث لا دخل للوازم الوجود وعلائم التشخص في الملاك. ولمّا لم يكن نفس الكلي موضوع الحكم أصلا فلا جدوى في دعوى الاتحاد والعينية كي يشكل بعدم إجداء ذلك في دفع الغائلة.

وهذا بناء على إنكار موضوعية الكلي لشيء من الأحكام متين. وأما بناء على الالتزام بتعلق الأحكام بالكلي والتنظير له بموضوعية جامع الحدث لحرمة مس المصحف كما في تقرير بعض الأعاظم (١) فلا سبيل هنا للإشكال على المصنف «بأن الاتحاد والعينية غير دافع لشبهة الإثبات ، وإنما تندفع بعدم موضوعية الكلي أصلا لحكم شرعي ، وإنما لوحظ في الدليل عبرة ومرآة لأفراده ، فالموضوع في الحقيقة هو الفرد» (٢) وذلك لعدم خلوه من تهافت بيّن ، لأوله إلى إنكار استصحاب الكلي رأسا ، فلاحظ.

__________________

(١) مصباح الأصول ، ٣ ـ ١٠٢

(٢) المصدر ، ص ١٧١

٥٥٧

أو (١) من أعراضه مما كان محمولا عليه بالضميمة كسواده مثلا أو بياضه ، وذلك (٢) لأن الطبيعي (٣) إنما يوجد بعين وجود فرده ، كما أن العرضي (٤)

______________________________________________________

بالضميمة ، وهي التي يحاذيها شيء في الخارج كالسواد مثلا لزيد ، فانه لو كان لسواده أثر لم يترتب على استصحاب زيد ، لمغايرتهما وجودا. نعم يترتب أثره باستصحاب نفس موضوعه وهو السواد مع اجتماع أركانه. ففي هاتين الصورتين لمّا كان للمحمول وجود خارجا ـ وإن كان منضما إلى وجود الموضوع ـ لا يجدي استصحاب الموضوع لإثبات أثر المحمول ، وضمير «معه» راجع إلى المستصحب.

(١) معطوف على «مباينا» يعنى : لا لغير المستصحب مما كان مباينا مع المستصحب أو كان محمولا عليه بالضميمة ، فان إثبات أثر ذلك الغير في هاتين الصورتين للمستصحب مبنى على حجية الأصل المثبت. وضمائر «أعراضه ، عليه كسواده ، بياضه» راجعة إلى المستصحب.

(٢) هذا تعليل حقيقة لقوله : «حيث لا يكون» توضيحه : أنه بعد تعليل كون الأثر في الصورتين الأوليين ـ وهما الطبيعي والخارج المحمول ـ للمستصحب بأنه لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سوى المستصحب أراد أن يبيّن وجه هذا التعليل وقال في وجهه : ان المقام من صغريات كبرى الكلي الطبيعي الّذي وجوده في الخارج عين وجوده فرده ، فيثبت أثر الكلي باستصحاب الفرد من دون لزوم إشكال مثبتية الأصل.

(٣) كما هو كذلك في الصورة الأولى وهي كون الكلي منتزعا من مرتبة ذات المستصحب.

(٤) كما هو كذلك في الصورة الثانية ، وهي كون العرض من الخارج المحمول الّذي لا وجود له في الخارج ، وإنما الوجود لمنشإ انتزاعه. ومن هنا تندفع أيضا شبهة مثبتية استصحاب عدم رضا المالك باستيلاء الأجنبي على ماله لإثبات الضمان ، بتقريب : أن موضوع الضمان هو الغصب ، وإثباته باستصحاب عدم رضا المالك منوط بحجية الأصل المثبت.

٥٥٨

كالملكية والغصبية ونحوهما لا وجود له إلّا بمعنى وجود منشأ انتزاعه ، فالفرد (١) أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين (٢) ما رتب عليه الأثر لا شيء آخر ، فاستصحابه (٣) لترتيبه لا يكون بمثبت.

______________________________________________________

توضيح وجه اندفاع الشبهة : أنه ليس للغصب وجود في الخارج ، بل هو منتزع عن وضع شخص يده على مال الغير بدون رضاه ، فلا يكون استصحاب عدم إذن المالك مثبتا.

كما تندفع شبهة مثبتية استصحاب حياة الموقوف عليه في وقف المنفعة لملكية عائداته له التي يترتب عليها عدم جواز تصرف غيره في حصته من الوقف ، ضرورة أن الملكية مما لا وجود له في الخارج غير وجود منشأ انتزاعه ، فيكفي في ثبوت عدم جواز تصرف غيره في عوائده الّذي هو أثر الملكية استصحاب حياته.

وبالجملة : فاستصحاب بعض الموضوعات لترتيب الأثر الشرعي المترتب على بعض الأمور الاعتبارية كالملكية والرقية والزوجية ونحوها ليس بمثبت.

(١) هذه نتيجة كون وجود الطبيعي عين وجوده فرده ، وكون وجود العرض الخارج المحمول بوجود منشأ انتزاعه ، فالأثر الشرعي المترتب على الطبيعي أثر لفرده حقيقة ، إذ لا وجود له إلّا به ، كما أن الأثر الشرعي المترتب على الأمر الانتزاعي مترتب حقيقة على منشأ انتزاعه ، إذ لا وجود له إلّا بوجود منشئه ، فقوله : «فالفرد» راجع إلى الصورة الأولي وهي الكلي الطبيعي المتحد مع المستصحب كزيد ، فان الكلي الطبيعي وهو الإنسان متحد معه. وقوله : «أو منشأ الانتزاع» راجع إلى الصورة الثانية وهي كون موضوع الأثر ما لا وجود له في الخارج ، كالغصب الّذي منشأ انتزاعه هو الاستيلاء على ما للغير بدون إذنه ، فاستصحاب عدم الاذن لترتيب حرمة الغصب ليس بمثبت كما تقدم آنفا.

(٢) لأنه مقتضى كون وجود الطبيعي عين وجود الفرد ، وعدم وجود للأمر الانتزاعي إلّا بوجود منشئه.

(٣) يعني : فاستصحاب الفرد أو منشأ الانتزاع ـ لترتيب الأثر المترتب على

٥٥٩

كما توهم (١) (*).

______________________________________________________

الطبيعي في الصورة الأولى ، أو المترتب على العرض الّذي لا وجود له خارجا في الصورة الثانية ـ لا يكون بمثبت ، إذ المثبتية مترتبة على مغايرة المستصحب للواسطة وجودا ، وهي مفقودة هنا ، لفرض الاتحاد والعينية.

(١) هذا تعريض بما أفاده الشيخ الأعظم (قده) في عبارته التي نقلناها في أوائل التنبيه من عدم الفرق في مثبتية الأصل بين كون لازم المستصحب متحدا معه وجودا ومغايرا له كذلك.

__________________

(*) لا يخفى أن الوجه في عدم اعتبار الأصل المثبت هو : أن مفهوم مثل «لا تنقض اليقين بالشك» ليس إلّا التعبد بإبقاء المتيقن عملا ، لأن مورد التعبد بعد وضوح طريقية اليقين هو نفس ما كان على يقين منه من حكم كجواز التقليد أو موضوع كحياة زيد ، فلا وجه للتعدي عن مورد التعبد إلى غيره وإن كان لازما أو ملازما له ، لقصور دليل التعبد عن الشمول له ، بعد وضوح عدم وجود اللازم والملازم مع المستصحب حدوثا ، إذ لو كانا معه حدوثا كان كل منهما موردا للاستصحاب ، كما تقدم التنبيه عليه ، ومن المعلوم أن التعبد ببقاء المتيقن يقتضي ترتيب أحكام نفسه دون غيره من أحكام لوازمه ونحوها عليه ، فلا يثبت باستصحاب الحياة مثلا إلّا ما يترتب على نفسها من حرمة تزويج الزوجة ووجوب الإنفاق عليها ونحو ذلك دون لازمها كنبات اللحية ، ولا أثرها الشرعي من حرمة حلقها واستحباب تدويرها مثلا.

نعم إذا كان موضوع الحكم بالنسبة إلى المستصحب ذاتيا وكليا طبيعيا لأفراده كاستصحاب خليّة مائع لترتيب حكم طبيعي الخلّ عليه لا يكون الاستصحاب حينئذ مثبتا ، حيث ان الفرد الّذي هو المستصحب عين الكلي الّذي يكون موضوع الحكم الشرعي. هذا إذا كان الكلي المنطبق على المستصحب ذاتيا إيساغوجيا له. ونحوه ما إذا كان ذاتيا برهانيا له أي منتزعا عن ذات الشيء بلا ضم ضميمة كإمكان الإنسان وزوجية الأربعة ونحوهما مما لا يحتاج إلى جعل مستقل ، بل هو مجعول بجعل نفس الماهية ، فيترتب على المستصحب ـ كالإنسان ـ الأثر المترتب على الإمكان ،

٥٦٠