منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

دليل الحكم نقلاً أو عقلاً.

______________________________________________________

المناط الحقيقي فيه باقٍ في زمان الشك أو مرتفع فيستصحب الحكم الشرعي ...»

والمستفاد منه أن المانع من جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستكشفة من حكم العقل أمران : أحدهما : عدم إحراز وحدة الموضوع في القضيتين المتيقنة والمشكوكة مع اشتراط الاستصحاب به ، بيانه : أنه ـ بناءً على القول بالتحسين والتقبيح العقليين أي درك العقل العملي بأن هذا مما ينبغي فعله وذاك مما ينبغي تركه مع الغض عن خطاب الشارع ، وبناءً على ثبوت الملازمة بين حكمي العقل والشرع ـ فإذا أدرك العقل حسن رد الوديعة وقبح الكذب الضار بنفس محترمة ترتب عليه حكم الشارع بوجوب الرد وحرمة الكذب بما هما موضوعان لحكم العقل ، ومن المعلوم أن إدراكه للحسن والقبح لا يتطرق إليه الإهمال والإجمال ، لأنه ان أحرز جميع القيود الدخيلة في مناط التحسين أو التقبيح استقل بالحكم به ، وان لم يحرزه لم يستقل به ، إذ القيود في القضايا العقلية بأجمعها من الجهات التقييدية الراجعة إلى نفس موضوع الحكم الّذي هو فعل المكلف ، فإذا زال بعض الأوصاف كانتفاء الضرر عن الكذب ، أو استلزام رد الأمانة للخوف انتفى حكم العقل قطعاً ، وينتفي بتبعه أيضا تحريم الشارع في الأول وإيجابه في الثاني ، ضرورة كون الموضوع للحرمة في القضية المتيقنة «الكذب المضر» والموضوع في المشكوكة هو مطلق الكذب ، لانتفاء قيد الإضرار حسب الفرض ، ومن المعلوم امتناع استصحاب حرمة الكذب المضر ـ في الشبهة الحكمية ـ لإثبات حرمة مطلق الكذب ، لاحتمال دخل وصف الإضرار في موضوع الحكم الشرعي ، وبمجرد هذا الاحتمال لا يحرز وحدة الموضوع.

ثانيهما : اختلال ركن الاستصحاب وهو الشك في البقاء ، قال الشيخ (قده) : «ألا ترى أن العقل إذا حكم بقبح الصدق الضار ، فحكمه يرجع إلى أن الضار من حيث انه ضار حرام ، ومعلوم أن هذه القضية غير قابلة للاستصحاب عند الشك في الضرر مع العلم بتحققه سابقاً ...» وتوضيحه : أن تقبيح العقل للصدق المضر

٤١

أما الأول (١) فواضح. وأما الثاني (٢) فلأن الحكم الشرعي

______________________________________________________

ليس لموضوعية خصوص عنوان «الصدق المضر» لحكمة بالقبح ، بل لصغرويته لكبرى حكم العقل بقبح الإضرار بالغير ، ولا شك في هذه الكبرى الكلية كي يجري فيها الاستصحاب ، وانما الشك في وجودات الضار التي هي مصاديق ما أدركه العقل كلّية ، وبزوال وصف الضرر لا يحكم على ذات الصدق بالقبح ، كما لا يحكم عليه بالحرمة شرعاً ، لاقتضاء الملازمة بين حكمي العقل والشرع القطع بانتفاء الحكم الشرعي المستند إلى الإدراك العقلي حتى لو قلنا بكون المناط في تشخيص الموضوع العرف لا الدليل ولا العقل ، لفرض أن كل عنوان تعلق به تحسين العقل أو تقبيحه فهو بنفسه متعلق الخطاب الشرعي ، وحيث ارتفع الحكم العقلي من جهة اختلال بعض خصوصيات الموضوع ارتفع الحكم الشرعي المستند إليه أيضا ، فلا شك في بقائه كي يستصحب.

هذا كله في الأحكام الشرعية المستكشفة من حكم العقل بقاعدة الملازمة. وأما الأحكام الشرعية المستندة إلى الأدلة النقليّة ، فلما كان تمييز موضوعها بيد العرف واحتمل وجود مناط آخر للحكم لم يطلع عليه العقل جرى الاستصحاب فيها ، كما إذا حكم الشارع بحرمة الكذب المضر ، ولم يعلم أن المناط هو الإضرار أو نفس الكذب ـ بما أنه اخبار غير مطابق للواقع ـ وزال الضرر أو شك في زواله ، فانه يجري استصحاب الحرمة في الشبهتين الحكمية والموضوعية.

هذا محصل ما يستفاد من كلام الشيخ ، وحيث ان المصنف ناقش في كلا الوجهين كما سيظهر فلذا أوضحنا المقصود مقدمة لتعليقه عليه.

(١) وهو المستند إلى النقل ، ووجه وضوحه : أن تشخيص وحدة الموضوع في القضيتين في هذه الأحكام يكون بيد العرف قطعاً ، لأنه المخاطب بها.

(٢) وهو المستند إلى القضايا العقلية ، وهذا شروع في مناقشة الوجه الأول مما أفاده الشيخ (قده) أعني شبهة عدم إحراز وحدة الموضوع ، وبيانه : أنه إذا حكم العقل بقبح التصرف في مال الغير عدواناً ووجوب رد الأمانة ، ثم عرض

٤٢

المستكشف به (١) عند طروء انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه (٢)

______________________________________________________

الاضطرار أو الخوف من الرد واحتمل دخله في مناط التحسين والتقبيح انتفى حكم العقل قطعاً ، لعدم إدراكه فعلاً ، حيث انه لم يُحرز ما هو الدخيل في موضوع حكمه ، لكن ارتفاع حكم العقل لا يمنع استصحاب الحكم الشرعي المستند إليه كحرمة التصرف ووجوب الرد المذكورين ، وذلك لأنه بعد استكشاف خطاب شرعي بهما من قاعدة الملازمة يشك في بقاء وجوب رد الوديعة المستلزم للخوف وحرمة التصرف المستلزمة للاضطرار ، لاحتمال دخل هذا الوصف في الموضوع ، فان كان المناط في وحدة الموضوع النّظر الدقي العقلي تم ما أفاده الشيخ ، لكن يلزمه المنع من حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية والموضوعية في الأحكام المستندة إلى الأدلة النقليّة أيضا ، كما إذا ورد «يحرم الصدق الضار» واحتمل مدخلية هذا الوصف في موضوع الحكم ، فإذا شك في بقاء مضرّيته لا يجري الاستصحاب ، لعدم إحراز وحدة الموضوع ، وهذا مما لا يلتزم به.

وان كان المناط صدق الوحدة بالنظر العرفي كما هو مختار الشيخ الأعظم (قده) أيضا فلا بد من التفصيل بين الأوصاف ، فان كان الوصف الزائل مقوِّماً للموضوع أو مما يحتمل مقوِّميته له ـ كما هو الحال في اعتبار ملكة العدالة في مرجع التقليد المستفاد من مثل : «قلد المجتهد العادل» ـ فبزواله لا مجال للاستصحاب ، لعدم إحراز وحدة الموضوع في القضيتين لو لم نقل بإحراز عدمها.

وان كان الوصف الزائل غير مقوم لموضوع الحكم جرى الاستصحاب كما هو الحال في مثل «الماء المتغير متنجس» في عدِّ التغير من الحالات. وحيث ان الخصوصيات الدخيلة في حكم العقل معدودة عرفاً من الحالات المتبادلة على الذات فاللازم القول بحجية الاستصحاب في هذا السنخ من الأحكام.

(١) أي : بالعقل بعد تسليم قاعدة الملازمة.

(٢) أي : موضوع الحكم الشرعي ، وضمير «دخله» راجع إلى «ما احتمل» المراد به الوصف الزائل ، وذلك كالتغير في تقيد الموضوع ـ أعني ذات الماء ـ

٤٣

مما لا يرى مقوِّماً له (١) كان (٢) مشكوك البقاء عرفاً (٣) ، لاحتمال (٤) عدم دخله فيه واقعاً وإن كان لا حكم للعقل بدونه قطعاً (٥).

إن قلت : كيف هذا (٦) مع الملازمة بين الحكمين؟

______________________________________________________

به ، وكذا الحال في وصف الضرر بالنسبة إلى حرمة الكذب المضر ، فانه مما يحتمل دخله في الموضوع ، لكنه ليس مقوماً له.

(١) يعني : مما لا يرى بنظر العرف مقوِّماً للموضوع وان كان مقوِّماً له بالنظر الدقي ، إذ لو لا دخله للغا أخذه.

(٢) خبر «فلأن الحكم» وكان الأولى تبديله بـ «يصير» وغرضه أن المعيار في جريان الاستصحاب ـ وهو كون الشيء مشكوك البقاء عرفاً ـ حاصل هنا ، فيجري بلا مانع.

(٣) وحيث ان المدار على وحدة موضوع القضيتين عرفاً لا عقلاً فلا بد من الالتزام باعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي.

(٤) تعليل لقوله : «كان مشكوك البقاء» وضميرا «دخله ، بدونه» راجعان إلى الموصول في «مما» المراد به الوصف الزائل ، وضمير «فيه» راجع إلى الموضوع.

(٥) قيد لـ «لا حكم» يعني : أن حكم العقل مرتفع قطعاً عند زوال وصف موضوعه أو قيده ، إما لإحراز دخله بالخصوص في الملاك ، وإما لأن إحراز العقل لوجود الملاك يكون في ظرف وجود ذلك الشيء من باب القدر المتيقن وان لم يكن دخيلاً واقعاً في المناط ، بخلاف حكم الشرع ، فانه لا قطع بعدمه فيجري فيه الاستصحاب ، وضمير «بدونه» راجع إلى «ما احتمل دخله».

(٦) يعني : كيف هذا أي التفكيك بين حكمي العقل والشرع بجعل الأول مقطوع الانتفاء عند زوال بعض القيود ، والثاني مشكوك البقاء ، ومحكوماً بالإبقاء تعبداً؟ وحاصل هذا الإشكال : أن الملازمة بين الحكمين تقتضي وحدة موضوعيهما وعدم أوسعية أحدهما من الآخر ، إذ المفروض استكشاف خطاب الشارع من

٤٤

قلت : ذلك (١) لأن الملازمة إنما تكون في مقام الإثبات والاستكشاف

______________________________________________________

قاعدة الملازمة ، فكما ينتفي حكم العقل بتبدل بعض خصوصيات الموضوع ، فكذلك الحكم الشرعي المستند إليه ، وإجراء الاستصحاب فيه من تسرية حكم موضوع إلى موضوع آخر ، وهو أجنبي عن الاستصحاب المصطلح المتقوم بوحدة القضيتين موضوعاً ومحمولاً.

(١) أي : التفكيك ، وهذا الجواب كما يتخلص به عن إشكال التفكيك بين حكمي العقل والشرع كذلك يندفع به الوجه الثاني المتقدم في توضيح كلام الشيخ أعني انتفاء ركن الاستصحاب وهو الشك في البقاء. ولا بأس قبل توضيح الجواب ببيان أمرين

الأول : أن للحكم العقلي مرتبتين وهما الشأنية والفعلية ، والمراد بالأولى المناط الواقعي للحكم من المصلحة أو المفسدة الكامنة في الأفعال التي لم يطلع عليها العقل ، وبالثانية إدراك العقل له فعلاً الموجب لتحسين أمر وتقبيح آخر ، وهذا الحكم الفعلي موقوف على لحاظ الموضوع بجميع الخصوصيات المعتبرة فيه ، ومع اختلال بعض الشرائط والقيود الدخيلة في إدراك الحسن والقبح يكون انتفاء ذلك الإدراك قطعياً. وهذا بخلاف حكمه الشأني ، فانه حكم تقديري معلق على الإحاطة بالملاكات النّفس الأمرية ، وهي قد تختلف مع المناطات المعلومة التي تكون منشأ لإدراكه الفعلي للحسن والقبح.

الثاني : أن الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي انما يتبع حكمه الشأني في مقام الثبوت ، يعني أن ما هو ملاك حكم العقل واقعاً هو بنفسه ملاك حكم الشرع ، ويتبع حكمه الفعلي في مقام الإثبات ، يعني في مرحلة استكشاف خطاب الشارع لا بد من فعلية إدراك العقل.

إذا عرفت هذا فاعلم : أن الملازمة بين حكمي العقل والشرع لا تنافي أوسعية موضوع حكم الشرع من موضوع حكم العقل ، لعدم كون التلازم في مرحلة الثبوت ، ضرورة عدم توقف حكم الشرع على حكم العقل الفعلي واقعاً وفي نفس

٤٥

لا في مقام الثبوت (١) ، فعدم (٢) استقلال العقل إلّا في حالٍ (٣) غير ملازم

______________________________________________________

الأمر كي يتحد موضوعهما حقيقة ، بل الملازمة انما تكون في مقام الكشف والإثبات والعلم بخطاب الشارع ، بمعنى أن الدليل على الحكم الشرعي هو العقل ، كما قد يكون غيره من النص والإجماع. وعليه فالحكم العقلي واسطة في الإثبات والعلم بالحكم الشرعي ، لا في الثبوت وأصل وجوده حتى ينتفي بانتفائه ، ومن المعلوم أن التبعية في مقام الإثبات لا تلازم التبعية في مقام الثبوت.

نعم الملازمة الثبوتية تكون بين الحكم الشرعي والحكم العقلي الشأني ، لكن الكلام في تبعيته لحكمه الفعلي ، لأنه موضوع قاعدة الملازمة. وإذا زال بعض ما يحتمل دخله في موضوع حكم العقل انتفى حكمه ، لكن يشك في ارتفاع حكم الشارع ، لاحتمال بقاء ملاكه ، فلا بد من ملاحظة أن الوصف المتبدل هل يكون مقوِّماً أم حالاً على التفصيل المتقدم بقولنا : «لكن زوال حكم العقل لا يمنع استصحاب الحكم الشرعي ...».

وبهذا التقريب كما لا يتعدد الموضوع بنظر العرف كذلك يحصل الشك في بقاء الحكم الشرعي فيستصحب ، لاجتماع أركان الاستصحاب.

(١) يعني : دوران الحكم الشرعي مدار الحكم العقلي الفعلي وجوداً فقط بحيث لو أحرز العقل العلة التامة للحسن أو القبح حَكَم بأنه مما ينبغي فعله أو تركه ، ولا يدور مداره عدماً أيضا ، إذ لا يدل على انحصار عليته للحكم الشرعي ، فلا يصدق قولنا : «لو لم يكن للعقل حكم لم يكن للشرع حكم أيضا» لعدم الدليل على هذا التلازم ، بل الدليل على خلافه ، إذ ربما لا يكون للعقل حكم فعلي ، لقصوره عن إدراك المناطات الواقعية ، كما هو الحال في غالب الأحكام الشرعية الثابتة بالأدلة النقليّة ، والشارع لاطلاعه على تلك الملاكات ينشئ أحكاماً على طبقها.

(٢) هذا متفرع على كون التلازم في مقام العلم والإثبات لا الثبوت.

(٣) وهو حال اجتماع الخصوصيات الدخيلة في حكمه ، كما في قبح الكذب الضار بالغير غير النافع للكاذب.

٤٦

لعدم حكم الشرع إلّا في تلك الحال (١) ، وذلك (٢) لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع من المصلحة أو المفسدة التي هي ملاك حكم العقل كان (٣) على حاله في كلتا الحالتين (٤) وان لم يدركه (٥) إلّا في إحداهما ، لاحتمال (٦) عدم دخل تلك الحالة فيه ، أو احتمال (٧)

______________________________________________________

(١) وهي حال اجتماع الشرائط ، لإمكان حكم الشرع مع زوال بعض ما يراه العقل دخيلاً في حكمه. وقوله : «غير ملازم» خبر «فعدم».

(٢) بيان لعدم الملازمة ، وكون موضوع الحكم الشرعي أوسع مما يراه العقل.

(٣) خبر «أن يكون ما هو» و «من المصلحة» بيان لـ «ما هو». ولو أبدل «كان على حاله» بـ «ثابتاً» كان أخصر ، لصيرورة العبارة هكذا «لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع ... ثابتاً في كلتا الحالتين».

(٤) يعني : حالتي بقاء ذلك الوصف وارتفاعه.

(٥) أي : وان لم يدرك العقل الملاك إلّا في إحدى الحالتين وهي حالة وجود الوصف ، فوجود الوصف دخيل في العلم بالملاك لا في أصل وجوده.

(٦) تعليل لاحتمال وجود الملاك في الحالتين وان لم يدركه العقل إلّا في إحدى الحالتين التي هي طريق استكشاف العقل للملاك من دون دخلها فيه ثبوتاً ، فالملاك في كلتا الحالتين موجود ، وضمير «فيه» في الموضعين وكذا ضمير «معه» راجع إلى الملاك.

(٧) معطوف على «احتمال عدم» يعني : أو لاحتمال أن يكون مع ذاك الملاك ملاك آخر بلا دخل لتلك الحالة الزائلة فيه أصلا وان كان لتلك الحالة دخل في اطلاع العقل على الملاك واستكشافه له. وهذا وجه ثان لاستصحاب الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي ، والفرق بين الوجهين : أنه على الأول يطرد ملاك واحد في الحالتين ، وعلى الثاني يوجد ملاكان يختص أحدهما بحال وجود الوصف ،

٤٧

أن يكون معه ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلاً وان كان لها (١) دخل فيما اطلع عليه من الملاك.

وبالجملة (٢) : حكم الشرع إنما يتبع ما هو ملاك حكم العقل

______________________________________________________

ولا يشترك الآخر بين حالتي وجوده وعدمه ، ومن المعلوم أن احتمال وجود ملاك آخر معه ـ كاحتمال بقاء الملاك الأول ـ ملزوم لاحتمال بقاء الحكم الشرعي ، وهو كافٍ في جريان الاستصحاب ، لوجود مناطه وهو الشك في البقاء.

فان قلت : تصحيح إجراء الاستصحاب بهذا الوجه الثاني غير سديد ، إذ مع فرض انتفاء الملاك في الفعل الواجد للوصف ، واحتمال قيام مناط آخر بالفعل الفاقد للوصف يكون الحكم المنبعث عن الملاكين متعدداً ، ولا يجري في مثله الاستصحاب ، لأنه من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي ، وهو الشك في حدوث فرد للكلي مقارناً لارتفاع فرده الموجود سابقاً ، ومن المعلوم أن الفرد المشكوك الحدوث محكوم بعدم حدوثه بالأصل.

قلت : ليس المقصود إجراء الاستصحاب في ملاك الحكم ومناطه الدائر بين الزائل والحادث ، بل الغرض الاستصحاب الحكم الشرعي الشخصي الّذي يستند حدوثه إلى مناط وبقاؤه إلى مناط آخر ، ومن المعلوم أن تبدل الملاك لا يقتضي تبدل نفس الحكم ، كوجوب إكرام زيد لكونه عالماً ، وبعد زوال علمه ـ لمرض مثلاً ـ لكونه هاشمياً ، ونظيره في التكوينيات تبديل عمود الخيمة بمثله الحافظ لهيئتها الموجودة الشخصية ، فانه لا يوجب تغيراً في تلك الهيئة الوحدانية.

والنتيجة : أن احتمال حدوث ملاك آخر قائم بالفعل الفاقد للوصف يوجب احتمال بقاء حكمه الشرعي ، فيستصحب لاجتماع أركانه من اليقين بحدوث الجعل والشك في الارتفاع.

(١) أي : لتلك الحالة كالإضرار في حرمة الكذب وقبحه ، فانه دخيل في موضوع حكم العقل بالقبح وغير دخيل في المفسدة الواقعية التي لم يطلع عليها العقل.

(٢) هذا حاصل ما أفاده في الإيراد على كلام الشيخ (قده) وحاصله ـ كما عرفت ـ أن حكم الشارع تابع للملاك الواقعي لحكم العقل الشأني بحيث لو

٤٨

واقعاً لا ما هو مناط حكمه فعلاً. وموضوع حكمه كذلك (١) مما لا يكاد يتطرق إليه الإهمال والإجمال مع تطرقه إلى ما هو موضوع حكمه شأناً وهو ما قام به ملاك حكمه واقعاً ، فرُبّ خصوصية لها دخل في استقلاله (٢) مع احتمال بقاء ملاكه (٣) واقعاً ،

______________________________________________________

التفت إليه لَحَكَمَ به فعلياً ، وليس حكم الشرع تابعاً لحكم العقل فعلاً لأجل إحرازه مناط حكمه ، إذ يمكن أن يكون مناط حكم الشرع أعم من ملاك حكم العقل.

(١) أي : فعلاً ، وغرضه ردّ ما تقدم من الشيخ من أن الأحكام العقلية كلها مفصلة من حيث المناط ولا إهمال فيها ، ويدور أمرها بين وجودها قطعاً وعدمها كذلك ، فلا يتطرق الشك فيها كي تستصحب.

وحاصل الرد : أن للعقل حكمين أحدهما شأني والآخر فعلي ، فان كان الغرض إنكار الإهمال في حكمه الفعلي فهو كلام متين ، لأنه إذا أحاط بمناط حكمه حكم وإلّا فلا يحكم ، لكن زوال الوصف انما يوجب انتفاء الحكم العقلي الفعلي الكاشف عن الخطاب الشرعي ، ولا يقتضي انتفاء الملاك الواقعي المنبعث عنه الحكم الشرعي. وان كان الغرض إنكار الإهمال في حكم العقل الشأني فهو غير ظاهر الوجه لاحتمال وجود مصالح ومفاسد في الأفعال واقعاً لم يطلع عليها العقل كما هو كذلك في أكثر الأحكام الشرعية ، ولو اطلع عليها لأدرك حسنها وقبحها قطعاً ، ولأذعن بما أنشأه الشارع للتحفظ على تلك الملاكات ، فالعقل بالنسبة إلى المناطات الواقعية شاك ، وليس له سبيل إلى الجزم بانتفائها بمجرد عدم إحاطته بها ، وحيث احتمل وجود ملاك واقعي غير ما أدركه العقل فالشك في بقاء الخطاب الشرعي متحقق جزماً ، ومعه يجري الاستصحاب.

(٢) أي : استقلال العقل في حكمه الفعلي الموضوع لقاعدة الملازمة.

(٣) يعني : مع احتمال بقاء ملاك حكم العقل واقعاً بدون تلك الخصوصية.

٤٩

ومعه (١) يحتمل بقاء حكم الشرع جدّاً ، لدورانه (٢) معه وجوداً وعدماً ، فافهم وتأمل جيداً (*).

______________________________________________________

(١) أي : ومع احتمال بقاء الملاك واقعاً بدون تلك الخصوصية يحتمل بقاء حكم الشرع.

(٢) أي : لدوران حكم الشرع مدار الملاك الواقعي ـ لا المعلوم ـ وجوداً وعدماً. وقد تحصل مما أفاده المصنف : أنه لا فرق في حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية بين كون دليل الحكم هو العقل أو النقل ، إذا صدق وحدة القضيتين عرفاً.

__________________

(*) هذا ما أفاده المصنف هنا وفي حاشية الرسائل ، ووافقه المحققان النائيني والعراقي (قدس‌سرهما) بما يقرب منه ، وخالفه تلميذه المحقق الأصفهاني بما محصله : أن حكم العقل العملي ـ في قبال حكم العقل النظريّ ـ مأخوذ من المقدمات المحمودة والقضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء حفظاً للنظام ، وهذه العناوين المحكومة بالحسن أو القبح على ثلاثة أقسام ، إذ تارة يكون الفعل علة تامة للحسن والقبح كالعدل والظلم. وأخرى مقتضياً لأحدهما كالصدق والكذب ، فان الصدق وان اقتضى اتصافه بالحسن لو خُلِّي وطبعه ، لكن حسنه الفعلي منوط باندراجه تحت عنوان العدل ، ولذا قد يتصف بالقبح إذا صار مهلِكاً لنفس محترمة. وثالثة لا يكون الفعل بنفسه مقتضياً للحسن أو القبح فضلاً عن علّيته لأحدهما ، وذلك كالضرب ، فانه يتصف بالحسن إذا اندرج تحت عنوان العدل كما إذا كان للتأديب ، وبالقبح إذا اندرج تحت عنوان الظلم كما إذا كان للتشفي من ألم الغضب ، ولا يتصف بشيء منهما إذا لم ينطبق عليه أحد العنوانين كضرب غير ذي الروح.

وحيث كان التحسين والتقبيح من الآراء المحمودة فالمراد بالحكم العقلي هو الحكم العقلائي بمدح فاعل بعض الأفعال ، لما فيه من المصلحة العامة الموجبة لحفظ النظام ، وذمِّ فاعل بعضها الآخر لما فيه من المفسدة العامة الموجبة لاختلال النظام وفساد النوع ، وكل من هذه المصلحة وتلك المفسدة هي الموجبة لبناء

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

العقلاء على المدح والذم ، إذ استحقاقهما من أهم سبل حفظ النظام وموانع اختلاله.

ومبنى قاعدة الملازمة أن الشارع بما أنه رئيس العقلاء وواهب العقل ومنزّه عن الأغراض النفسيّة فهو أيضا يحكم بالمدح والذم ، ومدحه ثوابه وذمّه عقابه. وحيث ان المدح والذم من صفات الأفعال الاختيارية ، فلا بد أن يصدر العنوان الممدوح أو المذموم بما هو عن قصد وعمد ، لا صدور ذات الفعل المعنون فقط ، مثلاً إذا صدر منه الضرب بالاختيار بدون قصد التأديب لكن ترتب عليه الأدب قهراً لم يصدر من الضارب التأديب الممدوح ، ومن الواضح أن صدوره بعنوانه بالاختيار ليس إلّا بكون الفعل بما له من العنوان الممدوح الملتفت إليه الّذي لا وعاء له إلّا وجدان فاعله صادراً منه بالإرادة المتعلقة بعنوانه ، ووجوده الواقعي ليس محكوماً بالحسن والقبح حتى يشك في بقائه ، بل ما لم يحرز ذلك العنوان فهو مقطوع الارتفاع.

إذا تحقق هذا تعرف أن لا معنى للشك في نفس الحكم ولا في موضوعه الكلي ولا في الموضوع الخارجي ، للقطع بالارتفاع. لا لأجل أن الحاكم هو العقل الّذي لا يشك في حكم نفسه ، فانه ممنوع أوّلاً بعدم الحكم للعقل ، وانما شأنه التعقل والإدراك. وثانياً : أن المناط في حكم العقل عنوانٌ لموضوعه ، ولأجله يشك في بقاء الموضوع ، فكيف يتصور القطع بانتفاء حكم العقل؟ مع أن العلة والمعلول متلازمان قطعاً وظناً وشكاً ، فإذا كانت العلة مشكوكة كان المعلول مشكوكاً فيه لا مقطوع العدم سواء أريد به حكم العقل أم الشرع ، إذ المفروض أنه لا علة له إلّا ما هو حكم العقل.

ومنه ظهر أن ما أفاده الماتن من كون انتفاء الحكم العقلي من انتفاء الكاشف وهو لا يستدعي انتفاء المكشوف غير ظاهر ، لما عرفت من أن الإضرار ليس بوجوده الواقعي مناطاً للقبح والعقاب ليعلم تارة ويشك فيه أخرى ، بل بوجوده في وعاء وجدان العقل ، فالمناط مع عدم إحرازه مقطوع العدم ، لأن المدح والذم

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فعليته وتنجزه واحد ، وما كان كذلك يستحيل أن يكون موضوعه الشيء بوجوده الواقعي حتى يعقل الشك فيه ، هذا (١).

 والظاهر أن الحق ما أفاده المصنف من جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي ، وذلك لأن العلم في الأحكام العقلية من التحسين والتقبيح موضوع ، فان لم يحرز العقل مصلحة شيء أو مفسدته لا يحكم بحسنه أو قبحه ، فحكمه بأحدهما منوط بالإحراز المزبور والإتيان بذي المصلحة أو المفسدة اختياراً حتى يتصف الفعل بالحسن الفاعلي أو القبح كذلك ، ومعلوم أن مقتضى موضوعية العلم هو القطع بانتفاء ما يترتب عليه من الحكم بالحسن أو القبح مع انتفائه ، كانتفاء كل حكم بارتفاع موضوعه ان كان بسيطاً أو جزئه ان كان مركباً ، فإذا كان العلم بالإضرار المترتب على الكذب مثلاً موضوعاً لحكم العقل بالقبح وصار مشكوكاً فيه انتفى حكمه بالقبح قطعاً ، لارتفاع موضوعه وهو العلم بالإضرار ، فالشك في الموضوع مساوق للقطع بعدمه ، كما هو شأن القطع الموضوعي في سائر الموارد ، فحديث تبعية المعلول للعلة علماً وظناً وشكاً أجنبي عن مثل هذا المورد مما أخذ القطع فيه موضوعاً ، وانما مورده هو ما إذا كان الشيء بوجوده الواقعي علة ، فانه يصح حينئذ أن يقال : المعلول تابع للعلة علماً وظناً وشكاً ، هذا.

وأما العلم في الأحكام الشرعية وكذا ملاكاتها التي هي من الخواصّ الطبيعية والآثار الوضعيّة القائمة بذوات الأشياء الخارجية فهو طريق محض وكاشف صرف.

نعم علم الشارع بها داعٍ إلى تشريع الأحكام ، ومقتضى طريقية العلم وعدم دخله لا في الحكم ولا في ملاكه هو تبعية الحكم الّذي هو اللازم لملزومه أعني الملاك في العلم والظن والشك ، وهذا مورد تبعية المعلول للعلة في العلم وأخويه.

وقد ظهر مما ذكرنا أن شك العقل في موضوع حكمه وان كان مساوقاً للقطع بعدم حكمه بالحسن أو القبح ، لأنه مقتضى موضوعية العلم له ، لكنه يوجب

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٨ و ٩.

٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الشك في بقاء الحكم الشرعي المستكشف بالحكم العقلي ، لما مرّ من تبعية الحكم الشرعي للملاك الواقعي من دون دخل للعلم فيه ، ومن المعلوم أن الشك في بقاء الحكم مورد الاستصحاب من غير فرق في ذلك بين منا شيء الشك.

فتلخص مما ذكرناه أمور :

الأول : ترتب الحكم العقلي من التحسين والتقبيح على العلم بالصلاح والفساد ، وعدم ترتب شيء من الحكم الشرعي وملاكه على العلم ، فإذا شك في بقاء حرمة الكذب الضار المستكشف من حكم العقل بقبحه بعد ارتفاع ضرره جرى استصحاب حرمته وان ارتفع حكم العقل فعلاً بقبحه.

الثاني : أن الحسن والقبح العقليين الفاعليين منوطان بالعلم بالمصلحة والمفسدة وإرادة الفاعل واختياره في إيجاد الفعل المشتمل عليهما ، وان اتصف نفس الفعل أحياناً لدخله في حفظ النظام والمصلحة النوعية بالحسن ، لكن لا يتصف بالحسن الفاعلي لعدم صدوره عن الإرادة والاختيار ، فما أفاده المحقق الأصفهاني (قده) من «تقوم حكم العقل بالحسن والقبح بالالتفات وإرادة الفاعل» لا يخلو من تأمل ، فان مبنى التحسين والتقبيح العقلائيين لمّا كان حفظ النظام فلا ريب في عدم دخل إرادة الفاعل في تحققه ، فان حفظ النظام يتوقف على عدم تحقق الظلم الّذي هو التجاوز عن الحد سواء التفت إليه الفاعل أم لا. وعليه فلا يتوقف الحسن الفعلي والقبح كذلك على العلم ونحوه مع فرض كونهما من القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء. وما أفاده متين في الحسن الفاعلي ، لكن الحافظ للنظام هو الفعل من حيث هو ، لا من حيث استناده إلى فاعل مختار.

الثالث : أن حكم العقل واسطة إثباتية وطريق للعلم بالحكم الشرعي ، وليس علة وواسطة ثبوتية له حتى يرتفع بارتفاعه ، ولذا يشك في ارتفاعه مع القطع بانتفاء حكم العقل ، ومجرد إدراكه لعلة التشريع كالإضرار في الكذب لا يترتب عليه إلّا القبح العقلي الكاشف عن الحرمة ، ولا يدل على انحصار علة التشريع به حتى

٥٣

ثم انه لا يخفى اختلاف آراء الأصحاب في حجية الاستصحاب مطلقاً وعدم حجية كذلك (١) ، والتفصيل بين الموضوعات والأحكام ، أو بين ما كان الشك في الرافع وما كان في المقتضي إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة (٢)

______________________________________________________

(١) أي : مطلقاً ، وهذان الإطلاقان في قبال التفاصيل التي أشار إلى بعضها.

(٢) التي تقدمت الإشارة إليها في أول البحث.

__________________

ترتفع حرمة الكذب غير الضار بارتفاع الضرر ، فتبعية الحكم الشرعي للحكم العقلي في مقام الإثبات فقط لا تقتضي ارتفاعه واقعاً بارتفاع الحكم العقلي ، بل توجب الشك في بقائه.

الرابع : أن قطع العقل بارتفاع المصلحة التي أدركها في موردٍ لا يوجب العلم بانحصار الملاك فيها وعدم مصلحة أخرى فيه توجب بقاء الحكم الشرعي ، فاحتمال عدم انحصار الملاك فيما ارتفع يوجب الشك في بقاء الحكم الّذي هو مورد الاستصحاب. نعم ما دام الحكم العقلي بالحسن أو القبح باقياً كان الحكم الشرعي المستكشف به أيضا موجباً لاستحقاق المثوبة والعقوبة على موافقته ومخالفته كاستحقاقه المدح والذم عقلاً.

الخامس : أنه قد ظهر ما في قوله (قده) : «ان الإضرار ليس بوجوده الواقعي مناطاً للقبح والعقاب ليعلم تارة ويشك فيه أخرى ... إلخ» من الإشكال ، وهو ما عرفت من أنه مقتضى موضوعية العلم للأحكام العقلية دون الأحكام الشرعية ، فان العلم فيها وفي ملاكاتها طريق محض ، ومقتضاه تبعية الأحكام الشرعية لملاكاتها الواقعية دون العلم بها ، فانتفاء حكم العقل العملي بالمدح أو الذم لعدم إحراز الجهة المحسِّنة أو المقبِّحة لا يستلزم انتفاء الحكم الشرعي أيضا ، بل يوجب الشك فيه ، لاحتمال وجود ملاك واقعي له لم يدركه العقل ، وهذا الشك يصحِّح جريان الاستصحاب فيه والمؤاخذة على مخالفته.

٥٤

على (١) أقوال شتّى لا يهمنا نقلها ونقل ما ذكر من الاستدلال عليها ، وانما المهم الاستدلال على ما هو المختار منها وهو الحجية مطلقاً على نحوٍ يظهر بطلان سائرها (٢) ، فقد استدل عليه (٣) [عليها] بوجوه :

 الوجه الأول : استقرار بناء العقلاء (٤) من الإنسان بل ذوي الشعور

______________________________________________________

(١) متعلق بـ «اختلاف».

(٢) فلا حاجة إلى إطالة الكلام بالبحث عن أدلتها وردها ، لكنه (قده) تعرض لتفصيل الشيخ الأعظم بين الشك في المقتضي والرافع ، وللتفصيل بين الوضع والتكليف.

(٣) أي : على المختار ، وعلى تقدير تأنيث الضمير فالمرجع الحجية.

(أدلة حجية الاستصحاب :)

(الدليل الأول : بناء العقلاء)

(٤) المراد ببناء العقلاء وسيرتهم هو عملهم في قبال الإجماع القولي ، غاية الأمر أن السيرة تطلق ـ كما قيل ـ على عملهم بما هم متدينون بدين ومتشبثون بشريعة كاستقرار طريقتهم على بيع المعاطاة ، واكتفائهم بالعقد الفعلي استناداً إلى تدينهم بدين ، واعتبار هذه السيرة منوط بالإمضاء. والبناء يطلق أيضا على استقرار العقلاء بما هم عقلاء على أمر شرعي كبنائهم على اعتبار الخبر الموثوق الصدور. ويقابل هذين البناءين ما يطلق عليه فهم العرف كاقتضاء فهمهم بما هم عرف في تعيين المرادات من ظواهر الألفاظ كبنائهم على اعتبار الظواهر وأصالة الحقيقة ونحوهما.

وكيف كان فالاستدلال ببناء العقلاء على اعتبار الاستصحاب مؤلف من مقدمتين : أما الأولى فمحصلها : استقرار بناء العقلاء على إبقاء ما كان على ما كان ، بمعنى كون الاعتماد على الوجود السابق المتيقن في ظرف الشك في بقائه من مرتكزات

٥٥

من كافة أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة ، وحيث (١) لم يردع عنه الشارع كان ماضياً.

وفيه أوّلاً : منع استقرار بنائهم على ذلك (٢)

______________________________________________________

العقلاء في جميع أمورهم وشئونهم ، فالشك المسبوق باليقين وغير المسبوق به ليسا على حدِّ سواء عندهم ، لعدم اعتنائهم باحتمال تبدل ذلك المعلوم السابق بغيره ، بخلاف ما إذا لم تكن الحالة السابقة محرزة ، فانهم يرجعون إلى أمور أخرى كالاحتياط العقلي ونحوه.

بل يمكن دعوى عدم اختصاص هذا البناء بالعقلاء ، لأنه دأب كافة ذوي الشعور ومن جبليات جميع النفوس ، لما يرى من رجوع الحيوانات إلى أو كارها بعد تركها.

وأما الثانية فبيانها : أن هذا البناء حجة شرعاً ، لعدم ردع الشارع عنه ، وهذا المقدار كافٍ في الإمضاء.

وعليه فمقتضى هذا الدليل حجية الاستصحاب مطلقاً من باب الأصل لا الأمارة ، لأن اعتباره لأجل الظن بالبقاء هو مقتضى الوجه الثاني الآتي. قال شيخنا الأعظم في عداد أدلة اعتبار الاستصحاب مطلقاً : «ومنها بناء العقلاء على ذلك في جميع أمورهم كما ادعاه العلامة في النهاية وأكثر من تأخر عنه ، وزاد بعضهم أنه لو لا ذلك لاختل نظام العالم ...».

(١) هذا إشارة إلى وجه حجية بناء العقلاء ، إذ من المعلوم عدم كون بنائهم بنفسه حجة ، وانما يتوقف اعتباره على إمضاء الشارع ، وهذا الإمضاء قد يستكشف بالدليل اللفظي ، وقد يستكشف بعدم الردع بشرط إمكانه وعدم مانع عنه من تقية وغيرها في البين ، وضمير «عنه» راجع إلى بناء العقلاء.

(٢) أي : على العمل على طبق الحالة السابقة. ثم ان المصنف (قده) أورد على التمسك ببناء العقلاء على اعتبار الاستصحاب بوجهين :

٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الأول : ما يرجع إلى منع المقدمة الأولى ، يعني : أن المقصود بالاستدلال بهذا البناء إثبات تعويلهم على الحالة السابقة تعبداً وكفاية نفس الوجود السابق بما هو متيقن لترتيب آثاره عليه في ظرف الشك. مع أنه ممنوع ، إذ لا معنى للتعبد المحض في عمل العقلاء به ارتكازاً ، بل لا بد من استناده إلى منشأ عقلائي ، وهو أحد أمور ثلاثة ، فقد يكون منشؤه الاحتياط كما إذا كان له ابن في بلد آخر ، وجرت عادة الأب على الإنفاق عليه وسدّ حاجاته المالية ، فانه لو شكّ الوالد في حياة ابنه أرسل إليه الأموال رجاءً واحتياطاً حذراً من ابتلاء ابنه بضيق المعاش على تقدير بقائه حياً. وقد يكون منشؤه الاطمئنان بالبقاء أو الظن به ، وذلك كالتاجر الّذي يرسل البضائع إلى تاجر في بلدة أخرى ، فانه وان لم يتفحص عن بقائه كل مرة ، ولكنه مطمئن بحياته ، ولذا يرسلها إليه بحيث لو علم بموت جماعة من أهل تلك البلدة واحتمل كون وكيله منهم لم يرسل الأموال الخطيرة إليه قطعاً ، لزوال اطمئنانه ـ بل ظنه ـ بالبقاء. وقد يكون منشؤه الغفلة عن شكه الفعلي في بقاء ما كان ، كما إذا غيّر مسكنه وغفل عنه ، فانه قد يسلك الطريق المنتهى إلى داره الأولى. وهذا في الحيوانات أظهر لأجل عادتها الحاصلة من تكرار الفعل السابق ، ومع تبدل عادتها لا ترجع إلى محلها الأول إلّا لأجل الغفلة.

وعليه فليس من ارتكازيات العقلاء العمل تعبداً بالمتيقن السابق في ظرف الشك في بقائه كي يتجه الاستدلال به على اعتبار الاستصحاب.

الثاني : ما يرجع إلى منع المقدمة الثانية أعني تحقق شرط الاعتبار ، وحاصله : أن حجية هذا البناء العقلائي ـ كسائر موارده كبنائهم على العمل بخبر الثقة ـ منوطة بالإمضاء ولو بعدم الردع. لكنه ممنوع ، إذ لا دليل على الإمضاء ، بل دل على الردع عنه طائفتان من الأدلة :

الأولى : ما دل بالعموم على ردعه ، وعدم اعتباره كالآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العلم ، كقوله تعالى : «ولا تقف ما ليس لك به علم» وهي شاملة

٥٧

تعبداً (١) ، بل اما. رجاء واحتياطاً ، أو اطمئناناً بالبقاء ، أو ظناً [به] ولو نوعاً (٢) ، أو غفلة (٣) كما هو (٤) الحال في ساير الحيوانات دائماً

______________________________________________________

للمقام ، إذ المفروض زوال اليقين ببقاء الحالة السابقة ، وغاية ما يمكن دعواه وجود الظن باستمرارها ، ومن المعلوم أن كل ما ليس بعلم موضوع للنهي عن اتباعه.

الثانية : ما دل من الكتاب والسنة على كون المرجع في الشبهات أصالة البراءة كما هو مذهب الأصوليين ، أو أصالة الاحتياط كما هو مذهب أصحابنا المحدثين ، فان إطلاق أدلة البراءة يشمل ما إذا كان الشك في ثبوت التكليف مسبوقاً بالعلم به وغير مسبوق بالعلم به ، فمثل «رفع ما لا يعلمون» ينفي ظاهراً وجوب صلاة الجمعة المعلوم وجوبها حال حضور الإمام المعصوم عليه‌السلام وبسط يده والمشكوك بقاؤه حال الغيبة لاحتمال كون حضوره عليه‌السلام مقوِّماً لوجوبها.

وكذا أدلة الاحتياط الآمرة بالوقوف عند الشبهة ، فانها بإطلاقها تقتضي الأخذ بالحائطة للدين سواء أكان الشك مسبوقاً بالعلم بالتكليف أم لم يكن.

وقد تحصل : أن بناء العقلاء على الأخذ باليقين السابق على تقدير تحققه يكون مردوعاً عنه ، فلا عبرة به لإثبات حجية الاستصحاب.

(١) لما عرفت من عدم ابتناء عمل العقلاء على التعبد.

(٢) أي : الظن بالبقاء الحاصل للنوع وان لم يحصل لهذا الشخص بالخصوص ، وحيث ان المدار على الظن الشخصي فلذا أتى بـ «لو» لبيان الفرد الخفي من الظن المعمول به.

(٣) بمعنى عدم التفاتهم إلى العلم السابق والشك اللاحق ، فيكون عملهم بالحالة السابقة غفلة ومن دون التفات.

(٤) أي : العمل على الحالة السابقة غفلة حال غير الإنسان من الحيوانات دائماً لاختصاص صفتي العلم والشك بالإنسان ، فلا يستند عمل غير الإنسان بالحالة السابقة إلى الاستصحاب ، بل إلى العادة الحاصلة من تكرر الفعل ما لم تتبدل بعادة أخرى ، ومع التبدل لا يرجع الحيوان إلى محله السابق إلّا مع الغفلة ، بخلاف

٥٨

وفي الإنسان أحياناً.

وثانياً : سلمنا ذلك (١) لكنه لم يعلم أن الشارع به (٢) راضٍ ، وهو عنده ماضٍ ، ويكفي في الردع عن مثله (٣) ما (٤) دلّ من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم ، وما دلّ على البراءة أو الاحتياط في الشبهات ، فلا (٥) وجه لاتباع هذا البناء فيما لا بد في اتباعه من الدلالة على إمضائه ، فتأمل جيداً (٦) (*).

______________________________________________________

الإنسان ، فانه قد يكون للغفلة وقد يكون لغيرها ، ولذا قال (قده) : «وفي الإنسان أحياناً».

(١) أي : سلمنا استقرار بناء العقلاء على العمل بالحالة السابقة ... وهذا ثاني إيرادي المصنف على الدليل المزبور ، وقد تقدم بقولنا : «الثاني ما يرجع إلى المقدمة الثانية ...».

(٢) هذا الضمير وضمير «هو» راجعان إلى بناء العقلاء.

(٣) التعبير بالمثل لأجل شمول دليل النهي عن اتباع غير العلم لهذا البناء على العمل باليقين السابق وغيره من الموارد كبناء العقلاء على العمل بخبر الثقة. إلّا أن يجاب عنه بخروجه تخصصاً لا تخصيصاً ، لاحظ تفصيل الكلام في التعليقة.

(٤) فاعل «يكفى» وهذا إشارة إلى أول طائفة تدل على المنع ، وقوله : «وما دل» معطوف عليه وإشارة إلى الطائفة الثانية المانعة من العمل بهذا البناء العقلائي.

(٥) هذا متفرع على عدم العلم بإمضاء الشارع لبناء العقلاء على العمل بالحالة السابقة.

(٦) ولا تتوهم أن مردوعية السيرة بالآيات الناهية عن متابعة غير العلم دورية ، لعين ما تقدم في بحث حجية الخبر الواحد ، فيقال في المقام : ان رادعية الآيات عن السيرة على

__________________

(*) ومَنَعَ شيخنا الأعظم الاستدلال ببناء العقلاء على الاستصحاب بأن المستصحب

٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

العمل بالاستصحاب متوقفة على عمومها لها ، وعمومها لها متوقف على عدم تخصيصها ببناء العقلاء ، وعدم التخصيص متوقف على عدم حجية بناء العقلاء ، إذ لو كان حجة لخصّص العموم ، فإثبات عدم حجية بنائهم على الاستصحاب بأصالة عموم الآيات متوقف على عدم حجية بنائهم ، وهو الدور. فلا فارق بين المقام ومسألة حجية الخبر.

لأنه توهم فاسد ، للفرق بين المقامين ، إذ في بحث الخبر بعد تقرير الدور من الطرفين أثبت المصنف اعتبار السيرة التي كانت على الخبر بالاستصحاب المفروغ عن اعتباره ، وخصص به الآيات الناهية. وهذا بخلاف المقام ، إذ لا دليل على اعتبار بناء العقلاء على الحالة السابقة ، لفرض عدم ثبوت حجية الاستصحاب بعدُ ، فكيف تخصّص الآيات الرادعة بالسيرة التي لم يثبت اعتبارها شرعاً؟

__________________

ان كان من الموضوعات الخارجية فالعمل به انما هو للغلبة المورثة للظن بالبقاء فلو اقتضت الغلبة للظن بعدمه لم يبنوا عليه. وان كان من الأحكام الشرعية فلم يثبت بناؤهم عليه إلّا في الشك في النسخ والشك في حدوث الحكم مع عدم استناد بنائهم فيهما إلى الاستصحاب المصطلح ، بل لأمارة العدم ، بملاحظة كون بناء الشارع على التبليغ والبيان.

وكيف كان فتحقيق الكلام منوط بالبحث في جهتين : إحداهما في ثبوت صغرى بناء العقلاء مطلقاً ، وعدمه كذلك ، أو التفصيل بين الشك في المقتضي والرافع كما في تقرير بحثي المحقق النائيني وسيدنا الفقيه الأعظم الأصفهاني (قدس‌سرهما) ، أو التفصيل بين الأمور الدينية والدنيوية كما في تقرير شيخنا المحقق العراقي (قده) وجوه يأتي الإشارة إليها.

ثانيتهما : في حجية هذا البناء على تقدير تحققه.

أما الجهة الأولى فمحصلها : أنه قد يقال باستقرار بناء العقلاء على العمل بالمتيقن السابق موجبة جزئية ، وانهم لا يعاملون مع الشك في البقاء معاملة الشك

٦٠