منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

ضرورة (١) أن التكليف

______________________________________________________

جعل الأحكام للمكلفين وزان جعل الزكاة للفقراء والوقف على العناوين الكلية كالزوّار والفقهاء ونحو ذلك ، فان الملحوظ فيها هو الكلي دون الأفراد ، ولذا لا يملك أفراد كلي الفقير والفقيه والزائر الزكاة وعوائد الوقف إلّا بالقبض ، ولو كان المالك هي الأفراد لجاز لهم أخذهما تقاصّا ممن هما عليه ، ويمتنع عن أدائهما ، ومن المسلّم عدم جوازه إلّا إذا أذن لهم وليّهم وهو الحاكم الشرعي في التقاص.

ثم ان ما استظهره المصنف هنا من كلام الشيخ من إرادة تعلق الحكم بالكلي من دون سراية إلى الأفراد أفاده في الحاشية أيضا بقوله : «وبعبارة أخرى : ان المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للعناوين الباقية ولو بالأشخاص المتبادلة ، دون نفس الأشخاص كي يلزم تعدد الموضوع بمجرد ذلك ، فالموضوع هنا كالموضوع في الأوقاف كالفقير والطلبة وغيرهما» ولم يورد المصنف عليه بشيء ، وظاهره تسليم جواب الشيخ بناء على إرادة تعلق الحكم بالكلي بلا سراية إلى الأفراد. ومن المعلوم مغايرة هذا التوجيه لما أفاده في المتن من حمل كلام الشيخ على إرادة القضية الحقيقية ، ولعله (قده) عدل عما ذكره في الحاشية ، لوضوح كون الخطابات الشرعية من القضايا الحقيقية.

(١) تعليل لإمكان إرجاع كلام الشيخ إلى ما ذكره المصنف (قده) من إرادة القضية الحقيقية. وحاصل التعليل الّذي تقدم بيانه بقولنا : «وأما توجيه المصنف لهذا الجواب فمحصله أنه لما كان ظاهر كلام الشيخ ... إلخ» هو : أنه لا يمكن إرادة القضية الطبيعية هنا ، لامتناع تعلق التكليف بعثا وزجرا بالطبيعة ، إذ لا يعقل انبعاثها وانزجارها. وكذا ما يترتب عليهما من الثواب والعقاب ، فان كل ذلك من آثار أفراد الطبيعة ووجوداتها ، لا نفس الطبيعة من حيث هي ، إذ لا معنى لبعثها وزجرها من دون دخل للأشخاص فيها ، فامتناع تعلق التكليف بها وكذا ما يتبعه من الثواب والعقاب المترتبين على الإطاعة والعصيان يلجئنا إلى إرجاع ظاهر كلام الشيخ وهو القضية الطبيعية إلى القضية الحقيقية. هذا مضافا إلى : أن الملاكات الداعية

٥٠١

والبعث (*) أو الزجر لا يكاد يتعلق به كذلك (١) ، بل لا بد (٢) من تعلقه بالأشخاص ، وكذلك الثواب أو العقاب المترتب على الطاعة أو المعصية (٣). وكأنّ غرضه (٤) من عدم دخل الأشخاص عدم دخل أشخاص

______________________________________________________

إلى تشريع الأحكام قائمة بوجودات الطبيعة ، لا بالطبيعة من حيث هي كما هو واضح.

(١) يعني : بحيث لا يكون للأشخاص دخل في التكليف وما يتبعه ، وضمير «به» راجع إلى الكلي.

(٢) إضراب على قوله : «لا يكاد» يعني : لا يكاد يتعلق التكليف بالكلي بما هو كلي ، بل لا بد من تعلقه بالأشخاص أي أفراد الكلي الموجودة خارجا.

(٣) إذ لا معنى لإطاعة الطبيعة وعصيانها بعد كونهما من الأفعال الاختيارية التي لا تصدر إلّا عن فاعل موجود خارجي ، ولا يعقل صدورها من الطبيعة من حيث هي مع الغض عن وجودها خارجا ، فان وزان الإطاعة والعصيان وزان سائر الأفعال الإرادية كالبيع والصلح والهبة ونحوها من الأفعال الصادرة من الأشخاص.

(٤) يعني : وكأنّ غرض الشيخ (قده) وهذا تقريب التوجيه ، بيانه : أن غرض الشيخ من عدم دخل الأشخاص عدم دخل خصوص الأشخاص الموجودين في زمان تلك الشرائع ، لا مطلقا حتى تكون القضية طبيعية ويرد عليه الإشكال المتقدم ، فالمقصود حينئذ أن الحكم ليس مختصا بالأشخاص الموجودين ، بل يعم جميع الأفراد من الموجودين والمعدومين ، وهذا هو القضية الحقيقية ، حيث أنها عبارة عن قضية يكون موضوع الحكم فيها الأفراد النّفس الأمرية سواء أكانت محققة أم مقدرة ، فمعنى قولنا : «كل جسم مركب» أو «كل مستطيع يجب عليه الحج» أو «كل

__________________

(*) الأولى تبديل واو العطف بـ «من» ليكون بيانا للتكليف ، إذ الثواب والعقاب المترتبان على الإطاعة والعصيان من آثار خصوص التكليف البعثي والزجري ، فإرادة مطلق التكليف بأن يكون «البعث» من عطف الخاصّ على العام مما لا يلائم التعليل ، فتدبر في العبارة.

٥٠٢

خاصة (١) (*) فافهم (٢).

______________________________________________________

مالك لأربعين غنما يجب عليه الزكاة» هو : أن كل ما وجد وصدق عليه أنه جسم صدق عليه أنه مركب ، أو : كل من وجد وصدق عليه أنه مستطيع أو مالك لأربعين غنما وجب عليه الحج أو الزكاة.

(١) وهم الموجودون في زمان تلك الشرائع مثلا حتى لا تصير القضية خارجية كما توهمه الخصم.

(٢) لعله إشارة إلى إمكان إبقاء كلام الشيخ على ظاهره من إرادة القضية الطبيعية وصحة تعلق التكليف بالكلي كصحة تعلق الوضع كالملكية به. لكنه بعيد ، بل ممنوع ، لوضوح الفرق بين التكليف والوضع ، حيث انه لا يعقل تعلق البعث والزجر والإطاعة والعصيان بالكلي من حيث هو مع الغض عن الأفراد ، بخلاف الوضع كالملكية ، فانه لا مانع من تعلقه بالكلي ، إذ ليس فيه شيء من البعث وغيره مما ذكر ، ولذا يصح اعتبار الملكية للميت ، بخلاف التكليف ، فانه يسقط عن الشخص بمجرد موته ويبقى عليه الوضع على ما ثبت في محله.

أو إشارة إلى : فساد تنظير المقام بمالكية كلي الفقير للزكاة ، وذلك لثبوت التكليف على الأشخاص بمجرد انطباق الكلي عليهم بلا توقفه على شيء ، بخلاف مالكية الفقير للزكاة ، لعدم كفاية مجرد انطباق كلّي الفقير عليه في مالكيته لها ، لتوقفها على القبض ، مع أن غرض الشيخ (قده) ثبوت التكليف لنا كثبوته لهم بمجرد انطباق كلي المكلف علينا ، والمفروض عدم التفاوت في الانطباق المزبور.

أو إشارة إلى صعوبة هذا التوجيه ، وبقاء الإشكال على ظاهر كلام الشيخ.

__________________

(*) أقول : الظاهر أنه ليس هنا ما يلجئنا إلى توجيه كلام الشيخ (قده) وإرجاعه إلى القضية الحقيقية بعد إمكان إبقائه على ظاهره من القضية الطبيعية من دون محذور ، بأن يقال : ان القضية الطبيعية يراد بها تارة ما يكون الموضوع فيها نفس الطبيعة من حيث هي ، ولا يلاحظ معها الأفراد أصلا حتى يسري الحكم منها إليها ، بل الحكم مقصور على الطبيعة ، مثل «الإنسان نوع» على ما تقدم

٥٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

آنفا. وأخرى ما يكون الموضوع فيها الطبيعة السارية ، بمعنى : أن موضوع القضية هي الطبيعة لا من حيث هي ، بل من حيث وجودها وسريانها في الأفراد من دون دخل لخصوصيات الأفراد ، وهذا القسم هو مفاد القضية المحصورة ، كقولنا : «كل إنسان حيوان» فان معناه حيوانية كل إنسان موجود ، فالحكم يسري إلى أفراده ، بخلاف قولنا : «الإنسان نوع» فان الحكم وهو النوعية لا يسري إلى أفراده.

وعلى هذا البيان لا مانع من التحفظ بظاهر كلام الشيخ ، خصوصا بملاحظة قوله : «المستصحب هو الحكم الكلي الثابت للجماعة ...» فان الثبوت للجماعة معناه ثبوت الحكم لأفراد الكلي ، لا نفس الكلي ، وإلّا لم يصح هذا التعبير ، إذ لو كان مراده القسم الأول من القضية الطبيعية لم يكن الحكم ثابتا للجماعة ، لما مر من أن الحكم في القسم الأول من القضية الطبيعية مقصور على الطبيعية ، ولا يسري إلى الأفراد أصلا. وقوله : «لا مدخل لأشخاصهم فيه» يخرج القضية الخارجية التي تخيّلها المستشكل.

وسريان الحكم من الطبيعة إلى الأفراد بدون دخل خصوصيات الأفراد ليس إلّا مقتضى القسم الثاني من القضية الطبيعية. ومالكية الفقير للزكاة لعلّها من هذا القبيل ، إذ لا مانع من مالكية طبيعة الفقير من حيث سريانها في أفرادها لها من دون نظر إلى خصوصياتها.

والفرق بين هذا القسم الثاني من القضية الطبيعية والقضية الحقيقية هو : أن الموضوع في الأول نفس الطبيعة ، لكن بلحاظ سريانها في الأفراد في قبال القسم الأول منها الّذي يكون الموضوع فيه الطبيعة من حيث هي من دون لحاظ وجودها وسريانها ، ولذا يكون محمولها من المعقولات الثانية كالنوعية والجنسية. والحكم في هذا القسم لا يسري إلى الأفراد ، فلا يحمل «النوع» أو «الجنس» على أفراد الإنسان أو أفراد الحيوان ، بخلاف القسم الآخر من القضية الطبيعية الملحوظ فيها سريانها في الأفراد ، فان الحكم فيها يسري إلى أفرادها. وهذا في القضية

٥٠٤

وأما ما أفاده من الوجه الأول (١) فهو (٢) وإن كان وجيها بالنسبة إلى

______________________________________________________

(١) وهو الجواب الأول الّذي أفاده الشيخ عن إشكال صاحب الفصول (قدهما) بقوله : «وفيه : أنا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين ، فإذا حرم في حقه شيء سابقا وشك في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة فلا مانع عن الاستصحاب أصلا ... إلخ» وحاصله : أنه بناء على كون القضية خارجية كما أفاده صاحب الفصول يكون الموضوع وهو المدرك للشريعتين واحدا ، فلا مانع من جريان استصحاب عدم النسخ في حقه.

(٢) جواب «وأما» وإشكال على ما أفاده الشيخ ، ومحصل الإشكال : أن هذا الجواب أخص من المدعى وهو حجية استصحاب عدم النسخ مطلقا في حق

__________________

الطبيعية المحصورة مثل «كل إنسان حيوان» فان الحكم فيه يسري إلى أفراد الإنسان ، وذاك في الطبيعية غير المحصورة مثل «الإنسان نوع».

وأما الموضوع في القضية الحقيقية فهو الأفراد النّفس الأمرية سواء أكانت محققة أم مقدرة. والطبيعة ملحوظة فيها مرآة للأفراد ، حيث إن عدم تناهيها الموجب لامتناع استحضارها تفصيلا بالقوى الجسمانية المتناهية تأثيرا وتأثرا أوجب لحاظ الطبيعة عنوانا ومرآة لها ، فالحكم في القضية الحقيقية ثابت لنفس الأفراد ، والطبيعة تلاحظ فيها مرآة لها. بخلاف القضية الطبيعية ، فان الملحوظ فيها بكلا قسميها من المحصورة وغيرها هو نفس الطبيعة إما بدون لحاظ السريان وإما معه.

إذا تمهد ما ذكرنا يظهر أنه لا مانع من الأخذ بظاهر كلام الشيخ ، كما عرفت من أن القضية الطبيعية المحصورة تنطبق عليه ، لأن الحكم فيها ثابت للكلي باعتبار وجوده ، وهو عين ما أفاده من ثبوت الحكم الكلي للجماعة من دون مدخل لأشخاصهم. والملكية الثابتة للعناوين الكلية كملكية الخمس للسيد والزكاة للفقير وغير ذلك من هذا القبيل.

وبالجملة : فلا محوج إلى ارتكاب خلاف الظاهر في كلامه ، فلاحظ وتأمل.

٥٠٥

جريان الاستصحاب في حق خصوص المدرك للشريعتين (١) ، إلّا أنه (٢) غير مجد في حق غيره من المعدومين ،

______________________________________________________

الجميع لا خصوص مدرك الشريعتين كما أفيد ، ولا يجدي تتميم الحكم في المعدومين بما أفاده (قده) من قيام الضرورة على اشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة. وذلك لأن قاعدة الاشتراك سواء أكانت جارية في حق أهل شريعة واحدة أم أهل شريعتين مشروطة بوحدة الموضوع والاتحاد في الصنف ، فمع انتفاء هذا الشرط لا تجري القاعدة في حق المعدومين وإن كانوا مع الموجودين من أهل شريعة واحدة فضلا عن أهل شريعتين ، والمفروض انتفاء هذا الشرط في المقام ، لأن مقتضى ما أفاده الشيخ من اختصاص اليقين السابق بمدرك الشريعتين بناء على القضية الخارجية التي هي مبنى جوابه الأول بقوله : «انا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين ... إلخ» هو عدم اليقين بالثبوت للمعدومين ، وهذا يوجب التغاير بينهما ، حيث ان المعدومين بناء على القضية الخارجية ليس لهم يقين بالثبوت ، لاختصاص اليقين به بمدرك الشريعتين ، والمفروض أن الحكم الاستصحابي مختص بموضوعه وهو «من كان على يقين فشك» ولا يثبت في حق من لا يقين ولا شك له.

وبالجملة : فقاعدة الاشتراك لا تجري هنا ، لعدم الاشتراك في الموضوع حتى يجري الاستصحاب في حق المعدومين وكذا لا يجري في حقهم ما استصحبه مدرك الشريعتين من الحكم ، لاختصاص الحكم الظاهري بموضوعه ، وهو من جرى في حقه الأصل العملي ، دون غيره ممن لا يجري في حقه ، لعدم كونه موضوعا له كالمعدومين ، فانه لا يقين لهم بالثبوت كما لا شك لهم في البقاء حتى يجري الاستصحاب في حقهم.

(١) إذ المفروض تحقق ركني الاستصحاب من اليقين والشك بالنسبة إليه.

(٢) يعني : إلّا أن ما أفاده في مدرك الشريعتين غير مجد في حق غيره من المعدومين ، وهذا إشارة إلى إشكال الأخصية من المدعى.

٥٠٦

ولا يكاد (١) يتم الحكم فيهم بضرورة اشتراك أهل الشريعة الواحدة أيضا (٢) ، ضرورة (٣) أن قضية الاشتراك ليس إلّا أن الاستصحاب (*)

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى ضعف الوجه الّذي تمسك به الشيخ لتتميم الحكم في المعدومين من قاعدة الاشتراك ، وقد عرفت تقريبه بقولنا : «ولا يجدي تتميم الحكم في المعدومين بما أفاده ... إلخ» وضمير «فيهم» راجع إلى المعدومين ، والمراد بالحكم في قوله : «يتم الحكم» هو الحكم المستصحب ، وقوله : «بضرورة» متعلق بـ «يتم».

(٢) يعني : كعدم تمامية الحكم للمعدومين بالاستصحاب ، وغرضه : أنه كما لا يثبت الحكم للمعدومين بالاستصحاب ، لعدم اليقين لهم الّذي هو أول ركني الاستصحاب كذلك لا يثبت لهم بقاعدة الاشتراك وإن زعمه الشيخ.

(٣) تعليل لقوله : «ولا يكاد يتم الحكم» وقد تقدم تفصيله آنفا بقولنا : «وذلك لأن قاعدة الاشتراك سواء أكانت جارية ... إلخ» وإجماله كما في حاشيته على الرسائل أيضا هو «أن قضية قاعدة الاشتراك ليست إلّا أن الاستصحاب حكم من كان على يقين فشك ، لا أن الحكم الثابت بالاستصحاب في حق من كان على يقين منه فشك يكون حكم الكل ولو من لم يكن على يقين منه» وحاصله : أن قاعدة الاشتراك لا تقتضي اعتبار الاستصحاب في حق المعدومين كاعتباره في حق الموجودين ، إذ يعتبر في جريان قاعدة الاشتراك الاتحاد في الصنف كما عن الوحيد البهبهاني (قده) ومن المعلوم تقوم الاستصحاب كغيره من الأصول العملية بموضوعه وهو اليقين بالثبوت والشك في البقاء ، وذلك مفقود في المعدومين بناء على القضية الخارجية كما هو مبني أول جوابي الشيخ عن إشكال صاحب الفصول ، إذ الاحتياج إلى قاعدة الاشتراك لإتمام المدعى إنما هو في الجواب النقضي الّذي تعرض له بقوله : «انا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين ... إلخ» دون الجواب

__________________

(*) الّذي هو ظاهر كلام الشيخ (قده) لا الحكم المستصحب ، بأن يقال : ان الحكم الّذي يستصحبه مدرك الشريعتين يثبت في حق المعدومين بقاعدة

٥٠٧

حكم كل من كان على يقين فشك ، لا أنه (١) حكم الكل ولو من لم يكن كذلك بلا شك ، وهذا (٢) واضح.

______________________________________________________

الحلي المبني على القضية الطبيعية أو الحقيقية ، إذ بناء على الجواب الحلي لا حاجة إلى قاعدة الاشتراك ، حيث ان للمعدومين أيضا يقينا وشكا كالموجودين ، فيجري في حقهم الاستصحاب بلا إشكال.

(١) أي : لا أن الاستصحاب ، يعني : أن مقتضى الاشتراك ليس إلّا أن الاستصحاب حكم المتيقن والشاك ، لا أن الاستصحاب حكم الكل ولو من لم يكن متيقنا وشاكا كما هو المفروض في المعدومين. وعليه فلا يمكن تتميم المدعى وهو جريان الاستصحاب في حق المعدومين بقاعدة الاشتراك.

(٢) أي : وكون الاستصحاب متقوما باليقين والشك وعدم جريانه في حق غير المتيقن والشاك واضح.

__________________

الاشتراك من دون حاجة إلى يقين المعدوم وشكه ، حيث ان دليل الاشتراك يثبت الملازمة بين المعدوم والموجود في الحكم الواقعي ، فإذا ثبت هذا الحكم ظاهرا بالاستصحاب الجاري في حق الموجود ثبت في حق المعدوم أيضا ، للاشتراك بينهما.

توضيح وجه عدم إرادة الحكم المستصحب هو : أنه مبني على حجية الأصل المثبت ، حيث ان مفاد قاعدة الاشتراك الملازمة بين المعدوم والموجود في الأحكام الواقعية ، فان ثبت حكم في حق الموجود بعلم أو علمي ثبت في حق المعدوم أيضا ، للملازمة المزبورة ، حيث ان العلم أو الأمارة غير العلمية كخبر العادل يثبت اللوازم والملزومات والملازمات كما ثبت في محله. وإن ثبت بأصل من الأصول العملية فثبوته في حق غير الموجود موقوف على حجية الأصل المثبت ، بأن يستفاد من الاستصحاب الجاري في حق الموجود ثبوت الحكم له ، لأنه مؤدى الاستصحاب ، وللمعدوم أيضا ، لأنه ملازم لمؤدى الاستصحاب. مثلا إذا ثبت التلازم بين القصر والإفطار للمسافر وثبت بأمارة معتبرة «أن المقيم عشرا في محلّين يقصّر» فلا إشكال

٥٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في ثبوت الإفطار بها أيضا ، لأنه ملازم لوجوب القصر. وأما إذا ثبت وجوب القصر بأصل عملي فثبوت ملازمه وهو وجوب الإفطار به منوط بحجية الأصل المثبت ، وحيث انه سيأتي في التنبيه الآتي عدم حجيته ، فلا يثبت بالاستصحاب الجاري في حق الموجود حكم المعدوم ، نظير التوضؤ بماء مشتبه بالمتنجس ، حيث ان استصحاب بقاء الحدث لا يثبت نجاسة أعضاء الوضوء مع ما بينهما من الملازمة ، ضرورة أن بقاء الحدث ملازم لنجاسة الماء الموجبة لنجاسة ملاقيه من البدن ، هذا ما قيل.

لكن الحق اندفاع إشكال مثبتية الاستصحاب هنا ، وذلك لأن المفروض إثبات الحكم الثابت لمدرك الشريعتين بالاستصحاب لغيره بقاعدة الاشتراك ، لا بنفس الاستصحاب حتى يرد عليه إشكال المثبتية. فعليه إذا جرى الاستصحاب في حق مدرك الشريعتين وأثبت له الحكم ، ثبت نفس هذا الحكم أيضا لغيره وهو المعدوم بقاعدة الاشتراك ، لا بالاستصحاب الجاري في حق مدرك الشريعتين حتى يقال : انه مثبت.

وبالجملة : فان كان مراد الشيخ (قده) بتتميم المدعى في المعدومين بقاعدة الاشتراك هو الحكم المستصحب فإشكال الإثبات غير وارد عليه ، كما أن تنظيره باستصحاب بقاء الحدث فيمن توضأ بماء مشتبه بالمتنجس في غير محله ، إذ لا يراد في المقام إثبات الملازم وهو حكم المعدوم باستصحاب مدرك الشريعتين حتى يكون نظير استصحاب بقاء الحدث ، بل يراد إثبات الحكم للمعدوم بقاعدة الاشتراك ، فالفرق بينهما واضح.

والصحيح ما أفاده المحقق النائيني (قده) من إنكار استصحاب عدم نسخ أحكام الشرائع السابقة. أما بناء على كون كل حكم في الشريعة اللاحقة مجعولا بجعل جديد فالأمر واضح ، لأنه حينئذ تكون أحكام الشريعة السابقة بأجمعها منسوخة ، فلا شك حتى يستصحب شيء من أحكامها ، بل الشك إنما هو في جعل المماثل

٥٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

أو المضاد لما في الشريعة السابقة ، ولا معنى لاستصحاب حرمة شيء مثلا لإثبات مماثلها في الشريعة اللاحقة. وأما بناء على عدمه وكون جملة من الأحكام السابقة ممضاة في شريعتنا فلأن استصحاب الحكم السابق لإثبات تعلق الإمضاء به يكون من الأصول المثبتة التي لا نقول بحجيتها (١).

والمختار وإن كان هو الاحتمال الأول. لكن لا مانع من الاستصحاب بناء على الاحتمال الثاني ، ولا يلزم إشكال المثبتية ، إذ ليس المراد بالإمضاء إلّا بقاء حكم الشريعة السابقة في شريعتنا ، ومن المعلوم أن مقتضى الاستصحاب ليس إلّا ذلك.

__________________

(١) أجود التقريرات ، ٢ ـ ٤١٥

٥١٠

السابع (١) : لا شبهة في أن قضية أخبار الباب هو إنشاء حكم مماثل

______________________________________________________

(التنبيه السابع : الأصل المثبت)

(١) الغرض من عقد هذا الأمر هو البحث عن حجية الأصل المثبت وعدمها ولذا اشتهر هذا بتنبيه الأصل المثبت ، ولا يخفى أن البحث في هذا التنبيه من أهم المباحث المتعلقة بالاستصحاب وساير الأصول العملية ، لما نبهنا عليه في أول التنبيهات من أنها تتعلق بأركان الاستصحاب من اليقين والشك والأثر الشرعي المترتب على المستصحب. وهذا التنبيه يبحث فيه عن اختصاص جريان الاستصحاب بما إذا ترتب أثر شرعي على نفس المستصحب على ما سيظهر ، وأنه لا يشمل الأثر الشرعي المترتب على المستصحب بواسطة عقلية أو عادية كاستحباب خضاب اللحية التي هي لازم عادي لبقاء حياة الطفل المستصحبة ، وعليه فلا بد من البحث عن عموم دليل الاستصحاب وشموله للأثر مع الواسطة غير الشرعية ، وعدمه. ولو لم يكن الاستصحاب المثبت للأثر المترتب على واسطة غير شرعية حجة ، فعدم حجية مثبتات سائر الأصول الفاقدة لجهة التنزيل والإحراز يكون بالأولوية.

وبهذا ظهر غموض ما أفاده المحقق الميرزا الآشتياني (قده) من قوله : «لا يخفى عليك أن هذا الأمر لا تعلق له بأحد الأمور التي ذكرها دام ظله من أركان الاستصحاب إلّا بتكلف ركيك» (١) وذلك لما عرفت من أن البحث عن اختصاص الأثر بنفس المستصحب وعمومه لأثر الواسطة غير الشرعية مع كثرة الفروع المترتبة عليه مما يلزم على الفقيه تنقيحه. وفي شرح المحقق الآشتياني عن مجلس درس الشيخ الأعظم أن أول من عنون عدم حجية الأصل المثبت هو الشيخ الكبير في كشف الغطاء وتبعه الفقهاء من بعده.

وكيف كان فقد تعرض المصنف قبل الخوض في المقصود لأمرين : الأول ما يستفاد من أخبار الاستصحاب ، الثاني لزوم ترتيب كل أثر شرعي أو عقلي يترتب

__________________

(١) بحر الفوائد ، ٣ ـ ١٢٨

٥١١

للمستصحب (*) في استصحاب الأحكام (١) ولأحكامه (٢) في استصحاب

______________________________________________________

على المتيقن على الاستصحاب الجاري في الحكم أو الموضوع ، وبعد بيان الأمرين أخذ في مباحث الأصل المثبت.

أما الأمر الأول الّذي تعرض له بقوله : «لا شبهة في أن قضية أخبار الباب» فتوضيحه : أنه بعد وضوح انتقاض اليقين وجدانا وكونه طريقا ، وامتناع تعلق حرمة النقض به لا بد أن يراد من حرمة النقض ووجوب الإبقاء إنشاء حكم مماثل للمتيقن السابق إن كان حكما ، كما إذا كان المتيقن وجوب الجلوس مثلا في المسجد إلى الزوال ، وشك في بقاء هذا الوجوب فيما بعد الزوال ، فالمجعول حينئذ وجوب مماثل لذلك الوجوب. أو إنشاء حكم مماثل لحكم المتيقن إن كان موضوعا ، كما إذا كان المتيقن عدالة زيد يوم الجمعة وشك في بقائها يوم السبت ، فان المجعول حين الشك في بقائها مثل أحكام العدالة الواقعية كجواز الائتمام به وقبول شهادته ، لا أن المجعول أحكام العدالة حقيقة ، لأن موضوعها هو العدالة الواقعية ، لا العدالة المشكوكة ، ومن المعلوم تقوّم جعل الحكم المماثل بالشك ، ولذا يرتفع بارتفاع الشك.

وبالجملة : فمعنى وجوب إبقاء المتيقن هو جعل مثله ممن الآثار الشرعية ان كان المتيقن بنفسه حكما شرعيا ، أو جعل مثل أحكامه ان كان المتيقن موضوعا ذا أثر شرعي كالعدالة والفقاهة والفقر والغنى كما مر آنفا.

وأما الأمر الثاني فسيأتي بيانه.

(١) يعني : كما إذا كان المستصحب حكما كالوجوب ، فوجوب إبقائه هو جعل وجوب مماثل له حال الشك.

(٢) معطوف على «للمستصحب» يعني : إنشاء حكم مماثل لأحكام المستصحب في استصحاب الموضوعات ذوات الآثار الشرعية كالعدالة والحرية والحياة.

__________________

(*) لا يخفى مغايرة هذا التعبير لما أفاده الشيخ (قده) بقوله : «ان معنى عدم نقض اليقين والمضي عليه هو ترتيب آثار اليقين السابق الثابتة بواسطته للمتيقن ووجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع» وجه المغايرة أن كلام الشيخ ناظر

٥١٢

الموضوعات. كما لا شبهة (١) في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى الأمر الثاني وهو لزوم ترتيب كل أثر شرعي أو عقلي على الاستصحاب. ومحصل ما أفاده فيه بقوله : «كما لا شبهة» هو : أن الأثر الشرعي تارة يترتب على نفس الحكم الواقعي ، وأخرى على ما هو أعم منه ومن الظاهري ، وكذا الأثر العقلي ، فالصور أربع. لا إشكال في لزوم ترتيب الأثر الشرعي على الحكم الثابت بالاستصحاب في الصورتين الأوليين ، كما إذا فرضنا أن لوجوب الجلوس في

__________________

إلى ترتيب ما للمتيقن من الأحكام الشرعية في ظرف الشك في بقائه ، وهذا لا يكون مطردا ، إذ ربما لا يكون للحكم المتيقن أثر شرعي حتى يجب إبقاؤه بدليل الاستصحاب. وآثاره العقلية كوجوب المقدمة وحرمة الضد ووجوب الإطاعة وغيرها غير قابلة للجعل بعد وضوح أن مفاد الأصل العملي لا بد أن يكون مما تناله يد التشريع. وعليه فما أفاده المصنف أولى ، لاطّراد «الحكم المماثل» في جميع الموارد سواء أكان المستصحب حكما شرعيا أم موضوعا له ، وعدم محذور في جعل الحكم المماثل في كلا الموردين. وقد تعرض المصنف (قده) لهذا المطلب في حاشية الرسائل (١) ، فراجع.

لكن يمكن دفع الإشكال بأن تعبير الشيخ بعد كلامه المتقدم بقوله : «إذا عرفت هذا ... فان كان ـ أي المستصحب ـ من الأحكام الشرعية فالمجعول في زمان الشك حكم ظاهري مساو للمتيقن السابق في جميع ما يترتب عليه ، لأنه مفاد وجوب ترتيب آثار المتيقن السابق» مانع عن ورود الإشكال على ما أفاده في صدر التنبيه ، إذ لا فرق في الالتزام بجعل الحكم الظاهري بأدلة الاستصحاب بين كون المستصحب حكما وبين كونه موضوعا ، هذا.

وأما تعبير المصنف بـ «لا شبهة» الظاهر في إرسال ذلك إرسال المسلّمات فمبني على ما استقر عليه رأيه من اقتضاء أخبار الاستصحاب جعل الحكم المماثل ، وإلّا فلا يلتئم مع الآراء المتشتتة في مفادها واختلافها في اقتضاء بعضها حجية مثبتاته.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢١٠

٥١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

المسجد بعد الزوال أثرا شرعيا بعنوان ثانوي كوجوب صلاة ركعتين فيه بسبب النذر أو الحلف مثلا ، أو بعنوان أوّلي كعدم جواز النافلة لمن عليه الفريضة ، أو عدم جواز إجارة نفسه للصلاة عن الغير ، أو الحج أو الصوم كذلك مع اشتغال ذمته بهذه الواجبات ، فإذا ثبت بقاء وجوبها بالاستصحاب ترتبت عليه هذه الحرمات. أو ثبت بالاستصحاب وجوب الجلوس ترتب على هذا الوجوب وجوب صلاة ركعتين فيه سواء أكان موضوع وجوب هذه الصلاة وجوب الجلوس واقعا ، أم أعم منه ، إذ الاستصحاب يثبت الحكم الواقعي ظاهرا في ظرف الشك ، فكل أثر شرعي يترتب على الحكم الواقعي يترتب عليه باستصحابه ، لإحراز الموضوع تعبدا فيما كان الأثر مترتبا على الواقع ، وإحرازه وجدانا فيما كان الأثر مترتبا على الأعم من الواقع والظاهر.

كما لا إشكال في لزوم ترتيب الأثر العقلي في الصورة الرابعة وهي ترتبه على الحكم الواقعي بوجوده الأعم من الواقعي والظاهري كوجوب المقدمة وحرمة الضد بناء على عقليتهما ، فإذا ثبت وجوب صلاة الجمعة مثلا بالاستصحاب ثبت وجوب مقدمتها وحرمة ضدها.

كما لا إشكال أيضا في عدم ترتب الأثر العقلي في الصورة الثالثة وهي ترتبه على الحكم بخصوص وجوده الواقعي لا الأعم منه ومن الظاهري ، وذلك لعدم إحراز موضوعه بالاستصحاب ، فإذا كان الإجزاء مثلا حكما عقليا مترتبا على الوجوب الشرعي بوجوده الواقعي ، فهو لا يترتب على وجوب صلاة الجمعة الثابت بالاستصحاب ، إذ لا يثبت به إلّا وجوبها تعبدا ، والمفروض أن إجزاء صلاة الجمعة عن الظهر منوط بوجوبها واقعا. كما لا يثبت باستصحاب الطهارة الحدثية إجزاء الصلاة المأتي بها استنادا إلى استصحابها ، حيث ان الإجزاء عقلا مترتب على الطهارة بخصوص وجودها الواقعي ، لا الأعم منه ومن الظاهري ، ولذا يقال بعدم الإجزاء في الأحكام الظاهرية.

٥١٤

من (١) الآثار الشرعية والعقلية. وإنما الإشكال (٢)

______________________________________________________

فتلخص : أنه إذا ثبت الحكم الواقعي تعبدا بالاستصحاب الجاري في الموضوع أو الحكم ، وكانت له آثار شرعية أو عقلية مترتبة على وجوده الواقعي أو الأعم منه ومن الظاهري ترتبت تلك الآثار بأجمعها عليه ، إذ المفروض أنه تمام الموضوع لها سواء أكانت عرضية كالحرمة والنجاسة للعصير المغلي إذا شك في ذهاب ثلثيه ، فان هذين الحكمين بناء على القول بالنجاسة يترتبان عرضا على استصحاب عدم ذهاب ثلثيه ، أم طولية ، كما إذا فرض ترتب مانعية الحرير الخالص للرجال على حرمة لبسه تكليفا ، فإذا شك في خلوصه وجرى فيه الاستصحاب وثبت به تعبدا خلوصه ترتب عليه حرمة لبسه وما يترتب عليها من المانعية.

(١) بيان لـ «ما» في قوله : «ما للحكم» وقد تقدم آنفا تقريب ترتب الآثار الشرعية والعقلية على الحكم المستصحب ، وأنه يترتب عليه جميع الأحكام الشرعية والعقلية ، إلّا الحكم العقلي المترتب على الحكم الواقعي بوجوده الواقعي.

(٢) هذا شروع في المباحث المتعلقة بالأصل المثبت الّذي هو المقصود الأصلي من عقد هذا التنبيه. ومحصل ما أفاده في ذلك : أنه إذا كان للمستصحب لازم عقلي أو عادي ، وكان لذلك اللازم أثر شرعي ، فهل يترتب ذلك الأثر الشرعي على مجرد استصحاب ملزومه أم لا؟ فمن قال بحجية الأصل المثبت يقول : نعم ، ومن قال بعدمها يقول : لا. أما مثال اللازم العقلي فكملاقاة الثوب المتنجس للماء الّذي شك في بقائه على الكرية ، فان استصحاب كريته إلى زمان الملاقاة يلزمه عقلا ملاقاة الثوب للماء في حال الكرية ، ويترتب على هذا اللازم العقلي طهارة الثوب التي هي أثر شرعي :

وبالجملة : فالمستصحب هو كرية الماء ، ولازمه العقلي هو ملاقاة الثوب له في حال الكرية ، والأثر الشرعي المترتب على هذا اللازم العقلي هو طهارة الثوب.

وأما مثال اللازم العادي للمستصحب فكنبات اللحية الّذي هو لازم لحياة الغائب فإذا جرى استصحاب حياته المستلزم بقاؤه عادة لنبات لحيته أو بياضها فهل يثبت

٥١٥

في ترتيب (*) الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب بواسطة غير شرعية (١) عادية كانت

______________________________________________________

باستصحابها هذا اللازم العادي حتى يترتب عليه آثاره الشرعية من حرمة حلقها واستحباب تسريحها وتدويرها مثلا ، أم لا؟

وبعبارة أخرى : محل النزاع في الأصل المثبت هو : أن الاستصحاب كما يثبت الأحكام الشرعية المترتبة على المستصحب بلا واسطة كحرمة تقسيم أموال الغائب وحرمة تزويج زوجته وغيرهما من الأحكام المترتبة على الحياة ، كذلك تثبت الآثار الشرعية المترتبة على لوازم الحياة عقلا أو عادة كالمثالين المزبورين أولا ، مع وضوح عدم عرضية الحكم الثابت لنفس المستصحب كالحياة المترتب عليها وجوب الإنفاق على زوجته وحرمة تزويجها وتقسيم أمواله مع الحكم الثابت للازم المستصحب عادة كنبات اللحية الّذي هو لازم عادي للحياة ، فان حكمها الشرعي كحرمة حلقها واستحباب تسريحها وتدويرها مثلا ليس في عرض حكم نفس الحياة ، بل في طوله ، لوساطة اللازم العادي بينهما.

(١) احتراز عما إذا كانت الواسطة أثرا شرعيا ، كما إذا كان للمستصحب آثار شرعية طولية بحيث كان كل سابق منها موضوعا للاحقه ، نظير استصحاب طهارة الماء التي يترتب عليها أوّلا جواز الوضوء به ، وثانيا جواز الدخول في الصلاة ، وثالثا مالكية المصلي للأجرة إذا كانت صلاته استئجارية ، ورابعا جواز تبديل الأجرة بمال آخر إلى غير ذلك من الآثار الشرعية ، فان جميع هذه السلسلة من المبدأ والمنتهى أحكام شرعية يترتب كل لاحق منها على سابقه ، فكل مستصحب

__________________

(*) لا يخفى أنه يعتبر في محل النزاع أن يكون اللازم كنبات اللحية مترتبا على بقاء المستصحب لا على حدوثه وبقائه ، إذ مع تيقن حدوثه يكون هو بنفسه أيضا كالمستصحب متيقن الحدوث وموردا للاستصحاب ، ومعه لا حاجة إلى الأصل المثبت والبحث عن حجيته وعدمها ، لكفاية استصحاب نفس اللازم في ثبوت أثره الشرعي.

٥١٦

أو عقلية (١). ومنشؤه (٢) أن مفاد الأخبار هل هو تنزيل المستصحب

______________________________________________________

يكون كذلك يترتب عليه باستصحابه جميع أحكامه الشرعية وإن كانت في غاية الكثرة ، إذ المفروض أن كلها شرعي ، ويترتب جميعها على المستصحب بلا وساطة أمر تكويني ، ويكون مثل هذا الاستصحاب أجنبيا عن الأصل المثبت ، لعدم كون شيء من الوسائط أمرا عقليا أو عاديا.

(١) قد عرفت مثال كل من الواسطة العادية والعقلية.

(٢) أي : ومنشأ الإشكال في حجية الاستصحاب المثبت وعدمها ، أن مفاد الأخبار ... إلخ ، وتوضيحه : أن هنا مقامين : أحدهما ثبوتي والآخر إثباتي.

أما المقام الأول فمحصل ما أفاده فيه : أن الوجوه المحتملة في أخبار الاستصحاب التي هي منشأ اعتبار الأصل المثبت وعدمه ثلاثة :

الأول : أن مفاد «لا تنقض اليقين بالشك» التعبد ببقاء المستصحب بلحاظ أثره الشرعي المترتب عليه بلا واسطة ، كالتعبد بالطهارة الحدثية المشكوكة لجواز مسّ كتابة القرآن.

الثاني : أن مفاد الأخبار التعبد ببقائه بلحاظ أثره مطلقا ولو بواسطة ، بمعنى كون الملحوظ طبيعة الأثر المترتب على المستصحب ، سواء أكان بلا واسطة أم معها كمثال نبات اللحية على ما تقدم آنفا ، وكاستصحاب بقاء النار بلحاظ أثر إحراق مال الغير وهو الضمان. فالمقصود من إطلاق دليل الاستصحاب هو : أنه كما يصدق نقض اليقين بالشك إذا لم يرتّب المكلف أثر الحياة مثلا بلا واسطة ـ كوجوب الإنفاق وحرمة تقسيم ماله ـ على استصحاب الحياة ، كذلك يصدق نقض اليقين بالحياة بالشك فيها إذا لم يرتّب أثر الحياة مع الواسطة كحرمة حلق اللحية المترتبة على النبات الّذي هو لازم عادي لبقاء الحياة. وعليه فالمطلوب بقوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالحياة بالشك فيها» ترتيب جميع آثار الحياة الشرعية سواء ترتبت عليها بلا واسطة أم معها.

الثالث : أن مفاد الأخبار تنزيل الشيء والتعبد به بما له من اللوازم العقلية والعادية

٥١٧

والتعبد به وحده بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة (١)؟ أو تنزيله (٢) بلوازمه (٣) العقلية أو العادية

______________________________________________________

بحيث لا يختص التعبد بالملزوم كالحياة مثلا ، بل يشمل كلّا من الحياة ولازمها العادي.

ومن هنا يظهر الفرق بين هذا الوجه وبين الوجهين المتقدمين ، حيث ان التعبد في هذا الوجه وارد على كل من الملزوم واللازم ، فمعنى استصحاب حياة زيد مثلا التعبد بها وبلازمها العادي معا كنبات اللحية. بخلاف الوجهين الأولين ، فان يد التعبد فيهما لا تنال اللوازم العقلية والعادية أصلا ، بل يده فيهما مقصورة على الأثر الشرعي ، غاية الأمر أن التعبد في الوجه الأول يكون بلحاظ الأثر الشرعي المترتب على المستصحب بلا واسطة. وفي الوجه الثاني يكون بلحاظ طبيعة الأثر المترتب على المستصحب ولو مع الواسطة من دون أن تنال يد التعبد نفس الواسطة العقلية أو العادية التي هي على الفرض موضوع للأثر الشرعي كموضوعية نفس المستصحب له.

ثم انه غير خفي على ذي مسكة اختلاف هذه الوجوه في اقتضاء الحجية للأصل المثبت وعدمه ، حيث إنه بناء على الوجه الأول لا مقتضي لحجيته ، لاختصاص التعبد بالأثر المترتب على المستصحب بلا واسطة ، وبناء على الوجهين الأخيرين يكون المقتضي لحجية الأصل المثبت فيهما موجودا ، وتصل النوبة إلى علاج المانع وهو معارضة الأصل في الثابت للأصل في المثبت كما عن كاشف الغطاء (قده) وسيأتي بيانه في التعليقة إن شاء الله تعالى.

(١) هذا إشارة إلى الوجه الأول المذكور بقولنا : «الأول : أن يكون مفاد لا تنقض اليقين بالشك ... إلخ» وضميرا «به ، وحده» راجعان إلى «المستصحب».

(٢) معطوف على «تنزيل» وضميره راجع إلى «المستصحب» وهذا إشارة إلى الوجه الثالث المذكور بقولنا : «الثالث أن يكون مفاد الأخبار تنزيل الشيء والتعبد به ... إلخ».

(٣) أي : مع لوازم المستصحب من العقلية والعادية بحيث تنالها يد التعبد

٥١٨

كما هو (١) الحال في تنزيل مؤديات الطرق والأمارات ، أو بلحاظ (٢) مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة بناء على صحة التنزيل (*) بلحاظ

______________________________________________________

والتنزيل كما تنال نفس المستصحب.

(١) يعني : كما أن تنزيل الشيء مع لوازمه حال تنزيل مؤديات الطرق والأمارات ، حيث ان تنزيلها لا يختص بنفس مؤدياتها ، بل يعمها ولوازمها ، فان قيام البينة على كون اليوم من شهر رمضان مثلا كما تثبت أنه من رمضان كذلك تثبت ثانوية الغد للشهر ، وهكذا ، فالآثار الشرعية من استحباب الغسل والصلوات والأدعية المترتبة على أيامها ولياليها المتصفة بوصف خاص من حيث الزوجية والفردية وكذا تعيين ليالي القدر تترتب على البينة المزبورة. وبالجملة : فالتنزيل في الأصل المثبت نظير التنزيل في الأمارات التي لها كشف وحكاية عن الواقع.

(٢) معطوف على قوله : «بلحاظ» وهذا إشارة إلى الوجه الثاني الّذي ذكرناه بقولنا : «الثاني : أن يكون مفاد الأخبار التعبد ببقائه بلحاظ أثره مطلقا ... إلخ» وكان الأولى ذكر هذا عقيب الوجه الأول ، لأن هذا قسم منه ، حيث ان تنزيل المستصحب وحده يكون تارة بلحاظ أثر خاص بلا واسطة ، وأخرى بلحاظ مطلق الأثر ولو مع الواسطة ، فمورد التعبد والتنزيل في كلا الوجهين هو نفس المستصحب فقط ، والاختلاف إنما هو في الأثر المترتب على تنزيله من كونه خصوص الأثر بلا واسطة أو مطلقا ولو مع الواسطة. وعليه فالأولى سوق العبارة هكذا : «بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة أو بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة».

__________________

(*) ولكن الوجه عدم صحة التنزيل بهذا اللحاظ ، ضرورة أنه ما يكون شرعا لشيء من الأثر لا دخل له بما يستلزمه عقلا أو عادة. وحديث أثر الأثر أثر وإن كان صادقا ، إلّا أنه إذا لم يكن الترتب بين الشيء وأثره وبينه وبين مؤثره مختلفا ، وذلك ضرورة أنه لا يكاد يكون الأثر الشرعي لشيء أثرا شرعيا لما يستلزمه عقلا أو عادة أصلا لا بالنظر الدّقيق العقلي ولا بالنظر المسامحي العرفي إلّا فيما عد أثر الواسطة أثرا لذيها ، لخفائها أو لشدة وضوح الملازمة بينهما عدّا شيئا واحدا ذا وجهين ، وأثر أحدهما أثر الاثنين ، كما يأتي الإشارة إليه ، فافهم.

٥١٩

أثر الواسطة أيضا (١) لأجل أن أثر الأثر أثر (٢) ، وذلك (٣) لأن مفادها لو كان هو تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه لم يترتب عليه ما كان مترتبا

______________________________________________________

(١) يعني : كصحة التنزيل بلحاظ أثر نفس الملزوم وهو ذو الواسطة ، وقوله : «بناء على صحة التنزيل» إشارة إلى بعض وجوه اعتبار الأصل المثبت ، توضيحه : أن استصحاب بقاء الموضوع معناه جعل مثل ما له من الآثار الشرعية مطلقا سواء أكانت ثابتة له بلا واسطة أم معها ، حيث ان الأثر المترتب على أثر شيء يعدّ أثرا لذلك الشيء ، فيترتب عليه باستصحابه وإن لم يترتب موضوعه وهو الواسطة بين المستصحب وأثر أثره ، لعدم كونها أثرا شرعيا حتى تنالها يد التشريع.

فحاصل هذا الوجه : أنه بالتعبد الواحد يجعل مثل جميع الأحكام المترتبة على المستصحب سواء أكانت مع الواسطة أم بدونها. وأما نفس الواسطة فلعدم قابليتها للجعل التشريعي لا تثبت بالاستصحاب.

(٢) هذا تعليل لقوله : «بناء على صحة التنزيل» يعني : أن ثبوت أثر الأثر إنما هو لأجل كونه من آثار الشيء المستصحب ، فاستصحابه كاف في تحققه من غير حاجة إلى جعل آخر وتعبد ثانوي ، بل استصحاب نفس الشيء ذي الواسطة كاف في ثبوت أثرها الشرعي.

(٣) بيان لمنشئية الاحتمالين اللذين ذكرهما في أخبار الاستصحاب لحجية الاستصحاب المثبت وعدمها ، ومحصله : أنه بناء على كون مفادها تنزيل الشيء وحده بلحاظ أثر نفسه فقط لا يترتب على استصحاب الشيء إلّا الآثار الشرعية المجعولة لنفسه دون الأحكام الشرعية الثابتة للوازمه ، فاستصحاب الحياة مثلا يثبت آثارها من حرمة تقسيم المال وحرمة تزويج الزوجة ونحوهما ، دون أحكام لازمها كنبات اللحية. وبناء على كون مفاد أخبار الاستصحاب تنزيل الشيء مع لوازمه بحيث يشمل التعبد كليهما ، أو تنزيله بلحاظ طبيعة الأثر المنطبقة على آثاره مطلقا ولو مع الواسطة ، فالتعبد في هذه الصورة واحد ، وفيما قبله متعدد ، لشمول التنزيل لكل من الشيء ولوازمه ، فكأنه قال : «نزلت الحياة المشكوكة مع ما لها من

٥٢٠