منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كانت أم وضعية.

وكيف كان فقد أورد على كلامه بوجوه : الأول : ما أفاده الشيخ الأعظم (قده) في أول اعتراضاته الثلاثة بقوله : «أما أولا : فلأن الأمر الوجوديّ المجعول إن لوحظ الزمان قيدا له أو لمتعلقه بأن لوحظ وجوب الجلوس المقيد بكونه إلى الزوال شيئا ، والمقيد بكونه بعد الزوال شيئا آخر متعلقا للوجوب فلا مجال لاستصحاب الوجوب ، للقطع بارتفاع ما علم وجوده ، والشك في حدوث ما عداه. ولذا لا يجوز الاستصحاب في مثل ـ صم يوم الخميس ـ إذا شك في وجوب صوم يوم الجمعة. وان لوحظ الزمان ظرفا لوجوب الجلوس فلا مجال لاستصحاب العدم ، لأنه إذا انقلب العدم إلى الوجود المردد بين كونه في قطعة خاصة من الزمان وكونه أزيد والمفروض تسليم حكم الشارع بأن المتيقن في زمان لا بد من إبقائه فلا وجه لاعتبار العدم السابق ... إلخ».

وهذا الإشكال وارد عليه. وان أمكنت المناقشة فيه تارة بما تقدم في بعض التعاليق من عدم جريان استصحاب العدم في صورة القيدية. وأخرى بابتنائه على عموم حجية الاستصحاب للشك في المقتضي ، لكون الشك في بقاء الحكم بعد انقضاء الزمان أو زوال الوصف ناشئا من الشك في المقتضي وهو مقدار استعداده للبقاء لا في طروء المزيل ، ومن المعلوم مخالفته لمختار الشيخ من عدم حجية الاستصحاب في الشك في المقتضي. إلّا أن هاتين المناقشتين لا تقدحان في ورود أصل الإشكال على كلام العلامة النراقي ، فانه يعترف بأن المتيقن في زمان لا بد من إبقائه بحكم الشارع ، ومعه لا وجه لاعتبار العدم الأزلي.

الثاني : عدم اتصال زمان الشك باليقين ، وقد تقدم تقريبه مع جوابه في العبارة المتقدمة عن المناهج.

الثالث : ما عن شيخ مشايخنا المحقق النائيني (قده) من : أن المعتبر في الاستصحاب اتصال زمان المشكوك فيه بزمان المتيقن ، وهو غير متحقق في المقام

٤٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

إذ اليقين بالجعل فاصل بين اليقين بعدم الجعل وزمان الشك ، فالمشكوك فيه متصل بالمتيقن الثاني وهو وجود الجعل لا باليقين الأول وهو العدم ، وهذا من نقض اليقين بالعدم باليقين بالوجود لا بالشك فيه ، ولا مجال معه لاستصحاب عدم الجعل.

وهذا الإشكال أيضا وارد على مقالة الفاضل (قده) من تعارض بقاء المجعول وعدمه.

نعم لا يرد هذا الإشكال بناء على تقرير المعارضة بين استصحاب عدم تعلق الجعل واستصحاب بقاء المجعول ، ضرورة كون المتيقن من المجعول ـ الناقض لعدم الجعل مستمرا ـ هو نجاسة الماء في ظرف التغير بأحد الأوصاف الثلاثة ، فيستصحب ، والمتيقن من عدم الجعل هو عدم نجاسة الماء مطلقا سواء زال تغيره أم لا ، والمشكوك فيه هو انتقاض ذلك العدم المطلق بالوجود بسبب تشريع النجاسة لحال قبل زوال التغير ، ومن المعلوم أنه لم يتخلل بين اليقين بعدم الجعل مطلقا والشك فيه إلّا اليقين بوجود المجعول في ظرف التغير ، وهذا اليقين بالمجعول غير فاصل بين اليقين بعدم الجعل المطلق والشك فيه ، فأركان استصحاب عدم الجعل مجتمعة ، وبجريانه يتحقق التعارض مع استصحاب بقاء المجعول.

وبعبارة أخرى : المتيقن هو عدم جعل النجاسة للماء المتغير في جميع حالاته أي سواء زال تغيره بنفسه أو بعلاج أم لا. وهذا اليقين إنما ينتقض باليقين بجعل النجاسة للماء المتغير في جميع الحالات ، ولا ينتقض باليقين بجعل النجاسة في خصوص حال التغير ، فيتصل حينئذ زمان المشكوك ـ أعني نجاسة الماء بعد زوال التغير ـ بزمان المتيقن وهو عدم جعل النجاسة في جميع حالات الماء.

ولعله لذا قرر بعض أعاظم العصر دام ظله إشكال المعارضة بين عدم الجعل وبقاء المجعول (١) لا بين بقاء المجعول وعدمه كما يظهر من تمثيل الفاضل النراقي

__________________

(١) مصباح الأصول ، ٣ ـ ٣٨

٤٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بوجوب الصوم والجلوس.

ثم تعرض دام ظله لبعض الاعتراضات والجواب عنها ، وأهمها اثنان :

الأول : أن استصحاب عدم الجعل معارض بمثله في رتبته ، فان استصحاب عدم جعل الحرمة معارض باستصحاب عدم جعل الإباحة ، للعلم الإجمالي بجعل أحدهما في الشريعة المقدسة ، ويبقى استصحاب بقاء المجعول أعني الحرمة بلا معارض. وأجاب عنه بوجوه ثلاثة ، فراجع كلامه.

الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (قده) من أن استصحاب عدم الجعل غير جار في نفسه ، لعدم ترتب أثر عملي عليه ، إذ الجعل هو الإنشاء ، والإطاعة والعصيان من آثار المجعول ، فالعلم الوجداني بالجعل غير موضوع لحكم العقل بوجوب الامتثال فضلا عن إحرازه بالأصل ، فلا أثر لاستصحاب عدم الجعل كي يعارض به استصحاب بقاء المجعول.

وأجاب عنه بترتب الأثر على الجعل ، فان الأحكام الشرعية أمور اعتبارية قائمة بنفس المعتبر وهو المولى ، وليست من سنخ الجواهر والأعراض الخارجية ، والاعتبار كما يتعلق بأمر حالي كذلك يتعلق بأمر استقبالي ، ونظيره في الوضع الوصية التمليكية ، فالحكم الإنشائي يصير فعليا بوجود موضوعه ويترتب عليه الإطاعة والعصيان ، وبتحقق الموضوع خارجا ينشأ الحكم ، فلا تنجيز ولا تعذير. وحيث انه يكفي في جريان الأصل موضوعية المستصحب للأثر في ظرف الشك وان لم يكن ذا أثر حال اليقين به ، كما يترتب الأثر على المشروط بعد وجود شرطه كالصلاة بعد الزوال ، فاستصحاب عدم بقاء الجعل يرفع الأثر حال وجود الموضوع ، وبه يرتفع الإشكال.

أقول : ما أفاده في تقريب تعارض أصالتي عدم الجعل وبقاء المجعول يتوقف على تعدد الجعل والمجعول حقيقة حتى يفرض جريان الأصل في كل منهما ، وكلامه المتقدم وإن كان صريحا في التعدد ، إلّا أنه ينافيه قوله في موضع آخر : «فليس

٤٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

جعل الحكم وإنشاؤه إلّا عبارة عن اعتبار شيء على ذمة المكلف ، ويتحقق المعتبر بمجرد الاعتبار ، بل هما أمر واحد حقيقة ، والفرق بينهما اعتباري كالإيجاد والوجود». وحيث ان الإنشاء عنده هو إبراز الاعتبار النفسانيّ وبه يتحقق المنشأ والمعتبر فيشكل الأمر في موارد تخلف أحدهما عن الآخر كما في الواجب المشروط وبيع الفضولي ، لتأخر المعتبر عن زمان الإنشاء فيهما ، وهذا لا يلتئم مع فرضهما كالإيجاد والوجود المتحدين حقيقة والمتعددين باعتبار الإسناد إلى الفاعل والقابل.

وبعد تسليم اختلاف الجعل والمجعول حقيقة فالظاهر عدم جريان الاستصحاب في الجعل ، لوضوح كون منشأ الشك في سعته وضيقه ـ بعد اليقين بانتقاض العدم الأزلي باليقين بالمجعول ـ هو الشك في سعة دائرة المجعول وضيقها ، وباستصحاب بقائه لا يجري الاستصحاب في عدم الجعل حتى يعارض استصحاب المجعول ، وذلك لحكومة استصحاب المجعول عليه كحكومة سائر الأصول السببية على الأصول المسببية. وعليه ففي القليل المتنجس المتمم كرّا يجري استصحاب النجاسة دون استصحاب عدم جعل النجاسة له ، هذا.

مضافا إلى : ما عرفت في تقريب إيراد الشيخ الأعظم على الفاضل النراقي (قدهما) من أن العدم المطلق قد انتقض بالوجود قطعا ، فلا يقين بالعدم حتى يستصحب.

ومع الغض عما ذكرنا ، فان عمدة الإشكال عليه ما تقدم عن شيخ مشايخنا الميرزا النائيني (قده) من عدم ترتب الأثر على استصحاب عدم الجعل. وجوابه مد ظله عن الإيراد غير سليم عن المناقشة ، ضرورة أنه بعد الاعتراف بانفكاك الجعل عن المجعول ـ وأن أثر الجعل ليس إلّا جواز إسناد المضمون إلى الشارع والإفتاء على طبقه ، وأثر المجعول المنوط بوجود الموضوع التنجز بالوصول ـ إن أريد باستصحاب بقاء الجعل التعبد ببقاء الإنشاء أي اعتبار الحرمان أو اللابدية فهو معنى عدم النسخ ، وهذا لا يتوقف على تحقق الموضوع خارجا كما هو واضح ، لصحة إسناد الحكم الإنشائي إلى الجاعل ما لم يعلم نسخه. وإن أريد باستصحاب

٤٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بقاء الجعل ترتيب آثار المجعول عليه حتى يجري الاستصحاب في الجعل بهذا اللحاظ كما أفاده مد ظله في رد المحقق النائيني (قده) فهو غير ظاهر ، لأن ترتب الأثر على المجعول ملازم لبقاء الاعتبار والإبراز ، ومن المعلوم أن إبقاء نفس الإبراز تعبدا بلحاظ ترتب آثار المجعول من الأصل المثبت.

نعم إذا أريد من استصحاب بقاء الجعل ترتيب أثر نفسه من صحة إسناد المضمون إلى الشارع دون ترتيب أثر المجعول مع فرض وجود الموضوع خارجا فهو وان كان سليما عن إشكال الإثبات ، إلّا أنه مساوق للتفكيك بين العلة ومعلولها ، لوضوح وصول الحكم إلى مرتبة الفعلية بوجود موضوعه ، ولا بد من ترتيب أثره عليه ، فكيف يكتفي بترتيب أثر نفس الجعل دون المجعول؟ فلاحظ.

هذا بعض ما يتعلق بأصل دعوى تعارض استصحابي عدم الجعل وبقاء المجعول في مطلق الشبهات الحكمية. وأما ما استثناه في آخر كلامه من الأحكام الترخيصية لعدم جريان استصحاب عدم جعل الإباحة فيها «لكونها متيقنة في صدر الإسلام ، والشريعة إنما تتكفل بيان الأحكام الإلزامية فحسب ، فلا معارض لاستصحاب المجعول» فيرد عليه أوّلا : أن الإباحة الشرعية التي تعد من الأحكام الخمسة تتوقف على جعل الشارع قطعا ، ولا وجه لحصر المجعول في الأحكام الإلزامية خاصة ، ويشهد لما ذكرناه مثل قوله تعالى : «أحلت لكم بهيمة الأنعام» و «أحل لكم صيد البحر» ونحوهما مما يدل على جعلها تأسيسا.

وثانيا : أنه أخص من المدعى ، فان الاستحباب والكراهة حكمان ترخيصيان متوقفان على جعل الشارع قطعا. ولازمه وقوع المعارضة بين استصحابي عدم الجعل وبقاء المجعول ، فلاحظ.

وقد تحصل : أنه لا وجه لإنكار الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكلية بدعوى المعارضة المذكورة. نعم لإنكاره فيها وجه آخر وهو عدم إحراز وحدة الموضوع لعلنا نذكره في الخاتمة.

٤٤٥

الخامس (١) : أنه كما

______________________________________________________

(التنبيه الخامس : الاستصحاب التعليقي)

 (١) الغرض من عقد هذا التنبيه تعميم المستصحب للحكم الفعلي من جميع الجهات وللفعلي من بعض الجهات ، ويعبر عن الأول بالحكم التنجيزي وعن الثاني بالحكم التعليقي تارة وبالتقديري أخرى ، كما عبر الشيخ الأعظم (قده) عن استصحاب هذا الحكم في التنبيه الرابع بالاستصحاب التقديري تارة والتعليقي أخرى.

وكيف كان فينبغي قبل توضيح المتن التنبيه على أمور ليتضح بها محل النزاع ، فنقول وبه نستعين :

الأول : أن المقصود بالشبهة الحكمية التي وقع الخلاف في جريان الاستصحاب التعليقي فيها وعدمه هو خصوص ما إذا كان الحكم فيها مشروطا بشرط غير حاصل كالواجب المشروط المصطلح ، فلو قيل برجوع القيود إلى المادة بحيث كان الحكم فعليا والمتعلق استقباليا كان الاستصحاب الجاري فيه تنجيزيا لا تعليقيا ، لفعلية الحكم حسب الفرض.

الثاني : أن حجية الاستصحاب التعليقي منوطة باعتبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكلية كما هو كذلك عند المصنف وغيره. إذ بناء على إنكاره فيها كما عن بعض لا يجري الاستصحاب في الأحكام المعلقة ، وإنما يجري في الموضوعات المعلقة لو لا الإشكال فيها من جهة أخرى.

الثالث : أن جريان الاستصحاب الوجوديّ يتوقف على تحقق المستصحب في الوعاء المناسب له ، فان كان من الموجودات الخارجية فاللازم وجوده في عالم العين. وإن كان من الأمور الاعتبارية فلا بد من وجوده في عالم الاعتبار.

الرابع : أن المستصحب إن كان حكما شرعيا فقد يكون جزئيا أي فعليا بوجود موضوعه سواء أكان الموضوع بسيطا أم مركبا ، ولا إشكال في جريان الاستصحاب

٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فيه كالشك في وجوب الحج مثلا على زيد الّذي كان مستطيعا وزالت عنه استطاعته. وقد يكون كليا أي منشأ على موضوع مفروض الوجود على نهج القضايا الحقيقية. والشك في بقاء هذا الحكم الكلي إما أن يكون للشك في النسخ الّذي يكون مع بقاء الموضوع بجميع حدوده ، وإما أن يكون لتغير حال من حالات الموضوع كما في الماء المتغير الّذي زال تغيره من قبل نفسه لا باتصاله بعاصم. وقد بنوا على جريان الاستصحاب التنجيزي في هذين الفرضين.

وإما أن يكون الشك في بقاء الحكم الكلي ناشئا من تبدل حال جزء الموضوع قبل تحقق جزئه الآخر ، بأن كان مركّبا من جزءين وتحقق أحدهما ، وقبل حصول الجزء الآخر تبدل حال من حالات ذلك الجزء الموجود ثم تحقق الجزء الآخر ، كمثال العصير العنبي المغلي في قوله عليه‌السلام : «العنب إذا غلى يحرم» حيث ان موضوع الحرمة مؤلف من العنب والغليان ، فإذا جفّ العنب وانقلب زبيبا قبل الغليان فهذا هو مورد الاستصحاب التعليقي. وفي جريانه لإثبات حرمة العصير الزبيبي خلاف ، ذهب العلامة الطباطبائي (قده) ـ فيما حكي عن رسالته المعمولة في حكم العصير العنبي ـ إلى جريانه ، ووافقه جمع من المحققين كالشيخ الأعظم والمصنف وشيخنا المحقق العراقي (قدس‌سرهم) وذهب جمع من المتأخرين كأصحاب الرياض والمناهل والفصول والمحقق النائيني (قدس‌سرهم) إلى عدم جريانه ، وسيأتي وجه إنكاره.

إذا اتضح محل النزاع في هذا التنبيه فاعلم : أن الشيخ استدل على اعتبار الاستصحاب في الأحكام المشروطة بوجهين : أحدهما : اجتماع أركانه في نفس الحكم كالحرمة المعلقة على الغليان في المثال المتقدم ، ضرورة أن للحرمة المعلقة حظّا من الوجود في قبال عدمها المطلق قبل إنشائها.

ثانيهما : إجراء الاستصحاب التنجيزي في الملازمة بين الحرمة والغليان ، لفعلية التلازم بينهما ، لعدم إناطة صدق الشرطية بصدق طرفيها ، هذا.

٤٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والمصنف (قده) وافقه هنا وفي حاشية الرسائل في الوجه الأول دون الثاني لما سيظهر.

وكيف كان فإثبات اعتبار الاستصحاب في الأحكام المعلقة منوط بالبحث في مقامين : أحدهما في وجود المقتضي له وهو عموم أو إطلاق أدلة الاستصحاب ، والآخر في عدم المانع أعني معارضة الاستصحاب التعليقي في كل مورد بالاستصحاب التنجيزي على خلاف الحكم المشروط.

ومحصل ما أفاده في المقام الأول : أنه لا فرق في حجية الاستصحاب بين كون المستصحب حكما فعليا ـ أي غير مشروط بشرط غير حاصل ـ وبين كونه مشروطا بشرط لم يحصل بعد ، خلافا لمن زعم الفرق بينهما. والوجه في حجية الاستصحاب التعليقي هو اجتماع أركانه فيه من اليقين السابق والشك اللاحق ووجود الأثر الشرعي ، فيشمله عموم أو إطلاق أدلة الاستصحاب. توضيحه : أن حرمة ماء العنب وإن كانت مشروطة بالغليان ، لكنها من المجعولات الشرعية كمجعولية أحكامه المطلقة كملكيته وجواز بيعه ، وتلك الحرمة المشروطة معلومة ، ومع عروض حالة على العنب ـ كصيرورته زبيبا ـ تصير مشكوكة ، لاحتمال قيام الحرمة بخصوص العنب ، فيجتمع اليقين بالحرمة المشروطة التي هي حكم شرعي والشك في بقائها الناشئ من عروض وصف الزبيبية عليه ، فيشمله دليل الاستصحاب الموجب لحرمة الزبيب أيضا إذا غلى.

وقد ظهر مما ذكرنا مورد الاستصحاب التعليقي وأن ضابطه هو كون المستصحب فيه حكما ثابتا لموضوع منوطا بوجود شرط مفقود كالغليان الّذي هو شرط حرمة العصير العنبي ، أو منوطا بفقد مانع موجود كما إذا أوصى شخص بمال لزيد على تقدير ترك شرب التتن ، فان كان زيد فقيها وصار تاجرا مثلا قبل موت الموصي ، فان الشك في ملكية زيد لتبدل حاله ـ وهو الاشتغال بالعلم ـ بالتجارة يكون من هذا القبيل ، فيقال : «زيد مالك للمال الموصى به بعد موت الموصي الّذي هو أحد

٤٤٨

لا إشكال (١) فيما إذا كان المتيقن حكما فعليا مطلقا ، لا ينبغي الإشكال فيما إذا كان مشروطا معلقا (٢) ، فلو شك (*) في مورد لأجل طروء بعض الحالات (٣)

______________________________________________________

جزأي أي موضوع الملكية على تقدير ترك الدخان ، والآن كما كان» هذا إذا لم يعلم ولو من الخارج أن للفقاهة دخلا موضوعيا ، وإلّا دار الحكم مدارها وخرج عن مورد البحث.

(١) يعني : في حجية الاستصحاب فيما إذا كان الحكم المتيقن فعليا من جميع الجهات ، وهو المراد بقوله : «مطلقا» كملكية العنب ، وجواز بيعه وأكله وغيرها من التصرفات الاعتبارية والخارجية المجعولة له مع وجود شرائطها.

(٢) بيان لـ «مشروطا» لكن المبيّن ـ بالفتح ـ أجلى منه ، لإطلاق «المعلق» على المطلق ، حيث إنه انقسم إلى المعلق كما ذهب إليه الفصول ، وإلى المنجز ، فالاقتصار على قوله : «مشروطا» أولى.

(٣) كعروض حالة الزبيبية على العنب في المثال المتقدم ، فان هذه الحالة منشأ الشك في بقاء الحرمة المعلقة على الغليان.

__________________

(*) الأولى إبدال الفاء الظاهر في التفريع بالواو ، ضرورة أن ما ذكر عقيب الفاء متمم لمورد الاستصحاب التعليقي لا نتيجة له ، حيث ان مقصوده بيان مورد الاستصحاب التعليقي وهو ما إذا كان الشك في بقاء الحكم التعليقي لطروء حال على الموضوع الموجود كعروض الزبيبية على العنب حتى يصح استصحاب أحكامه المطلقة ، إذ مع عدم الموضوع لا يصح استصحاب أحكامه الفعلية فضلا عن المعلقة فلو كان عدم الحكم لعدم الموضوع لم يجر فيه الاستصحاب التعليقي ، فلا يثبت به جواز تقليد المجتهد الميت كالشيخ الطوسي (قده) في هذا الزمان ، بأن يقال : «ان الشيخ كان في زمان حياته جائز التقليد والآن كما كان» فان الشك في جواز تقليده بعد وفاته إنما هو لانتفاء الموضوع لا لطروء حال على الموضوع كزبيبية العنب.

٤٤٩

عليه في (١) بقاء أحكامه ، فكما (٢) [ففيما] صحّ استصحاب أحكامه المطلقة (٣) صح استصحاب أحكامه المعلقة ، لعدم (٤) الاختلال بذلك فيما

______________________________________________________

(١) متعلق بـ «شك» وضمير «عليه» وكذا ضمائر «أحكامه» في المواضع الثلاثة راجعة إلى «مورد».

(٢) جواب «فلو» والمراد بأحكامه المطلقة هي الفعلية غير المشروطة بشيء سواء أكانت تكليفية كجواز شربه وأكله وغيرهما من التصرفات الخارجية ، أم وضعية كملكيته وصحة بيعه وهبته وصلحه وغيرها من التصرفات الاعتبارية ، فكما يصح استصحاب أحكامه المطلقة إذا فرض الشك في بقائها كذلك يصح استصحاب أحكامه المشروطة التي لم يتحقق شرطها إذا شك في بقائها لطروء وصف على الموضوع.

(٣) هذا ظاهر في اعتبار وجود جميع ما يعتبر في الموضوع بالنسبة إلى أحكامه المطلقة كالعنب في المثال ، فان أحكامه الفعلية التكليفية والوضعيّة المتقدمة مترتبة عليه بلا قيد ، ولذا يصح استصحاب أحكامه المطلقة إذا شك في بقائها ، والاستصحاب التعليقي يجري في هذا الموضوع الّذي لم يحصل فيه القيد المعتبر في الحرمة وهو الغليان مع نشوء الشك في بقاء هذا الحكم المعلق عن التغير الطارئ على الموضوع وهو العنب.

(٤) تعليل لقوله : «صح استصحاب أحكامه المعلقة» وقوله : «بذلك» أي بسبب التعليق ، توضيحه : أن أركان الاستصحاب من اليقين بالثبوت والشك في البقاء ووجود الأثر الشرعي موجودة في الشك في الأحكام المعلقة كوجودها في الأحكام المطلقة بناء على صحة جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية ، والوجه في اجتماع أركانه هنا هو : أن للحكم المعلق على وجود شرط مفقود أو على فقد مانع موجود نحو وجود لم يثبت لحكم موضوع آخر ، مثلا ليس للتمر حكم الحرمة إذا غلى ، ويصدق عليه أنه فاقد للحرمة على تقدير الغليان. بخلاف العنب فانه واجد للحرمة على هذا التقدير ، واليقين بهذا الحكم المشروط والشك في

٤٥٠

اعتبر في قوام الاستصحاب من (١) اليقين ثبوتا (٢) والشك بقاء.

وتوهم (٣) أنه لا وجود

______________________________________________________

بقائه مما يصدق عليه اليقين بشيء والشك فيه ، فيشمله عموم أو إطلاق دليل الاستصحاب. ولا دليل على اعتبار فعلية الحكم المتيقن بحيث تقدح تعليقيته في الاستصحاب.

وبالجملة : فالمقتضي لجريان الاستصحاب التعليقي موجود والمانع مفقود ، حيث ان ما ذكروه مانعا ليس صالحا للمانعية.

(١) بيان لـ «ما» الموصول ، فقوام الاستصحاب هو اليقين بالوجود والشك في البقاء.

(٢) التعبير بالثبوت دون الوجود للتعميم لجميع المستصحبات حتى العدمية ، حيث إن لها نحو تقرر. وبالجملة : مختار المصنف (قده) هو ما نسب إلى المشهور من حجية الاستصحاب التعليقي خلافا لجماعة.

(٣) استدل المنكرون لحجية الاستصحاب التعليقي بوجوه يرجع بعضها إلى عدم المقتضي للاستصحاب وبعضها إلى وجود المانع عنه ، هذا أولها ، وهو يرجع إلى عدم المقتضي له ، وهو المنسوب إلى صاحب الرياض (قده) قال ولده العلامة (ره) في محكي المناهل في رد تمسك السيد العلامة الطباطبائي (قده) على حرمة العصير من الزبيب إذا غلى بالاستصحاب ، ودعوى تقديمه على استصحاب الإباحة : «انه يشترط في حجية الاستصحاب ثبوت أمر أو حكم وضعي أو تكليفي في زمان من الأزمنة قطعا ، ثم يحصل الشك في ارتفاعه بسبب من الأسباب ، ولا يكفي مجرد قابلية الثبوت باعتبار من الاعتبارات ، فالاستصحاب التقديري باطل ، وقد صرّح بذلك الوالد العلامة في الدرس ، فلا وجه للتمسك باستصحاب التحريم في المسألة» (*).

ومحصله : عدم الوجود للمستصحب ـ وهو الحرمة في المثال ـ إذ المفروض توقفها على الغليان الّذي لم يحصل بعد ، مع وضوح أن وجوده في الاستصحاب

__________________

(*) تعليل عدم جريان استصحاب التحريم هنا بأجنبيته عن الاستصحاب

٤٥١

للمعلّق (١) قبل وجود ما علّق عليه فاختل أحد ركنيه فاسد (٢) ، فان المعلّق

______________________________________________________

الوجوديّ ضروري ، فالمقتضي وهو اليقين بالوجود الفعلي مفقود ، ومع عدم المقتضي كيف يجري الاستصحاب؟ فان الحكم المشروط بشرط غير حاصل لا يعدّ موجودا.

(١) أي : للحكم المعلق كحرمة ماء العنب المعلقة على الغليان ، وضمير «أنه» للشأن ، وضمير «عليه» راجع إلى «ما» الموصول ، وضمير «ركنيه» إلى «الاستصحاب».

(٢) خبر «وتوهم» ودفع له وجواب عن الوجه الأول المتقدم من الوجوه التي استدل بها على عدم حجية الاستصحاب التعليقي ، وهذا الجواب مما أفاده الشيخ أيضا ، ومحصله : أنه يعتبر في الاستصحاب الوجوديّ أن يكون المستصحب موجودا في الوعاء المناسب له من الخارج أو الاعتبار ، ومن الفعلي والإنشائي ، ولا يعتبر خصوص الوجود الفعلي في كل استصحاب ، فإذا كان المستصحب موجودا إنشائيا وكانت فعليته منوطة بشرط غير حاصل وشك في بقائه بسبب طروء حالة على موضوعه جاز استصحابه ، لكون الوجود الإنشائي من الموجودات الاعتبارية المشروطة التي يصح استصحابها إذا شك في بقائها. ويشهد بكون الحكم المعلق موجودا جواز نسخها وإبقائها في لسان الدليل.

__________________

التعليقي ولو مع البناء على اعتباره أولى ، لأن مورد التعليقي هو الحكم المشروط بشيء ، وهذا مفقود في المقام وهو العصير الزبيبي ، حيث ان مورد الحرمة المعلقة على الغليان هو الماء المتكوّن بقدرته سبحانه وتعالى في العنب ، والزبيب فاقد له وماؤه خارج عن ذاته وأجنبي عن حقيقته ، فلا يكون غليانه موجبا لحرمته.

وبالجملة : فلا موضوع للاستصحاب التعليقي هنا ، واستناد عدم جريانه إلى عدم الموضوع له أولى من استناده إلى عدم حجيته.

٤٥٢

قبله إنما لا يكون موجودا فعلا (١) لا أنه لا يكون موجودا أصلا ولو (٢) بنحو التعليق ، كيف (٣)؟ والمفروض أنه (٤)

______________________________________________________

وبالجملة : فالوجود المعلق لا يعدّ معدوما ، ولذا يصح أن يقال : ان الحرمة المعلقة على الغليان ثابتة لماء العنب وغير ثابتة لماء الرمان وغيره من مياه الفواكه.

وافتقار الحكم التعليقي من التكليفي والوضعي إلى إنشاء من بيده الاعتبار أقوى شاهد على أن له حظّا من الوجود ، في مقابل عدمه المطلق ، إذ لو لم يوجد شيء بالإنشاء ولم ينتقض به العدم كان الإنشاء لقلقة اللسان.

(١) يعني : أن المنفي قبل وجود المعلق عليه كالغليان إنما هو الوجود الفعلي أي غير المشروط بشيء دون مطلق الوجود ولو بنحو التعليق والاشتراط كما هو مقتضى الوجوب والحرمة المشروطين بشرط على ما هو ظاهر الخطابات المشروطة ومختار المصنف (قده) كما تقدم في الواجب المشروط. وضمير «قبله» راجع إلى «وجود ما علق عليه» وضمير «أنه» راجع إلى «المعلق» المراد به الحكم.

(٢) كلمة «لو» وصلية وقيد للمنفي ، يعني : لا أن الحكم المعلق ليس له حظّ من الوجود أصلا حتى الوجود التعليقي.

(٣) غرضه إقامة الشاهد على كون الحكم المعلق موجودا لا معدوما ، يعني : كيف لا يكون للحكم المعلق وجود أصلا؟ مع وضوح تعلق الخطاب به بمثل قوله : «ماء العنب إذا غلى يحرم» فبهذا الخطاب ينشأ الحكم التحريمي معلقا على الغليان ، ومن المعلوم أن المنشأ قبل الإنشاء معدوم ، فلو لم يوجد بالإنشاء كان الإنشاء لغوا. نعم الموجود به وجود معلق ، وهو في وعاء الاعتبار نحو وجود ، وإذا تعلق اليقين والشك بهذا النحو من الوجود صار من صغريات كبرى الاستصحاب فيشمله دليله.

(٤) أي : أن الحكم المعلق ، يعني : والمفروض أن الحكم المعلق مورد فعلا للخطاب الإنشائي بالتحريم كالحرمة المعلقة على الغليان ، أو إنشاء الملكية لشخص بعد موت الموصي ، فان الملكية الفعلية للموصى له غير حاصلة. لكن

٤٥٣

مورد فعلا للخطاب بالتحريم مثلا أو الإيجاب ، فكان (١) على يقين منه قبل طروء الحالة ، فيشك فيه بعده ، ولا يعتبر (٢) في الاستصحاب إلّا الشك في بقاء شيء كان على يقين من ثبوته. واختلاف (٣) نحو ثبوته.

______________________________________________________

الملكية المعلقة على موت الموصي موجودة في وعاء الاعتبار. وربما توجب هذه الملكية المعلقة اعتباراً ووجاهة للموصى له عند العقلاء لم تكن له هذه الوجاهة قبل الوصية.

(١) بعد أن بيّن أن للحكم المعلق على وجود شرط نحو وجود وليس من المعدوم المطلق أراد أن يذكر كيفية جريان الاستصحاب فيه ، وقال : إنه كان على يقين من الحكم المعلق قبل طروء الحالة كالزبيبية على العنب ، فيشك في ذلك الحكم المعلق بعد عروض تلك الحالة ، فضميرا «منه ، فيه» راجعان إلى «المعلق» ويمكن رجوعهما إلى الخطاب بالتحريم مثلا أو الإيجاب ، تحفظا على إرجاع الضمير إلى القريب ، وإلّا فالمفاد واحد. وضمير «بعده» راجع إلى «طروء».

(٢) يعني : ولا يعتبر في صدق الاستصحاب غير اليقين بثبوت شيء والشك في بقائه ، وذلك موجود في المقام ، لليقين بالحكم المعلق على أمر غير حاصل ، والشك في بقائه ، لتغير حال من حالات الموضوع. فغرضه من قوله (قده) : «ولا يعتبر في الاستصحاب» تطبيق ما يعتبر في الاستصحاب من اليقين والشك في البقاء على المقام ، وأن المقتضي لجريان الاستصحاب في الحكم التعليقي موجود كالحكم الفعلي. واختلاف كيفية ثبوت الحكم ووجوده من حيث الفعلية والتعليقية ليس مانعا عن جريان الاستصحاب في الأحكام المعلقة ، فان وجود كل شيء بحسبه.

(٣) إشارة إلى ما ذكرناه من عدم مانعية تعليقية الحكم عن جريان الاستصحاب التعليقي ، وأن اختلاف نحو ثبوت الحكم من حيث الفعلية والتعليقية لا يوجب

٤٥٤

لا يكاد يوجب تفاوتا في ذلك (١) (*).

______________________________________________________

تفاوتا في أركان الاستصحاب ، وضميرا «ثبوته» في الموضعين راجعان إلى «شيء».

(١) أي : في اليقين والشك اللذين هما ركنا الاستصحاب.

__________________

 (*) لا يخفى أنه يظهر مما أفاده المصنف ضعف ما في تقريرات المحقق النائيني (قدهما) في منع الاستصحاب التعليقي من «أن نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول ، ولا يعقل أن يتقدم الحكم على موضوعه ، والموضوع للنجاسة والحرمة في مثال العنب إنما يكون مركّبا من جزءين العنب والغليان ، من غير فرق بين أخذ الغليان وصفا للعنب ، كقوله : العنب المغلي يحرم وينجس ، أو أخذه شرطا كقوله : العنب إذا غلى يحرم وينجس ، لأن الشرط يرجع إلى الموضوع ويكون من قيوده لا محالة ، فقبل فرض غليان العنب لا يمكن فرض وجود الحكم ، ومع عدم فرض وجود الحكم لا معنى لاستصحاب بقائه ، لما تقدم من أنه يعتبر في الاستصحاب الوجوديّ أن يكون للمستصحب نحو وجود وتقرر في الوعاء المناسب له ، فوجود أحد جزأي الموضوع المركب كعدمه لا يترتب عليه الحكم الشرعي ما لم ينضم إليه الجزء الآخر. نعم الأثر المترتب على أحد جزأي المركب هو أنه لو انضم إليه الجزء الآخر لترتب عليه الأثر ، وهذا المعنى مع أنه عقلي مقطوع البقاء في كل مركب وجد أحد جزأيه فلا معنى لاستصحابه» (١).

توضيح وجه الضعف : أن مناط منع جريان الاستصحاب التعليقي بنظره (قده) هو اعتبار الوجود الفعلي في الاستصحابات الوجودية وعدم كفاية الوجود التقديري فيها كما هو مقتضى قوله : «ان نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول» وقوله : «فوجود أحد جزأي الموضوع المركب كعدمه» وكذا بعض كلماته الآخر.

ولكنك قد عرفت أن للوجود المعلق كالوجود الفعلي حظّا من الوجود ، ولذا يصدق «الحرام» على ماء العنب على تقدير الغليان ، ولا يصدق على عصير

__________________

(١) فوائد الوصول ، ٤ ـ ١٧١

٤٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

التمر وغيره. وكذا يصدق على زيد الموصى له «أنه مالك المال الكذائي بعد موت الموصي» ولا يصدق على عمرو الّذي لم يوص له بشيء. وهذا الصدق أقوى شاهد على أن للحكم المعلق قبل حصول المعلق عليه حظا من الوجود ، فاستصحاب الحكم المعلق من ناحية الوجود لا إشكال فيه.

وأما قوله : «نعم الأثر المترتب على أحد جزأي المركب» إلى قوله : «وهذا المعنى مع أنه عقلي مقطوع البقاء ... إلخ» الّذي مرجعه إلى إشكالين : أحدهما : أن الأثر المترتب على انضمام الجزء الآخر إلى الجزء الموجود من الموضوع عقلي ، والآخر : أنه مقطوع البقاء لا مشكوك البقاء حتى يجري فيه الاستصحاب. ففيه : أن الكلام ليس في الشك في ترتب الأثر على انضمام الجزء الآخر إلى الجزء الموجود من الموضوع حتى يرد عليه هذان الإشكالان.

وببيان آخر : ليس الشك في ترتب الأثر أعني الحرمة على تقدير غليان ماء العنب مثلا ، إذ هذا الشك لا يتصور إلّا إذا كان الشك في النسخ. وهو خلاف الفرض ، إذ المفروض أن منشأ الشك في بقاء الحرمة المعلقة هو طروء حالة كالزبيبية على الموضوع ـ وهو العنب مثلا ـ موجبة للشك في بقاء الحرمة المعلقة. ومن المعلوم أنها مع عروض هذه الحالة ليست معلومة البقاء ولو مع تحقق الجزء الآخر وهو الغليان ، بل لا بد في إحراز بقائها حينئذ من التشبث بالاستصحاب.

وبالجملة : فقد اتضح مما ذكرناه : أن قول المقرر (قده) : «ففيما نحن فيه ليس للعنب المجرد عن الغليان أثر إلّا كونه لو انضم إليه الغليان لثبتت حرمته وعرضت عليه النجاسة ، وهذا المعنى مما لا شك في بقائه فلا معنى لاستصحابه» ليس مرتبطا بالجهة المتعلقة بالاستصحاب التعليقي ، حيث ان المحوج إلى هذا الاستصحاب ليس هو مجرد عدم تحقق الجزء الآخر أعني الغليان الّذي لا شبهة في فعلية الحرمة بوجوده ، ضرورة أن ترتب فعلية الحرمة على وجوده قطعي ، وليس موردا للاستصحاب ، بل مورده هو الشك في بقاء الحكم المعلق أو المطلق ،

٤٥٦

وبالجملة : يكون الاستصحاب متمّما لدلالة الدليل (١) على

______________________________________________________

(١) بعد إثبات جريان الاستصحاب في الحكم التعليقي كجريانه في الحكم الفعلي نبّه على فائدة جريان الاستصحاب في جميع الموارد ومنها المقام ، ومحصله : أنه إذا ثبت حكم مطلق أو مشروط لموضوع فاقد لإطلاق يشمل جميع حالاته وشك في ثبوت ذلك الحكم لبعض حالاته المتبادلة كان الاستصحاب متمما لقصور دلالة الدليل ومثبتا للحكم في ظرف عدم دلالة دليله ، فالاستصحاب متمم شمولي

__________________

لتبدل حال من حالات موضوعه ، وأن التعليق ليس مانعا عن جريان الاستصحاب فيه ، فيجري فيه كما يجري في المطلق ، كملكية العنب.

كما اتضح ما في قوله (قده) : «وأما حديث كون العنب والزبيب من حالات الموضوع لا مقوماته» إلى قوله : «والكلام في المقام إنما هو في مرحلة الثبوت والحدوث ... إلخ» من الإشكال ، فان المعيار عند المحقق النائيني وغيره في الاستصحابات الوجودية هو الوجود الفعلي للمستصحبات ، وقد عرفت ما فيه.

وقد ظهر مما ذكرناه ضعف ما أفيد من : «عدم الوجود للمستصحب في الاستصحاب التعليقي بناء على رجوع القيود إلى الموضوع ، حيث ان الموضوع المركب قبل تحقق تمامه لا وجود لحكمه حتى يشك في بقائه ، فنحتاج إلى استصحابه» (١) لما عرفت من أن للحكم المعلق نحو وجود في مقابل العدم المطلق ، ولا دليل على اعتبار أزيد من هذا الوجود للمستصحب في الاستصحاب الوجوديّ ، فلو شك في سقوط حد شرب الخمر بالتوبة قبل قيام البينة عليه فلا مانع من استصحاب وجوب الحدّ المعلق على عدم التوبة ، فأي مانع من استصحاب هذا الحكم المعلق إذا شك في بقائه لا لأجل النسخ ، بل لعروض حالة كالتوبة أوجبت الشك في ذلك. فالكلام كله في أن التعليق في الأحكام لمنعه عن فعلية وجود الحكم المعلق هل هو مانع عن جريان الاستصحاب أم لا؟ وقد عرفت أن للحكم المعلق قبل حصول المعلق عليه نحو وجود يوجب صحة جريان الاستصحاب فيه لو شك في بقائه.

__________________

(١) مصباح الأصول ، ٣ ـ ١٧٣

٤٥٧

الحكم فيما أهمل أو أجمل (١) كان (٢) الحكم مطلقا أو معلقا ، فببركته يعم الحكم للحالة الطارئة (٣) اللاحقة كالحالة السابقة ،

______________________________________________________

لدلالة الدليل الاجتهادي المثبت لحكم لا يكون لدليله إطلاق يشمل جميع حالات الموضوع ، فالاستصحاب بمنزلة إطلاق الدليل في إثبات الحكم الثابت بالدليل الاجتهادي لموضوع في الجملة لذلك الموضوع في حالاته المتبادلة. وعلى هذا فالحرمة المعلقة على غليان ماء العنب لو شك فيها ـ لأجل تبدل حال العنبية بالزبيبية وفرض عدم دلالة دليل الحرمة على شمول الحكم لحال الزبيبية ـ يجري فيها الاستصحاب ، كما يجري في أحكامه المطلقة كالملكية وجواز الأكل وغيرهما من الأحكام الفعلية لو فرض شك فيها لطروء حال كالزبيبية على العنب.

ولا يخفى أن ما أفاده بقوله : «وبالجملة» كان مما لا بد منه لإثبات حجية الاستصحاب في الأحكام المعلقة ، وقد نبه عليه في حاشية الرسائل أيضا بعنوان مقدمة الاستدلال ، ولم يتعرض له الشيخ الأعظم ، ولعله لوضوح الأمر.

وكيف كان فالأولى تبديل قوله : «وبالجملة» إلى ما يدل على التعليل ، بأن يقال : «لأن الاستصحاب متمم لدلالة الدليل على الحكم ... إلخ» وذلك لظهور : «بالجملة» في كونه خلاصة لما تقدم ، مع أنه لم يسبق منه هذا المطلب حتى يكون «وبالجملة» خلاصة له.

(١) الإهمال هو كون المتكلم في مقام الجعل والتشريع فقط من دون تعرض للخصوصيات الدخيلة فيه ، والإجمال هو عدم بيان المراد للمخاطب وتأديته بلفظ قاصر عن تأديته ، كتكلمه بلفظ مجمل لاشتراكه بين معنيين أو معان مع عدم نصب قرينة معينة على مراده.

(٢) يعني : سواء أكان ذلك الحكم الثابت بالدليل المهمل أو المجمل مطلقا أي فعليا أم معلقا أي مشروطا ، فببركة الاستصحاب يصير الحكم عامّا لحالات الموضوع ، وضمير «فببركته» راجع إلى الاستصحاب.

(٣) كالزبيبية ، والمراد بالحالة السابقة هي الوصف الأوّلي كالعنبية.

٤٥٨

فيحكم (١) مثلا بأن العصير الزبيبي يكون على ما كان عليه سابقا في حال عنبيته (٢) من أحكامه المطلقة والمعلقة (٣) لو شك فيها ، فكما يحكم (٤) ببقاء ملكيته يحكم بحرمته على تقدير غليانه (*).

______________________________________________________

وبالجملة : فالاستصحاب يثبت الحكم المطلق كالملكية أو المعلق كالحرمة للزبيب بعد أن كان نفس الدليل الاجتهادي قاصرا عن إثباتهما للزبيب ، لاختصاص دلالته بالعنب الّذي هو مورده.

(١) هذه نتيجة تعميم الحكم ببركة الاستصحاب الّذي هو بمنزلة الإطلاق الأحوالي للدليل الاجتهادي.

(٢) التي هو مورد الدليل الدال على أحكامه المطلقة والمعلقة ، وقوله : «من أحكامه» بيان لـ «ما» الموصول.

(٣) المطلقة كالملكية وجواز الأكل وغيرهما من التصرفات الاعتبارية والخارجية ، والمعلقة كالحرمة المشروطة بالغليان ، وكوجوب الزكاة المشروط بالنصاب فيما إذا شك في وجوبها ، لصيرورة النصاب كلّا أو بعضا متعلقا للرهن.

(٤) غرضه أن وزان الحكم المعلق وزان الحكم المطلق في جريان الاستصحاب ، والتعليقية من حيث هي ليست مانعة عن جريانه ما لم تقدح في أركان الاستصحاب من اليقين والشك وغيرهما.

هذا ما يتعلق بالوجه الأول على عدم حجية الاستصحاب التعليقي وجوابه.

__________________

(*) كلام المصنف (قده) إلى هنا ناظر إلى جريان الاستصحاب في الأحكام المعلقة بمعنى رجوع القيد إلى الهيئة. وبناء على رجوعه إلى المادة وإطلاق الحكم فاختار في حاشية الرسائل أن جريانه أوضح حالا ، قال فيها : «هذا كله لو كان الحكم حقيقة مشروطا كما هو ظاهر القضية التعليقية. وأما لو كان القيد في الحقيقة راجعا إلى الموضوع ، بأن يكون العصير المغلي حراما ، فالأمر في صحة الاستصحاب أوضح ، لأنه يكون استصحابا لما ثبت محققا وبالفعل من الحكم للمغلي من العصير

٤٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

سابقا وشك فيه لاحقا ... إلخ» (١).

وظاهره كما أوضحه تلميذه المحقق في حاشيته (٢) هو : أن القضايا الشرعية إن كانت على نهج القضايا الخارجية التي ينشأ الحكم فيها للأفراد الموجودة بالفعل أو التي ستوجد فيما بعد فلا فعلية للحكم قبل وجود الموضوع. وإن كانت على نهج القضايا الحقيقية التي ينشأ الحكم فيها للموضوع المفروض وجوده سواء أكان موجودا بالفعل أم سيوجد أم لم يقدر له الوجود أصلا ، فحيث إن تمام الموضوع فيها هو تقدير الوجود بلا دخل لوجوده خارجا ، ففعلية الحكم وما تتقوم به ليس إلّا فرض الوجود له ، وهو محقق بالفعل. ولمّا كانت القضايا الشرعية من سنخ القضايا الحقيقية لا الخارجية فالحرمة للعصير المغلي فعلية بفرض وجوده لا بوجوده خارجا ، والمستصحب نفس هذه الحرمة بعد تبدل حال من حالات الموضوع ، ولا تعليق في الحكم حتى يشكل ببعض ما تقدم من أن فعلية الحكم بفعلية موضوعه بجميع قيوده ، والحرمة قبل الغليان إنشائية لا فعلية ، والحكم الإنشائي مما يصح سلب الحكم عنه حقيقة. وان تقدم الجواب عنه أيضا.

أقول : لم يظهر فرق بين مثل «العصير المغلي حرام» وبين «العصير العنبي إذا غلى يحرم» وذلك فان الأحكام الشرعية وإن كانت محمولة على موضوعاتها على نهج القضايا الحقيقية التي يفرض فيها الوجود ، ولا يعتبر فيها وجود الموضوع خارجا كما في «المستطيع يحج» ولو لم يوجد مستطيع أصلا ، وليست كالقضية الخارجية ، إلّا أن ذلك لا يقتضي فعلية الحكم المنشأ للموضوع المقدّر وجوده قبل وجوده الخارجي ، لإناطة فعلية الحكم بفعلية موضوعه بجميع ما يعتبر فيه. وجعل الأحكام الشرعية من القضايا الحقيقية إنما هو لتصحيح الإنشاء قبل وجود الموضوع وكفاية فرض وجوده ، لا أن الحكم فيها فعلي ، لكون تمام الموضوع هو تقدير الوجود حتى لا يلزم وجود الموضوع خارجا في فعلية الحكم. ويشهد

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ٢٠٨

(٢) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٩٠

٤٦٠