منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الموجودة سابقا» (١) وبهذا البيان يندفع شبهة عدم اليقين بالحدوث كما تندفع شبهة مثبتية الأصل.

وما أفاده (قده) لا يخلو من غموض ، وذلك لانتفاء الحالة السابقة المتيقنة.

وقياس اتصاف الآنات المتجددة بالليلية مثلا على نفس عنوان الليل مع الفارق ، لصدق استمرار الموجود الوحدانيّ حقيقة أو عرفا على الليل بمجرد استتار القرص أو ذهاب الحمرة إلى آن تحقق النهار ، فيجري الاستصحاب عند الشك في الغاية ، لأنه بقاء ما حدث. وهذا بخلاف إجراء الأصل في الليل بمفاد كان الناقصة ، لأن المتيقن هو وصف جزء الليل أعني ليلية الساعة السابقة ، وهذه الساعة الماضية الموصوفة بكونها ليلا جزء الموجود الوحدانيّ أعني الليل ، ولا ريب في امتناع صيرورة الجزء كلّا بإلغاء خصوصيته ، والساعة الفعلية المشكوكة ليليتها لو كانت ليلا لكانت قطعة أخرى من الليل ، وهي متصفة بأنها الساعة الخامسة منه مثلا ، والاتصاف وان كان متجددا بتجدد الآنات والأكوان ، إلّا أن المفروض اتصاف كل قطعة منها بوصف ، والمتيقن هو وصف جزء خاص ، والمشكوك وصف جزء آخر ، ومن المعلوم امتناع تسرية وصف جزء إلى جزء آخر.

وبعبارة أخرى : المقصود بالاستصحاب إثبات ليلية هذه الساعة المشكوكة ليليتها ، فلا يقين بذات الليل المستمر إلى زمان الشك ، وإلّا لم يقع شك فيه ، وإنما تعلق اليقين بليلية ساعة سابقة قد تصرّمت ، وجرّ هذا الوصف إلى الساعة الحالية التي هي قطعة أخرى من الليل ـ على فرض كونها ليلا ـ لا يوجب اتصاف هذه الساعة بكونها ليلا ، لأنه استصحاب وصف جزء لإثبات ذلك الوصف لجزء آخر ، وهو من أقوى الأصول المثبتة.

وما أفاده من الملازمة بين استصحاب الزمان بمفاد كان التامة والناقصة قد عرفت عدم تماميته ، لأنه بمفاد كان التامة قد اجتمعت أركانه فيه من اليقين بحدوث

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ١٤٩

٤٠١

وكذا (١) كلّما إذا كان الشك في الأمر التدريجي من جهة الشك (٢)

______________________________________________________

(١) يعني : وكذا لا إشكال في جريان الاستصحاب ، وهذا إشارة إلى المقام الثاني وهو جريان الاستصحاب في الزماني الّذي لا استقرار لوجوده ، قال شيخنا الأعظم : «وأما القسم الثاني أعني الأمور التدريجية غير القارة كالتكلم والكتابة والمشي ونبع الماء من العين وسيلان دم الحيض من الرحم فالظاهر جواز إجراء الاستصحاب فيما يمكن أن يفرض فيها أمرا واحدا مستمرا ...».

(٢) توضيحه : أن الشك في بقاء الأمر التدريجي ينشأ تارة من الشك في وجود الرافع ، كما إذا أحرز أن في العين الكذائية استعداد جريان مائها إلى أول برج السرطان مثلا ، ولكن يشك في برج جوزاء في انقطاع مائها لمانع. وكذا إذا أحرز اقتضاء امتداد زمان خطبة الخطيب أو وعظ الواعظ أو قراءة قارئ القرآن مثلا إلى ساعة ، وشك قبل انتهاء الساعة في انقطاع الكلام لمانع خارجي منع المقتضي عن دوام تأثيره ، وكذا في سائر الأمور التدريجية. فانه لا ينبغي الإشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم الّذي هو من الشك في وجود الرافع ، لاجتماع أركان الاستصحاب فيه.

وأخرى من الشك في وجود المقتضي ، وهو على قسمين ، إذ قد يكون منشأ الشك الجهل بالكمية والمقدار ، وقد يكون منشؤه احتمال تكوّن مقدار زائد على المقدار المعلوم. فالأوّل كما إذا شك في جريان الماء وسيلان الدم من جهة الشك في بقاء شيء من الماء في المنبع ، ومن الدم في الرحم غير ما سال وجرى منهما ، وكذا إذا شك في بقاء التكلم والكتابة لأجل الشك في استعداد المتكلم والقارئ وأنه هل كان فيهما اقتضاء التكلم والقراءة ساعة أم أقل؟ وكذا في سائر الأمور التدريجية. وقد يشكل جريان الاستصحاب في هذا القسم بما حاصله : أن الشك

__________________

أمر واحد والشك في بقائه ، فيجري ، بخلافه بمفاد كان الناقصة ، لاختلال ركن اليقين بالحدوث كما عرفت.

ولشيخنا العراقي وجه آخر وهو الاستصحاب التعليقي الجاري في الفعل المقيد بالزمان ، وسيأتي بيانه.

٤٠٢

في انتهاء حركته ووصوله إلى المنتهى ، أو أنه (١) بعد في البين. وأما (٢) إذا كان من جهة الشك في كميته ومقداره كما في نبع الماء وجريانه

______________________________________________________

الّذي يجري فيه الاستصحاب هو الشك في البقاء دون الشك في الحدوث كالمقام ، حيث ان الشك هنا انما هو في جريان جزء آخر من الماء والدم والتكلم والكتابة غير ما وجد منها قبل ذلك وانعدم قطعا ، فالشك حينئذ تعلق بالحدوث لا بالبقاء ، ومن المعلوم أن الشك المعتبر في الاستصحاب هو الشك في البقاء دون الحدوث. وعليه فثاني ركني الاستصحاب في الأمور التدريجية التي يكون الشك فيها في المقتضي منهدم ، ولذا يشكل جريان الاستصحاب فيها.

والثاني كما إذا شك في جريان الماء من المنبع من جهة احتمال تكون مقدار من الماء زيادة على المقدار المعلوم أوّلا ، كما إذا كانت كمية ماء المنبع ثلاثة أكرار مثلا وقد جرى هذا المقدار ، لكن يحتمل ورود مقدار آخر مقارنا لجريان هذا المقدار من المطر أو غيره فيه ، وعلى تقدير وروده لم ينقطع جريان الماء على وجه الأرض ، ومن المعلوم أن هذا الفرض خارج عن الشك في المقتضي بمعناه المصطلح وهو العلم بمقدار استعداد الماء للجريان في مدة معينة ، كما أنه خارج عن الشك في الرافع والغاية أيضا ، للعلم بعدم طروء المانع.

والظاهر جريان الاستصحاب فيه بلحاظ أن الجريان أمر واحد شخصي عرفا سواء أكان عن المادة المعلومة أوّلا أم عن المادة المحتملة زيادتها. واختلاف المبادئ لا يوجب تغيرا في عنوان المستصحب وهو جريان الماء عرفا كي يعد الموجود اللاحق مغايرا للموجود السابق ، فهذا نظير تبدل عمود الخيمة بعمود آخر من حيث عدم اقتضاء تعدد الأعمدة تغيرا في هيئة الخيمة.

(١) معطوف على «انتهاء» وضميره راجع إلى «الأمر التدريجي».

(٢) هذا في قبال قوله : «من جهة الشك في انتهاء حركته» المراد به بيان الشك في الرافع ، بأن يكون الشك في بقاء الأمر التدريجي لأجل الشك في وجود الرافع مع إحراز المقتضي. وقد تقدم توضيحه بقولنا : «تارة من الشك في وجود

٤٠٣

وخروج الدم وسيلانه فيما كان (١) سبب الشك في الجريان والسيلان الشك في أنه بقي في المنبع (٢) والرحم فعلا (٣) شيء من الماء والدم

______________________________________________________

الرافع ... إلخ».

وأما قوله : «وأما إذا كان» فهو إشارة إلى كون الشك في بقاء الأمور التدريجية لأجل الشك في المقتضي ، وهو بمنطوقه ومفهومه متكفل لبيان صورتين إحداهما : الشك في أصل استعداد الأمر التدريجي ، وثانيتهما : الشك في تكوّن مقدار زائد على المقدار المعلوم ، والصورة الأولى تستفاد من المنطوق ، والثانية من مفهوم قوله : «فيما كان سبب الشك» وقد تقدم بيان الصورتين بقولنا : «وأخرى من الشك في وجود المقتضي وهو على قسمين ...» والضمير المستتر في «كان» راجع إلى الشك ، وضميرا «كميته ، مقداره» راجعان إلى الأمر التدريجي.

(١) مفهوم هذا القيد هو الصورة الثالثة أعني ما إذا كان الشك في الجريان والسيلان غير ناش عن الشك في الكمية ، للعلم بها حسب الفرض ، بل كان ناشئا من احتمال تكوّن مادة زائدة على المقدار المعلوم.

ولو لم يكن قوله : «فيما كان» لإخراج هذه الصورة عن مصب الإشكال وجوابه الآتيين لكان تقييد الشك في المقتضي بقوله : «فيما كان» لغوا ، لكفاية قوله : «من جهة الشك في كميته» في الدلالة على إرادة الشك في المقتضي. فدفع محذور اللغوية منوط بجعل هذه الكلمة لإخراج الصورة الثالثة. لكن يشكل حينئذ أنه لا وجه لتخصيص الإشكال الآتي وجوابه بالصورة الثانية مع جريانهما في الصورة الثالثة أيضا ، فتأمل.

(٢) وهو عروق الأرض ، وضمير «أنه» للشأن ، وهذا تقريب الشك في المقتضي وقد عرفته آنفاً.

(٣) لا حاجة إلى هذا القيد بعد ظهور قوله : «بقي» في بقاء الموجود الفعلي من الماء والدم في المنبع والرحم ، لا فيما يمكن أن يوجد منهما فيهما ، وضمير «منهما» راجع إلى الماء والدم.

٤٠٤

غير ما سال وجرى منهما ، فربما (١) يشكل في استصحابهما حينئذ (٢) ، فان الشك ليس في بقاء جريان شخص ما كان جاريا ، بل في حدوث جريان جزء آخر شك في جريانه من جهة الشك في حدوثه.

ولكنه (٣) يتخيل بأنه لا يختل به ما هو الملاك في الاستصحاب

______________________________________________________

ثم إن الشك من جهة المقتضي في الأمور التدريجية ليس راجعا إلى الحركة القطعية ، بل مورده الحركة التوسطية ، كما إذا فرض كون المتحرك بين الكوفة والبصرة ، ولكن لا يعلم أن مقدار المسافة بينهما عشرون فرسخا أو أكثر ، فعلى الأول تنتهي الحركة في ساعة ، وعلى الثاني تنتهي في ساعة ونصف مثلا ، فالشك في انتهاء الحركة ووصول المتحرك إلى المنتهى ناش عن الشك في كمية المسافة ، فالشك في بقاء الأمر التدريجي في الحركة التوسطية يتصور في كل من الشك في المقتضي والرافع.

(١) جواب قوله : «وأما» وقد تقدم آنفا تقريب الإشكال بقولنا : «وقد يشكل جريان الاستصحاب في هذا القسم بما حاصله ... إلخ» وضمير «استصحابهما» راجع إلى «الجريان والسيلان».

(٢) أي : حين الشك في الكمية والاستعداد ، وقوله : «فان الشك ليس ... إلخ» تقريب الإشكال ، وقد عرفته ، وضميرا «جريانه ، حدوثه» راجعان إلى جزء آخر.

(٣) أي : ولكن الإشكال يتخيل اندفاعه ، وهذا إشارة إلى دفع الإشكال عن جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية إذا كان الشك في بقائها ناشئا من الشك في المقتضي ، كعدم الإشكال في جريانه فيها إذا كان منشأ الشك في بقائها الشك في وجود الرافع. توضيح دفع الإشكال هو : أن مناط جريان الاستصحاب ـ وهو وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة عرفا ـ منطبق هنا ، ضرورة أن اتصال الأمر التدريجي وعدم تخلل العدم بين أجزائه موجب لوحدته ، وكون الشك شكا في

٤٠٥

بحسب تعريفه ودليله حسب ما عرفت (١).

ثم إنه (٢) لا يخفى أن استصحاب بقاء الأمر التدريجي إما يكون

______________________________________________________

بقائه عرفا لا في حدوثه ، لعدم تعدده بنظر العرف الّذي هو المدار في باب الاستصحاب ، فلا وجه لعدم جريانه في الأمور التدريجية مع كون الشك فيها شكا في البقاء عرفا. وضمير «بأنه» للشأن ، وضمير «به» راجع إلى الإشكال المتصيد من العبارة ، و «ما» الموصول فاعل «يختل» والمراد بـ «الملاك» هو وحدة الأمر التدريجي عرفا.

(١) من قوله في أوائل هذا التنبيه : «إلّا أنه ما لم يتخلل في البين العدم ، بل وان تخلل بما لا يخل بالاتصال عرفا وان انفصل ... إلخ» وحاصله : أن المدار في جريان الاستصحاب ـ تعريفا ودليلا ـ على وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة عرفا ، والاتصال موجب لهذه الوحدة ، ومع شمول تعريف الاستصحاب ودليله للأمور التدريجية كالأمور القارة لا وجه لعدم اعتبار الاستصحاب فيها.

(٢) غرضه (قده) بعد تصحيح جريان الاستصحاب في الأمور التدريجية بيان إمكان جريان استصحاب الكلي بأقسامه الثلاثة فيها ، كما أفاده في حاشية الرسائل أيضا بقوله : «ولا يخفى جريان الأقسام الثلاثة في استصحاب الكلي فيه كما يظهر بأدنى تأمل».

وكلامه هذا ناظر إلى ما أفاده شيخنا الأعظم (قده) في هذا القسم من الأمور التدريجية ، حيث إنه تعرض أوّلا لجريان الاستصحاب في مثل التكلم والمشي والكتابة ونبع الماء إذا عدّ المجموع أمرا واحدا مستمرا ، ثم تعرض لبيان ضابط الوحدة. واختلفت أنظاره الشريفة في كلامه الأول من كون هذا المستصحب شخصيا أو كليا ، وعلى تقدير كليته في كونه من القسم الأول أو الثاني أو الثالث ، فقال أوّلا : «فيستصحب القدر المشترك المردد بين قليل الأجزاء وكثيرها» وظاهره أنه هو القسم الثاني ، وقال في جواب توهم كونه من القسم الثالث ما لفظه : «بأن الظاهر كونه من قبيل الأول من تلك الأقسام الثلاثة». وفي آخر كلامه قال

٤٠٦

من قبيل استصحاب الشخص ، أو من قبيل استصحاب الكلي بأقسامه ،

______________________________________________________

بجريان الاستصحاب فيه حتى بناء على كونه من القسم الثالث ، إذ هو في المقام من الكلي التشكيكي الّذي لا مانع من جريان الاستصحاب فيه كالسواد الضعيف الباقي بعد ارتفاع الشديد.

وفي كلامه الثاني جعل وحدة الداعي ضابطا لوحدة المستصحب في مثل قراءة القرآن ، فتستصحب لو شك في الصارف ، أو في مقدار اقتضاء الداعي (*). أما لو تكلم لداع أو لداع ثم شك في بقائه على صفة التكلم لداع آخر فالأصل عدم حدوث الزائد على المتيقن. ولو شك في حيضية الدم بعد انقطاعه أو في اليأس فرأت الدم جرى الاستصحاب ، هذا.

وأورد المصنف في الحاشية على عدّ هذا الاستصحاب من القسم الأول بما لفظه : «الظاهر كونه من قبيل القسم الثاني ، ضرورة أنه مردد بين كونه كثير الأجزاء فيبقى وقليلها فيرتفع».

ثم اختار المصنف في عبارته المتقدمة تصوير كل واحد من أقسام الكلي في الأمور التدريجية ، وأنها ليست منضبطة تحت قسم واحد كما فرضه الشيخ.

وكيف كان فيجري استصحاب الشخص والكلي بأقسامه في الأمور التدريجية على اختلاف مواردها ، فإذا اشتغل بقراءة سورة الروم مثلا وشك في فراغه عنها صح استصحاب قراءتها بنحو استصحاب الشخص والكلي ، ان كان للكلي أثر شرعي ، ويكون هذا من قبيل القسم الأول من أقسام استصحاب الكلي ، من غير فرق بين كون منشأ الشك في بقائه الشك في المقتضي بأن لا يحرز مقدار بقائه في عمود الزمان ، وبين كونه الشك في وجود المانع مع إحراز مقدار بقائه كساعة مثلا ، وكون الشك في ارتفاعها قبل انقضاء الساعة ، لاحتمال وجود مانع. هذا في استصحاب الشخص والقسم الأول من استصحاب الكلي.

وإذا اشتغل بسورة لم يعلم أنها سورة الروم أو القدر مثلا ، فان كانت هي الروم

__________________

(*) فيه تأمل ، لأنه من الشك في المقتضي الّذي أنكر حجية الاستصحاب فيه.

٤٠٧

فإذا شك (١) في أن السورة المعلومة التي شرع فيها تمت أو بقي شيء منها صح فيه (٢) استصحاب الشخص والكلي.

وإذا شك فيه (٣) من جهة ترددها بين القصيرة والطويلة كان من

______________________________________________________

فلم يفرغ منها ، وان كانت هي القدر فقد فرغ منها ، فحينئذ يجوز استصحاب كلي القراءة ، ولا يجوز استصحاب الفرد ، لعدم اليقين السابق الّذي هو أحد ركني الاستصحاب. واستصحاب الكلي في هذه الصورة من قبيل القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي.

وإذا علم بأنه اشتغل بسورة القدر مثلا وتمت ، ولكن شك في شروعه في سورة أخرى مقارنة لختمها ، فلا يجوز استصحاب القراءة ، وهو من قبيل القسم الثاني من ثالث أقسام استصحاب الكلي.

وأما القسمان الآخران ـ أي الأول والثالث من أقسام القسم الثالث ـ فلا يتصوران في قراءة شخص وتكلمه كما لا يخفى.

ثم إن ما ذكرناه من جريان استصحاب الكلي في القراءة والتكلم يجري في نبع الماء وجريانه أيضا ، فإذا شك في بقاء نبعه وجريانه للشك في مقدار مقتضية أو وجود مانع عن جريانه فلا مانع من استصحابه وترتيب الأثر الشرعي الثابت لذي المادة عليه ، فتأمل. وأما الأثر المترتب على ما يلازم النبع عقلا أو عادة كوجود الماء في الحوض أو اتصال مائه بما يجري من المادة ، فلا يمكن ترتيبه على استصحاب النبع إلّا على القول بالأصل المثبت.

(١) هذا إشارة إلى القسم الأول من استصحاب الكلي الجاري في الأمور التدريجية ، وقد أوضحناه بقولنا : «فإذا اشتغل بقراءة سورة الروم مثلا ... إلخ».

(٢) أي : في هذا الشك المتعلق ببقاء السورة ، وضميرا «فيها ، منها» راجعان إلى «السورة».

(٣) أي : في بقاء السورة. أشار بهذا إلى جريان استصحاب الكلي من القسم

٤٠٨

القسم الثاني (١). وإذا شك (٢) في أنه شرع في أخرى مع القطع بأنه قد تمت الأولى كان من القسم الثالث (٣) (*)

______________________________________________________

الثاني وهو تردد الكلي بين ما هو معلوم الارتفاع وبين ما هو مقطوع البقاء ، وقد تقدم ذلك آنفا بقولنا : «وإذا اشتغل بسورة لم يعلم أنها سورة الروم أو القدر مثلا ... إلخ» وضمير «ترددها» راجع إلى «السورة».

(١) وهو تردد الكلي بين فردين أحدهما طويل العمر كالفيل والآخر قصير العمر كالبق.

(٢) هذا إشارة إلى جريان القسم الثالث من استصحاب الكلي في الأمور التدريجية ، وقد مرّ ذلك بقولنا : «وإذا علم بأنه اشتغل بسورة القدر وتمت ولكن شك في شروعه ... إلخ» وضمير «أنه» راجع إلى القارئ المستفاد من العبارة ، وقوله : «أخرى» صفة لمحذوف وهي «سورة» وضمير «بأنه» للشأن ، و «كان» في الموضعين جواب «إذا» في الموردين.

(٣) وهو القطع بانتفاء الفرد المعلوم الوجود والشك في وجود فرد آخر من الكلي ، وقد عرفت عدم جريان الاستصحاب فيه.

__________________

(*) عدّه من القسم الثالث مبني على تعدد وجود الكلي بتعدد السورة أو بتخلل العدم المعتد به بين السورتين أو بتعدد الداعي ، وإلّا فعده من القسم الثالث غير معلوم.

أما تعدد وجود الكلي بتعدد السورة فقد حكى المحقق المشكيني عن مجلس درس المصنف في دفع توهم كونه من القسم الثاني ما لفظه : «ثم أجاب بما حاصله : أنه كذلك دقة ، وأما عرفا فانهم يعدون كل سورة موجودا آخر ، وليس السورة عندهم مثل الآية. ولو سلم فليفرض فيما قطع بالشروع في قراءة القرآن والفراغ عنها والشك في الشروع في قراءة الأشعار. ولو نوقش فيه بدعوى كون مطلق القراءة شخصا واحدا فليفرض فيما شك بعد القطع بالفراغ عن القراءة في الشروع في فعل من غير سنخ القراءة» ثم أورد عليه بأن الملاك ان كان نظر العرف

٤٠٩

هذا في الزمان ونحوه من سائر التدريجيات (*).

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

لم يفرق فيه بين السورة والآية ، إذ الملاك عندهم وحدة الداعي.

أقول : لا ريب في اختلاف الموارد في صدق الوحدة العرفية على مجموع قطعات الأمور التدريجية كما اعترف شيخنا الأعظم بوضوح الوحدة في بعض الموارد وعدمه في بعضها الآخر ، والتباس الأمر في غيرهما ، لكنه حكم بحصول الوحدة في قراءة القرآن بداع واحد ، وبتعدد الموجود بتعدد الدواعي ، قال : «أما لو تكلم لداع أو لدواع ثم شك في بقائه على صفة التكلم لداع آخر فالأصل عدم حدوث الزائد على المتيقن».

لكن الظاهر صدق الوحدة في قراءة السورة حتى مع تعدد الداعي ، فلو شرع في تلاوة سورة بداع قربي ثم تبدل ذلك إلى داع شيطاني أثناء القراءة ، فالظاهر صدق قراءة السورة الشخصية عرفا وان لم تصدق الوحدة بالدقة العقلية ، وكذا لو سجد بقصد الطاعة فأطالها بداعي الاستراحة مثلا ، فالظاهر عدم انثلام الوحدة بتبدل الباعث عليه.

نعم إنما يتجه هذا بناء على مختار المصنف من عموم حجية الاستصحاب للشك في المقتضي ، وإلّا فبناء على اختصاصها بالشك في الرافع ، فلا وجه لإجراء الأصل مع الشك في أصل الاقتضاء فضلا عما إذا علم بانقضاء المقتضي السابق وشك في قيام مقتض آخر مقامه ، لعدم صدق النقض حسب الفرض ، فما في الرسائل من قوله : «أو لأجل الشك في مقدار اقتضاء الداعي فالأصل بقاؤه» لا يخلو من خفاء.

(*) ثم ان للشك في بقاء الدم في الرحم صورا كثيرة مذكورة مع أحكامها في الفقه ، لكن لا بأس بالإشارة هنا إلى البحث الأصولي المتعلق بها ، فنقول وبه نستعين : ان الشك في خروج الدم وبقاء الرحم على صفة القاذفية يتصور على وجوه :

أحدها : أن يكون ذلك الشك في أول رؤيته ، بحيث لو بقي إلى ثلاثة أيام لكان حيضا ، ولو انقطع قبلها لكان استحاضة. والظاهر جريان الاستصحاب فيه

٤١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وإثبات بقاء الدم إلى الثلاثة ، وترتيب أحكام الحيض عليه ، لقاعدة الإمكان الثابت شرطها وهو استمرار الدم ثلاثة أيام بالاستصحاب ، كإثبات عدم المانع وهو اليأس بالاستصحاب فيما إذا شكت المرأة في اليأس ورأت الدم ، فانه يكفي في إحراز عدم اليأس الّذي هو شرط قاعدة إمكان التحيض بالدم المرئي استصحاب عدم وصول المرأة إلى حد اليأس.

والإشكال على استصحاب بقاء الدم إلى ثلاثة أيام تارة بأنه من الاستصحاب في الأمور المستقبلة ، وأخرى بمعارضته باستصحاب عدم خروج الدم ، وثالثة بأن موضوع قاعدة الإمكان هو اليقين باستمرار الدم ثلاثة أيام ، والاستصحاب لا يوجب اليقين ، لأنه أصل ، وموضوعه الشك. ورابعة بأنه لا يثبت الإمكان إلّا على القول بالأصل المثبت. مندفع في الأول : بأنه لا منشأ له إلّا انصراف أدلة الاستصحاب عن الأمور المستقبلة ، ومن المعلوم أن دعواه مجازفة ومخالفة لسيرة العقلاء والمتشرعة.

وفي الثاني : بأن هذا هو الإشكال المتقدم في التدريجيات ، وقد عرفت أنه مبني على لحاظ كل جزء من أجزائه موجودا مستقلا ، إذ بناء عليه يكون الشك في وجود الجزء اللاحق ، فيستصحب عدمه. لكن قد تقدم دفعه بأن مجموع الأجزاء يعدّ شيئا واحدا عرفا ، فيكون الشك في الجزء اللاحق شكا في البقاء دون الحدوث ، وبهذا اللحاظ يجري استصحاب الوجود دون العدم ، هذا.

مع إمكان أن يقال : بحكومة الاستصحاب الوجوديّ على العدمي ، حيث ان الشك في عدم الجزء اللاحق ناش عن الشك في بقاء الدم في الرحم وعدمه ، فإذا أحرز بقاؤه بالاستصحاب ارتفع الشك في العدم ، فلا يبقى مجال لاستصحابه.

وفي الثالث : بأن اليقين أخذ طريقا لا موضوعا ، وقد ثبت في محله قيام الاستصحاب مقام القطع الطريقي المحض.

وفي الرابع : بأن المراد بالإمكان هو حكم الشارع بالتحيض برؤية الدم مع

٤١١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وجود شرائط وعدم موانع ، ومن المعلوم أن إحرازهما لتعبدي بالأصل حتى يترتب عليها حكم الشارع أجنبي عن الأصل المثبت ، نظير استصحاب عدالة شخص لجواز تقليده أو الائتمام به.

نعم لو كان المراد بالإمكان الأمر الاعتباري للماهية كالوجوب والامتناع اللذين هما من اعتبارات الماهية أيضا كان الاستصحاب مثبتا. لكنه ليس كذلك ، وتفصيله في الفقه.

ثانيها : أن يكون ذلك الشك بالنسبة إلى الدم المرئي بعد العادة قبل العشرة بأن كان الشك في بقائه إلى ما بعد العشرة وانقطاعه على العشرة ، فان تجاوز عن العشرة كان ما في العادة حيضا ، وغيره استحاضة ، وان انقطع على العشرة أو قبلها كان كله حيضا. والظاهر جريان الاستصحاب فيه وترتيب أحكام الحيض على ما في العادة ، وأحكام الاستحاضة على ما عداه.

لا يقال : ان مقتضى استصحاب الحيضية هو ترتيب أحكام الحيض على الدم الموجود بعد أيام العادة.

فانه يقال : إن استصحاب بقاء الدم حاكم على استصحاب الحيضية ، لأن الشك في الحيضية ناش عن انقطاع الدم على العشرة وما دونها وبقائه إلى ما بعد العشرة ، فإذا ثبت بالحجة كالاستصحاب بقاؤه إلى ما بعدها ارتفع الشك تعبدا عن حيضية الدم.

ثالثها : أن يكون ذلك الشك في الفترة الواقعة في أيام العادة ، بأن تشك المرأة في استمرار الفترة الموجب لطهرها وفي خروج الدم الكاشف عن بقاء الحيض. يمكن أن يقال : بجريان الاستصحاب في الفترة ، وترتيب آثار الطهر عليها من وجوب الغسل وغيره ، كما أنه يمكن إجراء الأصل في بقاء الرحم على قذف الدم بعد جعل الفترة المتخللة بحكم العدم في نظر العرف ، فيحكم ببقاء الحيض.

رابعها : أن يكون ذلك الشك في الفترة الواقعة بعد أيام العادة ، كما إذا

٤١٢

وأما الفعل المقيد بالزمان (١) فتارة يكون الشك في حكمه من

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى المقام الثالث أعني الفعل المقيد بالزمان وهو الّذي تعرض له الشيخ (قده) في التنبيه الثاني بقوله : «وأما القسم الثالث وهو ما كان مقيدا بالزمان فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه. ووجهه : أن الشيء المقيد بزمان خاص لا يعقل فيه البقاء ، لأن البقاء وجود الموجود الأول في الآن الثاني. وقد تقدم الاستشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية ، لكون متعلقاتها هي الأفعال المتشخصة بالمشخصات التي لها دخل وجودا وعدما في تعلق الحكم ومن جملتها الزمان» ومحصل وجه عدم جريان الاستصحاب بنظر الشيخ (قده) هو عدم بقاء الموضوع مع انقضاء الزمان المقيد به الفعل.

ولمّا كان كلام الشيخ (قده) في منع جريان الاستصحاب مطلقا صار المصنف بصدد تحليله حتى يظهر أن الاستصحاب يجري في بعض الصور دون بعض ، وتوضيح ما أفاده المصنف : أن الشك في بقاء وجوب الفعل المقيد بالزمان يتصور على وجهين :

__________________

كانت عادتها خمسة أيام ، ثم انقطع الدم وشكّت المرأة في استمرار الفترة إلى العشرة حتى تكون طهرا وانقطاعها برؤية الدم في بقية العشرة حتى تكون حيضا. وفي هذا الوجه يمكن أيضا استصحاب بقاء الدم ، بجعل النقاء المتخلل في نظر العرف كالعدم.

إلّا أن يقال كما عن المشهور : بجريان استصحاب الطهر والحكم بوجوب الغسل عليها ، بل دعوى عدم الحاجة في إثبات الطهر إلى الاستصحاب نظرا إلى اقتضاء أمارية العادة لطهرية النقاء الحادث بعدها غير بعيدة.

وبالجملة : فيمكن التفصيل في الفترة بين وقوعها في أيام العادة وبين حدوثها بعد العادة ، بالحكم ببقاء الحيض في الأول نظرا إلى استصحاب بقاء الرحم على قاذفية الدم ، والحكم بالطهر ووجوب الغسل في الثاني لاستصحاب النقاء ، أو لاقتضاء أمارية العادة لطهر الفترة الواقعة بعد أيامها.

٤١٣

جهة الشك في بقاء قيده (١)

______________________________________________________

الأول : أن يكون الشك فيه ناشئا من الشك في بقاء قيده ، كما إذا شك في بقاء النهار الموجب للشك في وجوب الإمساك المقيد به ، إذ لو كان بقاء النهار معلوما كان وجوب الإمساك أيضا معلوما ، فلا منشأ للشك في وجوبه إلّا الشك في بقاء قيده وهو النهار. وهذا قد يكون بنحو الشبهة الموضوعية كما إذا شك في انتهاء النهار مع العلم بأنه ينتهي بغياب القرص واستتاره ، وقد يكون بنحو الشبهة الحكمية ، كما إذا لم يعلم أن النهار ينتهي باستتار القرص أو بذهاب الحمرة. فللشك في بقاء القيد صورتان : إحداهما كون الشك بنحو الشبهة الموضوعية ، وثانيتهما كونه بنحو الشبهة الحكمية.

الثاني : أن يكون الشك في الوجوب مع القطع بانقضاء الزمان ، فمنشأ الشك في الحكم حينئذ هو احتمال كون الزمان قيدا للحكم بنحو وحدة المطلوب ، فبانقطاع الزمان ينتفي الحكم ، واحتمال كونه قيدا له بنحو تعدد المطلوب ، بأن يكون ذات الفعل مطلوبا ، ووقوعه في زمان خاص مطلوبا آخر ، فبانقضاء ذلك الزمان لا ينتفي الحكم بل هو باق ، فللشك في بقاء الحكم في هذا الوجه وهو القطع بانتفاء الوقت أيضا صورتان :

إحداهما : كون الزمان قيدا بنحو وحدة المطلوب ، لكن مع احتمال وجود ملاك آخر ملزم لمثل ذلك الحكم في غير ذلك الزمان ، كما إذا فرض وجوب الجلوس في المسجد في النهار وشك في وجوبه في الليل لاحتمال وجود مصلحة ملزمة للجلوس فيه.

ثانيتهما : كون الزمان قيدا للحكم بنحو تعدد المطلوب ، بأن تكون ذات الجلوس مطلوبة ، وإيقاعه في النهار مطلوبا آخر. وعليه فلهذا الوجه الثاني أيضا صورتان ، فالصور أربع.

(١) هذا إشارة إلى الوجه الأول المذكور بقولنا : «الأول : أن يكون الشك فيه ناشئا من الشك في بقاء قيده ... إلخ» وإطلاق كلام المصنف (قده) يشمل

٤١٤

وطورا (١) مع القطع بانقطاعه وانتفائه من (٢) جهة أخرى (٣) كما إذا احتمل (٤) أن يكون التعبد (*) به إنما هو بلحاظ تمام المطلوب ، لا أصله.

فان كان (٥) من جهة الشك في بقاء القيد فلا بأس باستصحاب

______________________________________________________

كلّا من الشبهة الموضوعية والحكمية ، ضرورة أن الشك في بقاء القيد يشمل كلتا الشبهتين ، وضمير «حكمه» راجع إلى «الفعل» وضمير «قيده» إلى «حكمه».

(١) معطوف على «فتارة» وهذا إشارة إلى الوجه الثاني الّذي تقدم بقولنا : «الثاني : أن يكون الشك في الوجوب مع القطع بانقضاء الزمان ... إلخ».

(٢) متعلق بـ «الشك» في قوله : «يكون الشك» وضميرا «بانقطاعه ، انتفائه» راجعان إلى الزمان.

(٣) يعني : غير الشك في بقاء القيد وهو الزمان ، إذ المفروض القطع بانتفائه.

(٤) هذا بيان الجهة الأخرى ، وحاصلها : الشك في كيفية قيدية الزمان ، وأنه هل أخذ في الحكم بنحو وحدة المطلوب حتى ينتفي الحكم رأسا بانقطاعه ، وهو المراد بقوله : «لا أصله» أم أخذ فيه بنحو تعدد المطلوب حتى ينتفي المطلوب الأقصى بانقضاء الوقت ، لا أصل المطلوب؟ فالشك في بقاء الحكم بعد مضي الوقت ناش من كيفية التقييد بالزمان. وضمير «به» راجع إلى «الزمان» وضمير «أصله» إلى «المطلوب».

(٥) هذا شروع في بيان أحكام الوجوه المذكورة ، ففي الوجه الأول وهو الشك في بقاء الزمان يجوز إجراء الاستصحاب في نفس الزمان المأخوذ قيدا كالنهار ، فيثبت به المقيد ويترتب عليه حكمه ، فإذا وجب الإمساك في النهار وشك في بقاء النهار وانقضائه جاز استصحابه ، فيجب الإمساك ويحرم ارتكاب المفطرات في

__________________

(*) الأولى تبديل «التعبد» بالتقييد ، لكون الكلام في الفعل المقيد بالزمان خصوصا بقرينة قوله بعد أسطر : «ظرفا لثبوته لا قيدا مقوما» مع أن دخل القيد في المصلحة تكويني لا تشريعي.

٤١٥

قيده من الزمان (١) كالنهار الّذي قيّد به الصوم (*) مثلا ، فيترتب عليه (٢)

______________________________________________________

الزمان الّذي ثبتت نهاريته بالاستصحاب ، كما يجوز استصحاب الفعل المقيد بالزمان ، فيقال : ان الإمساك قبل هذا الآن كان في النهار والآن كما كان ، فيجب.

وبالجملة : ففي صورة كون الشك في الحكم ناشئا من الشك في بقاء الزمان يجوز جريان الاستصحاب في نفس الزمان وفي الفعل المقيد به. وقد ذكر هذين الوجهين مع وجه آخر في حاشية الرسائل ، إلّا أنه ناقش في الوجه الأول ، فراجع.

(١) هذا في قبال شيخنا الأعظم ، حيث أجرى الاستصحاب في مفاد الهيئة وهو الحكم الشرعي المحمول على الفعل المقيد بالزمان ، قال : «فالأولى التمسك في هذا المقام باستصحاب الحكم المرتب على الزمان ولو كان جاريا فيه كعدم تحقق حكم الصوم والإفطار عند الشك في هلال رمضان أو شوال».

(٢) كترتب وجوب قبول شهادة الشاهد وجواز تقليد المجتهد على استصحاب العدالة والاجتهاد ونحو ذلك.

__________________

(*) قد تقدم آنفا في التوضيح : أن إطلاق كلام المصنف : «من جهة الشك في بقاء قيده» يشمل كلّا من الشبهة الموضوعية والحكمية. لكن جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية الناشئة من إجمال الدليل كدوران مفهوم النهار بين ما ينتهي إلى استتار القرص وبين ما ينتهي إلى ذهاب الحمرة محل إشكال ، بل منع ، لما تقدم في تعليقة استصحاب الكلي من أن المفهوم المردد ليس أثرا شرعيا ولا موضوعا لأثر شرعي ، لامتناع انطباقه بما هو مردد على الخارج الموجب لعدم إمكان جعله موضوعا لشيء من الأحكام حتى يصح جريان الاستصحاب فيه. وعليه فلا يمكن إجراؤه في نفس القيد وهو الزمان مع كون الشبهة مفهومية سواء أكان الزمان ظرفا أم قيدا. وأما في الشبهة الموضوعية فلا يجري فيها الاستصحاب أيضا إذا أخذ الزمان قيدا ، لأن استصحابه بمقتضى مفاد كان التامة مثبت ، وبمقتضى مفاد كان الناقصة لا يجري ، لعدم اليقين السابق به.

٤١٦

وجوب الإمساك وعدم جواز الإفطار ما لم يقطع بزواله (١). كما لا بأس (٢) باستصحاب نفس المقيد ، فيقال : إن الإمساك كان قبل هذا الآن في النهار ، والآن كما كان ، فيجب ، فتأمل (٣).

______________________________________________________

(١) أي : زوال النهار ، وضمير «عليه» راجع إلى الاستصحاب.

(٢) هذا إشارة إلى جريان الاستصحاب في الفعل المقيد بالزمان كالإمساك المقيد بالنهار ، كما أن قوله : «فلا بأس باستصحاب قيده» إشارة إلى جريانه في القيد كالنهار ، وقد مر توضيح كليهما.

(٣) لعله إشارة إلى منع الوجه الأول أعني قوله : «فلا بأس باستصحاب قيده» كما أفاده أيضا في حاشية الرسائل ، وحاصله : عدم جريان الاستصحاب في نفس الزمان ، إذ المستصحب إن كان هو النهار بمفاد كان التامة فلا يثبت به وقوع الإمساك في النهار إلّا على القول بالأصل المثبت ، ضرورة أن وقوع الإمساك في النهار لازم عقلي لبقاء النهار. وإن كان هو النهار بمفاد كان الناقصة بأن يقال : «الإمساك في زمان هو نهار كان واجبا ، والآن كما كان» فلا مجال لاستصحابه ، لعدم اليقين السابق ، ضرورة أنه لا علم بأن الإمساك في هذا الزمان إمساك في زمان هو متصف بكونه نهارا (*).

ويمكن أن يكون إشارة إلى دفع توهم. أما التوهم فهو : أن الإمساك قبل هذا الآن قد ارتفع قطعا ، والإمساك في هذا الآن لو شك في وجوبه كان شكا في حدوث وجوبه ، لا شكا في بقاء ما علم من وجوبه سابقا حتى يكون من موارد الاستصحاب ، بل يكون من مجاري أصالة البراءة.

وأما الدفع ، فحاصله : أن العرف الّذي يكون نظره معتبرا في الاستصحاب يحكم بأن الإمساك في النهار موضوع وحداني ، والشك في شيء منه شك في جزء من أجزائه ، لا في جزئي من جزئياته ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه.

__________________

(*) ولهذا الإشكال عدل شيخنا الأعظم (قده) إلى التمسك باستصحاب

٤١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الحكم بأن يقال حين الشك في بقاء النهار : «ان وجوب الإمساك في النهار كان ثابتا قبل هذا الآن والآن كما كان». وإن كان هذا العدول لا يجدي أيضا في دفع الإشكال ، لما يرد عليه أوّلا : من عدم جريان استصحاب الحكم مع عدم إحراز الموضوع كما أفاده المصنف في حاشية الرسائل.

وثانيا : من أن المقصود إثبات وقوع الإمساك في النهار ، لا مجرد مقارنته واجتماعه مع النهار وجودا ، كمقارنة الصلاة للطهارة على وجه ، ومن المعلوم أن هذا المقصود لا يثبت باستصحاب وجوب الإمساك في النهار ، لأنه مثبت ، حيث ان حكم الشارع بوجوب إبقاء الإمساك الواقع في النهار مستلزم عقلا لبقاء النهار واتصاف الإمساك فيه بكونه واقعا في النهار ، ولو بني على اعتبار الأصل المثبت كان استصحاب نفس الزمان مغنيا عن استصحاب الحكم ، لتسبب الشك فيه عن الشك في بقاء الزمان ، ولم يكن وجه للعدول عن استصحاب نفس الزمان إلى استصحاب الحكم.

ولا فرق في هذه الحكومة بين كون الزمان شرطا لنفس الحكم كما في الواجب المشروط ، وبين كونه قيدا لمتعلقه ، إذ المهم ترتب أحد الأمرين على الآخر ترتبا شرعيا ، فكما يكون ترتب أصل الحكم على شرطه شرعيا فكذلك يكون ترتبه على الزمان المأخوذ في المتعلق بأخذ الشارع ، ومع هذه الحكومة لا وجه للاستصحاب الحكمي.

وللتخلص عن الإشكال وإجراء الاستصحاب في الموقتات سلكوا طرقا أخرى :

منها : ما أفاده المحقق النائيني (قده) في الدورة الأخيرة من جريان الاستصحاب في نفس الزمان وكذا في حكم الفعل المقيد به ، ومحصله : انطباق ضابط التركيب على المقام لا التقييد ، إذ لو كان موضوع الحكم الشرعي مؤلّفا من المعروض والعرض القائم به كموضوعية «الماء الكر» للاعتصام لم ينفع استصحاب الكر بمفاد كان التامة للتعبد ببقاء الكر من الماء ، بل لا بد من إجرائه بمفاد «كان»

٤١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الناقصة ، بأن يقال : «هذا الماء كان كرّا والآن كما كان». وأما لو كان الموضوع مؤلّفا من جوهرين أو عرضين لمحلين ونحوهما ، فحيث لم يؤخذ عنوان اتصاف أحدهما بالآخر في الدليل كفى مجرد اجتماعهما في الوجود في ترتب الأثر عليه.

والمقام من هذا القبيل ، لعدم كون الحكم بالنسبة إلى الزمان كالعرض بالنسبة إلى محله ، إذ الفعل كالإمساك والصلاة ونحوهما عرض قائم بالمكلف ، والوقت كالنهار والليل مقدار من حركة الفلك ، ولا يتقيد أحدهما بالآخر ، بل يكفى اجتماعهما في الوجود ، ويكفي استصحاب الزمان بمفاد «كان» التامة. بل يصح استصحاب الحكم أيضا ، فإذا ثبت الحكم في زمان نشك في بقائه للشك في بقاء الزمان المأخوذ قيدا للمتعلق فلا مانع من استصحابه. وليس هذا من التعبد ببقاء حكم لموضوع مشكوك الوجود الّذي هو كالتعبد بوجود العرض من دون إحراز موضوعه ، لأن معنى التعبد ببقاء الوجوب فعلا هو التعبد ببقائه بجميع خصوصياته التي كان عليها ، والمفروض أن الوجوب السابق إنما كان متعلقا بما إذا أتى به كان واقعا في النهار ، فالآن يستصحب ذلك الوجوب على النحو الّذي كان سابقا (١).

لكنه لا يخلو من تأمل ، فان ما أفاده (قده) من ضابط التركيب والتقييد وإن كان متينا في نفسه ، لكن الظاهر أجنبية المقام عن الموضوع المركب الّذي يكفى فيه مجرد مقارنة أجزائه في الوجود وان وافقه في ذلك شيخنا المحقق العراقي (قده) أيضا (٢). وذلك لمخالفته لمقام الإثبات أعني ظهور أدلة الموقتات في مطلوبية الحصة الخاصة من الطبيعة وهي المقيدة بوقوعها في أوقاتها المضروبة لها. والزمان وان لم يكن كالعرض بالنسبة إلى فعل المكلف حتى يلتزم بالتقييد إلّا أن الموجب للالتزام به هو أخذ الوقت الخاصّ في الدليل الظاهر في التقييد ، لا الظرفية المحضة التي لا دخل لها في الحكم ومتعلقه إلّا لكونه من لوازم وجوده كالمكان بالنسبة إلى المكاني. ويرشد إليه مثل قوله عليه‌السلام : «ثمان ركعات

__________________

(١) أجود التقريرات ، ٢ ـ ٤٠١

(٢) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ١٥٠

٤١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في السحر وهي صلاة الليل» الظاهر في القيدية والدخل في الملاك ، ولولاه لكان أخذه في الدليل لغوا بعد استواء جميع الأزمنة في المصلحة.

والمتحصل : أن عدم كون الزمان كالعرض لفعل المكلف لا يخرج المقام عن التقييد بعد ظهور الأدلة فيه ، فيكون كأخذ عنوان التقارن بين الفعلين أو السبق واللحوق في موضوع الحكم الشرعي ، مع أن كلّا من الفعلين عرض قائم بجوهر ، وذلك كاعتبار القبلية في تحقق القدوة إذا أدرك المأموم ركوع الإمام ، فان استصحاب ركوع الإمام لا يثبت عنوان القبلية إذا شك المأموم في إدراكه إلّا بناء على حجية الأصل المثبت.

نعم ما أفاده (قده) ضابط مطرد يرجع إليه الشاك في كيفية دخل الزمان في موضوع الحكم الشرعي ، وإلّا فمع تسليم ظهور الأدلة في تقيد الفعل به لا سبيل لإجراء ضابط التركيب فيه.

وبالجملة : فيشكل جريان الاستصحاب في كل من الحكم والزمان لإحراز وقوع الأفعال الموقتة في أوقاتها.

ومنها : ما في المتن من إجرائه في نفس الفعل المقيد بالزمان. وهو متين في نفسه ، إلّا أنه أخص من المدعى ، لاختصاصه بالفعل المتصل بنظر العرف مع اشتغال المكلف به ، وأما بدون اشتغاله به فلا ينفع الاستصحاب التنجيزي.

ومنها : ما في تقرير شيخنا المحقق العراقي (قده) من التمسك بالاستصحاب التعليقي ، بأن يقال عند الشك في انقضاء النهار وعدم الإتيان بالظهرين : «لو أتى بالصلاة قبل هذا الوقت لكانت واقعة في النهار ، والآن كما كانت» ولا بأس به بناء على المختار من حجية الاستصحاب التعليقي حتى في الموضوعات كالأحكام.

ومنها : ما أفاده سيدنا الأستاذ (قده) في مجلس الدرس من إنكار أصل تقيد الفعل بالزمان ، ضرورة أن قيد الواجب هو ما يصح أن يقع في حيّز الخطاب ، ومن المعلوم اعتبار القدرة في متعلقه ، والزمان لكونه غير اختياري لا يقع في حيزه

٤٢٠