منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

وجوده (١) بعين وجوده ـ بين متيقن الارتفاع ومشكوك الحدوث المحكوم (٢) بعدم حدوثه غير ضائر (٣) باستصحاب الكلي المتحقق في ضمنه ، مع (٤)

______________________________________________________

(١) أي : الخاصّ ، وضمير «ضمنه» راجع إلى الخاصّ ، وضمير «وجوده» إلى الكلي ، و «بين» متعلق بـ «تردد».

(٢) صفة لـ «مشكوك» يعني : أن الفرد الطويل العمر المفروض كونه مشكوك الحدوث يجري فيه استصحاب العدم ، والفرد القصير على تقدير حدوثه معلوم الارتفاع ، فلا وجه لجريان استصحاب الكلي مع كون منشئه وهو الفرد معدوما وجدانا أو تعبدا ، ووضوح أنه لا وجود للكلي إلّا بوجود فرده. هذا حاصل إشكال جريانه في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي.

(٣) خبر «وتردد» ودفع للإشكال ، ومحصله : أن اختلال ركني الاستصحاب بالتقريب المذكور في الإشكال يقدح في استصحاب الفرد من حيث كونه ذا مشخصات فردية ، لا من حيث كونه وجودا للكلي ، لما مر من عدم اليقين بحدوث الفرد الطويل وعدم الشك في بقاء الفرد القصير ، ولا يقدح في استصحاب الكلي ، لاجتماع أركانه فيه عرفا من اليقين بوجود الكلي والشك في بقائه ولو لأجل الشك في سنخ الفرد ، فانه لا يضر بوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة التي يدور عليها رحى الاستصحاب ، فانه يصح أن يقال : علم بوجود الكلي كالحيوان وشك في بقائه وان كان الشك في البقاء ناشئا من احتمال حدوث الفرد الطويل العمر (*).

(٤) متعلق بـ «ضائر» وضمير «ضمنه» راجع إلى «الخاصّ» وضمير «إخلاله» إلى «تردد» وضميرا «حدوثه ، بقائه» راجعان إلى الكلي ، يعني : أن تردد ذلك الخاصّ ... غير ضائر باستصحاب الكلي المتحقق في ضمن ذلك الخاصّ ، لعدم إخلال ذلك التردد باليقين والشك في حدوث الكلي وبقائه ، فيجري الاستصحاب في الكلي ويترتب عليه أثره ، لاجتماع أركانه ، فإذا علم بحدث مردد بين الأكبر والأصغر وتوضأ وشك في بقاء الحدث لاحتمال كونه أكبر لا يرتفع إلّا بالغسل استصحب

__________________

(*) قد تقدم من المصنف في حاشية الرسائل حل الإشكال بأن الطبيعي وفرده

٣٤١

عدم إخلاله باليقين والشك في حدوثه وبقائه ، وإنما كان التردد

______________________________________________________

كلي الحدث بناء على كون طبيعي الحدث موضوعا للحكم ، ورتب عليه آثاره من حرمة مس كتابة القرآن والدخول في الصلاة وغيرها مما يشترط فيه الطهارة. نعم لا يجري الاستصحاب في الفرد ، لأنه على تقدير لا يقين بالحدوث ، وعلى تقدير آخر لا شك في البقاء ، فينهدم أحد ركني الاستصحاب على سبيل منع الخلو.

__________________

وان كانا اثنين بالنظر العرفي ، لاقتضاء التوقف والعلية تعددهما ، فاستصحاب الفرد لترتيب آثار الكلي لا يخلو من شبهة الإثبات ، إلّا أنها تندفع بخفاء الواسطة بنظرهم المسامحي المتبع في أمثال المقام.

لكنه لا يخلو من تأمل ، أما أولا : فلمنع تعدد الطبيعي وفرده بلحاظ وجودها الخارجي عرفا ، لاقتضاء العينية اتحادهما ، إذ لا يرى العرف وجودا للطبيعة النوعية غير وجود أفرادها. مع أن حل الإشكال بعد تسليم التعدد بدعوى خفاء الواسطة لا يخلو من شيء كما سيأتي في التنبيه السابع إن شاء الله تعالى.

وأما ثانيا : فلمنع كفاية الإحالة إلى العرف في هذه المسألة ، ضرورة أن مرجعية نظرهم المسامحي إنما تكون في فهم مداليل الألفاظ الواردة في الخطابات الشرعية ، وتشخيص موضوعات الأحكام منها بحسب مرتكزاتهم ، كما في حكمهم بموضوعية ذات الماء لحكم الشارع بالانفعال في مثل «الماء المتغير نجس» حتى مع أخذ التغير بعنوان التوصيف لا الاشتراط ، واستظهارهم كون التغير علة لعروض النجاسة عليها.

ومن المعلوم أجنبية المقام عن ذلك ، إذ لا إجمال في مدلول قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» وإنما الكلام في دوران الكلي بعد فرض عينيته مع الفرد بين كونه مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، ولا وجود للكلي مع قطع النّظر عن وجود الفردين المعلوم حال كل منهما. وأما الفرد المردد بين الفردين فلو صحّ استصحابه لاجتماع أركانه فيه على ما قيل فهو أجنبي عن استصحاب القدر المشترك كما سيأتي تحقيقه في آخر التنبيه إن شاء الله تعالى.

٣٤٢

بين الفردين ضائرا باستصحاب أحد الخاصّين اللذين كان أمره مرددا بينهما ، لإخلاله (١) باليقين الّذي هو أحد ركني الاستصحاب كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) أي : لإخلال التردد ، وهذا تعليل لكون التردد ضائرا باستصحاب أحد

__________________

وبهذا يظهر غموض ما عن المحقق النائيني (قده) من «عدم ورود الإشكال بناء على كون الكلي عين وجود الفرد خارجا. وأما بناء على كونه منتزعا من وجود فرده فقد يشكل استصحاب الكلي حينئذ ، لتبعية الأمر الانتزاعي لمنشإ انتزاعه تبعية المعلول لعلته ، ولا معنى لكون الفرد مقطوع الارتفاع أو معلوم البقاء وما ينتزع عنه مشكوك البقاء ، لأنه من التفكيك بين العلة ومعلولها المستحيل. لكن يجاب عنه بكفاية النّظر المسامحي العرفي الحاكم بوجود الكلي الطبيعي ، وهذا المقدار كاف في جريان الاستصحاب قطعا» (١) وذلك لما عرفت من اعتبار النّظر العرفي في خصوص مفاهيم الألفاظ الملقاة إليهم ، لا في تطبيقها على الموضوعات مسامحة كتسامحهم في إطلاق الكر على ما دون المقدر الشرعي بمثقال مثلا.

وبالجملة : فعلى ما ذكرنا يشكل الالتزام باستصحاب الكلي.

ولهذا سلك المحقق الأصفهاني (قده) لدفع الإشكال مسلكا آخر أثبت فيه بقاء الكلي عقلا وصحة استصحابه ، وذلك بتصور لحاظين لكل فرد من أفراد الطبيعة ، فطبيعي الإنسان المركب من النّفس والبدن يلاحظ تارة بذاته وأخرى يلاحظ حصة من هذا الطبيعي متعينة بتعينات الزيدية مثلا ، وبهذا اللحاظ الثاني يتحقق ركنا الاستصحاب في نفس الطبيعة من اليقين والشك ، فيجري ، وعليك بمراجعة كلامه للوقوف عليه ولم ننقله لطوله (٢).

ولكن الظاهر عدم اندفاع الإشكال به ، لأن ما أفاده لا يخرج الطبيعي عن القوة إلى الفعل مع الغض عن التعينات الفردية ، ولا يثبت الوجود الفعلي للجامع بين الفردين أو الأفراد ، فلاحظ ما أفاده متدبرا فيه.

__________________

(١) أجود التقريرات ، ٢ ـ ٣٩١

(٢) نهاية الدراية ٣ ـ ٧٢ و ٧٣

٣٤٣

نعم (١) يجب رعاية التكاليف المعلومة إجمالا المترتبة على الخاصّين فيما علم تكليف في البين.

وتوهم (٢) كون الشك في بقاء الكلي الّذي في ضمن ذاك المردد

______________________________________________________

الفردين اللذين كان أمر الكلي دائرا بينهما ، ومحصل التعليل : أن تردد الفرد بين مقطوع البقاء ومعلوم الارتفاع يمنع عن حصول اليقين الّذي هو أول ركني الاستصحاب خصوصا مع كون الفرد الطويل العمر محكوما بالعدم للاستصحاب.

وبالجملة : فالتردد قادح في استصحاب الفرد دون الكلي ، وضمير «أمره» راجع إلى «الكلي» وضمير «بينهما» إلى «الخاصّين».

(١) استدراك على كون التردد ضائرا بجريان استصحاب أحد الخاصّين ، ومحصله : أن الاستصحاب وان لم يجر في شيء من الخاصّين حتى يثبت به الحكم المختص به ، لكنه إذا كان لهما أثر شرعي ، فلا بد من ترتيبه ، للعلم الإجمالي بوجوده الموجب لتنجزه ، فالرطوبة المرددة بين البول والمني مع عدم العلم بالحالة السابقة أو العلم بكونها هي الطهارة توجب الجمع بين الوضوء والغسل ، للعلم الإجمالي بخطاب مردد بينهما. وكذا يجب ترتيب سائر الآثار المختصة بكل منهما كغسلها مرتين ، لاحتمال كونها بولا ، وعدم اللبث في المساجد ، وعدم قراءة العزائم وغيرهما من أحكام الجنب لاحتمال كونها منيا.

وبالجملة : فالعلم الإجمالي بثبوت حكم لكل واحد من الخاصّين ـ مع عدم ما يصلح لتعيين أحدهما من أصل جار في نفسهما ، ولا في الكلي حتى يغني عنهما لكونه مثبتا ـ يوجب الاحتياط بترتيب أثر كل واحد من الخاصّين.

(٢) هذا إشكال آخر على جريان استصحاب الكلي في القسم الثاني ، وحاصله : أن استصحاب الكلي هنا محكوم بالاستصحاب السببي ، ومن المقرر في محله عدم جريان الأصل المسببي مع وجود الأصل السببي. توضيحه : أن الشك في بقاء الكلي وارتفاعه مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل العمر ، إذ الحادث لو كان

٣٤٤

مسببا عن الشك في حدوث الخاصّ المشكوك حدوثه (١) المحكوم بعدم الحدوث بأصالة عدمه (٢) فاسد (٣) قطعا ،

______________________________________________________

هو الفرد القصير عمره فارتفاع الكلي معلوم ولا شك في بقائه ، وحيث ان حدوث الحادث الطويل العمر مشكوك فيه وهو منشأ الشك في بقاء الكلي فيجري استصحاب عدمه ، وهو حاكم على استصحاب الكلي ، ومعه لا مجال لجريانه في الكلي ، لما سيأتي إن شاء الله تعالى من تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي.

والفرق بين هذا الإشكال وسابقه هو : أن ملاك السابق اختلال ركني الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، لأجل تردد الحادث بين معلوم البقاء ومعلوم الارتفاع. وملاك هذا الإشكال عدم جريان استصحاب الكلي ، لحكومة الأصل الجاري في حدوث الفرد عليه كسائر موارد تقدم الأصل السببي على المسببي.

(١) المفروض كونه طويل العمر ومنشأ للشك في بقاء الكلي ، وضمير «حدوثه» راجع إلى «الخاصّ».

(٢) أي : استصحاب عدمه ، لاجتماع ركنيه من اليقين والشك ، و «المحكوم» صفة لـ «الخاصّ» وضمير «عدمه» راجع إلى «الحدوث».

(٣) خبر «توهم» وقد دفع المصنف هذا التوهم بوجوه ثلاثة :

الأول : منع السببية التي تكون مانعة عن جريان الأصل في المسبب ، ويكون التوهم مبنيا عليها. وتوضيحه : أنه تارة يكون الشك في وجود شيء وعدمه ناشئا من الشك في وجود شيء معين وعدمه بحيث يستند وجوده وعدمه إلى ذلك المعين ، كالشك في طهارة المتنجس المغسول بالماء المستصحب الطهارة ، إذ الشك في طهارته نشأ من الشك في طهارة الماء ، فان استصحاب طهارة الماء يرفع الشك عن نجاسة المتنجس ، لنشو احتمال وجود طهارته عن الشك في طهارة الماء وعدمها ، واستصحابها يرفع الشك عن مسببه ويحكم بطهارة المتنجس المغسول به ، ولا يجري استصحاب نجاسة المتنجس ، لكون شكه مسببيا ، ومع جريان

٣٤٥

لعدم (١) كون بقائه وارتفاعه من لوازم حدوثه وعدم حدوثه ، بل من لوازم كون الحادث المتيقن ذلك المتيقن الارتفاع أو البقاء.

______________________________________________________

الأصل في الشك السببي وهو طهارة الماء لا يبقى للمسبب في وعاء التعبد شك حتى يجري فيه الأصل.

وأخرى يكون الشك في وجود شيء وعدمه ناشئا من وجود أحد شيئين لم يتعين عندنا ، فان كان وجوده مستندا إلى أحدهما الكذائي فقد ارتفع ، وان كان مستنداً إلى غيره فهو باق ، فان الأصل في هذا الفرض يجري في المسبب دون السبب ، حيث ان الاستصحاب في كل من المنشأين يسقط بالتعارض ، ويرتفع المانع عن جريانه في المسبب كما في المقام ، فان استصحاب عدم كل من القصير والطويل يجري ويسقط ، وتصل النوبة إلى الأصل المسببي وهو استصحاب نفس الكلي. فمرجع هذا الجواب الأول عن توهم كون المقام من صغريات الشك السببي والمسببي ـ وأن الأصل يجري في الحادث الطويل العمر دون الكلي ـ إلى إنكار السببية المانعة عن جريان الأصل في المسبب ، فالاستصحاب يجري في المسبب وهو الكلي بلا مانع.

(١) تعليل للفساد ، وإشارة إلى الجواب الأول ، وحاصله : ما عرفت من منع السببية ، حيث ان بقاء الكلي وارتفاعه ليس مستندا إلى وجود حادث معين حتى يتوقف بقاؤه وارتفاعه على حدوثه وعدم حدوثه كي يجري الاستصحاب في عدمه ، ويحكم بعدم الكلي ، ولا يجري استصحاب وجود الكلي ، بل الشك في البقاء والارتفاع مسبب عن الشك في وجود الكلي في ضمن ما هو مقطوع البقاء على تقدير حدوثه أو في ضمن ما هو مقطوع الارتفاع على فرض حدوثه ، ومع العلم الإجمالي بوجود أحد هذين الحادثين وعدم اعتبار الاستصحاب فيهما للمعارضة لا محيص عن جريان الأصل في نفس المسبب وهو الكلي ، فيستصحب بلا مانع ، وضميرا «بقائه ، ارتفاعه» راجعان إلى «الكلي» وضميرا «حدوثه» في كلا الموضعين إلى «الخاصّ».

ثم ان الشيخ (قده) تعرض لهذا الجواب بقوله : «فان ارتفاع القدر

٣٤٦

مع (١) أن بقاء القدر المشترك إنما هو بعين بقاء الخاصّ الّذي في ضمنه ، لا أنه (٢) من لوازمه.

______________________________________________________

المشترك من لوازم كون الحادث ذلك الأمر المقطوع الارتفاع ، لا من لوازم عدم حدوث الأمر الآخر» وغرضه أن ارتفاع الكلي ـ كالحدث ـ بالوضوء ليس من لوازم عدم حدوث الفرد الطويل العمر وهو المني حتى إذا جرى استصحاب عدمه اقتضى ذلك ارتفاع كلي الحدث ، بل من لوازم حدوث الفرد القصير العمر أعني البول ، ولا أصل يثبت هذا القصير ، بل الأصل بالنسبة إلى كل من الفردين على حد سواء فيجري فيهما ويسقط بالتعارض ، ويجري في بقاء الكلي بلا مانع.

(١) هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة التي دفع بها التوهم المزبور ، وهذا الوجه يرجع إلى منع السببية أيضا ببيان آخر ، وهو : أن السببية الموجبة لتقدم الأصل السببي على الأصل المسببي إنما تكون بين الملزوم ولازمه ، فتعدد اللازم والملزوم في الشك السببي والمسببي كما هو مبنى التوهم المزبور مما لا بد منه. وهذا مفقود في المقام ، لعدم مغايرة وجود الكلي لوجود الفرد ، وعدم كون وجوده من لوازم وجود الفرد حتى يكون استصحابه مغنيا عن استصحاب الكلي ، بل الكلي موجود بعين وجود الفرد. فملاك هذا الجواب عدم تعدد السبب والمسبب وجودا في المقام حتى يندرج في ضابط الشك السببي والمسببي ، كما أن ملاك الجواب المتقدم عدم جريان الأصل السببي ، للتعارض الموجب لجريان الأصل في المسبب. وضمير «ضمنه» راجع إلى «الخاصّ» يعني : الخاصّ الّذي يكون الكلي في ضمنه ، فحذف الضمير العائد إلى الموصول ، والعبارة هكذا «الّذي هو في ضمنه». وبالجملة : فبقاء الكلي عين بقاء الفرد الطويل العمر ، لا أنه لازمه حتى يتطرق فيه قاعدة الشك السببي والمسببي.

(٢) يعني : لا أن بقاء القدر المشترك من لوازم الخاصّ الطويل العمر حتى يندرج في كبرى الشك السببي والمسببي ، فضمير «أنه» راجع إلى «القدر المشترك» وضمير «لوازمه» إلى «الخاصّ».

٣٤٧

على أنه (١) لو سلّم (٢) أنه من لوازم حدوث المشكوك ، فلا شبهة في كون

______________________________________________________

(١) الضمير للشأن ، هذا ثالث وجوه دفع التوهم المزبور ، ومرجع هذا الوجه إلى تسليم كون الكلي من لوازم وجود الخاصّ المشكوك الحدوث وأنه من صغريات الشك السببي والمسببي ، والغض عن أن وجود الكلي عين وجود الفرد ، إلّا أنه مع ذلك لا يجري هنا الأصل في السبب حتى يغني عن جريانه في المسبب وهو الكلي ، لفقدان شرطه وهو كون المسبب من لوازم السبب شرعا كالمثال المعروف وهو طهارة الثوب المتنجس المغسول بماء مستصحب الطهارة ، فان طهارة الثوب حينئذ من آثار طهارة الماء شرعا ، فان الترتب هنا ليس شرعيا ، حيث ان وجود الكلي من لوازم وجود الفرد عقلا لا شرعا ، ولا محيص في إغناء الأصل السببي عن الأصل المسببي عن كون اللزوم شرعيا. وعليه فلا يغني جريان الأصل في الحادث الطويل العمر عن جريانه في الكلي.

ولا يخفى أن الترتب الطبعي يقتضي تقديم الجواب الثاني على الجوابين الآخرين ، بأن يقال : «فيه أولا : عدم الترتب والتعدد بين وجود الكلي والفرد حتى يندرج تحت ضابط السبب والمسبب. وثانيا : بعد تسليم الترتب وعدم العينية يتعارض الأصلان في الحادثين ويسقطان ، فيجري الأصل في المسبب وهو الكلي. وثالثا : بعد الغض عن التعارض لا يجري الأصل في حدوث الحادث الطويل العمر ، لفقدان شرطه وهو كون المسبب شرعيا ، إذ اللزوم هنا عقلي».

(٢) يعني : لو سلّم أن القدر المشترك من لوازم حدوث الخاصّ المشكوك الحدوث حتى يكون من صغريات قاعدة الشك السببي والمسببي ليجري الأصل في الفرد دون الكلي ، وأغمض عن الجواب الثاني ، وهو دعوى العينية على التفصيل الّذي عرفته آنفا (فلا يجدي) أيضا ، لفقدان الشرط وهو كون اللزوم شرعيا ، حيث ان عدم الكلي من لوازم عدم الفرد عقلا لا شرعا ، فإجراء الأصل في الفرد لا يمنع إجراءه في الكلي. وضمير «أنه» راجع إلى «القدر المشترك».

وهنا شبهات أخر لم يتعرض لها المصنف (قده) مثل : أن أصالة عدم حدوث

٣٤٨

اللزوم عقليا ، ولا يكاد يترتب بأصالة عدم الحدوث إلّا ما هو من لوازمه وأحكامه شرعا (١) (*).

______________________________________________________

الفرد الطويل العمر بضميمة العلم بعدم كل فرد تثبت عدم الكلي من دون أن يكون الأصل مثبتا ، لاندراجه في الموضوع المركب المحرز بعضه بالأصل وبعضه بالوجدان.

(١) يعني : أن شرط جريان الأصل في السبب ـ وهو كون المسبب من أحكام السبب شرعا كمثال غسل الثوب المتنجس بماء محكوم بالطهارة شرعا ـ مفقود هنا ، لما مر آنفا من أن ترتب الكلي على الفرد عقلي لا شرعي ، فمجرد تسليم اللزوم بين الكلي والفرد وإنكار العينية لا يمنع عن جريان الأصل في الكلي ، وضمير «هو» راجع إلى «ما» الموصول ، و «من» بيان للموصول ، وضميرا «لوازمه ، أحكامه» راجعان إلى حدوث المشكوك.

__________________

(*) مضافا إلى : أنه لو سلم كون الترتب شرعيا لم يجر الأصل أيضا في السبب أي عدم حدوث الفرد الباقي ، لمعارضته بأصالة عدم حدوث الفرد الزائل فيبقى استصحاب بقاء الكلي بلا مانع.

نعم لو اختص أحد الفردين بأثر زائد كان استصحاب عدم حدوث ذلك الفرد لنفي الأثر الزائد جاريا بلا معارض ، كما إذا تردد النجس الحادث بين كونه بولا يوجب الغسل مرتين ودما يوجبه مرة ، فأصالة عدم كونه بولا تنفي وجوب الغسلة الثانية ، ولا تتعارض مع أصالة عدم كونه دما ، لعدم اقتضائها لإثبات كون الحادث موجبا للغسل مرتين ، وبه يصير الأصل في الفرد حاكما على الأصل في الكلي. وعليه يتفاوت الحال بين مثل الحدث المردد بين الأصغر والأكبر والنجس المردد بين البول والدم.

وقد يشكل الفرق المزبور بما أفيد من اتحاد الصورتين حكما ، لتحقق المعارضة. أما بلحاظ أثر طبيعي النجاسة وهو وجوب الغسل المجتمع مع الغسل مرة والغسل مرتين أو أكثر ، فلمنافاة العلم بأصل وجوب الغسل مع أصالة عدم ما يوجبه

٣٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة : فالمصنف كالشيخ (قدهما) قائل بجريان استصحاب الكلي في كل من القسم الأول والثاني ، بل الشيخ نسب جريانه في القسم الثاني إلى المشهور ،

__________________

مرة وأصالة عدم ما يوجبه مرتين. وأما بلحاظ كل من الخصوصيّتين فلأن أثر البول عدم كفاية الغسل مرة ، وأثر الدم جواز الاكتفاء به مرة. وليست الغسلة الأولى هي المتيقنة حتى ينفي الزائد عليها بالأصل ، وذلك لاندراج المقام في المتباينين لا الأقل والأكثر ، ضرورة عدم كون أثر الدم وجوب الغسل مرة المجتمع مع جواز الاكتفاء به وعدم جواز الاكتفاء به ، لأنه أثر طبيعي النجس. وأما أثر الدم فهو وجوب الغسل اللابشرط القسمي المساوق لجواز الاكتفاء فيه بمرة ، ومن المعلوم أنه مباين للغسل بشرط شيء ، لتقابل التعين اللابشرط القسمي مع بشرط شيء ، وليس أحدهما متيقنا بالإضافة إلى الآخر (١).

لكن يمكن أن يقال : ان وجوب الغسل مرة في الدم وان كان لا بشرط تعقبه بغسلة ثانية ، إلّا أن الاكتفاء بالمرة إنما يستفاد من إطلاق الأمر بطبيعة الغسل وعدم تقيده بمرتين كما قيّد بهما في تطهير المتنجس بالبول ، فالمطلوب حينئذ هو صرف الوجود من الغسل المنطبق على أول وجوداته ، فاندراج المقام في المتباينين بلحاظ تقابل الاعتبارات منوط بكون اللابشرط مأخوذا في الأمر بتطهير المتنجس بالدم ، مع أن إطلاق الأمر يقتضي كون المأمور به طبيعي الغسل في قبال المتنجس بالبول الّذي ورد فيه الأمر بغسله مرتين ، وحينئذ فيندرج المقام في الأقل والأكثر ، لكون التعدد قيدا زائدا على مطلوبية أصل الطبيعة ، فلا مانع من إجراء الأصل لنفي الأثر المختص بأحد الفردين ، هذا.

مضافا إلى : استلزام هذا البيان إنكار جريان الأصل في الأقل والأكثر مطلقا ، لصيرورة الطرفين بلحاظ اعتبار اللابشرط وبشرط شيء من المتباينين ، ولازم العلم الإجمالي بالتكليف في أحدهما هو الاشتغال لا البراءة عن الأكثر.

__________________

(١) نهاية الدراية ، ٣ ـ ٧٦

٣٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

حيث قال : «وأما الثاني فالظاهر جواز الاستصحاب في الكلي مطلقا على المشهور ... سواء كان الشك من جهة الرافع ... أم كان الشك من جهة المقتضي ... إلخ» (*) لكنه لا يلتزم بحجية الاستصحاب في الشك في المقتضي.

__________________

وإلى : أن اعتبارات الماهية من اللابشرطية وأخويها أجنبية عن باب الظهورات العرفية التي يستظهرها أبناء المحاورات من الألفاظ ، كأجنبية بعض القواعد المنطقية عن باب الظهورات ، نظير كون نقيض السالبة الكلية الموجبة الجزئية ، ولذا لا تلاحظ هذه القاعدة في قوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء» كما لا يخفى.

(*) لا يخفى أن الشيخ (قده) مثّل للقسم الثاني من استصحاب الكلي في صورة كون الشك في الرافع بما إذا علم بخروج البول أو المني ولم يعلم الحالة السابقة ، وحكم باستصحاب الحدث إذا أتى بإحدى الطهارتين. ولا بأس بالتعرض لهذا الفرع تفصيلا ، فنقول وبه نستعين : إذا خرجت رطوبة مرددة بين البول والمني فالصور المتصورة فيها أربع :

الأولى : أن تكون الحالة السابقة معلومة وهي الحدث الأصغر ، وحكمها وجوب الوضوء ، لاستصحاب الحدث الأصغر ، وعدم وجوب الغسل ، لاستصحاب عدم الجنابة. والعلم الإجمالي بالحدث المردد بين الأكبر والأصغر حينئذ لا أثر له ، لفقدان شرط تنجيزه وهو كونه موجبا للعلم بتكليف فعلي في ظرف انطباق المعلوم بالإجمال على أي واحد من الأطراف على التفصيل المتقدم في محله ، وذلك لأن الرطوبة المشتبهة ان كانت بولا فلا توجب تكليفا جديدا ، فهذا العلم الإجمالي لتردد معلومه بين ما له الأثر وهو المني وما لا أثر له وهو البول لا يوجب تكليفا جديدا على كل تقدير حتى يكون منجزا له ، فحال هذا العلم الإجمالي حال الشك البدوي في أصل خروج المني من العلم بالحدث الأصغر أو تردد الرطوبة الخارجة بين المني وغيره من المذي والودي في عدم الإيجاب لتكليف فعلي.

٣٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الصورة الثانية : أن تكون الحالة السابقة المعلومة هي الحدث الأكبر ، والعلم الإجمالي لا أثر له أيضا سواء أكانت الرطوبة منيا أم بولا. أما على الأول فلأنه لا أثر لخروج المني مع سبق الجنابة. وأما على الثاني فلأنه لا يوجب الوضوء مع الجنابة التي لا ترتفع إلّا بالغسل ، ولا أثر للوضوء معها أصلا.

وبالجملة : فالمعلوم بالإجمال ان كان منطبقا على المني فلا يترتب عليه أثر جديد ، لوجوب الغسل عليه قبل خروج هذه الرطوبة ، وان كان منطبقا على البول فكذلك ، إذ لا أثر للبول في حال الجنابة التي ينحصر رافعها في الغسل.

فالنتيجة : أن استصحاب كلي الحدث لا يجري في شيء من هاتين الصورتين.

الصورة الثالثة : أن تكون الحالة السابقة المعلومة هي الطهارة سواء أكانت هي الكبرى أم الصغرى ، والعلم الإجمالي هنا منجز ، لترتب الحكم الفعلي على المعلوم بالإجمال على كل تقدير سواء انطبق على المني أم على البول ، ضرورة حصول العلم بالحدث وانتقاض الطهارة به ، ولا يحصل القطع بالطهارة إلّا بالجمع بين الغسل والوضوء ، فالشك في ارتفاع الحدث بعد فعل أحدهما يكون مجرى الاستصحاب ، ففي هذه الصورة يجري استصحاب الكلي ، ويترتب عليه كل أثر يترتب على كلي الحدث ، دون الآثار المترتبة على كل واحدة من الخصوصيّتين.

وتوهم عدم جريان استصحاب الكلي في هذه الصورة أيضا ، لأجل وجود أصل حاكم عليه وهو استصحاب عدم الجنابة ، حيث انه بعد خروج الرطوبة يحصل له العلم بانتقاض وضوئه بها على كل تقدير ، ويشك في بطلان طهارته الكبرى ، فيجري الاستصحاب في بقائها من دون معارض ، إذ لا شك في انتقاض الوضوء حتى يجري في بقائه الأصل ، فاسد أما أولا : فلأن الكلام ليس في خصوص ما إذا كانت الطهارة هي الوضوء ، بل أعم من كونها هي الوضوء أو الغسل.

وأما ثانيا : فلأن العلم التفصيليّ بانتقاض الوضوء وان كان مما لا إشكال فيه ، لكنه لا يوجب العلم التفصيليّ بكون الناقض بولا حتى لا يجب الاحتياط بالجمع

٣٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بين الوضوء والغسل على ما يقتضيه العلم الإجمالي بكون الرطوبة بولا أو منيّا ، ويكتفي بالوضوء في رفعه ، لأن الاكتفاء به منوط بإثبات كون الرطوبة المرددة بين البول والمني هي البول ، ومن المعلوم أن استصحاب عدم الجنابة لا يصلح لإثبات ذلك إلّا على القول بالأصل المثبت. وعليه فلو بني على جريان أصالة عدم الجنابة جرت أصالة عدم الحدث الأصغر أيضا.

وان شئت فقل : ان الأصل بالنسبة إلى كل من البول والمني على حد سواء ، وسقوطهما بالتعارض يوجب جريان استصحاب كلي الحدث ، ومقتضاه لزوم الجمع بين الوضوء والغسل ، إذ ليس في البين ما يوجب كون المعلوم بالإجمال بولا حتى يتعين الوضوء ، فلا محيص لتحصيل العلم بارتفاع الحدث عن الجمع بينهما.

نعم يمكن منع جريان استصحاب الكلي هنا ، بأن يقال : ان هذا من موارد قاعدة الاشتغال دون الاستصحاب ، لأن الأثر وهو لزوم الإتيان بالوضوء والغسل إنما هو بحكم العقل الّذي تقتضيه قاعدة الاشتغال ، ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب ، وكذا الحال في الصورة الآتية.

هذا بناء على ما هو الحق من مرجعية قاعدة الاشتغال في موارد الشك في الفراغ ، لترتب الأثر على نفس الشك ، وعدم جريان الاستصحاب فيها لإحراز الواقع تعبدا ، لكونه من أردإ وجوه تحصيل الحاصل. وأما بناء على ما اختاره بعض الأعاظم من الرجوع إلى الاستصحاب في نظائره (١) فإذا توضأ وجب عليه الغسل شرعا ، لاستصحاب بقاء كلي الحدث ، لا لقاعدة الشغل المقتضية لوجوب الغسل عقلا ، لحكومة الاستصحاب عليها ، فاللازم التمسك باستصحاب كلي الحدث أيضا في هذا الفرض ، لا الرجوع في الجمع بين الوضوء والغسل إلى العلم الإجمالي. وعليه فما أفاده مد ظله من إنكار استصحاب الكلي ، لكفاية قاعدة

__________________

(١) مصباح الأصول ، ٣ ـ ١٠٥

٣٥٣

وأما (١) إذا كان الشك في بقائه من جهة الشك في قيام خاص آخر

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «فان كان الشك في بقاء ذلك العام» ومقتضى السياق إبدال «وأما إذا» بـ «وان كان الشك ... إلخ» وكيف كان فقد أشار بهذه العبارة إلى ثالث أقسام استصحاب الكلي ، وهو أن يكون الشك في بقاء الكلي

__________________

الاشتغال لا يلتئم مع مبناه ، فلاحظ.

الصورة الرابعة : أن تكون الحالة السابقة مجهولة ، والحكم فيها هو لزوم الجمع بين الوضوء والغسل أيضا ، لاستصحاب كلي الحدث بعد تعارض الاستصحابين في البول والمني ، حيث ان الأصل عدم حدوث سبب الغسل والوضوء ، ومن المعلوم تعارضه في كل منهما.

فتلخص من جميع ما ذكرناه : أن استصحاب الكلي يجري في الصورتين الأخيرتين ، دون الأوليين.

ثم انه قد ظهر مما ذكرنا : أن استصحاب الكلي يجري فيما لم يكن هناك أصل يعين أحد الأفراد بعينه ، كما إذا كانت الحالة السابقة المعلومة هي الحدث الأصغر ، فان استصحابه يمنع جريان الاستصحاب في كلي الحدث ، لكون الأصغر متيقنا فيستصحب ، والحدث الأكبر مشكوك فيه بالشك البدوي.

ولا فرق فيما ذكرناه ـ من عدم جريان استصحاب الكلي في الحدث مع تعين أحد أفراد الكلي بالأصل ـ بين كون الحدث الأكبر والأصغر من قبيل المتضادين بحيث يمتنع اجتماعهما ، وكونهما حقيقة واحدة مع اختلافهما في الشدة والضعف كما قيل بذلك في الوجوب والاستحباب ، وكونهما متخالفين كالسواد والحلاوة وغيرهما مما يمكن اجتماعهما ، فان الأصل يجري في الفرد المتيقن حدوثه ، ولا يجري الاستصحاب في الكلي ، فيصح أن يقال علي الوجه الأول : الأصل عدم تبدل الأصغر بالأكبر ، وعلى الثاني : الأصل عدم حدوث المرتبة الشديدة ، وعلى الثالث : الأصل عدم اجتماع الأكبر والأصغر ، وينبغي أن يكون ذلك أي عدم جريان استصحاب الكلي مع تعين الفرد بالأصل ضابطا مطردا في جميع الموارد.

٣٥٤

في مقام ذاك الخاصّ الّذي كان في ضمنه بعد القطع بارتفاعه (١) ففي (٢) استصحابه إشكال (٣)

______________________________________________________

ناشئا من احتمال وجود فرد آخر غير الفرد المعلوم الحدوث والارتفاع ، وهو على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون وجود مشكوك الحدوث مقارنا لوجود متيقن الارتفاع ، كما إذا علم بوجود الإنسان في ضمن زيد وشك في وجود عمرو معه أيضا بحيث لو كان موجودا لكان كلي الإنسان باقيا في ضمنه بعد انعدام زيد.

ثانيها : أن يكون وجوده مقارنا لارتفاع وجود معلوم الحدوث والزوال ، كما إذا فرض في المثال احتمال وجود عمرو حين ارتفاع زيد ، لا قبله ، بحيث لو وجد عمرو كان طبيعي الإنسان باقيا في ضمنه.

ثالثها : أن يكون الشك في وجود الكلي ناشئا من الشك في تبدل الفرد المعلوم الزوال بفرد آخر ، كما في الكلي المشكك كاللون القابض للبصر إذا وجد في ضمن سواد شديد وزال قطعا ، وشك في أنه هل زال رأسا ولم يبق منه شيء أم بقيت منه مرتبة ضعيفة؟ وهذا أيضا على نحوين :

أحدهما : كون المرتبة المشكوكة فردا مباينا لما ارتفع قطعا عند العرف وان كان بالدقة العقلية من مراتب حقيقة واحدة ، كتبدل الاحمرار بالاصفرار اللذين هما متباينان عرفا.

ثانيهما : كونهما بنظر العرف أيضا من مراتب حقيقة واحدة كالسواد الشديد والضعيف.

(١) هذا الضمير وضمير «ضمنه» راجعان إلى «ذاك الخاصّ» وضميرا «بقائه» والمستتر في «كان» راجعان إلى الكلي.

(٢) جواب «وأما» وضمير «استصحابه» راجع إلى الكلي.

(٣) ناش من صدق الشك في بقاء الكلي وان لم يصدق ذلك بالنسبة إلى الفرد ، لرجوع الشك فيه إلى الحدوث دون البقاء ، فيجري فيه استصحاب الكلي ،

٣٥٥

أظهره (١) عدم جريانه ،

______________________________________________________

لاجتماع ركنيه وهما اليقين بالحدوث والشك في البقاء. ومن عدم صدق الشك في البقاء حقيقة ، ضرورة أنه يعتبر في صدقه أن يكون الموجود بقاء عين الموجود حدوثا مع اختلافهما زمانا فقط ، كعدالة زيد المعلومة يوم الجمعة المشكوكة يوم السبت ، ومن المعلوم انتفاء هذا الشرط في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، ضرورة أن وجوده المتحقق في ضمن الفرد المعلوم حدوثه مقطوع الارتفاع ، ووجوده في ضمن فرد آخر مشكوك الحدوث ، فاليقين تعلق بوجود ليس مشكوك البقاء ، والشك تعلق بوجود ليس معلوم الحدوث ، فأركان الاستصحاب مختلة.

وان شئت فقل : ان وجود الكلي في ضمن فرد غير وجوده في ضمن فرد آخر. وهذا الوجه الّذي جعله المصنف (قده) أظهر وجهي الإشكال يوجب عدم جريان استصحاب الكلي في القسم الثالث.

(١) هذا تعريض بما قوّاه شيخنا الأعظم (قده) من جريان الاستصحاب في الوجه الأول من وجوه القسم الثالث ، قال : «وأما الثالث وهو ما إذا كان الشك في بقاء الكلي مستندا إلى احتمال وجود فرد آخر غير الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه ، فهو على قسمين ، لأن الفرد الآخر إما أن يحتمل وجوده مع ذلك الفرد المعلوم حاله ، وإما يحتمل حدوثه بعده إما بتبدله إليه ، وإما بمجرد حدوثه مقارنا لارتفاع ذلك الفرد ، وفي جريان الاستصحاب في كلا القسمين ... وعدم جريانه ... أو التفصيل بين القسمين فيجري في الأول لاحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقا ... وجوه ، أقواها الأخير».

ومحصل ما استدل به على جريان الاستصحاب في القسم الأول : أنه إذا علم بوجود فرد من طبيعة الإنسان مثلا في الدار بدخول زيد فيها ، واحتمل دخول عمرو فيها أيضا مقارنا لدخول زيد ، ثم خرج زيد في الساعة الثانية ، فان خروجه من الدار يوجب الشك في بقاء الطبيعي ببقاء حصة أخرى منه فيها ، واليقين بخروج زيد لا يوجب

٣٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

اليقين بانتفاء طبيعي الإنسان في الدار ، لكونه يقينا بخروج حصة خاصة ، واحتمال بقاء الواحد النوعيّ ببقاء فرد آخر منه احتمل تحققه في الدار مقارنا لدخول زيد فيها موجود فيستصحب. وهذا بخلاف ما إذا احتمل حدوث فرد آخر من الكلي مقارنا لارتفاع الفرد المقطوع به ، فان الكلي الّذي كان في ضمن الفرد المعلوم وجوده قد ارتفع قطعا ، وإنما المحتمل حدوث وجود آخر مضاف إلى الطبيعة النوعية ، ومقتضى الأصل عدمه. والمصنف أورد عليه في الحاشية كما في المتن بما عرفت توضيحه من اختلال ركن الاستصحاب (*).

وبما أفاده ظهر الفرق بين القسم الثاني والثالث ، وأن القول بجريان الاستصحاب هناك لا يقتضي القول به في هذا القسم ، لوضوح اجتماع أركانه في القسم الثاني ، للقطع بوجود الكلي بتحقق فرده ، والشك في ارتفاعه للشك في كونه موجودا بوجود فرده القصير أم الطويل ، فالمتيقن هو المشكوك فيه حقيقة ، بحيث لو ارتفع الشك وتبين وجوده في الزمان الثاني لم يكن الموجود بالفعل مغايرا لما تيقنه سابقا.

وهذا بخلاف القسم الثالث ، فان الطبيعي الموجود بوجود فرده المعلوم قد علم ارتفاعه ، وما هو محتمل البقاء وجود الكلي المتخصص بخصوصية أخرى لا علم لنا بها ، ولو فرض وجود هذا الفرد الثاني لم يكن الكلي المتحقق به ذاك

__________________

(*) مضافا إلى : أن المورد من موارد الشك في المقتضي كما اعترف به ، وهو لا يرى حجية الاستصحاب فيه. وإلى : أنه مثبت ، إذ لازم حجية الاستصحاب هنا هو وجود الكلي في ضمن الفرد المشكوك حدوثه. وتوجيه جريانه مع كونه شكا في المقتضي بأنه على مذهب المشهور توجيه بما لا يرضى به صاحبه. وعليه فالحق هو ما اختاره المصنف من عدم جريان الاستصحاب في شيء من أقسام القسم الثالث من استصحاب الكلي إلّا فيما يعد المتيقن والمشكوك واحدا عرفا ، هذا.

٣٥٧

فان (١) وجود الطبيعي وإن كان بوجود فرده ، إلّا أن وجوده في ضمن

______________________________________________________

الموجود الّذي تيقنا به سابقا ، لمباينة كل حصة من الطبيعة في ضمن فرد مع حصة أخرى منها متحققة في ضمن فرد آخر منها ، ومن المعلوم عدم كون مجموع وجودات الأفراد وجودا شخصيا بالنسبة إلى الكلي ، ضرورة أنه يوجد في كل فرد بوجود على حدة غير ما هو موجود بالفرد الآخر كما تقرر من أن نسبة الكلي الطبيعي إلى كل فرد نسبة أب إلى ابنه لا نسبة أب واحد إلى أبناء متعددة.

وعليه فالحق منع تفصيل شيخنا الأعظم (قده) وصحة القول بعدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث بجميع أنحائه إلّا فيما إذا كان المشكوك فيه على تقدير بقائه من مراتب المتيقن السابق كالسواد الضعيف الّذي هو من مراتب السواد.

(١) هذا إشارة إلى وجه ما اختاره من عدم الجريان ، ومحصله ما تقدم آنفا من : أنه يعتبر في جريان الاستصحاب أن يكون الشك في بقاء ما علم حدوثه بأن يكون وجوده البقائي عين وجوده الحدوثي من دون تفاوت بينهما إلّا في الزمان ، ومن المعلوم أن الكلي لا وجود له إلّا بوجود فرده ، فإذا علم بوجوده في ضمن فرد وقطع بارتفاع ذلك الفرد فقد علم لا محالة بارتفاع الكلي أيضا.

واحتمال وجوده في ضمن فرد آخر ليس بقاء لذلك الوجود ، إذ المفروض العلم بارتفاعه بسبب ارتفاع الفرد الّذي تحقق الكلي في ضمنه ، بل الفرد الآخر على تقدير وجوده وجود آخر للكلي مغاير لوجوده في ضمن الفرد المعلوم الارتفاع ، وليس وجودا بقائيا له ، لاختلاف أنحاء وجودات الطبيعة وتباينها بتعدد أفرادها ، ومع عدم كون هذا الاحتمال شكا في بقاء الكلي المعلوم الارتفاع كيف يجري فيه الاستصحاب؟ وضمائر «فرده ، وجوده ، أفراده ، له» راجعة إلى الطبيعي ، وضمير «تعددها» راجع إلى «أفراده» وقوله : «ليس» خبر «فان» وهذا منشأ عدم صدق الشك في بقاء الكلي. وقوله : «فلو قطع» متفرع على اختلاف أنحاء وجود الطبيعي باختلاف أفراده وتعددها ، وهذا الاختلاف يوجب

٣٥٨

المتعدد من أفراده ليس من نحو وجود واحد له (١) بل متعدد حسب تعددها ، فلو قطع بارتفاع ما علم وجوده منها لقطع بارتفاع وجوده منها (٢) وإن (٣) شك في وجود فرد آخر مقارن (٤) لوجود ذاك الفرد أو لارتفاعه (٥) بنفسه (٦) أو بملاكه (٧) كما إذا شك في

______________________________________________________

القطع بارتفاع الكلي بسبب ارتفاع الفرد الّذي تحقق في ضمنه كما في هذا القسم الثالث ، إذ المفروض القطع بارتفاع الفرد المعلوم الحدوث.

(١) أي : للطبيعي حتى يجري الاستصحاب باعتبار هذا الوجود الواحد ، بل يتعدد وجود الطبيعي بتعدد وجود أفراده ، وقوله : «بل متعدد» معطوف على «ليس».

(٢) أي : من الأفراد ، وضمير «وجوده» الثاني راجع إلى «الطبيعي» وضمير «وجوده» الأول راجع إلى «ما» الموصول ، و «منها» مبيّن للموصول ، وضميره راجع إلى «أفراده».

(٣) وصلية ، وغرضه بيان أن الشك في وجود فرد آخر من الكلي مع القطع بارتفاع الفرد الأول ليس شكا في بقاء الكلي حتى يجري فيه الاستصحاب ، بل هو شك في الحدوث ، والأصل عدمه.

(٤) هذا إشارة إلى القسم الأول من أقسام القسم الثالث من استصحاب الكلي وقد تقدم بقولنا : «أحدها : أن يكون وجود مشكوك الحدوث مقارنا ... إلخ».

(٥) معطوف على «لوجود» وهذا إشارة إلى القسم الثاني من تلك الأقسام وقد مر ذلك بقولنا : «ثانيها : أن يكون وجوده مقارنا لارتفاع وجود معلوم الحدوث».

(٦) متعلق بقوله : «وجود فرد آخر».

(٧) معطوف على «بنفسه» يعني : وان شك في وجود فرد آخر مقارن لوجود الفرد المعلوم الحدوث والزوال أو مقارن لارتفاع ذلك المعلوم الارتفاع سواء

٣٥٩

الاستحباب (١) بعد القطع بارتفاع الإيجاب

______________________________________________________

أكان المشكوك الحدوث نفس وجود الفرد فقط مع العلم بملاكه ، أم هو مع ملاكه فيظهر من العبارة صور ثلاث :

إحداها : احتمال وجود الفرد الآخر مقارنا لوجود الفرد المعلوم الارتفاع ، وفي هذه الصورة يتعلق الشك بنفس الفرد فقط دون ملاكه ، إذ لا يتصور وجود الفرد كالاستحباب مثلا بدون ملاك.

ثانيتها : احتمال وجوده مقارنا لارتفاع المعلوم الزوال ، وهذا يتصور على وجهين :

أحدهما : كون المشكوك فيه وجود الفرد فقط ، للعلم بملاكه ذاتا لا حدّا في ضمن ملاك الفرد المرتفع.

ثانيهما : كون المشكوك فيه كلّا من الفرد وملاكه ، بأن يكون ملاكه حادثا معه ، فالشك في وجود فرد آخر مقارن لارتفاع ذلك الفرد ينقسم إلى هذين القسمين.

وقد ظهر مما ذكرنا : أن الباء في «بملاكه» بمعنى «مع» فكأن العبارة هكذا : «وان شك في وجود فرد آخر ... بنفسه أو مع ملاكه» فقوله : «بنفسه أو بملاكه» إشارة إلى أن القسم الثاني ـ وهو الشك في حدوث فرد آخر مقارن لارتفاع الفرد المعلوم الحدوث ـ ينقسم إلى قسمين :

أحدهما : أن يكون الشك في نفسه ، دون ملاكه ، كما إذا علم بوجوده بنحو الاندكاك في ملاك الفرد المعلوم الزوال.

والآخر : أن يكون الشك في حدوث كل من الفرد وملاكه حين ارتفاع الفرد المعلوم.

(١) هذا مثال للقسم الثاني ، وهو ما إذا كان الشك في حدوث الفرد مقارنا لارتفاع الفرد المعلوم ، إذ المفروض حصول الشك في حدوث الاستحباب مقارنا للقطع بارتفاع الإيجاب.

٣٦٠