منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

وأنه (١) لا إشكال في جريان الاستصحاب في الوضع المستقل بالجعل. حيث انه كالتكليف (٢). وكذا ما كان مجعولا بالتبع (٣) ، فان أمر وضعه ورفعه بيد الشارع ولو بتبع منشأ انتزاعه (٤). وعدم (٥) تسميته حكما شرعيا ـ لو سلم غير ضائر بعد كونه مما تناله يد التصرف شرعا.

______________________________________________________

(١) معطوف على «أنه لا مجال» وقد عرفت توضيحه ، وضمير «أنه» للشأن.

(٢) في جريان الاستصحاب فيه بالبداهة ، فان القسم الثالث مجعول بالأصالة ، وضمير «أنه» راجع إلى «الوضع».

(٣) وهو القسم الثاني من الأقسام التي ذكرها في الأحكام الوضعيّة ، ولذا أجرى المصنف البراءة الشرعية في الجزئية في بحث الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأنها مما تنالها يد الجعل ولو تبعا لجعل منشأ انتزاعها.

(٤) هذا الضمير وضميرا «وضعه ، رفعه» راجعة إلى الموصول في «ما كان» المراد به الحكم الوضعي ، وحاصله : أن الجزئية يجري فيها الاستصحاب وجودا وعدما باعتبار منشأ انتزاعها وهو الأمر الضمني المتعلق بالسورة مثلا.

(٥) مبتدأ خبره «غير ضائر» وهو إشارة إلى توهم ودفعه. أما التوهم فحاصله : أن عدم تسمية المجعول التبعي ـ كالجزئية للمأمور به ـ حكما شرعيا في الاصطلاح يقدح في جريان الاستصحاب فيه. وأما الدفع فملخصه : أن ذلك غير قادح في جريانه ، لأن مناط صحة جريانه ليس هو صدق الحكم اصطلاحا على المستصحب بل مناطها هو كونه مما يؤخذ من الشارع وان لم يصدق عليه الحكم اصطلاحا كالماهيات المخترعة الشرعية كالصلاة والحج وغيرهما ، ضرورة جريان الأصول العملية فيها مع عدم صدق الحكم عليها.

هذا مضافا إلى أن منع صدق الحكم على كل ما يكون أمر وضعه ورفعه بيد الشارع غير مسلّم وإليه أشار بقوله : «لو سلم.

٣٠١

نعم لا مجال لاستصحابه (١) لاستصحاب سببه ومنشأ انتزاعه (٢) ، فافهم (٣).

______________________________________________________

(١) أي : لاستصحاب ما كان مجعولا بالتبع ، وهذا استدراك على جريان الاستصحاب في المجعول التبعي ، وحاصله : أن الاستصحاب وان لم يكن مانع من جريانه فيه ، إلّا أنه لا تصل النوبة إلى جريانه فيه ، لوجود الأصل الحاكم وهو استصحاب الحكم التكليفي الّذي ينتزع عنه الجزئية ونحوها.

(٢) هذا الضمير وضمير «سببه» راجعان إلى المجعول التبعي ، والمراد بالسبب ومنشأ الانتزاع هو الحكم التكليفي كما عرفت آنفا.

(٣) لعله إشارة إلى جريان الاستصحاب في المجعول التبعي إذا كان للأصل الحاكم معارض يمنع عن جريانه في السبب كاستصحاب عدم وجوب الأقل نفسيا المعارض لاستصحاب عدم وجوب الأكثر كذلك ، فانه يجري حينئذ استصحاب عدم جزئية المشكوك بلا مانع إذا فرض ترتب أثر شرعي على هذا الاستصحاب في نفسه ، وإلّا فلا ، كما إذا قلنا ان الجزئية ونحوها من الأمور الانتزاعية ليست موضوعات للآثار ، لعدم قيام المصلحة بأمر انتزاعي. وعلى هذا فيكون المجعول التبعي كالقسم الأول وهو السببية ونحوها للتكليف في عدم جريان الاستصحاب فيه.

٣٠٢

ثم ان هاهنا تنبيهات (١)

الأول (٢) : أنه يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك واليقين

______________________________________________________

(تنبيهات الاستصحاب)

(١) لمّا فرغ المصنف (قده) من الاستدلال على القول المختار تعرض تبعا للشيخ الأعظم (قده) لتنبيهات الاستصحاب الباحثة إما عن أحوال اليقين والمتيقن كالستة الأول ، وإما عن أحوال الشك كالتنبيه الرابع عشر وغيره ، وإما عن الأثر العملي المترتب على الاستصحاب كالتنبيه السابع والثامن والتاسع. لكنه (قده) خالف الشيخ في عدد التنبيهات والأمور المبحوث فيها ، لأنه أسقط ما عنونه الشيخ في التنبيه الثالث ـ من عدم جريان الاستصحاب في المستقلات العقلية ـ تعويلا على ما أفاده في أوائل الاستصحاب من عدم الفرق في جريانه في الحكم الشرعي بين أن يكون مستنده النقل أو قاعدة الملازمة. كما أن الماتن زاد التنبيه الأول والثاني والعاشر ، فبلغ المجموع عددا ميمونا وهو أربعة عشر تنبيها. وعلى كل فهذه التنبيهات تتضمن مطالب هامة لا يسع الطالب إهمالها والغض عنها.

(التنبيه الأول : اعتبار فعلية الشك واليقين)

(٢) غرضه من هذا الأمر بيان اعتبار فعلية اليقين والشك اللذين هما ركنا الاستصحاب ، وعدم كفاية وجودهما التقديري فيه ، فهذا التنبيه متكفل لأصل وهو اعتبار فعلية اليقين والشك ، وفرع وهو الحكم بصحة صلاة من أحدث ثم غفل وصلى وشك بعد الفراغ في أنه تطهر أم لا.

وتعرض الشيخ الأعظم في خامس الأمور التي قدّمها على ذكر الأقوال لاعتبار فعلية الشك ، قال (قده) : «ثم المعتبر هو الشك الفعلي الموجود حال الالتفات

٣٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

إليه ، أما لو لم يلتفت فلا استصحاب وان فرض الشك فيه على تقدير الالتفات». ويفهم اعتبار فعلية اليقين مما ذكره في ثاني الأمور التي تعرض لها في خاتمة الاستصحاب ، حيث قال : «الأمر الثاني مما يعتبر في تحقق الاستصحاب أن يكون في حال الشك متيقنا لوجود المستصحب في السابق حتى يكون شكا في البقاء» فان هذه العبارة وان كانت ناظرة إلى جهة أخرى وهي عدم سراية الشك إلى نفس المتيقن كما هو حال قاعدة اليقين ، لكنها تدل على تسلم وجود اليقين حال الشك في البقاء في تحقق الاستصحاب. بل التعبير بالتحقق كما في عبارة الرسائل أولى من التعبير بالشرط كما في المتن «يعتبر في الاستصحاب» ضرورة تقوم الاستصحاب بذلك كتقوم منجزية العلم الإجمالي بكونه علما بحكم فعلي ، وتقوم كل حكم بوجود موضوعه.

وقد سبقهما صاحب الفصول في التنبيه على هذا الأمر ، فقال في جملة ما أورده على كلام الفاضل السبزواري تاركا للتعرض لما يتفرع على اعتبار فعلية اليقين والشك ما لفظه : «ان اليقين في أخبار الباب ظاهر في اليقين الفعلي لا التقديري وكذلك الظاهر من عدم نقضه بالشك عدم نقضه بالشك المتعلق به تعلقا فعليا لا تقديريا».

وكيف كان فتوضيح المتن منوط بالإشارة إلى أمور مسلمة :

أحدها : أن كل حكم تابع لوجود موضوعه حدوثا وبقاء حتى قيل : «ان فعلية الحكم ـ أي وجوده ـ بوجود موضوعه» فلا حكم بدونه.

ثانيها : أن الشك واليقين وكذا الظن من الحالات الوجدانية والصفات النفسانيّة التي لا يعقل تحققها للغافل ، بداهة أن الإنسان في حال الغفلة لا يصدق عليه العالم ولا الظان ولا الشاك ، بل يصدق عليه نقيضها ، وإلّا يلزم ارتفاع النقيضين أو اجتماعهما ، ومن المعلوم أن فعلية هذه الصفات عين وجودها ، وعدم فعليتها عين عدمها.

ثالثها : أن موضوع الأصول العملية ومنها الاستصحاب ـ التي هي أحكام ظاهرية ووظائف للشاك والمتحير في الأحكام الواقعية ـ هو الشك الّذي قد عرفت أنه

٣٠٤

فلا استصحاب مع الغفلة ،

______________________________________________________

كاليقين والظن من صفات الإنسان الملتفت ، ولذا قيّد الشيخ (قده) في أول الرسائل المكلّف بالملتفت. ومن هنا يظهر أن موضوع الحكم الواقعي يخالف موضوع الحكم الظاهري ، لعدم تقيد الأول بالالتفات ، بخلاف الثاني ، فان قوامه بالالتفات الشكي ، وبدون الشك لا وجود للحكم الظاهري حقيقة.

نعم قد تكون الوظيفة المقررة في حال الجهل بالحكم أو الموضوع ـ أو في حال الغفلة ـ بالغة مرتبة الفعلية وان لم تصل إلى المكلف ولم تنجز عليه ، وذلك لكون الغرض من جعلها تعيين وظيفة الجاهل بالواقع وتبديل تكليفه بتكليف آخر ، ولم يؤخذ حيثية تنجيز الواقع والإعذار عنه في إنشائها ، وذلك مثل ما دل على صحة الصلاة بلا سورة حال الغفلة عنها ، فان الآتي بالصلاة الفاقدة للسورة غفلة قد أطاع ما هو المجعول في حقه واقعا حتى إذا لم يعلم بتشريع هذه الوظيفة الثانوية ، فيكون مستحقا للثواب ، لامتثاله للتكليف الفعلي وهو الصلاة الفاقدة للسورة التي هي وظيفة الغافل. وكذا في الإخفات في موضع الجهر وبالعكس ، والإتمام في موضع القصر.

وعليه فلا تناط فعلية هذا القسم من الوظائف المقررة للجاهل بوصولها ، لعدم كون الغرض من جعلها تنجيز الواقع ، بل هي وظائف لحاله الفعلي أعني حال الغفلة. وهذا بخلاف الأصول العملية ، إذ المقصود من تشريعها إما إيصال الواقع كما في الاحتياط الشرعي والاستصحاب المثبت للتكليف ، وإما الاعذار عنه كما في البراءة الشرعية والاستصحاب النافي للتكليف.

واتضح من هذه الأمور وجه اعتبار فعلية الشك واليقين في الاستصحاب كوضوح اعتبار فعلية الشك في سائر الأصول العملية ، بل ينبغي عدّه من القضايا التي قياساتها معها.

فالنتيجة : أنه مع الغفلة لا تحيّر في الحكم الواقعي ، لعدم الشك المتقوم بالالتفات ، فلا يجري فيه الاستصحاب الرافع للتحير ، فوجود الشك الفعلي ـ وكذا

٣٠٥

لعدم (١) الشك فعلا ولو (٢) فرض أنه يشك لو التفت ، ضرورة أن الاستصحاب وظيفة الشاك ، ولا شك مع الغفلة أصلا (٣) ، فيحكم (٤) بصحة

______________________________________________________

اليقين ـ مما لا بد منه في جريان الاستصحاب ، ولا عبرة بالتقديري منهما ، إذ ليس التقدير إلّا فرض الوجود للعدم. وقد عرفت أن العبرة بوجودهما الفعلي كسائر موضوعات الأحكام ، والتقدير لا يخرج المقدّر عن العدم الّذي ليس موضوعا للحكم.

(١) تعليل لعدم جريان الاستصحاب مع الغفلة ، ومرجع التعليل إلى عدم الموضوع للاستصحاب مع الغفلة ، لما عرفت من أن الشك كاليقين والظن متقوم بالالتفات ، فلا وجود لها مع الغفلة ، ولذا يحمل عليه العدم بالحمل الشائع.

(٢) وصلية ، يعني : ولو فرض أنه يشك لو التفت وزالت غفلته ، وهذا هو الشك التقديري الّذي لا عبرة به ، لأنه فرض الوجود ، والمعتبر هو الوجود الفعلي ، ولا يجدي فرضه.

(٣) لما عرفت آنفا من عدم تعقل الشك كاليقين والظن مع الغفلة ، وهذا من غير فرق فيه بين حجية الاستصحاب تعبدا من باب الأخبار ، وحجيته كشفا من باب الأمارات العقلائية ، لما عرفت من كون توقف الاستصحاب على فعلية اليقين والشك من باب توقف الحكم على موضوعه.

(٤) هذا متفرع على اعتبار فعلية اليقين والشك في جريان الاستصحاب وعدم كفاية وجودهما التقديري في جريانه. توضيحه : أن من تيقن بالحدث أول الزوال مثلا وغفل وصلى غافلا عن الحدث ، وشك بعد الصلاة في أنه تطهر ـ بعد القطع بالحدث ـ حتى يكون قد أتى بها متطهرا ، أو لم يتطهر وصلى محدثا (حكم) بصحة صلاته ، إذ لم يحصل له شك فعلي قبل الصلاة حتى يحكم ببطلانها لأجل استصحاب الحدث. والشك التقديري مع الغفلة وان كان موجودا قبل الصلاة ، لكنه لا أثر له ، لإناطة الاستصحاب كسائر الأصول العملية بالشك الفعلي المفقود في المقام ، فالمرجع حينئذ قاعدة الفراغ التي موردها الشك الفعلي الحادث بعد العمل كما هو المفروض في المقام ، حيث ان الشك الفعلي حدث بعد الصلاة.

٣٠٦

صلاة من أحدث ثم غفل (*) وصلّى ، ثم شك (١) في أنه تطهر قبل الصلاة ، لقاعدة الفراغ (٢). بخلاف من التفت قبلها (٣) وشك ثم غفل

______________________________________________________

نعم بناء على كفاية الشك التقديري في الاستصحاب تبطل الصلاة ، ولا يمكن تصحيحها بقاعدة الفراغ ، إذ المفروض جريان استصحاب الحدث قبل الصلاة القاضي بوقوعها حال الحدث ، ومن المعلوم بطلان الصلاة مع الحدث الاستصحابي كبطلانها مع الحدث القطعي ، فكما لا تجري قاعدة الفراغ مع الحدث القطعي فكذلك لا تجري مع الحدث الاستصحابي.

فالمتحصل : أن الصلاة في الفرض المزبور صحيحة بناء على اعتبار فعلية اليقين والشك في الاستصحاب ، وباطلة بناء على كفاية التقديري منهما فيه.

(١) يعني : بعد الفراغ حصل له الشك في أنه تطهر قبل الصلاة أو لا.

(٢) تعليل لصحة الصلاة ، لكن لا بد من فرض احتمال التوضؤ قبل الصلاة ، وإلّا فلا تجري فيها القاعدة.

(٣) أي : قبل الصلاة ، فإذا التفت قبلها وشك ثم عرض له الغفلة وصلى غافلا بطلت صلاته ، لأنه قبل الصلاة صار بحكم الاستصحاب مع هذا الشك الفعلي محدثا فصلى محدثا ، فالمعيار في جريان الاستصحاب قبل الصلاة هو الشك الفعلي ، ومعه تبطل الصلاة ، لعدم جريان قاعدة الفراغ فيها. وبدون الشك الفعلي قبل الصلاة تصح الصلاة ، لجريان قاعدة الفراغ فيها بلا مانع ، إذ المانع هو الاستصحاب ، والمفروض عدم جريانه ، لعدم موضوعه وهو الشك الفعلي ، ومع وجود المقتضي وعدم المانع تجري القاعدة المصحّحة للصلاة.

__________________

(*) لا يخفى أنه مع الغفلة كيف يجري الاستصحاب مع اعتبار فعلية الشك واليقين فيه حدوثا وبقاء؟ فالأولى تعليل الحكم بالفساد بعدم إحراز الشرط وهو الطهارة ، وعدم جريان قاعدة الفراغ في الصلاة ، لعدم كون الشك حادثا بعد الصلاة.

٣٠٧

وصلى ، فيحكم بفساد صلاته فيما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشك (١) ، لكونه (٢) محدثا قبلها بحكم الاستصحاب (٣) مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي (*).

لا يقال (٤) : نعم ، ولكن استصحاب الحدث في حال الصلاة

______________________________________________________

(١) وأما إذا احتمل التطهير بعد الشك قبل الصلاة فالحكم بطلان الصلاة ، لما سيأتي في التعليقة.

(٢) تعليل للحكم بفساد الصلاة.

(٣) ضرورة أنه مع الالتفات والشك الفعلي كما هو المفروض يجري استصحاب الحدث ، ومعه لا يمكن تصحيح الصلاة بقاعدة الفراغ ، لما مر من أن الحدث المستصحب كالحدث المعلوم في إبطال الصلاة وعدم جريان قاعدة الفراغ معه. وضمير «قبلها» راجع إلى «صلاته».

(٤) هذا إشكال على صحة الصلاة في الفرض الأوّل وهو عدم الشك الفعلي قبل الصلاة ، ومحصله : أن استصحاب الحدث قبل الصلاة وان لم يكن جاريا لعدم الشك الفعلي ، لكن جريانه بعدها لمكان الشك الفعلي يقتضي بطلان الصلاة ، حيث ان مقتضى هذا الاستصحاب هو كونه محدثا قبل الصلاة وفي أثنائها ، لأن زمان الصلاة من الأزمنة المتخللة بين زمان اليقين بالحدث والشك في ارتفاعه. وعليه فلا فرق بين الصورتين في بطلان الصلاة وعدم جريان قاعدة الفراغ فيها. فقوله : «نعم» تصديق لعدم جريان الاستصحاب في الفرض الأول ، لعدم الشك الفعلي قبل الصلاة ، لكن الاستصحاب الجاري بعدها ـ لفرض الشك الفعلي حينئذ ـ كاف في بطلانها.

__________________

(*) الظاهر الاستغناء عن هذه الجملة بقوله : «فيما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشك» لأنه عبارة أخرى عن القطع ببقاء حدثه الاستصحابي ، فتأمل في العبارة حقه.

٣٠٨

بعد (١) ما التفت بعدها يقتضي أيضا فسادها.

فانه يقال (٢) : نعم ، لو لا قاعدة الفراغ المقتضية لصحتها المقدمة (٣) على أصالة فسادها (٤) (*).

______________________________________________________

(١) هذا الظرف متعلق بقوله : «استصحاب» يعني : لكن استصحاب الحدث حال الصلاة الجاري ذلك الاستصحاب حين الالتفات الحاصل بعد الصلاة يقتضي فسادها ، كاقتضاء الاستصحاب الجاري قبل الصلاة لفسادها. وضميرا «بعدها ، فسادها» راجعان إلى الصلاة.

(٢) هذا دفع الإشكال المزبور ، وتوضيحه : أن مقتضى الاستصحاب الجاري بعد الصلاة لزوال الغفلة وفعلية الشك وإن كان هو بطلان الصلاة كبطلانها في صورة الالتفات وفعلية الشك قبل الصلاة ، لكن المانع عن البطلان في صورة حصول الالتفات بعد الصلاة هو جريان قاعدة الفراغ فيها ، دون صورة حصول الالتفات قبل الصلاة ، لعدم جريانها فيها ، إذ مناط جريانها ـ وهو حدوث الشك بعد العمل ـ موجود في صورة الالتفات وحصول الشك بعد الصلاة ، ومفقود في فرض حدوث الشك قبلها. نعم يجدي هذا الاستصحاب في لزوم تحصيل الطهارة لما يأتي بعد ذلك مما يشترط فيه الطهارة.

(٣) هذا و «المقتضية» نعتان لـ «قاعدة الفراغ» وضميرا «صحتها ، فسادها» راجعان إلى «الصلاة».

(٤) هذا الفساد هو مقتضى استصحاب الحدث ، والأولى أن يقال : «المقدمة على استصحاب الحدث المقتضي لفسادها» إذ لم يعهد إطلاق أصالة الفساد في العبادات.

__________________

(*) هذا ما أفاده المصنف (قده) من حكم الصورتين المتفرعتين على اعتبار الشك الفعلي في الاستصحاب ، إلّا أن لهذه المسألة صورا أخرى لا بأس بالتعرض لها مع الصورتين المتقدمتين في المتن ، فنقول وبه نستعين :

٣٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الصورة الأولى : العلم بعدم حصول الطهارة بعد تيقن الحدث ، وبطلان الصلاة في هذه الصورة واضح ولا إشكال فيه.

الصورة الثانية : حصول الغفلة بعد تيقن الحدث ، واستمرار الغفلة عن الطهارة إلى أن يفرغ من الصلاة ، وبعد الفراغ عنها يشك في أنه تطهر قبل الصلاة أو لا ، والحكم فيها صحة الصلاة ، لحدوث الشك الفعلي بعدها ، وعدم موضوعية الشك التقديري للاستصحاب حتى يحكم بفساد الصلاة ، لوقوعها مع الحدث الاستصحابي. وما يجري بعدها من الاستصحاب لا يوجب بطلانها ، لحكومة قاعدة الفراغ عليها بناء على كونها أصلا عمليا لا أمارة عقلائية كما لا يخفى. نعم يوجب الطهارة لما سيأتي من الأعمال المشروطة بالطهارة.

وتظهر ثمرة النزاع في هذه الصورة كما عرفت في التوضيح.

لكن نوقش في ترتبها عليه تارة بما أفاده شيخنا المحقق العراقي (قده) من : «أن استصحاب الحدث وان كان جاريا في ظرف الغفلة قبل الصلاة وأثناءها بناء على كفاية الشك التقديري ، إلّا أنه لا يترتب عليه إلا بطلان الصلاة سابقا ، وأما وجوب الإعادة أو القضاء في ظرف الفراغ فلا يترتب على الاستصحاب المزبور ، لأنه من آثار الاستصحاب الجاري في ظرف بعد الفراغ ، لا من آثار استصحاب الحدث الجاري في ظرف الغفلة قبل الصلاة. وإنما أثر ذلك هو عدم جواز الدخول في الصلاة وجواز قطعها في فرض دخوله فيها غفلة ، فإذا كان الاستصحاب الجاري في ظرف بعد الفراغ محكوما بالقاعدة ، فمن حين الفراغ لا بد من الحكم بالصحّة للقاعدة ، لا البطلان ، لعدم جريان الاستصحاب من ذلك الحين بمقتضى القاعدة.

نعم بناء على تقيد موضوع القاعدة بعدم كون المصلّي محكوما بالمحدثية سابقا كان لأخذ الثمرة مجال. لكن ليس هذا القيد شرطا في القاعدة قطعا ، لأن تمام الموضوع هو حدوث الشك في الصحة بعد الفراغ من العمل ، ولذا لا تجري فيما لو حدث الالتفات والشك قبل الفراغ ولو لم يجر استصحاب الحدث كما في

٣١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

موارد توارد الحالتين» (١).

وأخرى بما في تقرير بعض أعاظم العصر (مد ظله) ومحصله : أنه بناء على كون قاعدة الفراغ من الأمارات العقلائية كما هو الظاهر فلا مجال للتمسك بالقاعدة لتصحيح العمل ، لكونه قاطعا بغفلته أثناء العبادة ، ولا معنى لأذكرية الغافل ، فلا تجري القاعدة ، والصلاة محكومة بالبطلان سواء جرى استصحاب الحدث التقديري أم لا. أما على فرض جريانه فلإحراز محدثيته تعبدا ، وأما على تقدير عدمه فلاقتضاء قاعدة الشغل وجوب الإعادة.

وبناء على كون القاعدة أصلا تعبديا غير منوطة بالالتفات حال العمل ، وشمولها لموارد القطع بالغفلة ، لإطلاق مثل «ما مضى فامضه كما هو» فلحكومتها على الاستصحاب ، وعليه فلا أثر للالتزام بجريان الاستصحاب في الشك التقديري في الفرع المزبور مع وجود قاعدة الفراغ (٢).

لكن لا يخلو كلا الأمرين من غموض ، إذ في الأول : أن اعتبار الشك التقديري يقتضي جريان الاستصحاب فيه كجريانه في الشك الفعلي ، فالغافل الّذي هو شاك تقديري محدث قبل الصلاة بحكم الاستصحاب المقتضي لبطلان صلاته من أول الأمر ، فكيف تجري فيها قاعدة الفراغ مع كون موضوعها الصلاة المشكوكة صحتها دون الفاسدة ولو بالتعبد؟ وعليه فاستصحاب الحدث قبل الصلاة كما هو المفروض في الشك التقديري حاكم على قاعدة الفراغ كحكومة استصحاب حال اليد على اليد الحاكمة عليه كما ثبت في محله ، فلا بد من تقيد موضوع قاعدة الفراغ بعدم محكومية المصلي بالمحدثية قبل الصلاة ، كتقيد حكومة اليد على الاستصحاب بعدم العلم بحال اليد ، وإلّا فاستصحاب حالها حاكم عليها.

وبالجملة : فكما يكون استصحاب الحدث قبل الصلاة في الشك الفعلي موجبا لانعقاد الصلاة باطلة وغير قابلة للصحة حتى تجري فيها قاعدة الفراغ ،

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ١٥

(٢) مصباح الأصول ، ٣ ـ ٩٢

٣١١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

فكذلك استصحاب الحدث في الشك التقديري ، وإلّا لزم الخلف ، وانحصار مورد الاستصحاب في الشك الفعلي. وعليه فموضوع قاعدة الفراغ مركب من جزءين حدوث الشك بعد الفراغ وعدم مانع من جريانها ، كمحكومية المصلي بالمحدثية قبل الصلاة ، للاستصحاب الجاري في الشك التقديري المفروض جريانه فيه كجريانه في الشك الفعلي. وعدم جريان قاعدة الفراغ في موارد توارد الحالتين قبل الفراغ إنما هو لأجل انتفاء أحد جزأيه وهو حدوث الشك بعد الفراغ ، دون استصحاب الحدث ، كعدم جريانه في تعاقب الحالتين.

وأما إذا كان الشك بعد الفراغ مع كون المصلي محكوما قبل الصلاة بالمحدثية للاستصحاب الجاري في الشك التقديري ، فلا مجال لجريان قاعدة الفراغ فيها لاقتران الصلاة بالمانع حال الشروع فيها كما مر آنفا.

لا يقال : ان مقتضى استصحاب الحدث في الشك التقديري قبل الصلاة هو بطلانها وان انكشف كون المصلي متطهرا واقعاً.

فانه يقال : لا وجه للبطلان حينئذ إلّا عدم قصد القربة ، لكن المفروض تحققه في المقام لأجل الغفلة.

والحاصل : أن الغرض من تشريع الأصول العملية ـ وهو إنجاز الواقع أو الاعذار عنه ـ يوجب تقديم الاستصحاب على القاعدة.

وفي الثاني : أنه ـ مضافا إلى أن تقدم قاعدة الفراغ بناء على كونها أصلا عمليا على الاستصحاب ليس هو الحكومة المدعاة ، لاتحاد الأصلين مرتبة ، وإنما الوجه في تقديمها عليه كما نبه عليه المحقق الأصفهاني (قده) (١) هو صون جعلها عن اللغوية ، لكونها غالبا في مورد استصحاب عدم الإتيان بالجزء والشرط ، فلو أخذ بمقتضاه لزم اختصاص القاعدة بمورد نادر كتعاقب الحالتين الّذي لا يجري فيه الاستصحاب. وقد تقرر أن المتعارضين بالعموم من وجه لو استلزم العمل بأحدهما في المجمع

__________________

(١) نهاية الدراية ٣ ـ ٦٥

٣١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

طرح الآخر كلية أو بقاء فرد نادر له اقتضى صون جعله عن اللغوية تقديمه على معارضه ، فتقديم القاعدة مستند إلى التخصيص لا إلى الحكومة ـ يرد عليه : أنه بناء على أمارية قاعدة الفراغ وان كان الأمر كما أفاده من عدم جريانها في مفروض الكلام ، لكونه قاطعا بغفلته حال الصلاة ، لكنه بناء على كفاية الشك التقديري في الاستصحاب يكون بطلانها مستندا إليه ، ولازمه جواز الإفتاء به. وبناء على عدم كفايته لمّا لم يكن مصحّح لهذه الصلاة ، لعدم جريان قاعدة الفراغ فيها كما هو المفروض فيستند البطلان إلى قاعدة الاشتغال ، وهو حكم عقلي لا يترتب عليه جواز الإفتاء به شرعا. فبطلان العبادة وان كان مسلّما ، إلّا أن وجهه هو الاستصحاب بناء على كفاية الشك التقديري في جريانه والثابت به حكم شرعي ، وقاعدة الشغل بناء على عدم كفايته والثابت بها حكم عقلي ، هذا.

وأما بناء على كون قاعدة الفراغ أصلا تعبديا لا أمارة عقلائية فلا تجري أيضا ، لحكومة الاستصحاب عليها بناء على جريانه في الشك التقديري ، وتجري بناء على عدم جريانه في الشك التقديري.

فالنتيجة : أنه بناء على كفاية الشك التقديري في الاستصحاب وكون قاعدة الفراغ من الأصول التعبدية تكون الصلاة باطلة ، لحكومة الاستصحاب على القاعدة. وبناء على عدم كفايته تصح الصلاة ، لجريان القاعدة فيها بلا مانع ، إذ المفروض عدم جريان الاستصحاب حينئذ. فالحق ترتب الثمرة على كفاية الشك التقديري المساوق للغفلة في الاستصحاب وعدم كفايته ، وعدم المجال لإنكارها.

لكن الأولى عدم التعرض لأصل هذا البحث فضلا عن ثمرته ، لكونه مجرد فرض ، إذ لا وجه لكفاية الشك التقديري في الاستصحاب أصلا ، لوضوح أن الشك الموضوع في جميع الأصول العملية متقوم بالالتفات ، ولذا قال الشيخ (قده) في أول الرسائل : «اعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي فاما أن يحصل له الشك فيه ... إلخ» ولو انفتح باب اعتبار الشك التقديري في الاستصحاب لم يكن

٣١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

وجه لاختصاصه به ، بل يعم ذلك جميع الأصول العملية ، ولم أعثر على من تعرض لاحتمال اعتبار الشك التقديري في غير الاستصحاب.

الصورة الثالثة : أن يحصل له الشك في الطهارة ثم يغفل ويصلي في حال الغفلة ، وبعد الفراغ تجدد له الشك واحتمل التطهير بعد الشك ووقوع صلاته في حال الطهارة. وقد يتوهم أن الحكم في هذه الصورة صحة الصلاة أيضا ، لقاعدة الفراغ ، إذ ليس حكم الشك أقوى من اليقين ، وقد عرفت صحتها في الصورة الثانية وهي اليقين بالحدث واستمرار الغفلة إلى زمان الفراغ من الصلاة ، فان حدوث الشك بعد الصلاة مع احتمال التطهير قبلها مورد قاعدة الفراغ.

لكن فيه منع واضح ، لأن الشك هنا هو الشك الحادث قبل الصلاة ، فليس موردا لقاعدة الفراغ ، وهذا هو الفارق بين هذه الصورة وسابقتها.

الصورة الرابعة : هذه الصورة مع عدم احتمال التطهير بعد الشك. وحكمها بطلان الصلاة أيضا ، لأن الشك المتجدد هو نفس الشك الحاصل قبل الصلاة لا الحادث بعدها حتى تجري فيه قاعدة الفراغ ، بل الجاري فيه هو استصحاب الحدث ، ومن المعلوم بطلان الصلاة مع الحدث المستصحب كبطلانها مع الحدث المعلوم.

الصورة الخامسة : اليقين بالحدث والشك فيه مع استمرار الشك إلى الفراغ من الصلاة ، والحكم بطلان الصلاة في هذه الصورة أيضا ، لأن الحدث الاستصحابي كالحدث القطعي مبطل لكل ما يشترط فيه الطهارة ، ولا تجري قاعدة الفراغ في الصلاة ، لعدم حدوث الشك بعدها ، حيث ان الشك الفعلي بعد الصلاة هو نفس الشك الموجود قبلها ، وليس هذا مجرى القاعدة ، فلا مصحّح حينئذ للصلاة.

الصورة السادسة : أن يحصل له الشك في التطهير أثناء الصلاة بعد العلم بالحدث قبلها ، وهذه الصورة قد تعرض لها المحقق الميرزا الآشتياني مجملا ، وحكم فيها أوّلا ببطلان صلاته ، لتعذر تحصيل الطهارة للأجزاء الباقية كي يحكم بصحة

٣١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ما مضى من عمله ، ثم استقرب الصحة لقاعدة التجاوز ، لأن محل الطهارة لمجموع الأجزاء إنما هو قبل الاشتغال بها ، فبمجرد الدخول في الصلاة تحقق التجاوز عن محل الطهارة (١).

أقول : في المسألة أقوال :

أحدها : ما أفاده الميرزا الآشتياني (قده) أوّلا من البطلان استنادا إلى أن قاعدة الفراغ تقتضي صحة الأجزاء التي فرغ منها ، ولا تقتضي صحة الغايات التي لم يدخل فيها ، فليس للبقية مصحّح ، وهو مختار جمع كثير منهم صاحب العروة وبعض محشيها.

ثانيها : وجوب إتمامها ، وعدم وجوب استئنافها بوضوء جديد ، لكن لا يصح الإتيان بما يشترط فيه الطهارة بعد ذلك إلّا بوضوء جديد. وهو منسوب إلى الشيخ الأعظم (قده) استنادا إلى قاعدة التجاوز المثبتة للوضوء ، ومقتضاها جواز فعل سائر ما يشترط فيه الطهارة به ، لكن حيثية التجاوز الموجبة لجريانها مختصة بما بيده من الصلاة دون غيره ، ضرورة عدم صدق التجاوز على ما لم يأت به بعد من المشروطات بالطهارة ، ولذا يجب تجديد الوضوء لها.

ثالثها : وجوب إتمام الصلاة وعدم استئنافها ، بل صحة الإتيان بعدها بكل ما يشترط فيه الطهارة بدون تجديد الوضوء. وهذا القول منسوب إلى كاشف الغطاء (قده) استنادا إلى أن القاعدة من الأصول المحرزة ، فيحرز بها وجود الوضوء كإحرازه بالاستصحاب ، فيجوز حينئذ فعل كل مشروط بالطهارة به.

وما استقربه المحقق الآشتياني أخيرا يرجع إلى قول الشيخ الأعظم.

والّذي ينبغي أن يقال هو : أن الوضوء مما تجري فيه قاعدة التجاوز سواء أكان الشرط نفسه أم الطهارة المتحصلة منه كما يستفاد كل منهما من الأدلة. وعلى التقديرين يكون لهذا الشرط محل مقرر شرعي كما هو ظاهر الآية الشريفة ، فان

__________________

(١) بحر الفوائد ، ٣ ـ ١٢

٣١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

القيام إلى الصلاة يراد به إرادة فعلها ، ضرورة أنه ليس المراد القيام الّذي يعد من أفعال الصلاة ، وإلّا يلزم كون الصلاة محلا للوضوء. ومع وجود المحل الشرعي للوضوء قبل الصلاة تجري فيه قاعدة التجاوز كجريانها في سائر الأجزاء والشرائط. وحيث ان القاعدة من الأصول العملية المحرزة فيترتب على المشكوك ـ الّذي تجري فيه ـ آثار وجوده كصحة الأعمال المترتبة عليه ، ففي الشك في الركوع مثلا بعد التجاوز عن محله تجري فيه قاعدة التجاوز ، ويثبت بها وجوده وصحة ما يترتب عليه من الأجزاء.

فظهر مما ذكرنا : أن شرطية الطهارة واعتبار تقارنها لأجزاء الصلاة كالاستقبال والستر كما في مستمسك سيدنا الأستاذ (قده) غير مانعة عن جريان القاعدة المثبتة للطهارة ، بدعوى «عدم صلاحية قاعدة التجاوز لإثبات الطهارة للغايات التي لم يدخل فيها» (١) وذلك لأن للشرط سواء أكان نفس الوضوء أم الطهارة الحاصلة به محلا شرعيا ، وبعد التجاوز عنه يحكم بوجوده وبترتب جميع آثاره الشرعية عليه. فلو كانت الطهارة شرطا ، فالمفروض تحققها بمحصّلها الشرعي في محله ، وهذه الطهارة الثابتة بالقاعدة مقترنة بأجزاء الصلاة بأسرها. والفرق بين الطهارة وبين الستر والاستقبال أنه لا محل لهما قبل الصلاة حتى يصح إطلاق التجاوز عنهما ، بخلاف الطهارة المتحققة قبل الصلاة والمقارنة لكل جزء إلى آخر الصلاة.

كما ظهر غموض القول بصحة الأعمال اللاحقة بذلك الوضوء وعدم لزوم تجديده لها كما عن كشف الغطاء ، وذلك لأن جهة التجاوز في قاعدته تقييدية ، ومن المعلوم انتفاء هذه الجهة في الأعمال اللاحقة ، لبقاء محلها ، فلا بد من تجديد الوضوء لها.

والحاصل : أن الأقوى ما اختاره الشيخ الأعظم واستقربه أخيرا تلميذه المحقق الآشتياني (قدهما) وان كان الأحوط إتمامها على تلك الحالة ثم إعادتها

__________________

(١) مستمسك العروة الوثقى ، ٢ ـ ٥٢٧

٣١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

بوضوء مستأنف.

هذا ما يتعلق بصور المسألة. بقي التنبيه على نكتة ، وهي : أن تفريع صحة الصلاة على فعلية الشك في الاستصحاب لا يخلو من مسامحة ، حيث ان صحتها مبنية على جريان قاعدة الفراغ فيها ، إذ مع عدم جريانها فيها لا يكون مجرد عدم جريان الاستصحاب لعدم فعلية الشك فيه كافيا في صحة الصلاة ، بل مقتضى لزوم إحراز الطهارة وجوب إعادتها. فالأولى تفريع جريان قاعدة الفراغ وعدمه على فعلية الشك في الاستصحاب وعدمها ، فبناء على اعتبار فعليته تجري القاعدة في المثال ، وبناء على عدم اعتبارها لا تجري فيه ، فالثمرة المترتبة على اعتبار فعلية الشك وعدمه هو جريان قاعدة الفراغ في الصلاة وعدمه ، فصحة الصلاة وعدمها أثر لفعلية الشك مع الواسطة ، هذا.

وكيف كان فقد تعرض الشيخ والمصنف (قدهما) للشك التقديري ، ومثاله المتقدم وهو صحة صلاة من أحدث وغفل وصلّى. ولم يذكرا مثالا لليقين التقديري ، ويمكن التمثيل له بما إذا شك يوم الجمعة مثلا في جنابته واستصحب عدمها ، فآجر نفسه لكنس المسجد ، وبعد كنسه رأى في ثوبه منيا أوجب اليقين بجنابته يوم الخميس مع احتمال الغسل عنها في ذلك اليوم ، صحت الإجارة بناء على جريان قاعدة الصحة فيها ، واستحق الأجرة المسماة ، فان الشك في الجنابة قبل الإجارة وان كان فعليا ، لكن اليقين بها لم يكن فعليا حتى يجري استصحابها ويحكم بفساد الإجارة ، لوقوعها حال الجنابة المستصحبة التي هي كالجنابة الواقعية في الأحكام من بطلان الإجارة واستحقاق أجرة المثل وغيرهما. نعم بناء على كفاية اليقين التقديري في الاستصحاب يحكم بفساد الإجارة واستحقاق أجرة المثل لأجل استصحاب الجنابة قبل الإجارة.

٣١٧

الثاني (١) : أنه هل يكفي في صحة الاستصحاب الشك في بقاء

______________________________________________________

(التنبيه الثاني : استصحاب مؤديات الأمارات)

(١) لا يخفى أن هذا الأمر مما زاده المصنف على التنبيهات التي تعرض لها الشيخ في الرسائل وهو من متعلقات الأمر الأول الّذي ثبت فيه توقف الاستصحاب على فعلية اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، حيث إنه يرد هنا إشكال ، وهو : أنه في موارد الأمارات غير العلمية لا يحصل اليقين بالحدوث ، كما إذا قام خبر الواحد على وجوب صلاة الجمعة حال حضور الإمام عليه‌السلام ، وشك في زمان الغيبة في بقائه ، ولم يدل ذلك الخبر على وجوبها وعدمه حال الغيبة ، فهل يجري فيه الاستصحاب مع عدم اليقين الوجداني بوجوبها حال الحضور ، لعدم كون دليله وهو خبر الواحد موجبا لليقين به؟ أم لا. أو قامت البينة على ملكية شيء أو نجاسته أو غيرهما ، ثم شك في ارتفاعها ، فهل يجري فيها الاستصحاب مع عدم اليقين الوجداني بحدوث هذه الأمور؟ فالغرض من عقد هذا التنبيه هو دفع هذا الإشكال عن جريان الاستصحاب في مؤديات الطرق والأمارات التي لا يحصل اليقين بثبوتها بل يحتمل ثبوتها ، ومع انتفاء اليقين به ينتفي الشك في البقاء أيضا ، فينهدم كلا ركني الاستصحاب.

وهذا الإشكال مبني على حجية الأمارات على الطريقية التي لا تقتضي إلّا تنجز الواقع مع الإصابة والعذر بدونها ، إذ بناء على هذا المسلك لا تقتضي أدلة اعتبار الأمارة جعل حكم مماثل للمؤدى كي يستصحب ، لدلالتها على كون المؤدى نفس الواقع فيتنجز بوصوله بالطريق ، وكونه حكما صوريا عند عدم الإصابة ، فيوجب العمل به صحة الاعتذار من المولى ، وحيث لا سبيل لإحراز مطابقة المؤدى للواقع ، فركن الاستصحاب وهو اليقين بالحدوث مفقود.

وأما بناء على الالتزام بجعل الحكم الظاهري فلا يرد هذا الإشكال ، لما أفاده المصنف في الهامش ، وسيأتي. فهو (قده) أجاب عن الإشكال بوجهين يبتني أحدهما

٣١٨

شيء على تقدير ثبوته وإن لم يحرز ثبوته

______________________________________________________

على مختاره في حجية الأمارات غير العلمية من كونها بمعنى المنجزية والمعذرية ، وثانيهما على ما نسب إلى المشهور من كون مؤديات الأمارات أحكاما ظاهرية شرعية ، وهذا هو الّذي تعرض له في الهامش ، كما أن الأول هو مختاره في المتن.

ومحصل ما أفاده في المتن في دفع الإشكال هو : أن موضوع الاستصحاب على ما يستفاد من أدلته ليس هو الشك في البقاء الفعلي حتى يتوقف حصوله على اليقين بالثبوت ، بل البقاء التقديري ، وهو البقاء على فرض الثبوت ، فمفاد أدلة الاستصحاب جعل الملازمة بين ثبوت شيء وبقائه ، ومن المعلوم عدم توقف صدق الشرطية على صدق طرفيها ، كجعل الملازمة بين وجوب الحج والزكاة على المستطيع ومالك النصاب وان لم يكن فعلا مستطيع ولا مالك نصاب. وبعد ثبوت الملازمة المذكورة بدليل الاستصحاب إذا قامت الأمارة على ثبوت حكم كوجوب صلاة الجمعة حال الحضور وشك في بقائه حال الغيبة كانت هذه الأمارة حجة على الثبوت والبقاء معا ، لما ثبت في محله من أن الدليل على أحد المتلازمين دليل على الملازم الآخر.

فإذا كان مثل «لا تنقض اليقين بالشك» دالا على جعل الملازمة بين ثبوت شيء وبقائه كان دليل ثبوت حكم كوجوب صلاة الجمعة دليلا على ملازمه وهو بقاؤه ، لفرض ثبوت الملازمة بين الثبوت والبقاء بدليل الاستصحاب. نظير ما إذا ثبتت الملازمة بين وجوب القصر والإفطار على المسافر ، ثم قام دليل على وجوب القصر عند قطع ثمانية فراسخ تلفيقية مع اجتماع سائر الشرائط ، فانه دليل أيضا على وجوب الإفطار ، لما عرفت من التلازم بين القصر والإفطار ، فدليل أحدهما دليل على الآخر.

ويرشد إلى عدم اعتبار اليقين الفعلي بالحدوث وكفاية الثبوت التقديري منه في جريان الاستصحاب تعريفه «بأنه الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه» الظاهر في إناطة التعبد الاستصحابي بالشك في بقاء ما تحقق لا بالشك في

٣١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

في بقاء ما تيقن بحدوثه. وحيث كان الموضوع لهذا التعبد هو الثبوت الواقعي أمكن إحرازه بكل من اليقين والأمارة ، والحكم ببقائه ، إذ المفروض اقتضاء دليل التعبد الاستصحابي إيجاد الملازمة بين الحدوث والبقاء.

نعم يفترق هذا التلازم عن الملازمة الواقعية ـ التي اعتبرها الشارع بين القصر والإفطار ـ بكونه بين الثبوت الواقعي والبقاء الظاهري ، إذ ليس الاستصحاب دليلا على الحكم واقعا ، وإنما هو دليل على بقائه ظاهرا ، لأنه أصل عملي منوط بالشك. وهذا بخلاف الملازمة بين القصر والإفطار ، فان الدليل الاجتهادي قد دل على أن كل حكم ثبت للقصر ثبت للإفطار واقعا إلّا ما خرج بالنص ، فببركة دليل الملازمة على هذين الحكمين إذا ثبت وجوب القصر بالاستصحاب مثلا كان وجوب الإفطار ظاهريا أيضا (*).

__________________

 (*) وبهذا يظهر غموض ما أورده بعض أعاظم العصر عليه بما محصله : أن الملازمة المدعاة بين الحدوث والبقاء ان كانت واقعية ، فهو مع مخالفته للواقع يقتضي كون الاستصحاب أمارة لا أصلا. وان كانت ظاهرية فيترتب عليها الملازمة الظاهرية بين حدوث التنجيز وبقائه ، مع أنه لا سبيل للالتزام به ، للنقض بموارد تنجز التكليف أولا بالعلم الإجمالي ثم ارتفاعه بانحلاله بقيام البينة على حرمة بعض الأطراف بخصوصه ، حيث يرتفع التنجيز ، لتبعيته للمنجّز حدوثا وبقاء ، ولا يكفي حدوثه لترتب أثره إلى الأبد. وعليه فلا ملازمة بين حدوث المنجز وبقائه (١).

وذلك لما عرفت من عدم إرادة الملازمة الواقعية كما في الإفطار والقصر ، بل المقصود دلالة أخبار الاستصحاب على الملازمة الظاهرية بين الحدوث الواقعي والبقاء الظاهري ، وأن ما ثبت واقعا محكوم عليه بالبقاء ظاهرا ، ومن المعلوم أن هذا البقاء مستند إلى دليل الاستصحاب لا الأمارة. وما أفاده (مد ظله) من

__________________

(١) مصباح الأصول ، ٣ ـ ٩٧ و ٩٨

٣٢٠