منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

الاحتمال الخامس : ما أفاده صاحب الحدائق من دلالة موثقة عمار ونحوها على طهارة الأشياء واقعاً ، وإناطة النجاسة بالعلم بها ، قال (قده) : «ان ظاهر الخبر المذكور أنه لا تثبت النجاسة للأشياء ولا تتصف بها إلّا بالنظر إلى علم المكلف ، لقوله عليه‌السلام : فإذا علمت فقد قذر بمعنى أنه ليس التنجيس عبارة عما لاقته عين النجاسة واقعاً خاصة ، بل ما كان كذلك وعلم به المكلف ، وكذلك ثبوت النجاسة لشيء إنما هو عبارة عن حكم الشارع بأنه نجس وعلم المكلف بذلك ، وهو خلاف ما عليه جمهور أصحابنا رضوان الله عليهم» (١).

ولعله استفاد هذا المعنى من مقابلة القذر للنظيف ، وحيث ان ظاهر القذارة الفعلية المنوطة بالعلم بها هي الواقعية فبقرينة المقابلة لا يراد من النظيف إلّا الواقعي أيضا.

لكنه ممنوع ، فان ظاهرها ترتب حقيقة النجاسة الظاهرة في فعليتها ـ لا في اقتضائها ـ على الموضوعات بذواتها لا بما هي معلومة. بل نفس المقابلة بين القذر والطاهر ظاهرة في إرادة الفعلي كما هو شأن كل عنوان مأخوذ في لسان الدليل ، والمراد بالقذر المعلوم أي المؤثر في ترتيب أحكامه عليه ، ويؤيده قوله عليه‌السلام : «وما لم تعلم فليس عليك» فانه مع كون القذر فعلياً قد سُلبت أحكامه عنه.

ويقابل هذا الاحتمال بتمام المقابلة دعوى طريقية العلم بالقذارة بأن يكون المعنى «كل شيء طاهر حتى يتقذر» بعروض النجاسة عليه ، فليس العلم إلّا كاشفاً عن الواقع ، كما هو أحد القولين في قوله تعالى : «كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود» فان مفاده جواز الأكل والشرب إلى طلوع الفجر لا إلى تبين طلوعه.

لكنه خلاف الظاهر أيضا ، إذ لا وجه لإسقاط العلم عن الموضوعية بعد ظهور الغاية في تحديد المغيا ، والمتحصل من مجموع الكلام هو الطهارة الظاهرية التي هي قاعدة الطهارة لا غير.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ، ج ١ ، المقدمة الحادية عشرة ، ص ١٣٦

٢٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

هذا كله حال الأخبار العامة والخاصة التي استدل بها المصنف على الاستصحاب.

ولا بأس بالتنبيه على نكتة أفادها الشيخ الأعظم (قده) بعد الفراغ عن الاستدلال بالمكاتبة ، قال : «وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها وعدم صحة الظاهر منها ، فلعل الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد».

وهذا الكلام ان كان المراد منه الاعتماد في الاستدلال على دلالة الضعيف سنداً وعلى سند الضعيف دلالةً كي ينجبر ضعف كل منهما بالآخر فهو كما ترى ، فان المقرّر في محله جبر ضعف السند فقط بعمل المشهور ، لإيجاده الوثوق بالصدور ، دون ضعف الدلالة ، لأنها راجعة إلى الفهم العرفي. ويتوقف جبر ضعف سند المكاتبة مثلاً على ظهور صحاح زرارة وتمامية دلالتها على المدعى ، وحيث ان هذه الدلالة منوطة بالاستناد إلى ظهور المكاتبة ـ المفروض ضعفها سنداً ـ فلا يخلو هذا التجابر من شبهة الدور ، ضرورة انحصار الجابر في الحجة المتوقفة على اجتماع أمور ثلاثة فيها ، وهي أصالة الصدور والدلالة والجهة ، والمفروض أن شيئاً من الصحاح والمكاتبة بنظر الشيخ غير واجد لجميعها ، أما الصحاح فلإجمالها ، وأما المكاتبة فلضعف سندها وان كانت ظاهرة الدلالة ، ولكن لا عبرة بظهور كلامٍ لم يثبت صدوره من الشارع ، ولا يجبر ضعف سندها بالصحاح التي هي مجملة. إذ لا أثر للتعبد بصدور المجمل حتى يصلح لجبر ضعف غيره.

وان كان المراد منه ما أفاده المحقق الميرزا الآشتياني (قده) في الشرح من «أن مقصود الشارع من هذه الأخبار بيان الأخذ باليقين السابق وعدم نقضه بالشك اللاحق ، فمجموع الأخبار المعتبرة من حيث السند يدل على ذلك من دون انضمام غيرها إليها ، فهذا الظن إنما تحقق من تراكم الاحتمالات مستندة إلى اللفظ ...» (١). فهو وان لم يرد عليه ما تقدم من الدور ، لكن الظاهر أنه خلاف مقصود الشيخ (قده) فانه انما ذكر هذه الجملة بعد الفراغ من الروايات التي لم تخلُ واحدةٌ منها من

__________________

(١) بحر الفوائد ، ٣ ـ ٣٨ و ٣٩

٢٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

ضعف في الدلالة ـ وهو الصحيح سنداً ـ أو في السند وهو المكاتبة ، فيلوح منه الاحتمال الأول الّذي استفاده القوم وأشكلوا عليه. ولعل الميرزا (قده) استفاد ما ذكره من مجلس الدرس.

وكيف كان فقد عرفت وفاء جملة من الأخبار المعتبرة بحجية الاستصحاب ، ونحن في غنى من دعوى التجابر ، لأن كلًّا منها دليل مستقل عليها.

تتمة : لا بأس بالاستدلال بخبرين آخرين ، أحدهما : ما رواه عبد الله بن سنان في إعارة الثوب للذمي ، قال : «سأل أبا عبد الله عليه‌السلام رجل وأنا حاضر : إنّي أُعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرد عليّ فأغسله قبل أن أُصلي فيه؟ فقال عليه‌السلام : صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فانك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه ، فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه» (١) قال الشيخ الأعظم : «وفيه دلالة واضحة على أن وجه البناء على الطهارة وعدم وجوب غسله هو سبق طهارته وعدم العلم بارتفاعها».

والظاهر أن وجه إهمال المصنف للاستدلال بها مناقشته في دلالتها في الحاشية من «احتمال كون عدم الاستيقان بالنجاسة هو تمام العلة للحكم بالطهارة ، وإنما ذكر خصوصية المورد لبيان تحققها فيه ، لا لخصوصية في خصوصيته» (٢) فالرواية بنظره دليل قاعدة الطهارة لا الاستصحاب.

لكنه غير ظاهر ، فان قوله عليه‌السلام : «وهو طاهر ، ولم تستيقن أنه نجسه» ظاهر في دخل كلا الأمرين في الحكم بالطهارة أعني سبق اليقين بها والشك الفعلي بعد ردّ الثوب ، وما أفاده المصنف وان كان محتملا ، إلّا أنه لا سبيل للاعتماد عليه بعد دلالة الرواية بوضوح على ترتب الحكم بالطهارة على كل من اليقين السابق والشك اللاحق. والأخذ بذلك الاحتمال معناه إلغاء القيود والخصوصيات

__________________

(١) الوسائل ، ج ٢ ، الباب ٧٤ من أبواب النجاسات ، الحديث : ١ ، ص ١٠٩٥

(٢) حاشية الرسائل ، ص ١٨٥

٢٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

المأخوذة في لسان الدليل ، وهو مما لا يمكن الالتزام به. ولو كان المقصود بيان قاعدة الطهارة لا استصحابها لاقتصر عليه‌السلام في مقام الجواب بقوله : «لأنك شاك في نجاسته» فأخذُه عليه‌السلام لقيد الطهارة حين الإعارة كاشفٌ عن موضوعية الأمرين للحكم بعدم وجوب الغسل ، فالاستدلال بها على الاستصحاب في المورد تام.

وثانيهما : رواية بكير «إذا استيقنت أنك توضأت فإياك أن تحدث وضوءاً حتى تستيقن أنك أحدثت» (١) ودلالتها على الاستصحاب في المورد ظاهرة كما أفاده شيخنا الأعظم (قده) فان في التحذير بقوله عليه‌السلام : «فإياك» عقيب الاستيقان بالوضوء دلالة على لزوم الجري على طبق اليقين السابق بالطهارة ، وعدم الاعتناء بالشك في انتقاضها ما لم يستيقن بالحدث. وظاهر عدم تعليق المصنف في الحاشية على كلام الشيخ يدل على ارتضائه له. لكنه يختص بباب الوضوء ، وغايته تسرية الحكم إلى الطهارات الثلاث ، وأما سائر الأبواب فالتعدي إليها منوط بتمامية عدم الفصل كما ادعاه الشيخ في رواية عبد الله بن سنان ، والمصنف في أخبار الحل والطهارة ، وشيخنا المحقق العراقي في روايتي عبد الله بن سنان وبكير (٢).

لكن الظاهر عدم تماميته ، لتوقفه على نفي التفصيل بين باب الطهارة وغيرها ، وهو ممنوع ، لذهاب السيدين ـ وهما الأصل في إنكار الاستصحاب ـ إلى اعتباره في مورد خبر بكير ، بل تَعدّيا إلى عكس المسألة ، قال السيد في المسائل الناصريات : «لا تزول طهارة متيقنة بحدث مشكوك ، هذا صحيح. وعندنا أن الواجب البناء على الأصل طهارةً كان أو حدثاً ، فمن شك في الوضوء وهو على يقين من الحدث وجب عليه الوضوء ، ومن شك في الحدث وهو على يقين من الوضوء بنى على اليقين ... دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتكرر ذكره ...» (٣).

__________________

(١) الوسائل ، ج ١ ، الباب ٤٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ١٠ ، ص ٣٣٢

(٢) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٦٦

(٣) الجوامع الفقهية ، ص ٢٢٣

٢٤٤

ثم إنّك إذا حققت ما تلونا عليك مما هو مفاد الأخبار (١) فلا حاجة في إطالة الكلام في بيان سائر الأقوال ، والنقض والإبرام فيما ذكر لها من الاستدلال.

ولا بأس بصرفه (٢) إلى تحقيق حال الوضع ،

______________________________________________________

(١) حيث تمّ الدليل المعتبر سنداً ودلالةً على حجية الاستصحاب ، والعمدة صحاح زرارة ، وكذا خبر الخصال عن مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين لو لم يناقش في سنده ، وكذا روايات الحل والطهارة ، فلا حاجة معه إلى التعرض للقول بعدم حجيته مطلقاً. وأما التفاصيل فالمهم منها التفصيل بين الحكم الشرعي المستند إلى حكم العقل والشرع ، والتفصيل بين الشك في المقتضي وغيره ، وقد تقدم الكلام فيهما ، والتفصيل بين الشبهات الحكمية الكلية وغيرها ، وقد أشار إليه المصنف ، والتفصيل بين الحكم الوضعي والتكليفي ، وسيأتي.

(الأحكام الوضعيّة ، والتفصيل في حجية الاستصحاب فيها)

(٢) أي : صرف الكلام ، والداعي إلى التعرض للأحكام الوضعيّة هنا هو الوقوف على تفصيلٍ منسوبٍ إلى الفاضل التوني (قده) من حجية الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة دون التكليفية ، ولأجله تصدى المصنف هنا كما في حاشية الرسائل

__________________

وقال السيد أبو المكارم ابن زهرة في الغنية : «ولا يجوز الصلاة إلّا بطهارة متيقنة ، فإن شكّ وهو جالس في شيء من واجبات الوضوء استأنف ، فان شك فيه فان نهض متيقناً لتكامله لم يلتفت إلى شك يحدث له ، لأن اليقين لا يترك بالشك» (١) وهذا هو مضمون رواية بكير مع التعدي إلى اليقين بالحدث والشك في الوضوء. وقد صرّح في مقدمة كتابه بعدم حجية الاستصحاب. ومع هذا كيف تتجه دعوى عدم الفصل؟

__________________

(١) الجوامع الفقهية ، ص ٤٩٢ ، لاحظ فصل الاستصحاب في ص ٤٨٦

٢٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

للبحث عن جهات مرتبطة بالحكم الوضعي ككونه مجعولاً بالاستقلال مطلقاً أو بتبع التكليف كذلك ، أو بالتفصيل كما اختاره ، وكونها محصورة في عدد معين وعدمه ، وغير ذلك مما سيظهر.

ولا بأس قبل توضيح كلام المصنف بتحقيق نسبة التفصيل المعزي إلى الفاضل التوني بنقل جملة من كلامه ، فانه لا يخلو عن فائدة ، فنقول مستعيناً به عزوجل : قال فيما حكاه عنه شيخنا الأعظم : «ولتحقيق المقام لا بد من إيراد كلام يتضح به حقيقة الحال ، فنقول : الأحكام الشرعية تنقسم إلى ستة أقسام ... إلى أن قال : السادس : الأحكام الوضعيّة كالحكم على شيء بأنه سبب لأمر أو شرط له أو مانع له ... فأما الأحكام الوضعيّة ، فإذا جعل الشارع شيئاً سبباً لحكم من الأحكام الخمسة كالدلوك لوجوب الظهر والكسوف لوجوب صلاته والزلزلة لصلاتها ، والإيجاب والقبول لإباحة التصرفات والاستمتاعات في الملك والنكاح ، وفيه لتحريم أم الزوجة ، والحيض والنفاس لتحريم الصوم والصلاة إلى غير ذلك ، فينبغي أن ينظر إلى كيفية سببية السبب هل هي على الإطلاق كما في الإيجاب والقبول ... أو في وقت معين كالدلوك ونحوه ... وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء ، فان ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ليس تابعاً للثبوت في جزء آخر ، بل نسبة السبب في محل اقتضاء الحكم في كل جزء نسبة واحدة ، وكذلك الكلام في الشرط والمانع.

فظهر مما ذكرناه أن الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلّا في الأحكام الوضعيّة أعني الأسباب والشرائط والموانع للأحكام الخمسة من حيث إنها كذلك ، ووقوعه في الأحكام الخمسة إنما هو بتبعيتها ، كما يقال في الماء الكر المتغير بالنجاسة إذا زال تغيره من قبل نفسه ، فانه يجب الاجتناب عنه في الصلاة ، لوجوبه قبل زوال تغيره ، فان مرجعه إلى أن النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيره فكذلك يكون بعده ...».

وبما نقلناه عن هذا الفاضل ظهر أن نسبة التفصيل في حجية الاستصحاب بين

٢٤٦

وأنه (١) حكم مستقل بالجعل (٢) كالتكليف أو منتزع (٣) عنه وتابع له في الجعل ، أو فيه (٤) تفصيل حتى يظهر (٥) حال ما ذكر هاهنا بين

______________________________________________________

الحكم التكليفي والوضعي إليه ليست كما ينبغي ، لأنه (قده) فصّل بين الحكم الوضعي بمعناه المعروف ـ المقابل للحكم التكليفي ـ كالسببية والشرطية والمانعية ، فاختار عدم جريان الاستصحاب فيه ، وبين متعلقات هذه الأمور أعني ذات السبب والشرط والمانع فقال بجريانه فيها بقرينة تصريحه بإجراء الاستصحاب في نجاسة الماء المتغير ، وهي سبب حكم شرعي أعني وجوب الاجتناب. وإطلاق الحكم الوضعي على نفس السبب وان كان مسامحياً كإطلاق الحكم التكليفي على الواجب والحرام مع أنهما متعلقان للحكم وهو الوجوب والحرمة ، إلّا أن هذه المسامحة لا تقتضي أن ينسب إليه ما هو المعروف.

وما ذكرنا هو محصل ما أفاده العلمان المحققان الآشتياني والشيخ موسى التبريزي صاحب الأوثق (قدهما) في تحقيق ما رامه الفاضل التوني (ره) وقال ثانيهما : «ان ما ذكره تفصيل بين الأحكام التكليفية والوضعيّة وبين متعلقات الأحكام الوضعيّة وهو السبب والشرط والمانع».

(١) معطوف على «حال الوضع» ومفسِّر له ، وضمير «أنه» راجع إلى «الوضع».

(٢) يعني : مطلقاً وبجميع أقسامه ، بقرينة قوله : «أو فيه تفصيل».

(٣) معطوف على «حكم» وضميرا «عنه ، له» راجعان إلى الحكم ، والمراد التبعية مطلقاً.

(٤) أي : في الوضع.

(٥) قيد لقوله : «لا بأس بصرفه» يعني : لا بأس بصرف الكلام إلى بيان حقيقة الحكم الوضعي حتى يظهر حال التفصيل المعزي إلى الفاضل التوني (ره) صحة وسُقماً.

٢٤٧

التكليف والوضع من التفصيل (١) ، فنقول وبالله الاستعانة : لا خلاف (٢) كما لا إشكال في اختلاف التكليف والوضع مفهوماً ،

______________________________________________________

(١) من اعتبار الاستصحاب في التكليف خاصة دون الوضع ، وقوله : «من التفصيل» بيان لـ «ما» الموصول.

(٢) ذكر المصنف قبل بيان ماهية الحكم الوضعي أموراً ثلاثة ، هذا أولها ، وحاصله : أن مفهوم التكليف يغاير مفهوم الوضع ، إذ المراد بالتكليف أحد الأحكام الخمسة وهي الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة ، والمراد بالوضع إيجاد صفة لشيء فعلاً كان أو غيره ، أو إمضاء الشارع لتلك الصفة كما سيظهر ، ومن المعلوم مباينة مفهوم الحكم التكليفي لمفهوم السببية وغيرها من الأحكام الوضعيّة.

وان شئت فقل : ان الحكم التكليفي عبارة عن الخطابات المتعلقة بأفعال العباد اقتضاء أو تخييراً أوّلاً وبالذات ، بحيث يصح حملها عليها بلا واسطة في العروض كقولنا : «الصلاة أو الزكاة واجبة» أو «شرب الماء مباح» أو «شرب الخمر حرام» بخلاف الحكم الوضعي ، فانه ليس كذلك ، بل قد يتعلق بفعل المكلف كقوله : «إتلاف مال الغير سبب للضمان» وقد لا يتعلق به ، كقوله : «الدلوك سبب لوجوب الصلاة».

وعليه فالتكليف والوضع متباينان مفهوماً. لكن النسبة بينهما بحسب المورد والمصداق هي العموم والخصوص من وجه ، لتصادقهما على مثل إتلاف مال الغير بدون إذنه ، وإفطار صوم شهر رمضان بدون عذر ، لصحة أن يقال : «الإتلاف حرام وسبب للضمان» و «الإفطار حرام وسبب لوجوب الكفارة» وكذا الغصب ، وكلبس الحرير للرجال في الصلاة ، فانهما موضوعان لحكمين مستقلين وهما الحرمة والمانعية. وتفارقهما في ضمان الصبي بدلَ ما أتلفه ، ووجوب الصلاة ، فان الضمان في الأول مستقر عليه بدون الحكم التكليفي فعلاً بوجوب الأداء ، والوجوب في الثاني حكم تكليفي بحت وان أمكن دعوى استلزامه للوضع بمعنى شغل الذّمّة ،

٢٤٨

واختلافهما (١) في الجملة مورداً (٢) ، لبداهة (٣) ما بين مفهوم السببية أو الشرطية ومفهوم مثل الإيجاب أو الاستحباب من المخالفة والمباينة.

كما لا ينبغي (٤) النزاع في صحة تقسيم الحكم الشرعي إلى

______________________________________________________

ولذا يجب قضاء ما فات عن الميت مع سقوط الخطاب عنه بالموت.

(١) بالجر معطوف على «اختلاف» وغرضه بيان اختلافهما في المصداق بنحو العموم من وجه ، فلا يمتنع صدقهما على بعض الأمور كما تقدم بقولنا : «لكن النسبة بينهما ...».

(٢) كقولنا : «الإفطار سبب لوجوب القضاء» فان مورد السببية هو الإفطار ، ومورد الوجوب هو القضاء.

(٣) تعليل لقوله : «لا خلاف» و «من المخالفة» بيان للموصول في «ما بين».

(٤) هذا إشارة إلى الأمر الثاني ، والغرض منه إدراج جملة مما عدّ من الأحكام الوضعيّة في الحكم الشرعي ، بيانه : أن الحكم الشرعي يطلق تارة على خطاب الله المتعلق بأفعال العباد من حيث الاقتضاء والتخيير ، وأخرى على مطلق ما يصح أخذه من الشارع وإنشاؤه له بما هو شارع وجاعل للقوانين. فعلى الأول لا يصح تقسيم الحكم إلى التكليفي والوضعي ، لعدم تعلق مثل الملكية والزوجية وسببية الدلوك بفعل المكلف بلا واسطة وان تعلق به مع الواسطة كترتب جواز أنحاء التصرفات على الملكية الحاصلة بأسبابها ، فعلى هذا المعنى تخرج الوضعيات عن كونها أحكاماً شرعية ، إذ ليس فيها جهة الاقتضاء ـ بعثاً وزجراً ـ والتخيير.

وعلى الثاني يصح تقسيم الحكم الشرعي إليهما ، لأن المناط فيه كونه مما تناله يد الجعل التشريعي ، ومن المعلوم صدقه على الحكم الوضعي كالتكليفي ، فكما يمكن اعتبار لابديّة فعلٍ وحرمان آخر بقوله : «أقم الصلاة» و «حُرِّم عليكم الميتة والدم» كذلك له جعل الملكية للحائز بقوله : «من حاز ملك» فان ملكية المحوز للحائز من المجعولات الشرعية. وعليه فلا إشكال في صحة انقسام الحكم

٢٤٩

التكليفي والوضعي ، بداهة (١) أن الحكم وإن لم يصح تقسيمه إليهما ببعض (٢) معانيه ولم يَكَد يصح إطلاقه (٣) على الوضع ، إلّا (٤) أن صحة تقسيمه بالبعض الآخر إليهما ، وصحة (٥) إطلاقه عليه بهذا المعنى (٦) مما لا يكاد ينكر كما لا يخفى. ويشهد به (٧) كثرة إطلاق الحكم عليه

______________________________________________________

الشرعي إلى التكليفي والوضعي ، ولا مجال لإنكارها والتشكيك فيها.

(١) تعليل لقوله «لا ينبغي» وقد عرفت توضيحه.

(٢) وهو كونه خصوص «الخطاب المتعلق بفعل العبد من حيث الاقتضاء والتخيير» إذ على هذا المعنى يختص الحكم بما فيه اقتضاء الفعل من الوجوب والاستحباب أو الترك من الحرمة والكراهة ، وما ليس فيه اقتضاء أحدهما أصلاً أو فيه اقتضاء ان متكافئان وهو الإباحة. وضميرا «تقسيمه ، معانيه» راجعان إلى الحكم.

(٣) أي : إطلاق الحكم ببعض معانيه ، وهو الخطاب المتعلق بفعل العبد ... إلخ.

(٤) متعلق بـ «وان لم يصح» يعني : أن الحكم الشرعي ـ بمعنى مطلق ما يؤخذ من الشارع في وعاء التشريع ـ يصح تقسيمه إلى التكليفي والوضعي ، لكونه مشتركاً معنوياً بينهما ، وكذا بمعنى المحمولات الشرعية المنتسبة إلى الموضوعات ، فضمير «تقسيمه» راجع إلى الحكم ، وضمير «إليهما» إلى التكليفي والوضعي.

(٥) معطوف على «صحة تقسيمه» و «مما لا يكاد» خبر «أن صحة».

(٦) أي : إطلاق الحكم الشرعي على الوضعي بهذا المعنى وهو ما يصح أخذه من الشارع.

(٧) يعني : يشهد بصحة تقسيم الحكم إلى التكليفي والوضعي كثرة إطلاق الحكم على الوضعي في كلمات العلماء ، وحيث عدّوا الملكية والزوجية والحرية والرقية أحكاماً شرعية. وتوهم كون هذا الإطلاق في كلماتهم على نحو التجوز لاختصاص الحكم بالتكليف ، فاسد ، لأنه خلاف الأصل ومنوط بقرينة مفقودة

٢٥٠

في كلماتهم. والالتزام بالتجوّز فيه (١) كما ترى.

وكذا (٢) لا وقع للنزاع في أنه محصور في أمور مخصوصة كالشرطية والسببية والمانعية كما هو المحكي عن العلامة (٣) ، أو مع زيادة العلية والعلامية (٤) ، أو مع زيادة الصحة والبطلان (٥) والعزيمة

______________________________________________________

في المقام.

(١) أي : في إطلاق الأصحاب الحكم على الوضعي ، و «كما ترى» خبر والالتزام. وقد تقدم توضيحه بقولنا : «وتوهم كون هذا الإطلاق ...» وضمير «عليه» راجع إلى الوضعي.

(٢) هذا بيان للأمر الثالث وهو كون الأحكام الوضعيّة محصورة في عدد معين وعدمه ، وحاصله : أنه وقع الخلاف في أن الأحكام الوضعيّة هل هي محصورة أم لا؟ وعلى الأول وقع الخلاف أيضا في عددها ، والمصنف (قده) يدعي أنه لا مسرح لهذا الخلاف ، لوجهين : أحدهما عدم الوجه في تخصيص الحكم الوضعي بما ذكروه بعد وضوح إطلاق الحكم على غيره أيضا كالحرية والرقية. والآخر عدم ترتب ثمرة علمية ولا عملية على حصر الحكم الوضعي وعدمه. فالحق حينئذ أن يقال : ان كل ما لا يكون تكليفاً سواء أكان له دخل في التكليف أو متعلقه أم لم يكن له دخل فيهما مع فرض إطلاق الحكم عليه في كلماتهم يكون ذلك هو الحكم الوضعي.

(٣) وعن السيوري وغيرهما ، والظاهر أن المراد الشرطية والسببية والمانعية للتكليف.

(٤) كما هو المحكي عن الشهيد الثاني ، ومثال العلامية خفاء الجدران المجعول علامة على حد الترخص ، وجعل الجدي خلف المنكب الأيمن علامة لقبلة أهل العراق ، لكن حكي عنه احتمال رجوعهما إلى السبب ، والعلامية إلى الشرط.

(٥) مطلقاً كما عن ظاهر الحاجبي والعضدي ، أو في خصوص المعاملات كما

٢٥١

والرخصة (١) ، أو زيادة غير ذلك (٢) كما هو المحكي عن غيره ،

______________________________________________________

عن بعض الشافعية ، وأما في العبادات فقد حكم بكونهما عقليين. واختار المصنف (قده) في مسألة اقتضاء النهي للفساد وعدمه قولاً آخر ، فذهب إلى كونهما مجعولين في المعاملات ، وفي العبادات الثابتة بأمر ظاهري أو اضطراري كالصلوات العذرية المحرزة شرائطها بالأمارات الشرعية كالإتيان بها إلى الجهة التي شهدت البينة بكون القبلة فيها ، وكفعلها في لباس مستصحب الطهارة ، أو في آخر الوقت خالية عن السورة ، فان حكم الشارع بتماميتها في هذه الصور ونظائرها مع عدم وفائها بتمام مصلحة الواقع هو المقصود من مجعولية الصحة. وأما إذا كان المأمور به الاضطراري أو الظاهري وافياً بتمام ملاك المأمور به الاختياري أو بمعظمه بحيث لا يقتضي الباقي تشريع وجوب الإعادة أو القضاء ، فالصحة غير مجعولة ، بل هي أمر واقعي يعني من اللوازم العقلية للإتيان بالمأمور به ، وكذا في الإتيان بالمأمور به الأولي.

(١) حُكي زيادتهما عن الحاجبي والعضدي ، والأُولى عن الآمدي ، وقد يقال بكونهما حكمين تكليفيين ، إذ العزيمة لزوم فعل شيء كالركعتين الأخيرتين من الرباعية للمسافر المقيم ، أو لزوم تركه كهاتين الركعتين للمسافر غير المقيم في غير مواطن التخيير. والرخصة جواز الفعل أو الترك كسقوط الأذان في موارده. لكنها غير الإباحة ، ضرورة أن الأذان عبادة ، ولا معنى لجواز العبادة بمعنى الإباحة ، إذ لا بد في العبادة من الرجحان ، فلا يعقل تساوي فعل العبادة وتركها.

(٢) حكي عن صلاح الدين : أن القرافي زاد التقديرات والحجاج ، والمراد بالأول تنزيل الموجود منزلة المعدوم كتنزيل الماء الموجود المحتاج إلى شربه منزلة عدمه في تشريع جواز التيمم ، أو العكس كتنزيل المقتول منزلة الحي في ملكية الدية لتورث ، إذ لا يرث الوارث إلّا ما ملكه الميت حال حياته ، والمفروض أن الدية تجب بالموت لا قبله ، فينزّل الموت منزلة الحياة. وبالثاني مطلق الحجج. ثم ان المحكي عن فوائد العلامة الطباطبائي (قده) «عد شيء جزءاً أو خارجاً من

٢٥٢

أو (١) ليس بمحصور ، بل كل ما ليس بتكليف مما له دخل فيه (٢) أو في متعلقه (٣) وموضوعه (٤) ، أو (٥) لم يكن له دخل مما (٦) أطلق عليه الحكم

______________________________________________________

الحكم الوضعي ، وكذا كون اللفظ موضوعاً لمعناه المعين شرعاً» وعن غيره عدّ حجية الإجماع من الحكم الوضعي.

(١) معطوف على «محصور» يعني : لا وقع للنزاع في الحصر وعدمه.

(٢) أي : في التكليف ، والدخيل في نفس الحكم هو ما سيأتي في القسم الأول في كلام المصنف ، وذلك كالاستطاعة الدخيلة في توجه خطاب وجوب الحج إلى المكلف.

(٣) أي : في متعلق التكليف ، وهو القسم الثاني ، كالجزئية والشرطية للمكلف به كالصلاة والحج ، فشرطية الاستقبال في الصلاة ومانعية لبس ما لا يؤكل فيها حكمان شرعيان وضعيان ، وهكذا.

(٤) أي : في موضوع التكليف ، كالزوجية والملكية اللتين يترتب عليهما آثار شرعية من جواز الاستمتاع ووجوب النفقة وغيرهما من الآثار المترتبة على الزوجية ، وجواز الهبة وشراء المملوك للعتق الواجب وغيرهما من الآثار المترتبة على الملكية.

(٥) معطوف على «كان» المقدر الّذي يتعلق به «مما» يعني : كان مما له دخل أو لم يكن مما له دخل ، وغرضه أن بعض الأحكام الوضعيّة مع عدم دخله في موضوع الحكم التكليفي ولا في متعلقه يصح عده من الأحكام الوضعيّة وان لم يترتب عليه التكليف ، وذلك كحجية الأدلة غير العلمية ، فانها ـ بناءً على استقلالها في الجعل وعدم انتزاعها عن حكم تكليفي ـ تكون حكماً وضعياً. وكذا الوكالة على ما قيل.

(٦) بيان للموصول في «ما ليس بتكليف» وحاصله : أنه لا وجه للنزاع في حصر الحكم الوضعي وعدمه كما عرفت ، وضمير «عليه» راجع إلى الموصول في «مما».

٢٥٣

في كلماتهم ، ضرورة (١) أنه لا وجه للتخصيص بها (٢) بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على غيرها. مع أنه (٣) لا تكاد تظهر ثمرة مهمة علمية أو عملية للنزاع في ذلك (٤) ، وإنما المهم (٥) في النزاع هو أن الوضع كالتكليف في أنه مجعول تشريعاً بحيث يصح انتزاعه بمجرد إنشائه ،

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : «وكذا لا وقع للنزاع» وهو إشارة إلى أول الوجهين ، وقد تقدم بقولنا : «أحدهما عدم الوجه في تخصيص ... إلخ».

(٢) هذا الضمير وضمير «غيرها» راجعان إلى المذكورات ، أو إلى أمور مخصوصة.

(٣) الضمير للشأن ، وهذا إشارة إلى الوجه الثاني المتقدم بقولنا : «والآخر عدم ترتب ثمرة عملية ...» ويمكن أن تكون الثمرة جريان الأصل فيما يعد من الأحكام الوضعيّة وعدم جريانه فيما لا يعد منها.

(٤) أي : في الحصر وعدمه.

(٥) بعد أن فرغ من الأمور الثلاثة شرع في تحقيق الحكم الوضعي والتفصيل بين أقسامه ، وحاصل ما أفاده : أنه لا وقع للنزاع في حصر الحكم الوضعي وعدمه لعدم كونه مهماً ، بل المهم تحقيق كون الوضع كالتكليف في صحة جعله وإنشائه بالاستقلال ، وعدم كونه كالتكليف في قابليته للإنشاء بالاستقلال ، والمصنف (قده) اختار التفصيل في ذلك بين الأمور المعدودة من الأحكام الوضعيّة ، وحاصله : أن تلك الأمور على أقسام ثلاثة :

أحدها : ما لا يقبل الجعل الشرعي أصلاً لا استقلالاً ولا تبعاً.

ثانيها : ما يقبله تبعاً للتكليف ولا يقبله أصالة واستقلالاً.

ثالثها : ما يقبل كلًّا من الجعل الاستقلالي والتبعي ، وسيظهر تفصيل كل من هذه الأقسام إن شاء الله تعالى.

٢٥٤

أو غير مجعول كذلك (١) بل إنما هو منتزع عن التكليف ومجعول بتبعه (*) وبجعله (٢).

______________________________________________________

(١) أي : تشريعاً ، وان كان مجعولاً تكوينياً للشارع بما هو خالق هويّات الممكنات.

(٢) الضميران راجعان إلى التكليف. ثم ان هذا مبني على مختاره من كون الحكم التكليفي من الاعتبارات الجعلية والمعاني الإنشائية التي تنالها يد التشريع سواء أكان بلفظ الإنشاء كصيغة «افعل» أم بلفظ الأخبار مثل «هذا واجب وذاك حرام» وأما بناءً على كون حقيقة الحكم مجرد العلم بالصلاح والفساد من دون استتباعه للشوق المحرك للعضلات الباعث على إيجاد الفعل أو على الأمر بإيجاده أو كونه هو الشوق المؤكد المعبر عنه بالحالة النفسانيّة البعثية فلا يبقى إنشاء ، بل جميع الخطابات إخبار عن المصالح والمفاسد والترجحات النفسيّة.

__________________

 (*) لا يخفى ما في جعل الانتزاعية مساوقةً للتبعية من المسامحة ، ضرورة أن الأمور الانتزاعية لا حظّ لها من الوجود ، لكون الموجود خارجاً أو اعتباراً هو منشأ الانتزاع ، مع وضوح اقتضاء التبعية لتعدد الوجود المنوط بتعدد الإيجاد كلوازم الوجود المجعولة بتبعه ، وكتبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها بناءً على الملازمة ، فان المجعول متعدد حقيقة ، لا أنه وجوب واحد ينسب إلى ذي المقدمة بالذات وإلى مقدمته بالعرض. وحيث ان المعاني الانتزاعية كما سيأتي بيانه لا تقرر لها إلّا في الذهن ، فاللازم التعبير بوجودها عَرَضاً في قبال وجود ما ينتزع منه بالذات ، لعدم كون المجعول بالعرض مجعولاً حقيقة ، ولا يصح إطلاق الوجود التبعي عليها المتقوم بتعدد المجعول حقيقة ، غايته يتبع أحدهما الآخر. هذا ما أفاده المحقق الأصفهاني بتوضيح منّا (١).

والظاهر تماميته ، للفرق بين سنخي الوجود التبعي والعرضي كما أفاده ، والمعنى الانتزاعي من الثاني لا الأول. وكلمات المصنف (قده) مختلفة ، فعبّر

__________________

(١) نهاية الدراية ٣ ـ ٥١

٢٥٥

والتحقيق أن ما عدّ من الوضع على أنحاء :

منها : ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعاً أصلاً لا استقلالاً ولا تبعاً وان كان مجعولا تكويناً عَرَضاً بعين جعل موضوعه كذلك (١).

______________________________________________________

(١) أي : تكويناً ، كجعل دهنية الدهن ، فانها مجعولة تكويناً بجعل الدهن وإيجاده.

ثم إنه قد يتوهم التنافي بين ما أفاده المصنف (قده) في أول البحث من صدق الحكم ببعض معانيه على الوضع وبين ما أفاده هنا من إخراج القسم الأول من الأحكام الوضعيّة طرّاً ، لأنها غير مجعولة لا استقلالاً ولا تبعاً ، إذ لا يتمشى صدق الحكم الشرعي على ما لا يقبل الجعل أصلاً.

لكنه مندفع بأن حقيقة الحكم الوضعي وان كانت متقومة بأحد نحوي الجعل ، إلّا أن ذكر القسم الأول ـ الخارج عن الأحكام الوضعيّة حقيقة ـ إنما هو للمماشاة مع القوم حيث عدوا السببية للتكليف مثلاً من الوضعيات ، مع وضوح عدم صدق ضابط الحكم بمعنى المجعول الشرعي التأسيسي أو الإمضائي عليها ، ولأجل

__________________

تارة بأن الانتزاعيات موجودة عرضا ، لقوله في الحاشية : «فيكون كل واحد منهما مجعولاً بالعرض تشريعاً بعين جعل الآخر بالذات ، وهذا كما أنه جعل الماهية تكويناً موجباً لجعل لوازمها بالعرض كذلك بعين ذاك الجعل» (١) وعليه فمقصوده من الجعل التبعي هنا هو الجعل العرضي ، وقوله في المتن : «وان كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله» يدل عليه أيضا. وعبّر أخرى بما يدل على تعدد الوجود كما هو ظاهر كلامه في بحث الأقل والأكثر الارتباطيين : «وان الجزئية مسببة عن التكليف ، بداهة أن السببية والمسببية تقتضيان الاثنينية لا الاتحاد والعينية» وهذا كما ترى لا يلائم الوجود العرضي المدعى هنا. ومع هذا التهافت بين الكلامين يشكل توجيه التبعية التي اصطلح عليها هنا ، فتأمل في العبارة.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١٩٧ و ١٥٤

٢٥٦

ومنها : ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلّا تبعاً للتكليف (١).

ومنها : ما يمكن فيه الجعل استقلالاً بإنشائه وتبعاً (٢) للتكليف بكونه (٣) منشئاً لانتزاعه وإن كان الصحيح انتزاعه (٤) من إنشائه وجعله ، وكون التكليف من آثاره وأحكامه على ما يأتي الإشارة إليه.

______________________________________________________

التنبيه على هذه النكتة قال المصنف : «أن ما عدّ من الوضع على أنحاء ...» ولم يقل : «الأحكام الوضعيّة على أنحاء ...» ويؤكده تعبيره في الحاشية : «لا إشكال أيضا في تطرق الجعل وسرايته إلى الوضع في الجملة» (١) لا بالجملة ، فتأمل في العبارة حقه.

(١) كانتزاع الجزئية لجزء المركب كالسورة من الصلاة ، فان إيجاب مركب خاص يوجب قهراً اتصاف كل واحد من أجزائه بالجزئية للواجب ، واتصاف الخصوصية الوجودية كالستر ولبس ما لا يؤكل بالشرطية والمانعية ، ويكون إيجاب المركب أصالة بـ «صلّ» إنشاءً لتلك الأمور الانتزاعية تبعاً.

(٢) معطوف على «استقلالاً» والظاهر زيادة كلمة «بإنشائه» للاستغناء عنها بنفس الجعل ، وضميره راجع إلى «ما يمكن» المراد به الأمر الوضعي. والجعل الاستقلالي في هذا القسم كأن يقول من بيده الاعتبار : «هذه الدار ملك لزيد» والتبعي كأن يقول : «يجوز لزيد أن يتصرف في هذه الدار بما يتوقف على مالكيته لها» وكأن يقول تارة : «يا فلان افصل خصومة هذين المترافعين» فينتزع منه جعل منصب القضاء ، وأخرى : «فاني جعلته عليكم حاكماً» فانه عليه‌السلام بهذا الإنشاء جعل منصب الحكومة بنحو العموم لمن كان أهلاً له.

(٣) أي : بكون التكليف منشئاً لانتزاع الوضع ، كانتزاع حجية الأمارة من وجوب العمل بها على ما قيل.

(٤) أي : انتزاع الوضع ، والضمائر من «إنشائه إلى أحكامه» راجعة إلى الوضع ، و «ان كان» وصلية.

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١٩٤

٢٥٧

أما النحو الأول (١) فهو

______________________________________________________

(١) وهو ما لا تناله يد التشريع لا أصالةً ولا تبعاً. ومحصل ما أفاده فيه : أنهم اختلفوا في مجعولية سببية شيء للتكليف ـ وكذا أخواتها الثلاث ـ على أقوال ثلاثة.

الأول : أنها مجعولة بالاستقلال كما نسبه الشيخ الأعظم إلى المشهور بقوله : «ان الحكم الوضعي حكم مستقل مجعول كما اشتهر في ألسنة جماعة أوّلا».

الثاني : أنها منتزعة عن التكليف المترتب على موضوعاتها كانتزاع السببية عن وجوب الصلاة المترتب على الدلوك في مثل : «أقم الصلاة لدلوك الشمس» ويستفاد هذا من ردِّ شيخنا الأعظم لكلام شارح الوافية بقوله : «فانه إذا قال لعبده : أكرم زيداً ان جاءك ، فهل يجد المولى من نفسه أنه أنشأ إنشاءين وجعل أمرين أحدهما وجوب إكرام زيد عند مجيئه ، والآخر كون مجيئه سبباً لوجوب إكرامه؟ أو أن الثاني مفهوم منتزع من الأول لا يحتاج إلى جعل مغاير لجعله ، ولا إلى بيان مخالف لبيانه ، ولهذا اشتهر في ألسنة الفقهاء سببية الدلوك ومانعية الحيض ، ولم يرد من الشارع إلّا إنشاء طلب الصلاة عند الأول وطلب تركها عند الثاني».

الثالث : أنها منتزعة عن الخصوصية التكوينية القائمة بما هو سبب أو شرط أو مانع ، فليست مجعولة بالاستقلال ولا منتزعة عن التكليف كما سيظهر.

والمصنف اختار الوجه الأخير وأبطل الأولين. أما بطلان القول الأول ، فلأن لازمه تأثير المتأخر في المتقدم ، حيث ان أجزاء العلة متقدمة على المعلول ، فإذا فرض توقف بعض أجزائها على وجود المعلول لزم تأثير المتأخر ـ أعني المعلول ـ في المتقدم ، وهذا غير معقول. وتطبيقه على المقام : أن الأمر الانتزاعي متأخر عن منشأ الانتزاع ، إذ لو لا وجود المنشأ لا معنى لانتزاع شيء منه ، مع أن مقتضى سببية شيء للتكليف هو تقدمه عليه ، لكون السبب في مرتبة العلة ، والتكليف في مرتبة المعلول. وعليه فالالتزام بانتزاع السببية عن التكليف يستلزم كون المتأخر عن التكليف متقدماً عليه والمتقدم عليه متأخراً عنه ، وهذا معنى اجتماع

٢٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

المتقابلين المستحيل.

هذا في السببية ، وكذا الحال في الشرطية والمانعية ، فان شرط التكليف ومانعة في رتبة متقدمة على المشروط والممنوع ، فالالتزام بانتزاعيتهما يقتضي تأخرهما ، وهو تأخر ما هو المتقدم ، وذلك باطل.

وأما بطلان القول الثاني المعزي إلى المشهور فلأن هذه الأمور لو كانت مجعولة بالاستقلال لزم الخلف ، إذ لو كانت السببية وأخواتها دائرة مدار الجعل المستقل فاللازم امتناع انتزاعها من غيرها ، مع وضوح بطلانه ، لصحة انتزاعها وان لم تنشأ السببية للدلوك مثلاً ، بل أُنشئ الوجوب للصلاة عند الدلوك بأن قال : «إذا زالت الشمس فصل» فان المنشأ هو الوجوب عند الدلوك ، ويصح انتزاع السببية من نفس هذا الإنشاء ، ولزم عدم صحة انتزاعها له ، ان لم يترتب وجوب الصلاة عليه وإن أُنشِئت السببية له.

وبعد وضوح بطلان هذين القولين يتعين المصير إلى كون منشأ انتزاع السببية وغيرها هي الخصوصية الذاتيّة القائمة بذات السبب والشرط ونحوهما من أجزاء العلة ، إذ لو لم تكن تلك الخصوصية الموجبة للربط الخاصّ بين السبب والمسبب المقتضي لتأثير السبب فيه لأثّر كل شيء في كل شيء ، كتأثير الماء في الإحراق والنار في التبريد ، ومن المعلوم فساده ، بداهة وجود الربط التكويني الخاصّ بين أجزاء العلة به تؤثر في المعلول ، ولو لا هذه العلقة اللزومية لزم اختصاص بعض الأسباب ببعض المسببات بلا مخصص ، وهو يرجع إلى التخصص بلا مخصص وإلى الترجح بلا مرجح ، وذلك محال.

وحيث ان المناط في السببية تلك الخصوصية الذاتيّة المقتضية للتأثير فلا يعقل تحققها بالإنشاء والجعل ، لعدم كونها من سنخ الاعتباريات المتقومة باعتبار من بيده الأمر ، فإنشاؤها لا يؤثِّر في وجود تلك الخصوصية تكويناً ، فقوله : «الدلوك سبب لوجوب الصلاة» لا يقتضي حدوث السببية له تعبداً ، لأن سببية شيء للتكليف

٢٥٩

كالسببية (١) والشرطية (٢) والمانعية (٣) والرافعية (٤) لِما (٥) هو سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه ، حيث إنه (٦) لا يكاد يعقل

______________________________________________________

لا تختلف عن سببية مثل النار للإحراق ، وشرطية شيء له لا تختلف عن شرطية مثل المجاورة والمحاذاة بين النار والمحترق بها ، ومانعية شيء له كمانعية الرطوبة عن الإحراق ، فهي أُمور تكوينية ، فكما لا يعقل صيرورة شيءٍ حجراً بمجرد الجعل والتشريع فكذا سببية مثل بلوغ المتعاقدين لتأثير العقد في إفادة ملكية الثمن والمثمن للبائع والمشتري لأجل خصوصية فيه يفقدها الصبي المميّز الّذي يقل سنه عن البلوغ بساعة مثلاً.

فالمتحصل : أن السببية لا تنتزع عن التكليف المترتب على موضوعه ، لتأخره عن السببية ، وإلّا يلزم تأثير المتأخر في المتقدم. وعليه فلا مجال للالتزام بما ذهب إليه الشيخ الأعظم من انتزاعها من التكليف ، كما لا تكون مجعولة بالاستقلال. فلا محيص عن الذهاب إلى كون منشأ انتزاع السببية ونحوها من أجزاء العلة هي الخصوصية الذاتيّة التي تكون ثابتة لها تكويناً بتبع تكوين نفس السبب والشرط وغيرهما كما لا يخفى.

(١) نظير الدلوك لوجوب الصلاة ، والحيازة لملكية المباح المحوز ، إذ لا فرق في السببية لحكم بين كونه تكليفياً ووضعياً.

(٢) نظير الاستطاعة الشرعية لوجوب الحج.

(٣) كالعجز المانع عن التكليف بالطهارة المائية.

(٤) كالمرض الطارئ على من تمكن من الحج مباشرة مع كون المرض مما لا يرجى زواله ، فانه رافع لوجوب الحج مباشرة وموجب للاستنابة ، وكأحد نواقض الوضوء الرافع لجواز الدخول في المشروط بالطهارة.

(٥) متعلق بالسببية وأخواتها.

(٦) الضمير للشأن ، وهذا شروع في إبطال احتمال كون السببية ونحوها منتزعة عن الحكم التكليفي لتكون مجعولة تشريعاً تبعاً كما ذهب إليه بعض ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «أما بطلان القول الأول فلأن لازمه تأثير ...».

٢٦٠