منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

منتهى الدّراية في توضيح الكفاية - ج ٧

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤلّف
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٨٢٥

حُسن اسناد النقض إليه بملاحظته (١) لا بملاحظة متعلقه ، فلا [ولا] موجب (٢) لإرادة ما هو أقرب إلى الأمر المبرم أو أشبه بالمتين المستحكم مما فيه اقتضاء البقاء ، لقاعدة (٣) «إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات» بعد تعذر إرادة مثل ذاك الأمر (٤) مما يصح اسناد النقض إليه حقيقة. فان قلت (٥):

______________________________________________________

(١) أي : بملاحظة اليقين ، وقد أُسند النقض إلى العهد والبيعة لِما فيهما من ثبات الوصلة ، فمنه قوله تعالى : «والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه» و «لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها» وكذا في نقض البيعة ، وضمير «إليه» راجع إلى اليقين.

(٢) يعني : بعد صحة إسناد النقض إلى نفس اليقين لا موجب لِما ذكره الشيخ الأعظم (قده) من إرادة المتيقن ـ الّذي فيه اقتضاء البقاء ـ من اليقين. وقد عرفت أن أساس كلامه (قده) كان على إثبات اسناد النقض إلى المتيقن ، وكون خصوص ما فيه استعداد البقاء أقرب إلى معنى النقض. لكنك عرفت أيضا أنه لا أساس له ، وأن مصحِّح الإسناد هو استحكام اليقين ، لا متعلقه حتى يفصّل بين ما فيه استعداد الدوام وغيره ، ومن المعلوم أن وصف اليقين بما هو اعتقاد جازم لا يفرق فيه بين تعلقه بما يبقى في عمود الزمان وما لا يبقى ، فالمناط هو اليقين بما أنه مرتبة راسخة من العلم غير قابلة للزوال.

(٣) تعليل للمنفي وهو قوله : «إرادة» كما نصّ عليه شيخنا الأعظم (قده).

(٤) أي : ذاك الأمر المبرم المحسوس.

(٥) المستشكل يريد إثبات مقالة الشيخ الأعظم (قده) من اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع ، وعدم حجيته في الشك في المقتضي ، ولا يخفى أن هذا الإشكال ليس تتمة لكلام الشيخ وان كان مرتبطاً بأصل دعواه ، وانما هو

١٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

إشارة إلى دليل آخر على اختصاص أخبار الاستصحاب بالشك في الرافع ، ذكره الماتن في حاشية الرسائل بقوله : «نعم يمكن تقريب دلالة الأخبار على الاختصاص بالشك بالرافع بوجه أدق وأمتن ، وهو : أنه قد عرفت أن استعمال لفظ النقض فيها انما هو بلحاظ تعلقه باليقين ، وقد عرفت أيضا أنه لا يصح النهي عنه بحسبه إلّا فيما انحل اليقين حقيقة واضمحل كما في مورد قاعدة اليقين ، أو مسامحة كما في الشك في الرافع في مورد الاستصحاب ... إلخ» (١).

وتوضيحه : أنه لا ريب في امتناع تعلق وصفي اليقين والشك بأمر واحد في زمان واحد لكونهما متضادين ، فلا بد من اختلاف زمانيهما أو متعلقيهما ، فان اتحد المتعلق وتغاير زمان حصول اليقين والشك ـ بحيث تعذر اجتماعهما ـ كان مورد قاعدة اليقين ، كما إذا تيقن يوم الجمعة بعدالة زيد ثم شك يوم السبت في عدالته بنحوٍ انتقض يقينه السابق بسبب سراية الشك إلى العدالة في يوم الجمعة. وان تعدد المتعلق واتحد زمان حصول الوصفين بأن تعلق اليقين بحدوث الشيء والشك في بقاء ذلك الحادث كان مورد الاستصحاب ، لاجتماع اليقين والشك زماناً في الاستصحاب ، لأنه في حال شكه في البقاء يكون متيقناً بالحدوث.

إذا عرفت هذا فاعلم : أن صحة اسناد النقض إلى اليقين في قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» تتوقف على كون الشك ناقضاً لليقين وهادماً له حقيقة كنقض النوم مثلاً للطهارة ، وهذا المعنى انما يتصور في قاعدة اليقين ، لسراية الشك فيها إلى اليقين وانمحاء الصورة العلمية عن لوح النّفس ، دون الاستصحاب ، لبقاء اليقين على حاله ، ضرورة أن الشك في الاستصحاب يكون في البقاء دون الحدوث ، فالشك مجتمع مع اليقين لا ناقض له حتى يصح النهي عن نقضه به ، وحيث ان الشارع الأقدس طبّق هذه الجملة على الاستصحاب في مضمرة زرارة من اليقين بالوضوء والشك في انتقاضه بالخفقة والخفقتين ، فلا جرم يكون اسناد النقض إلى

__________________

(١) حاشية الرسائل ، ص ١٩٠

١٠٢

نعم (١) ، ولكنه حيث لا انتقاض لليقين في باب الاستصحاب حقيقة (٢) ، فلو لم يكن هناك اقتضاء البقاء في المتيقن لما (٣) صحّ إسناد

______________________________________________________

اليقين بعناية المجاز وهي : أن متعلق اليقين لمّا كان من شأنه البقاء لوجود مقتضية كان كأنه متيقن البقاء في آن الحدوث ، فاليقين تعلق بحدوثه حقيقة وببقائه اعتباراً نظير ثبوت المقبول كالنطفة بثبوت القابل كالإنسان ، فان ثبوت المقبول بالذات ثبوت للقابل بالعرض ، واليقين بالمقبول يقين بالقابل اعتباراً ، فذلك اليقين السابق بالحدوث ذاتاً يقينٌ ببقائه اعتباراً لأجل قابليته للبقاء ، والمفروض أن اليقين بالبقاء قد ارتفع وتبدل بالشك ، وصحّ بالمسامحة أن يقال : انه اضمحل ، ويصح حينئذ النهي عنه بحسب العمل. وهذا بخلاف الشك في المقتضي ، لعدم انحلال اليقين فيه لا حقيقة ولا مسامحة.

والحاصل : أن اليقين في الاستصحاب وان لم يُنقَض حقيقة ، فالإسناد لا يخلو من مسامحة ، إلّا أنه فرق بين تعلق اليقين بما من شأنه البقاء والدوام وما ليس كذلك ، إذ في الأول يتعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين ، فيقوى شباهته بما إذا انتقض اليقين حقيقة كما في قاعدة اليقين ، بخلاف الثاني ، إذ لا يصح أن يقال : لو لا الشك في الرافع لكان على يقين بالبقاء.

هذا بيان ما أفاده المصنف هنا وفي الحاشية ، وقد عرفت أنه وجه آخر لتخصيص أخبار الاستصحاب بموارد إحراز المقتضي والشك في الرافع.

(١) أي : سلمنا أن اسناد النقض إلى اليقين في صحيحة زرارة وغيرها انما هو بلحاظ نفسه دون المتيقن ، ولكن الشأن حيث لا انتقاض ... إلخ.

(٢) ضرورة كون الشك في البقاء لا في أصل الحدوث ، وإلّا كان مورداً لقاعدة اليقين ، حيث ينتقض فيها اليقين حقيقة بسبب سراية الشك إليه.

(٣) جواب «لو لم يكن» وجملة الشرط والجواب جواب لقوله : «حيث لا انتقاض». ومحصله : أن اسناد النقض في باب الاستصحاب إلى اليقين ليس حقيقياً ، لبقاء اليقين بالحدوث على حاله ، والإسناد المجازي منوط بكون المتيقن

١٠٣

الانتقاض إليه بوجه ولو مجازاً ، بخلاف ما إذا كان (١) هناك ، فانه (٢) وان لم يكن معه أيضا (٣) انتقاض حقيقة ، إلّا (٤) أنه صحّ إسناده إليه مجازاً ، فان اليقين معه (٥) كأنّه تعلق بأمر مستمر مستحكم قد انحل وانفصم بسبب الشك فيه من جهة الشك في رافعه.

قلت (٦) : الظاهر أن وجه الإسناد هو لحاظ اتحاد متعلقي اليقين

______________________________________________________

مما يقتضي البقاء والدوام.

(١) أي : إذا كان اقتضاء البقاء محرزاً في المستصحب.

(٢) الضمير للشأن ، وضمير «معه» راجع إلى اقتضاء البقاء في المتيقن.

(٣) أي : كما إذا لم يكن من شأن المتيقن البقاء والاستمرار ، و «انتقاض» اسم «يكن» والتعبير بالنقض كما في الصحيحة أولى من التعبير بالانتقاض.

(٤) استدراك على قوله : «وان لم يكن» وضمير «أنه» للشأن ، وضمير «إليه» راجع إلى اليقين ، يعني : أن مصحِّح الاستعمال المجازي في اسناد النقض إلى اليقين انما يوجد في خصوص مورد إحراز المقتضي والشك في الرافع.

(٥) أي : مع اقتضاء المتيقن للبقاء ، وضمير «كأنه» راجع إلى اليقين.

(٦) هذا جواب الإشكال ، وقد ذكره في حاشية الرسائل بعد بيان الدليل المتقدم بما لفظه : «لكنك عرفت أن الظاهر أن وجه إطلاق النقض واسناده إلى اليقين في مورد الاستصحاب انما هو بملاحظة اتحاد متعلقي اليقين والشك ذاتاً وعدم ملاحظة تعددهما زماناً» ومحصله : أن الإشكال المتقدم مبني على دخل الزمان في متعلقي اليقين والشك ، ضرورة مغايرة المقيد بالزمان الأول للمقيد بالزمان الثاني ، فان عدالة زيد يوم الجمعة التي هي مورد اليقين تغاير عدالته في يوم السبت التي هي مورد الشك ، ومن المعلوم أن الشك في عدالته يوم السبت لا يوجب زوال اليقين بعدالته يوم الجمعة حتى يصح اسناد النقض إليه ، فلا بد من اعتبار مصحِّح للإسناد وهو ما تقدم من العناية والمسامحة.

١٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

لكن الظاهر إمكان الإسناد بعناية أخرى أقرب إلى أذهان العرف ، وهي تجريد الشك واليقين عن الزمان ولحاظ اتحاد متعلقيهما ، يعني إلغاء متعلق اليقين من حيث كونه حدوث الشيء ، ومتعلق الشك من حيث كونه بقاءه ، فكأنّ هذين الوصفين تعلّقا بذات واحدة وهي العدالة ، وحيث كان الملحوظ نفس المتعلق كان هذا المقدار كافياً في صحة اسناد النقض إلى اليقين ، ولا يبقى مجال لتخصيص مفاد الأخبار بالشك في الرافع فقط. ففي المثال المتقدم يصح أن يقال : «عُلِمت العدالة ثم شُكّ فيها» فبلحاظ اتحاد متعلقي اليقين والشك ذاتاً يصح اسناد النقض إلى اليقين ، ويقال : انتقض اليقين بعدالة زيد بالشك فيها سواء أكان المتيقن مقتضياً للبقاء أم لا.

فان قلت : ان اسناد النقض إلى اليقين حيث كان مجازياً على كل حال ، فمقتضى قاعدة «إذا تعذرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى» هو حمل «النقض» على رفع اليد عن خصوص اليقين المتعلق بما فيه اقتضاء البقاء ، لكونه أقرب إلى المعنى الحقيقي من حمله على رفع اليد عن مطلق اليقين وان تعلق بما ليس في ذاته اقتضاء الدوام ، وعليه يختص اعتبار الاستصحاب بالشك في الرافع دون المقتضي ، فثبت مدعى الشيخ (قده).

قلت : وان كان ذلك أقرب ظاهراً ، إلّا أن المدار في الأقربية إلى المعنى الحقيقي هو العرف لا العقل ، واليقين المتعلق بما فيه اقتضاء البقاء أقرب إلى المعنى الموضوع له اعتباراً لا عرفاً ، لما عرفت من كون النقض مسنداً إلى نفس اليقين الّذي هو أمر مبرم من دون لحاظ العرف لمتعلقه ، فلا يتفاوت في نظرهم بين كون متعلق اليقين مما فيه اقتضاء البقاء وبين كونه مما لم يكن فيه ذلك ، فالأقربية بنظر العقل لا توجب اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع بعد كون المناط في الأقربية نظر العرف المتبع في تشخيص مداليل الخطابات الشرعية كما لا يخفى. ويشهد له أن العرف لا يفهم من تشبيه زيد مثلا بالأسد إلّا الشجاعة ، مع كون الأقرب عقلاً إلى

١٠٥

والشك ذاتاً وعدم ملاحظة تعددهما زماناً ، وهو (١) كافٍ عرفاً في صحة اسناد النقض إليه واستعارته (٢) له بلا تفاوت في ذلك (٣) أصلاً في نظر أهل العرف بين ما كان هناك اقتضاء البقاء وما لم يكن. وكونه (٤) مع المقتضي أقرب بالانتقاض وأشبه لا يقتضي تعيُّنه [تعيينه] لأجل قاعدة «إذا تعذرت الحقيقة» فان (٥) الاعتبار في الأقربية إنما هو بنظر

______________________________________________________

الحيوان المفترس هو الواجدية لجميع صفات الأسد ، لا خصوص الشجاعة التي هي إحدى صفاته.

(١) أي : اتحاد متعلقي اليقين والشك ذاتاً كافٍ في صحة اسناد النقض إلى اليقين.

(٢) أي : استعارة النقض لليقين ، وهو عطف تفسيري لـ «صحة اسناد».

ووجه الاستعارة تشبيه اليقين بالأمر المبرم المستحكم ، وإثبات أثره وهو الانفصام للمشبّه ، فالمقصود من التشبيه إثبات قابلية اليقين للانتقاض ، فيكون نظير «وإذا المنية أنشبت أظفارها».

(٣) أي : في صحة اسناد النقض إلى اليقين. والحاصل : أن تمام المناط في صحة إطلاق النقض على شيء هو إبرامه واقتضاؤه للبقاء سواء أكان الشك فيه للشك في المقتضي أم الرافع ، ويشهد له صحة إطلاق النقض في مورد انتفاء المقتضي كصحته عند وجود الرافع ، فيقال : «التيمم ينتقض عند وجدان الماء» كما يقال : «ينتقض بالحدث» بلا تفاوت بين الاستعمالين عرفاً.

(٤) مبتدأ خبره «لا يقتضي» وضميره راجع إلى النقض ، وهو دفع توهم تقدم بيانه بقولنا : «فان قلت : ان اسناد النقض ... قلت : وان كان ذلك أقرب ... إلخ».

(٥) تعليل لقوله : «لا يقتضي». وقد تقدم تقريبه في قولنا : «قلت : وان كان ذلك أقرب ... إلخ».

 

١٠٦

العرف (١) ، لا الاعتبار ، وقد عرفت عدم التفاوت بحسب نظر أهله (٢). هذا كله في المادة (٣).

وأما (٤) الهيئة فلا محالة يكون المراد منها النهي عن الانتقاض

______________________________________________________

(١) كما عرفت في تشبيه زيد بالأسد ، فان المتبع في صحة الاستعمالات المجازية هو النّظر العرفي دون الدقة العقلية.

(٢) أي : أهل العرف ، والأولى إسقاط «أهله» رعاية للإيجاز.

(٣) أي : في مادة النقض ، وقد عرفت أن كلمة «النقض» لا تصلح لأن تكون قرينة على تخصيص عموم دليل الاستصحاب بالشك في الرافع.

(٤) هذا ناظر إلى ما أفاده الشيخ الأعظم من اقتضاء هيئة «لا تنقض» لتخصيص عموم «اليقين» بموارد الشك في الرافع بإرادة المتيقن من اليقين. والمصنف يمنع هذه الدلالة. وتفصيله : أن قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين» وما هو بمنزلته يحتمل فيه وجوه أربعة :

أحدها : نقض نفس اليقين كما هو ظاهر القضية. ثانيها : نقض آثار اليقين وأحكامه الشرعية. ثالثها : نقض نفس المتيقن. رابعها : نقض آثار المتيقن وأحكامه.

وعلى التقادير لا يمكن أن يراد بالنقض معناه الحقيقي الّذي هو فعل اختياري. أما بالنسبة إلى نفس اليقين فلوضوح انتقاضه قهراً بعروض الشك ، فلا وجود لليقين حتى يصح تعلق النهي بنقضه ، ومن المعلوم اعتبار كون الفعل المتعلق به الأمر أو النهي مقدوراً للعبد ، وعدم صحة تعلق التكليف بغير المقدور.

وأما بالنسبة إلى أحكام اليقين ، فلأن الحكم تابع لموضوعه وجوداً وعدماً ، فمع انتفاء الموضوع ينتفي الحكم أيضا ، وإلّا يلزم الخلف والمناقضة كما قرر في محله ، فإذا فرض كون اليقين موضوعاً لأحكام شرعية فلا محالة تنتفي بانتفائه كارتفاع وجوب التصدق إذا نذر ذلك ما دام متيقناً بحياة زيد ، وزال يقينه.

مضافاً إلى : أن حدوث الأحكام وبقاءها بيد الشارع ، فلا معنى لإبقاء العبد

١٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أحكام الشرع إلّا بحسب العمل ، فوجوب البقاء على الحالة السابقة حكم شرعي أمره بيد الشارع ، ولكن العمل به وامتثاله من الأفعال الاختيارية للمكلف.

وأما بالنسبة إلى المتيقن كالوضوء والحياة وغيرهما ، فلأن بقاء المتيقن في الخارج تابع لعلته المبقية ، فان كانت هي باقية فهو باقٍ ، وإلّا فلا ، فإبقاء المتيقن ليس فعلاً اختيارياً قابلاً لتعلق التكليف به ، فإذا كان المتيقن هو الوضوء فبقاؤه منوط بعدم طروء الناقض واقعاً ، لا بإبقاء المكلف له.

وأما بالنسبة إلى آثار المتيقن كجواز الدخول في الصلاة وغيرها مما يشترط فيه الطهارة ، فلما تقدم في آثار المتيقن من عدم كون الأحكام الشرعية تحت قدرة المكلف واختياره.

وبالجملة : فالنقض الحقيقي غير مرادٍ هنا قطعاً سواء أريد باليقين نفسه كما هو ظاهر القضية ، أم المتيقن من باب المجاز في الكلمة ، أم آثار المتيقن بالإضمار وتقدير «آثاره» بأن يكون قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين» بمنزلة قوله «لا تنقض آثار المتيقن» فيكون هنا مجازان أحدهما في الكلمة ، لأنه استعمل اليقين في المتيقن ، والآخر في الحذف وهو تقدير «الآثار» المضاف إلى اليقين الّذي أريد به المتيقن.

وإذا ثبت عدم كون النقض حقيقياً على كل تقدير ، فلا محالة يراد به النقض من حيث العمل ، لأنه مما يمكن تعلق النقض به ، إذ مرجع عدم النقض حينئذ إلى عدم رفع اليد عن العمل السابق الواقع على طبق اليقين ، فكأنه قيل : «أبق عملَك المطابق لليقين» وهذا المعنى قابل لتعلق الخطاب به ، لأنه في حال اليقين بالوضوء كان يصلّي ويطوف ويمس كتابة المصحف مثلاً ، وفي حال الشك يبقي هذه الأعمال. ولا فرق في إرادة إبقاء العمل من «لا تنقض» بين إرادة المتيقن من «اليقين» وإرادة آثار اليقين ، وإرادة آثار المتيقن منه.

وقد ظهر من هذا البيان : أن الإبقاء من حيث العمل لا فرق فيه بين تعلق اليقين

١٠٨

بحسب البناء والعمل (١) لا الحقيقة ، لعدم (٢) كون الانتقاض بحسبها [بحسبهما] تحت الاختيار سواء كان متعلقاً باليقين كما هو (٣) ظاهر القضية ، أم بالمتيقن ، أم بآثار اليقين بناءً (٤) على التصرف فيها بالتجوز (٥) أو الإضمار (٦) ،

______________________________________________________

بما فيه اقتضاء البقاء وتعلقه بما ليس فيه ذلك ، لوضوح صدق الإبقاء عملاً في كلتا الصورتين على حدٍّ سواء في نظر العرف. وعليه فمن حيث الهيئة أيضا لا سبيل لاستفادة اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع ، هذا.

وقد اتضح أيضا عدم الوجه في التصرف في «لا تنقض» بإرادة المتيقن من اليقين ، أو الإضمار بإرادة آثار اليقين كما ذكره الشيخ بناء منه على كون النقض محمولاً على معناه الحقيقي لو بني على أحد هذين التصرفين. وذلك لما عرفت من عدم كون النقض حقيقياً على كل تقدير ، فلا يجدي التصرف المزبور في صحة حمل النقض على معناه الحقيقي.

(١) عطف تفسيري للبناء كما قد يعبر عنه أحياناً بالبناء العملي ، الّذي هو المطلوب في الاستصحاب وسائر الأصول العملية دون البناء القلبي والالتزام النفسانيّ ، وضمير «منها» راجع إلى «الهيئة» و «بحسب» متعلق بـ «الانتقاض».

(٢) تعليل لقوله : «فلا محالة يكون ...» وضمير «بحسبها» راجع إلى الحقيقة.

(٣) أي : تعلق النقض باليقين ظاهر قوله : «لا تنقض اليقين» بحسب الوضع الأدبي ، لكون اليقين مفعولاً لـ «لا تنقض».

(٤) قيد لكل من «المتيقن وآثار اليقين» وهما الاحتمال الثالث والثاني من الاحتمالات الأربعة المتقدمة ، وضمير «فيها» راجع إلى القضية.

(٥) يعني : المجاز في الكلمة بإرادة المتيقن من اليقين.

(٦) بتقدير «الآثار» أي : آثار اليقين. وهذا وما قبله من التجوز تعريض

١٠٩

بداهة (١) أنه كما لا يتعلق النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه بنفس اليقين (٢) كذلك لا يتعلق بما كان (٣) على يقين منه ، أو أحكام (٤) اليقين ، فلا يكاد (٥) يجدي التصرف

______________________________________________________

بكلام الشيخ (قده).

(١) تعليل للتعميم الّذي ذكره بقوله : سواء كان متعلقاً باليقين ... إلخ.

(٢) لانتقاضه قهراً بتبدله بالشك ، فلا معنى للنهي عن نقضه.

(٣) وهو المتيقن كالوضوء في مضمرة زرارة ، ووجه عدم صحة النهي عن نقضه هو ما عرفت من أن بقاء الوضوء في الخارج تابع لعلته المبقية له من عدم طروء الناقض لا بإبقاء المكلف له.

(٤) معطوف على «ما» الموصول ، يعني : كذلك لا يتعلق النهي عن النقض بأحكام اليقين ، لأن الحكم الشرعي المترتب على اليقين ينتفي بزوال اليقين كما هو شأن انتفاء كل حكم بانتفاء موضوعه ، ولا معنى للنهي عن نقضه حينئذ.

(٥) هذه نتيجة ما تقدم من أن الإبقاء من حيث العمل لا يفرق فيه بين تعلق اليقين بما من شأنه الدوام وبما ليس كذلك ، وفيه ردّ على كلام الشيخ الأعظم (قده) حيث انه بعد بيان اختصاص النقض بما إذا كان الشك في الرافع ، قال ما لفظه : «ثم لا يتوهم الاحتياج إلى تصرفٍ في اليقين بإرادة المتيقن منه ، لأن التصرف لازم على كل حال ، فان النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه لا يتعلق بنفس اليقين على كل تقدير ، بل المراد نقض ما كان على يقين منه وهو الطهارة السابقة أو أحكام اليقين» فان ظاهره إمكان إرادة النقض الاختياري إذا كان متعلقاً بالمتيقن أو أحكام اليقين ، وعدم إمكان إرادته إذا تعلق بنفس اليقين.

لكن قد عرفت عدم إمكان إرادة النقض الاختياري مطلقاً وان تعلق بالمتيقن أو آثار اليقين ، فلا مجوِّز للتقدير أو الإضمار ، إذ المفروض أن هذا التصرف لا يوجب حمل النقض على معناه الحقيقي حتى يجوز ارتكابه.

١١٠

بذلك (١) في بقاء الصيغة على حقيقتها ، فلا مجوِّز له (٢) فضلاً عن (٣) الملزِم كما توهم (*).

لا يقال : لا محيص عنه (٤) ،

______________________________________________________

مضافاً إلى منع لزوم التصرف حتى لو صحّ به حمل النقض على حقيقته ، ووجه المنع دوران الأمر بين التصرف في الصيغة بإرادة النقض العملي ، وفي اليقين بإرادة المتيقن أو آثار اليقين ، والتصرف في الهيئة أهون من ارتكاب المجاز في اليقين ، لعدم وجود علاقة تصحِّح استعمال اليقين في المتيقن. هذا مع ما عرفت من أن المناسب للنقض نفس اليقين بما هو أمر مبرم.

(١) أي : بالتجوز أو الإضمار.

(٢) أي : للتصرف بالتجوز أو الإضمار ، وضمير «حقيقتها» راجع إلى الصيغة.

(٣) هذا إشكال آخر على الشيخ تقدم بقولنا : «مضافاً إلى منع لزوم ...».

(٤) أي : لا محيص عن التصرف في متعلق النقض وإرادة نفس المتيقن ، وغرض المستشكل تثبيت ما أفاده شيخنا الأعظم من إرادة المتيقن من اليقين في قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين» وذلك لأن اليقين في الصحيحة ـ أعني اليقين بالوضوء ـ طريقي محض ، ضرورة أن الآثار الشرعية من جواز الدخول في الصلاة وغيره تترتب على نفس الوضوء لا على اليقين به ، فلا أثر لليقين حتى يترتب عليه بنهي الشارع عن النقض ، وإنما يصح ذلك في اليقين الموضوعي الّذي يترتب عليه شرعاً آثار

__________________

(*) هذا الإشكال غير وارد على الشيخ ، لأنه قال بعد عبارته المتقدمة : «وكيف كان فالمراد إما نقض المتيقن ، فالمراد بالنقض رفع اليد عن مقتضاه ، وإما نقض أحكام اليقين أي الثابتة للمتيقن من جهة اليقين ، والمراد حينئذ رفع اليد عنها ...» وهو يدل بوضوح على إرادة النقض العملي الّذي هو فعل اختياري قابل لورود النقض عليه ، لا الحقيقي. نعم قد يوهم كلامه الأول إرادة النقض الحقيقي ، لكن لا بد من ملاحظة تمام كلامه لاستفادة مرامه زيد في علو مقامه.

١١١

فان (١) النهي عن النقض بحسب العمل لا يكاد يراد بالنسبة إلى اليقين وآثاره ، لمنافاته (٢) مع المورد.

فانه يقال : إنما يلزم (٣) لو كان اليقين ملحوظاً بنفسه وبالنظر

______________________________________________________

وأحكام ، لصحة الحكم ببقاء الأثر المرتب على اليقين بعد زواله. ولكن المفروض كون اليقين في مورد الصحيحة طريقاً محضاً ، وعليه فهذا التصرف لازم لا أنه بلا ملزم.

(١) تعليل لـ «لا محيص» وقد عرفت تقريبه بقولنا : «وذلك لأن اليقين في الصحيحة ... إلخ».

(٢) أي : لمنافاة النقض بحسب العمل مع مورد الصحيحة حيث يكون اليقين فيه طريقاً محضاً إلى الوضوء.

(٣) أي : انما يلزم المنافاة مع المورد. وهذا دفع الإشكال ، وحاصله : أن متعلق النقض وان كان مفهوم اليقين الّذي يقتضي الاستقلالية ، إلّا أنه يكتسب الآلية والطريقية من مصاديقه الخارجية ، وبيانه : أن اليقين الخارجي بكل شيء يكون مغفولاً عنه ، بحيث لا يرى المتيقن ـ بالكسر ـ إلّا نفس المتعلق من دون التفات إلى الصورة الذهنية التي هي متعلقات العلم حقيقة ، لكن المرئي وهو الصورة الذهنية ـ لمكان رؤية الخارج له ـ لا يرى إلّا خارجياً ، نظير الصورة المنعكسة في المرآة فان الرائي يرى نفسه وان كان المرئي حقيقة هو ظلُّه.

وبالجملة : فمصاديق اليقين كلها طرق وآلات لكشف متعلقاتها ، ولمّا كان وجود الطبيعي عين الأفراد ، فلا بد من كون الطبيعي كمصاديقه ليتحد معها وينطبق عليها ، فلا محالة تسري الآلية من المصاديق الخارجية إلى الطبيعي أعني اليقين الّذي أسند إليه النقض ، فيكتسب اليقين الكلي من أفراده المرآتية والطريقية ، فيكون اليقين الكلي الّذي يسند إليه النقض في ظاهر القضية ملحوظاً طريقاً. وبهذه العناية ينطبق نقض اليقين على المورد ، فكأنه قال : «لا تنقض المتيقن» وعلى هذا فالموضوع هو المتيقن لا اليقين.

١١٢

الاستقلالي ، لا (١) ما إذا كان ملحوظاً بنحو المرآتية وبالنظر الآلي كما هو (٢) الظاهر في مثل قضية «لا تنقض اليقين» حيث تكون ظاهرة

______________________________________________________

ونظير المقام النص الوارد في وجوب إعادة الصلاة على من استيقن أنه زاد فيها ، فان الموضوع لوجوب الإعادة نفس زيادة الركن لا اليقين بها ، غاية الأمر أن اليقين يوجب تنجزه. ونظيره أيضا في المحاورات العرفية ما يقال : «إذا علمت بمجيء زيد فأكرمه» مع أن لُبّ مراد المولى إكرام زيد على تقدير المجيء لا على العلم به ، وانما يؤخذ العلم في الخطاب طريقاً ومرآةً لمتعلقه ، ولذا يقوم كل كاشف عن الواقع مقامه.

نعم قد يؤخذ اليقين موضوعاً للحكم بحيث يكون هو تمام الموضوع أو جزؤه على تفصيل تقدم في مباحث القطع.

(١) معطوف على «لو كان» واسم «كان» ضمير راجع إلى اليقين.

(٢) أي : كون اليقين ملحوظاً بنحو المرآتية هو الظاهر من قضية «لا تنقض اليقين» ولعله لأن الغالب في اليقين المأخوذ في الخطابات هو الطريقية ، وهذه الغلبة توجب الظهور في خلاف الموضوعية. أو بملاحظة مناسبة الحكم والموضوع في خصوص أخبار الاستصحاب ، فانها خطابات ملقاة إلى العرف ، وليس مفادها عندهم ترتيب آثار اليقين ، بل ظاهرة في معنى كنائي وهو جعل حكم مماثل تعبداً إذا كان المستصحب حكماً شرعياً ، وجعل حكم مماثل لحكم المستصحب إذا كان موضوعاً لحكم شرعي.

والوجه في هذا الظهور الكنائي تعذر تعلق هيئة «لا تنقض» بنفس اليقين ، لانتقاضه قهراً ، ولا بآثار اليقين ، لأنها أحكام عقلية غير قابلة للجعل التشريعي ، ولا نفس المتيقن ، لأنه ان كان حكماً فبقاؤه وارتفاعه بيد الشارع لا بيد العبد ، وان كان موضوعاً لحكم شرعي ، فكذلك ، لأن بقاءه تابع لاستعداد ذاته للبقاء ، لا بيد المكلف حتى يبقيه. فيتعين حينئذ كون مفاد الجملة جعل حكم مماثل.

١١٣

عرفاً في أنها كناية عن لزوم البناء والعمل بالتزام (١) حكم مماثل للمتيقن تعبداً إذا كان (٢) حكماً ، ولحكمه (٣) إذا كان موضوعاً ، لا (٤) عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين بالالتزام (٥) بحكم مماثل لحكمه شرعاً وذلك (٦) لسراية الآلية من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلي ،

______________________________________________________

(١) الأولى تعديته بـ «على» ليصح تعلقه بكل من البناء والعمل ، لأنه لم يعهد تعدية البناء ـ بمعنى العمل ـ بالباء ، فلاحظ.

(٢) يعني : إذا كان المتيقن حكماً كما في استصحاب الأحكام كالوجوب.

(٣) أي : ولحكم المتيقن إذا كان المستصحب من الموضوعات ذوات الآثار الشرعية كالحياة والعدالة والغنى والفقر وغيرها. ولا يخفى أن مدلول أخبار الاستصحاب أمر واحد وهو الكناية عن لزوم العمل بالمتيقن السابق تعبداً ، ولكن يختلف هذا البناء العملي باختلاف المستصحب ، فقد يكون إنشاءَ حكم مماثل لنفسه ان كان حكماً ، وقد يكون إنشاءَ حكم لمثل حكمه ان كان المستصحب موضوعاً ذا أثر شرعي ، فالاختلاف في مصاديق ذلك المكنى عنه لا في نفس مفاد دليل الاستصحاب.

(٤) معطوف على «ظاهرة عرفاً» يعني : لا أن قضية «لا تنقض» لزوم العمل بآثار نفس اليقين حتى ينافي مورد الرواية من جهة كون اليقين فيها طريقاً قطعاً.

(٥) ظرف مستقر نعت لقوله : «العمل» يعني : لا أنها عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين الحاصل ذلك ـ أي العمل بآثار اليقين ـ بالالتزام بحكم مماثل لحكم اليقين.

(٦) تعليل لقوله : «كما هو الظاهر» ودفع لتوهمٍ تقدم بيانه ، ومحصل التوهم : أن الطريقية والاستقلالية من الحالات العارضة على اليقين المصداقي دون المفهومي ، لوضوح أن مفهوم اليقين لا يكون مرآةً حتى يلاحظ فيه المرآتية ، كما أن مفهوم المرآة لا يكون آلة للنظر والإراءة ، بل مصداقه الخارجي ، ومن الواضح

١١٤

فيؤخذ (١) في موضوع الحكم في مقام بيان حكمه مع عدم دخله (٢) فيه أصلاً ، كما ربما يؤخذ (٣) فيما له دخل فيه أو تمام الدخل (٤) ، فافهم (٥) (*).

______________________________________________________

أن اليقين في قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين» قد استعمل في المفهومي منه ، فكيف يُلاحظ مرآةً للمتيقن؟ بل لا بد من إرادة الاستقلالي منه ، فيتوجه حينئذ إشكال المنافاة مع اليقين بالوضوء الّذي هو مورد الرواية ، إذ لا ريب في إرادة الآلي من هذا اليقين.

وقد أجاب المصنف عنه بقوله : «وذلك لسراية» وقد عرفت توضيحه بقولنا : «ولما كان وجود الطبيعي عين الأفراد فلا بد ... إلخ».

(١) أي : يؤخذ اليقين ـ في موضوع حكم الشارع بحرمة النقض ـ مثلاً بلحاظ مرآتي ويكون تمام الموضوع ذات المتيقن ، وحيث انه لم يستعمل هذا اليقين في أفراده التي يكون النّظر إليها استقلالياً لكونها جزءَ موضوع الحكم أو تمامَ الموضوع ، كان النّظر إلى هذا المفهوم الكلي أيضا آلياً ، لسراية أحكام المصاديق إلى الطبيعي.

(٢) أي : عدم دخل اليقين في موضوع الحكم ، لكون الموضوع ذات المتيقن.

(٣) هذا عدل لقوله : «فيؤخذ» أي : ربما يؤخذ اليقين في موضوعٍ يكون لليقين دخل في الموضوع ، فتسري الاستقلالية من مصاديق ذلك اليقين إلى الكلي المأخوذ في لسان الدليل ، لأن اليقين المستعمل في الأفراد بلحاظ استقلالي يستعمل في المفهوم الكلي أيضا بلحاظ استقلالي.

(٤) إذا لم يكن للواقع المعلوم دخل في الحكم ، بل كان تمام الموضوع هو اليقين.

(٥) لعله إشارة إلى : أن مجرد سراية الآلية من اليقين الخارجي إلى اليقين

__________________

(*) أورد شيخنا المحقق العراقي على جعل اليقين مرآةً لمتعلقه أولا : بمخالفته للأصل المعوّل عليه من ظهور كل عنوان في الحكاية عن إرادة مفهومه استقلالاً.

١١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

المفهومي لا يوجب ظهور القضية عرفاً في كون اليقين ملحوظاً مرآةً وطريقاً إلى المتيقن.

نعم يكون ذلك وجهاً لصحة لحاظ الطريقية في اليقين المفهومي إذا اقتضت الضرورة لحاظ الآلية فيه. فدعوى ظهور مثل قضية «لا تنقض» في اليقين الطريقي لا تخلو عن الجزاف. وعليه فلا يمكن المساعدة على ما ذكره شيخنا الأعظم (قده) من إرادة المتيقن بالتصرف المزبور ، فتأمل جيداً.

__________________

وثانياً : بأن لازم المرآتية على ما اعترف به المصنف في المعنى الحرفي أن يكون اليقين بمفهومه مغفولاً عنه في مقام الاستعمال ، مع أنه ليس كذلك في المقام. بل لازم ذلك استعمال اليقين في خلاف وضعه ، لوحدة المعنى الاسمي والحرفي ذاتاً واختلافهما بحسب الاستعمال ، فمعنى مرآتية اليقين هنا استعماله بنحو المعنى الحرفي. ودعوى سراية المرآتية من المصاديق إلى المفهوم ممنوعة ، إذ لازم سراية المرآتية عدم الالتفات إلى حيثية استحكامه أيضا ، ومعه كيف يمكن جعل هذه الحيثية مصححة لإضافة النقض إليه ، فلا بد أن يكون المصحح للإضافة حيثية اتصال المتيقن ، وهذا ينتج اختصاص الاستصحاب بموارد الشك في الرافع بعد إحراز بقاء المقتضي ، وهو ضد المقصود من عموم حجيته لأجل اسناد النقض إلى اليقين (١).

ثم سلك (قده) مسلكاً آخر لإثبات عموم حجية الاستصحاب في الشك في المقتضي أيضا بما حاصله : أن اليقين مأخوذ في القضية عنواناً لا مرآةً للمتيقن ، فهو بمعناه الاسمي موضوع لحرمة النقض سواء ترتب الأثر عليه أم على المتيقن ، إذ قد يترتب الحكم الشرعي على اليقين بنفسه كالعلم بالنجاسة الموضوع للمانعية على ما هو ظاهر بعض الأخبار ، وقد يترتب على المتيقن كالطهارة الحدثية ، لترتب الآثار الشرعية عليها لا على العلم بها ، وحيث كان المنقوض هو اليقين الملحوظ استقلالاً ، والمفروض إطلاق اليقين والشك من حيث المتعلق كان الاستصحاب حجة

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ٤ ـ ٨٢

١١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

في جميع الانقسامات الأولية.

وتوهم استلزام هذا البيان لاجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في اليقين المنقوض ، لاقتضاء ترتب آثار اليقين للحاظه استقلالاً ، وترتب آثار المتيقن للحاظه آليّاً (مندفع) بأن المقصود لحاظ اليقين استقلالياً فقط ، لكن آثار اليقين قد تترتب عليه حقيقة ، كما في العلم المأخوذ في الموضوع ، وقد تترتب عليه بالعناية لكونها آثاراً للمتيقن ، لكن محركية الأحكام الواقعية لمّا كانت منوطة بالعلم بها وكان التعبد ببقاء اليقين في ظرف الشك بلحاظ الجري العملي صحّ عدُّ أحكام المتيقن أحكاماً لليقين ، وعليه فالملحوظ هو اليقين الاستقلالي فقط ، فلم يلزم اجتماع لحاظين في اسناد واحد.

لكنه لا يخلو من غموض ، أما اشكاله على الماتن فيجاب عنه بأن مقصود المصنف (قده) من آلية اليقين للمتيقن ليس هو النّظر الآلي المقوِّم للمعنى الحرفي المقابل للمعنى الاسمي ، ضرورة اسناد النقض هنا إلى اليقين ، فلو كان اليقين ملحوظاً آلةً وعبرةً للمتيقن كما هو الحال في الابتداء المغفول عنه في «سرت من البصرة» المدلول عليه بحرف الجر ، والظرفية المغفول عنها في «زيد في الدار» ونحوهما من المعاني الحرفية لم يصح اسناد النقض إلى اليقين. بل المراد أن إضافة النقض إلى اليقين انما تكون بلحاظ آثار المتيقن ، لانتقاض اليقين بتبدله بالشك ، ومن المعلوم أن هذا الاستعمال المجازي متوقف على النّظر إلى اليقين ولحاظه بما هو اسم ، كاستعمال الأسد في الرّجل الشجاع ، لإناطة صحته بالالتفات إلى معناه الحقيقي وإرادة معنى آخر منه ، فكأنه قال عليه‌السلام : «لا تنقض المتيقن» مما يصح تعلق النقض الاختياري به.

والحاصل : أن ما قرره المصنف في المعنى الحرفي من الغفلة عنه لا ربط له بما أفاده هنا من استعمال اليقين مجازاً بلحاظ آثار المتيقن. ولو كان مراده من المرآتية هو الآلية المقصودة في المعاني الحرفية لاختل اسناد النقض إلى نفس

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

اليقين ، كما لا يصح وقوع الحرف ركناً في الكلام كأن يقال : «من ابتداء» و «في ظرفية».

ومما ذكرنا ظهر اندفاع اشكاله الثاني ـ من كون المعنى الحرفي مغفولاً عنه ـ فان اليقين هو المسند إليه والملتفت إليه في مقام الإسناد ، ولم يلزم لحاظ المتيقن حتى يراعى حيثية اتصاله واستعداده للبقاء.

وأما ما أفاده (قده) في تحقيق مختاره فلا يخلو أيضا من شيء ، فان خطاب «لا تنقض» حيث كان من الخطابات الشرعية فلا بد أن يكون النقض بلحاظ الأثر الشرعي ، وحيث انه في اليقين نادر جداً فلا بد من إرادة آثار المتيقن ، وكون اليقين حينئذ آلياً استقلالياً.

وما أفاده من كون أحكام المتيقن آثارَ اليقين بالعناية لا يفي بدفع الإشكال ، إذ لا أثر لليقين إلّا تنجيز الأحكام الواقعية ، وهو أثر عقلي لا شرعي ، وعليه فآثار المتيقن أجنبية عن اليقين فكيف تعد من آثاره؟ والنقض بصحة التعبد بلحاظ الأثر العقلي كما هو الحال في اقتضاء أدلة الأمارات لقيامها مقام القطع الطريقي مع انحصار الأثر في التنجيز والتعذير (غير متجه) وذلك لتوقف ورود هذا النقض على كون المجعول الشرعي في الأمارات تتميم كشفها وتنزيلها منزلة القطع ، وقد تقدم في مبحث الأمارات ضعف هذا المبنى وعدم التعبد الشرعي فيها ، وأن أدلة الأمارات إمضاء لبناء العقلاء من دون تعبد وتنزيل في البين ، فلا مورد لهذا النقض أصلاً.

ثم انه ينبغي تعقيب كلام المصنف (قده) بوجوه أخرى استدل بها على اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع ، لترتب الآثار الفقهية عليه ، فنقول وبه نستعين : انه ينبغي قبل التعرض للأدلة بيان أمرين :

أحدهما : توضيح مراد شيخنا الأعظم (قده) من المقتضي في تفصيله بين الشك في المقتضي والرافع. والظاهر أن مقصوده منه هو مقدار استعداد المستصحب

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

للبقاء في عمود الزمان ، فان شك في مقدار اقتضائه للاستمرار فيه فهو شك في المقتضي. وان شك في زواله من ناحية عروض زماني مزيل له كان من الشك في الرافع. وقد أصر المحقق النائيني تبعاً لأستاذه المحقق السيد محمد الأصفهاني (قدس‌سرهما) على أن هذا هو مراد الشيخ.

ويستفاد ذلك مما صرح به الشيخ (قده) في تقسيم الاستصحاب باعتبار الشك في البقاء بقوله : «الثالث : من حيث ان الشك في بقاء المستصحب قد يكون من جهة المقتضي والمراد به الشك من حيث استعداده وقابليته في ذاته للبقاء كالشك في بقاء الليل ... إلخ». نعم كلامه في مناقشة استدلال المحقق في المعارج ظاهر في إرادة معنى آخر منه ، حيث قال الشيخ : «وفيه : أن المراد بالمقتضي إما العلة التامة للحكم أو للعلم به أعني الدليل أو المقتضي بالمعنى الأخص» لكن التأمل فيه يرشد إلى أنه (قده) بصدد إبطال دليل المحقق ، وأن المقتضي في كلامه هو العموم أو الإطلاق ، ولا ربط له بما اختاره الشيخ في معنى المقتضي من استعداد المستصحب للبقاء لو لا طروء المزيل ، فلاحظ كلاميهما.

وعلى هذا فلا يراد بالمقتضي الملاك وفي قباله الرافع كاقتضاء العلم لوجوب الإكرام ومانعية الفسق عنه ، إذ لا سبيل لإحراز مناطات الأحكام إلّا الخطابات ، ولازمه انسداد باب الاستصحاب في الأحكام ، لتبعية الحكم لملاكه تبعية المعلول لعلته ، والشك في الحكم ملازم للشك في مناطه. مضافاً إلى جريان النزاع على مذهب غير العدلية ممن ينكر أصل التبعية للملاكات.

كما لا يراد بالمقتضي أيضا الفاعل وما يترشح منه الأثر كالنار ، في قبال الشرط المتمم لفاعلية الفاعل أو قابلية القابل ، وعدم المانع ، لجريان الاستصحاب في العدميات التي لا معنى للاقتضاء بمعنى إفاضة الوجود عليها.

كما لا يراد بالمقتضي أيضا موضوعات الأحكام أي ما يستتبع حكماً شرعياً تكليفياً أو وضعياً كاقتضاء الوضوء للطهارة وعقد النكاح لعلقة الزوجية ، ورافع هذه الأمور

١١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

.................................................................................................

__________________

كنواقض الوضوء والطلاق والفسخ. وذلك لاعتبار اتحاد القضيتين ، وإحراز المقتضي بمعنى الموضوع أمر متسالم عليه ، فلا ينبغي جعل التفصيل بين المقتضي والرافع ناظراً إلى المقتضي بهذا المعنى.

ثانيهما : تعيين موارد الشك في المقتضي والرافع ، فنقول : ان المستصحب إما أن يكون موضوعاً وإما أن يكون حكماً شرعياً ، فان كان موضوعاً وشك في بقائه من جهة الترديد في مقدار عمره فهو شك في المقتضي ، وان شك فيه للشك في حدوث قاسر زماني موجب لانعدامه عن صفحة الوجود مع قابليته ذاتاً للبقاء لولاه فهو شك في الرافع.

وان كان حكماً شرعياً فاما أن يكون محدوداً بغاية معينة في لسان الدليل ، وإما أن لا يكون محدوداً بها ، فعلى الأول قد ينشأ الشك في البقاء من عدم إحراز المقتضي ، كما إذا شك حكماً في أن غاية وقت صلاة العشاء نصف الليل أو آخره ، أو مفهوماً كالعلم بأن غاية وجوب الإمساك هو الغروب المردد مفهومه بين استتار القرص وزوال الحمرة المشرقية. وقد ينشأ الشك في البقاء من الشك في تحقق الغاية بنحو الشبهة الموضوعية كالشك في طلوع الشمس لغيمٍ ونحوه ، وهذا ملحق بالشك في الرافع ، إذ الرافع هو الحادث الزماني ، ومن المعلوم أن غاية وقت فريضة الغداة نفس الزمان أعني الطلوع.

وعلى الثاني ـ أعني عدم محدودية الحكم الشرعي بغاية معينة ـ فالشك في بقائه يستند إلى الشك في طروء المزيل أعني العناوين الثانوية كالضرر والاضطرار ، لا من الشك في المقتضي ، لإمكان إحراز دوامه إما بنفس دليل تشريعه وإما بدليل آخر مثل قوله عليه‌السلام : «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة».

إذا عرفت هذا فاعلم : أنه قد استدل على عدم اعتبار الاستصحاب في الشك في المقتضي بوجوه خمسة : أولها ما تقدم في التوضيح عن المحقق الخوانساري

١٢٠