إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٧

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٧

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٠

٣ ـ قصة زيد بن حارثة :

أجمع أهل التفسير على أن قوله تعالى «وما جعل أدعياءكم أبناءكم» أنزل في زيد بن حارثة ، وكان من أمره ما رواه أنس بن مالك وغيره أنه سبي صغيرا فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد فوهبه لعمته خديجة بنت خويلد فوهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه فأقام عنده مدة ثم جاء عنده أبوه وعمه في فدائه فقال لهما رسول الله : خيّراه فإن اختراكما فهو لكما دون فداء فاختار زيد الرق مع رسول الله على حريته فقال النبي عند ذلك : يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني ، ولما تزوج النبي زينب بنت جحش التي كانت امرأة زيد بن حارثة الذي تبناه النبي قالوا تزوج محمد امرأة ابنه فكذبهم الله في ذلك وسترد القصة مع مناقشتها قريبا في هذه السورة.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨))

٦٠١

الاعراب :

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) النبي مبتدأ وأولى بالمؤمنين خبر ومن أنفسهم متعلقان بأولى أيضا. (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) الواو عاطفة وأزواجه مبتدأ وأمهاتهم خبر وسيأتي معنى هذا التشبيه في باب البلاغة وأولو الأرحام مبتدأ أيضا والأرحام جمع رحم وهي القرابة وبعضهم مبتدأ ثان أو بدل من أولو وأولى ببعض خبر ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي بإرث بعض وفي كتاب الله متعلقان بأولى أو بمحذوف حال من الضمير في أولى ومن المؤمنين جار ومجرور متعلقان بأولى أيضا أي الأرقاب بعضهم أولى بإرث بعض من أن يرثهم المؤمنون والمهاجرون الأجانب ولك أن تعلقها بمحذوف على أنها حال لأنها بمثابة البيان لقوله أولو الأرحام. (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) إلا أداة استثناء وأن تفعلوا مصدر مؤول مستثنى من أعم العام لأنه استثناء من غير الجنس أي إلا في الوصية وهي المعنية بفعل المعروف والى أوليائكم متعلقان بتفعلوا بعد تضمينها معنى تؤدوا أو تسدوا ومعروفا مفعول به وكان واسمها ومسطورا خبرها وفي الكتاب متعلقان بمسطورا.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) الظرف متعلق بمحذوف أي اذكر والكلام مستأنف ولك أن تعطفه على محل في الكتاب فيتعلق بمسطورا والأول أولى وجملة أخذنا في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن النبيين متعلقان بأخذنا وميثاقهم مفعول به والمراد به تبليغ الرسالة وما بعده عطف على من النبيين من عطف الخاص على العام كما سيأتي في باب البلاغة.

٦٠٢

(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) عطف على أخذنا السابقة وسيأتي سر وصف الميثاق بالغلظ في باب البلاغة. (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) اللام للتعليل ويسأل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بأخذ على طريق الالتفات وفاعل مستتر يعود على الله والصادقين مفعول به وعن صدقهم متعلقان بيسأل وأعد للكافرين عطف على أخذنا من النبيين وللكافرين متعلقان بأعد وعذابا مفعول به وأليما صفة.

البلاغة :

١ ـ التشبيه البليغ :

في قوله «وأزواجه أمهاتهم» تشبيه بليغ ووجه الشبه متعدد يتعلق ببعض الأحكام وهي : وجوب تعظيمهن واحترامهن وتحريم نكاحهن ولذلك قالت عائشة : «لسنا أمهات النساء» تعني أنهن إنما كنّ أمهات الرجال لكونهن محرمات عليهم كتحريم أمهاتهم ولهذا كان لا بد من تقدير أداة التشبيه فيه.

٢ ـ عطف الخاص على العام :

وفي قوله «وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك» الآية ، عطف الخاص على العام لأن هؤلاء الخمسة المذكورين هم أصحاب الشرائع والكتب وأولو العزم من الرسل فآثرهم بالذكر للتنويه بإنافة فضلهم على غيرهم ، وقدم النبي محمدا صلى الله عليه وسلم مع أنه مؤخر عن نوح ومن بعده لأنه هو المخاطب من بينهم والمنزل عليه هذا المتلو فكان تقديمه لهذا السبب لا لأن التقديم في الذكر مقتض لكونه أفضلهم ، فقد ورد في الشعر قوله :

٦٠٣

بهاليل منهم جعفر وابن أمه

علي ومنهم أحمد المتخير

فأخر ذكر النبي ليختم به تشريفا.

٣ ـ الاستعارة المكنية :

وفي وصف الميثاق بالغلظ استعارة مكنية ، شبّه الميثاق بجرم محسوس واستعار له شيئا من صفات الأجرام وهو الغلظ للتنويه بعظم الميثاق وجلاله وهو المعني بقوله تعالى «وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة» الآية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣))

٦٠٤

اللغة :

(الْحَناجِرَ) : جمع حنجرة وهي الحلقوم أو رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم وعبارة الزمخشري : «قالوا : إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب أو الغم الشديد ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ومن ثمة قيل للجبان انتفخ سحره ويجوز أن يكون ذلك مثلا في اضطراب القلوب ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة».

(زِلْزالاً) : بكسر الزاي وهي القراءة العامة ويجوز فتحها إذ هما لغتان في مصدر الفعل المضعف إذا جاء على فعلان نحو زلزال وقلقال وصلصال ، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو صلصال بمعنى مصلصل وزلزال بمعنى مزلزل.

(يَثْرِبَ) : في القاموس : «يثرب وأثرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يثربي وأثربي بفتح الراء وكسرها فيهما» قيل سميت باسم رجل من العمالقة كان نزلها في قديم الزمان وقيل يثرب اسم لنفس المدينة وقد نهى النبي أن تسمى بهذا الاسم لما فيه من التثريب وهو التقريع والتوبيخ فذكروها بهذا الاسم مخالفة للنبي وفي المختار : التثريب التعبير والاستقصاء في اللوم وثرب عليه تثريبا قبح عليه فعله.

الاعراب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) اذكروا فعل أمر وفاعل ونعمة الله مفعول به وعليهم متعلقان بنعمة أو بمحذوف حال وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق باذكروا فهو بمثابة

٦٠٥

بدل الاشتمال من نعمة الله والمراد بنعمة نصره في غزوة الأحزاب وسيأتي حديثها في باب الفوائد وجملة جاءتكم جنود في محل جر بإضافة الظرف إليها. (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) فأرسلنا عطف على جاءتكم وعليهم متعلقان بأرسلنا وريحا مفعول به وجنودا عطف على ريحا وجملة لم تروها صفة لجنودا وكان الله كان واسمها وبما متعلقان ببصيرا وجملة تعملون صلة وبصيرا خبر كان. (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) الظرف بدل من إذ جاءتكم وجملة جاءوكم مضاف إليها ومن فوقكم متعلقان بجاءوكم ومن أسفل منكم عطف على من فوقكم.

(وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) عطف على إذ السابقة وكذلك بلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا والظنونا مفعول مطلق والألف مزيدة تشبيها للفواصل بالقوافي وسيأتي سر الجمع مع أقوال النحاة في جمع المصدر في باب الفوائد.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) هنا لك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية واللام للبعد والكاف للخطاب وهو متعلق بابتلي ويجوز أن يكون ظرف زمان وابتلي فعل ماض مبني للمجهول والمؤمنون نائب فاعل وزلزلوا عطف على ابتلي والواو نائب فاعل وزلزالا مصدر مبين للنوع وشديدا صفة. (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) الظرف متعلق باذكر محذوفا وجملة يقول في محل جر بإضافة الظرف إليها والذين عطف على المنافقون وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر وجملة ما وعدنا مقول القول والله فاعل ورسوله عطف عليه

٦٠٦

وإلا أداة حصر وغرورا صفة لمفعول مطلق محذوف أي إلا وعد غرور (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) عطف على ما تقدم وقالت طائفة فعل وفاعل ومنهم صفة لطائفة ويا حرف نداء وأهل يثرب منادى مضاف ويثرب منعت من الصرف للعلمية ووزن الفعل وفيها التأنيث أيضا ولا نافية للجنس ومقام اسمها المبني على الفتح ولكم خبرها ومقام بضم الميم وفتحها أي لا إقامة ولا مكانة ، فارجعوا الفاء الفصيحة أي إن سمعتم نصحي فارجعوا والقائل هو أوس بن قيظي بكسر الظاء من رؤساء المنافقين.

(وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) ويستأذن الواو الاستئنافية ويستأذن فريق فعل مضارع وفاعل ولك أن تعطف على ما تقدم فتكون صيغة المضارع لاستحضار الصورة ومنهم صفة لفريق والنبي مفعول به وجملة يقولون حالية أو مفسرة ليستأذن وهو قول جميل وجملة إن وما في حيزها مقول القول وإن واسمها وخبرها والمراد بعورة الخلل الذي يجعلها مستهدفة للعدو لأنها تكون غير حصينة والواو للحال وما نافية حجازية وهي اسمها والباء حرف جر زائد وعورة مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما وإن نافية ويريدون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإلا أداة حصر وفرارا مفعول به.

الفوائد :

١ ـ غزوة الأحزاب :

كانت غزوة الأحزاب في شوال سنة أربع وقيل سنة خمس المصادف لآذار سنة ٦٢٧ م حيث تحرك الى المدينة جيش مؤلف من

٦٠٧

حوالي عشرة آلاف رجل بينهم أربعة آلاف قرشي بقيادة أبي سفيان وكانت حركة هذا الجيش سريعة فوق العادة ، هذه المرة ، وسببها فيما يذكر المؤرخون انه لما وقع اجلاء بني النضير من أماكنهم سار منهم جمع من أكابرهم بينهم حيي بن أخطب سيدهم الى أن قدموا مكة على قريش فحرضوهم على حرب رسول الله وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله فقال أبو سفيان : مرحبا وأهلا وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد ثم قالت قريش لأولئك اليهود : يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول فأخبرونا أنحن على الحق أم محمد؟ فقالوا بل أنتم على الحق وفي موقف اليهود هذا من قريش وتفضيلهم وثنيتهم على محمد يقول الدكتور إسرائيل ولغنسون في كتابه «تاريخ اليهود في بلاد العرب» : «كان من واجب هؤلاء اليهود أن لا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش وأن لا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الاسلامي ولو أدّى بهم الأمر الى عدم إجابة مطلبهم لأن بني إسرائيل الذين كانوا منذ عدة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتى من أدوار التاريخ كان من واجبهم أن يضحوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين ، هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم الى عبدة الأصنام إنما كانوا يحاربون أنفسهم بأنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام والوقوف منهم موقف الخصومة».

تحريض القبائل وتأليبها :

لم يكّف حيي بن أخطب واليهود الذين معه هذا الذي قالوا لقريش في تفضيل وثنيتها على توحيد محمد حتى تنشط لمحاربته بل

٦٠٨

خرج أولئك اليهود الى غطفان من قيس عيلان ومن بني مرة ومن بني فزارة ومن أشجع ومن سليم ومن بني سعد ومن أسد ومن كل من لهم عند المسلمين ثأر وما زالوا يحرضونهم على الأخذ بثأرهم ويذكرون لهم متابعة قريش إياهم على حرب محمد ويحمدون لهم وثنيتهم ويعدونهم النصر لا محالة وخرجت الأحزاب التي جمع اليهود لحرب محمد وأصحابه.

ما عسى أن يصنع المسلمون لمقابلة الألوف المؤلفة من رجال وخيل وإبل وأسلحة وذخيرة؟ لم يكن لهم غير التحصن بيثرب العذراء سبيل ولكن؟! أفيكفي هذا التحصن أمام تلك القوة الساحقة ، وكان سلمان الفارسي يعرف من أساليب الحرب ما لم يكن معروفا في بلاد العرب فأشار بحفر الخندق حول المدينة وتحصين داخلها وسارع المسلمون الى تنفيذ نصيحته فحفر الخندق وعمل فيه النبي بيده فكان يرفع التراب ويشجع المسلمين بذلك أعظم تشجيع ، وأقبلت قريش وأحزابها وهي ترجو أن تلقى محمدا بأحد فلم تجد عنده أحد فجاوزته الى المدينة حتى فاجأها الخندق فعجبت إذ لم تتوقع هذا النوع من الدفاع المجهول منها وبلغ منها الغيظ حتى زعمت الاحتماء وراءه جبنا لا عهد للعرب به ورأت قريش والأحزاب معها أن لا سبيل الى اجتياز الخندق فاكتفت بتبادل الترامي بالنبال عدة أيام.

وأيقن أبو سفيان والذين معه أنهم مقيمون أمام يثرب وخندقها طويلا دون أن يستطيعوا اقتحامها وكان الوقت آنئذ شتاء قارصا برده ، عاصفة رياحه ، يخشى في كل وقت مطره ، وإذا كان يسيرا أن يحتمي أهل مكة وأهل غطفان من ذلك كله بمنازلهم في مكة وفي غطفان فالخيام التي ضربوا أمام يثرب لا تحميهم منه فتيلا وهم بعد

٦٠٩

جاءوا يرتجون نصرا ميسورا لا يكلفهم غير يوم كيوم أحد ثم يعودون أدراجهم ويستمتعون باقتسام الغنائم والأسلاب ، وماذا عسى يمسك غطفان على أن تعود أدراجها وهي إنما اشتركت في الحرب لأن اليهود وعدتها متى تم النصر ثمار سنة كاملة من ثمار مزارع خيبر وحدائقه وهذه هي ترى النصر غير ميسور أو هو على الأقل غير محقق وهو يحتاج من المشقة في هذا الفصل القارص الى ما ينسيها الثمار والحدائق.

فأما انتقام قريش لنفسها من بدر ومما لحقها بعد بدر من هزائم فأمره مدرك على الأيام ما دام هذا الخندق يحول دون إمساك محمد بالتلابيب وما دامت بنو قريظة تمد أهل يثرب بالمئونة مددا يطيل أمد مقاومتهم شهورا وشهورا ، أفليس خيرا للأحزاب أن يعودوا أدراجهم؟

بلى ولكن جمع هذه الأحزاب لحرب محمد مرة أخرى ليس بالميسور ، وإن انتصر محمد بانسحاب الأحزاب فالويل لليهود ، قدر حيي بن أخطب هذا كله وخاف مغبّته ورأى أن لا مندوحة له عن أن يغامر بآخر سهم عنده فأوحى الى الأحزاب انه مقنع بني قريظة بنقض عهد موادعتهم محمدا والمسلمين وبالانضمام إليهم ، وان قريظة متى فعلت ذلك انقطع المدد والميرة عن محمد من ناحية وفتح الطريق لدخول يثرب من الناحية الأخرى ، وسارع هو فذهب يريد كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وما زال به حتى فتح باب الحصن وقال له : ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام : جئتك بقريش وبغطفان وقد عاهدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه ، وتردّد كعب وذكر وفاء محمد وصدقه لعهده وخشي مغبة ما يدعوه حيي إليه ، بيد أن حييا ما زال به يذكر له ما أصاب اليهود من محمد

٦١٠

وما يوشك أن يصيبهم منه إذا لم تنجح الأحزاب في القضاء عليه حتى لان كعب له فسأله : وما ذا يكون إذا ارتدت الأحزاب؟ هناك أعطاه حيي موثقا إن رجعت غطفان وقريش ولم يصيبوا محمدا أن يدخل معه في حصنه فيشد أزره ويشاركه حظه وتحركت في نفس كعب يهوديته فقبل ما طلب حيي ونقض عهده مع محمد والمسلمين وخرج عن حياده.

وسمت روح الأحزاب المعنوية حتى دفعت بعض فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب أن يقتحموا الخندق فتيمموا مكانا منه ضيقا فضربوا خيلهم فاجتازت بهم في السبخة بين الخندق وسلع وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين فأخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها خيلهم وتقدم عمرو بن عبد ود ينادي من يبارز؟ ولما دعاه علي بن أبي طالب الى النزال قال في صلف : ارجع يا ابن أخي فو الله ما أحب أن أقتلك ، قال علي : لكني والله أحب أن أقتلك فتنازلا فقتله علي وفرت خيل الأحزاب منهزمة حتى اقتحمت الخندق من جديد مولية الأدبار لا تلوي على شيء.

وأعظمت الأحزاب نيرانها مبالغة في تخويف المسلمين وأضعافا لووحهم وبدأ المتحمسون من قريظة ينزلون من حصونهم وآطامهم الى المدينة ومنازلها القريبة منهم يريدون إرهاب أهلها ، كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت وكان حسان فيه مع النساء والصبيان فمر بهم يهودي فقالت صفية مخاطبة حسان : إن هذا اليهودي يطيف بالحصن فانزل إليه واقتله ، قال حسان : يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا فأخذت صفية عمودا ونزلت من الحصن

٦١١

وضربت به اليهودي حتى قتلته فلما رجعت قالت يا حسان انزل اليه فاسلبه فانه لم يمنعني من سلبه إلا انه رجل ، قال حسان مالي الى سلبه من حاجة.

وظل أهل المدينة في فزعهم بينا جعل محمد صلى الله عليه وسلم يفكر في الوسيلة للخلاص ولم تكن الوسيلة مواجهة العدو بطبيعة الحيلة فلتكن الحيلة وليكن الرأي والتدبير فبعث الى غطفان يعدها ثلث ثمار المدينة إن هي ارتحلت وكانت غطفان قد بدأت تمل فأظهرت امتعاضا من طول هذا الحصار وما لقوا من العنت أثناءه ، ولما كان الليل عصفت ريح شديدة وهطل المطر هاتنا وقصف الرعد واشتدت العاصفة فاقتلعت خيام الأحزاب وأدخلت الرعب الى نفوسهم وخيل إليهم أن المسلمين بدءوهم بشر فقام طليحة بن خويلة فنادى : أن محمد قد بدأكم بشر فالنجاة ، وقال أبو سفيان يا معشر قريش : إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلقتنا بنو قريظة وبلغنا منهم ما نكره ولقينا من شدة الريح ما ترون فارتحلوا إني مرتحل ، فاستخف القوم ما استطاعوا من متاع وانطلقوا وتبعتهم غطفان حتى إذا كان الصبح لم يجد محمد منهم أحدا فانصرف راجعا الى المدينة والمسلمون معه يرفعون أكف الضراعة شكرا أن رفع الله الضر عنهم وأن كفى الله المؤمنين شر القتال وحين انجلى الأحزاب قال رسول الله : الآن نغزوهم ولا يغزونا والبقية في السير والمطولات.

٢ ـ هل يثنى المصدر ويجمع؟

المصدر المؤكد لعامله لا يثنى ولا يجمع بانفاق فلا يقال ضربت ضربين ولا ضربت ضروبا لأنه اسم جنس مبهم والمصدر المبهم

٦١٢

لا يتأتى فيه ضمه الى شيء آخر لأنه يدل على مجرد الحقيقة والحقيقة من حيث هي حقيقة تدل على القليل والكثير فلم يبق شيء يضم إليها فتصح فيها التثنية والجمع وهذا أمر عقلي وإنما جاز تثنية المصدر المختوم بالتاء وجمعه لأنه بدخول التاء صار يدل على مرة واحدة من ذلك المصدر فيصح ضمه الى ما المرة الواحدة منه فيثنى ويجمع ، واختلف في المصدر النوعي والمشهور الجواز فيقال ضربت ضربين ضربا عنيفا وضربا رفيقا وضربت ضروبا مختلفة ، وظاهر مذهب سيبويه المنع وانه لا يقال منه إلا ما سمع ، واحتج المجيز بمجيئه في الفصيح كقوله تعالى «وتظنون بالله الظنونا» قالوا : وانما جمع الظن لاختلاف أنواعه لأن من خلص إيمانه ظن أن ما وعدهم الله به من النصر حق ومن ضعف إيمانه اضطرب ظنه ومن كان منافقا ظن أن الدائرة تكون على المؤمنين فأخلفت ظنونهم ، والى ذلك أشار ابن مالك بقوله في الخلاصة :

وما لتوكيد فوحد أبدا

وثنّ واجمع غيره وأفردا

٣ ـ اختلف القراء في هذه الألف في الظنونا فأثبتها وصلا ووقفا نافع وابن عامر وأبو بكر ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو والكسائي وتمسّكوا بخط المصحف العثماني وجميع المصاحف في جميع البلدان ، فإن الألف فيها كلها ثابتة واختار هذه القراءة أبو عبيد إلا أنه قال : لا ينبغي للقارىء أن يدرج القراءة بعدهن بل يقف عليهن ، وتمسكوا أيضا بما في أشعار العرب من مثل هذا ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والجحدري ويعقوب بحذفها في الوصل والوقف معا وقالوا هي من زيادات الخط فكتبت كذلك ولا ينبغي النطق بها وأما في الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره ، وقرأ ابن كثير

٦١٣

والكسائي وابن محيص بإثباتها وقفا وحذفها وصلا وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق والكلام فيها معروف وهكذا اختلف القراء في الألف التي في قوله : الرسولا والسبيلا كما سيأتي في آخر هذه السورة.

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧))

الاعراب :

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها) الواو عاطفة ودخلت فعل ماض مبني للمجهول وعليهم متعلقان به ونائب الفاعل مستتر أي المدينة أو بيوتهم ومن أقطارها حال أي من جميع جوانبها وثم حرف عطف وتراخ وسئلوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والفتنة مفعول به ثان لسئلوا والمراد بالفتنة الردة والرجعة الى الكفر واللام واقعة في جواب لو وأتوها فعل

٦١٤

وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها. (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) الواو عاطفة وما نافية وتلبثوا فعل ماض وفاعل وبها متعلقان بتلبثوا وإلا أداة حصر ويسيرا نعت لمصدر محذوف أو لوقت محذوف فيصح أن تكون مفعولا مطلقا أو ظرف زمان. (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها وجملة عاهدوا خبرها ولفظ الجلالة مفعول به ومن قبل متعلقان بعاهدوا وجملة يولون الأدبار لا محل لها لأنها جواب للقسم والأدبار مفعول به ثان ليولون والمفعول الاول محذوف أي لا يولون العدو الأدبار والواو عاطفة وكان واسمها وخبرها أي مطلوبا.

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) لن حرف نفي ونصب واستقبال وينفعكم فعل مضارع منصوب بلن والكاف مفعول به والفرار فاعل وإن حرف شرط جازم يجزم فعلين وفررتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه ما قبله ومن الموت متعلقان بفررتم وإذن حرف جواب وجزاء مهمل لوقوعه بعد عاطف كما هو الغالب عليه ولا نافية وتمتعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وإلا أداة حصر وقليلا نعت لمصدر محذوف أي إلا تمتيعا قليلا أو صفة لظرف محذوف أي إلا زمانا قليلا فيصح أن تكون مفعولا مطلقا أو ظرف زمان. (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) من اسم استفهام مبتدأ وذا اسم اشارة في محل رفع خبر والذي بدل وجملة يعصمكم من الله صلة وإن شرطية وأراد فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه

٦١٥

ما قبله أي فمن ذا الذي يعصمكم وسوءا مفعول به أو أراد بكم رحمة عطف على ما تقدم ولا بد من تقدير محذوف أي أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة. (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) الواو استئنافية أو حالية ولا نافية ويجدون فعل وفاعل ولهم في محل نصب مفعول ثان ليجدون ومن دون الله حال ووليا مفعول به أول ولا نصيرا عطف على وليا.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩))

اللغة :

(الْمُعَوِّقِينَ) : المثبطين الذين كانوا يخذلون المسلمين وفي الأساس :«وعاقه واعتاقه وعوقه «قد يعلم الله المعوّقين منكم» وتقول : فلان صحبه التعويق فهجره التوفيق ، ورجل عوقة : ذو تعويق وترييث عن الخير وتقول : يا من عن الخير يعوق ، إن أحق أسمائك أن تعوق».

٦١٦

(أَشِحَّةً) جمع شحيح وهو البخيل والحريص وهو جمع غير مقيس لأن قياس فعيل الوصف الذي عينه ولامه من واد واحد أن تجمع على أفعلاء نحو خليل وأخلاء وظنين وأظناء وقد سمع أشحاء وهو القياس.

(سَلَقُوكُمْ) : آذوكم أو ضروكم وفي المختار : «سلقه بالكلام آذاه وهو شدة القول باللسان قال تعالى : «سلقوكم بألسنة حداد» وسلق البقل أو البيض أغلاه بالنار إغلاءة خفيفة وباب الكل ضرب» وفي المصباح أنه من باب قتل أيضا وعبارة الراغب : «السلق بسط بقهر إما باليد أو باللسان ويؤخذ من القاموس واللسان : سلق يسلق من باب قتل البيض أو البقل أغلاه بالنار وطبخه بالماء ، وسلقه بالكلام : آذاه ومنه سلقه بألسنة حداد ، وسلقه بالرمح طعنه وسلقه بالسوط ضربه الى أن نزع جلده ، وسلق اللحم عن العظم قشره ، ويجوز أن يكون الكلام مجازيا كما سيأتي في باب البلاغة وعلى كل حال فالعامة تستعمل هذه الكلمة استعمالا لا غبار عليه.

الاعراب :

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) كلام مستأنف مسوق لتصوير حال المنافقين ، وقد حرف تكثير وأصله للتقليل إذا دخل على فعل المضارع وقد تقدم بحثه ، ويعلم الله المعوقين فعل وفاعل ومفعول به ومنكم حال والقائلين عطف على المعوقين ولإخوانهم متعلقان بالقائلين وهلم اسم فعل أمر وإلينا متعلقان به وهي لغة أهل الحجاز يسوون فيه بين الواحد والجماعة ويستعمل لازما كما هنا ومتعديا كما في الأنعام وقد تقدم القول فيه. (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ

٦١٧

إِلَّا قَلِيلاً) الواو حالية ولا نافية ويأتون البأس فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به أي القتال وإلا أداة حصر وقليلا مفعول مطلق أو ظرف زمان. (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أشحة حال من فاعل يأتون أو منصوب على الذم بفعل محذوف تقديره أذم وعبارة الزمخشري : «أشحة عليكم : في وقت الحرب أضناء بكم يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذابّ عنه المناضل دونه عند الخوف» فإذا الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاء الخوف في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة رأيتهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة ينظرون إليك حال لأن الرؤية هنا بصرية وإليك متعلقان بينظرون.

(تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) جملة تدور أعينهم حال من فاعل ينظرون وهو الواو وكالذي نعت لمصدر محذوف أي تدور دورانا كدوران عين الذي ، فبعد الكاف محذوفان وهما دوران وعين ، وجملة يغشى صلة الذي ويغشى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مصدر مختص بلام العهد أو بصفة محذوفة والمعنى ويغشى الغشيان المعهود وعليه متعلقان بيغشى ويجوز أن يكون نائب الفاعل هو الجار والمجرور وقد تقدم بحث ما ينوب عن نائب الفاعل فجدد به عهدا. (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ذهب الخوف في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة سلقوكم جواب شرط غير جازم لا محل لها وبألسنة متعلقان بسلقوكم وحداد نعت لألسنة.

(أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) أشحة نصب على الحال أو على الذم كما تقدم وعلى الخير

٦١٨

متعلقان بأشحة أي على الغنيمة يطلبونها وأولئك مبتدأ وجملة لم يؤمنوا خبر ، فأحبط عطف على لم يؤمنوا والله فاعل وأعمالهم مفعول به وكان الواو حالية أو استئنافية وكان واسمها وخبرها وعلى الله حال والاشارة للاحباط والمعنى أن أعمالهم جديرة بالإحباط لا يصرف عنه صارف وليس هو بالأمر الصعب العسير.

البلاغة :

١ ـ فن التندير :

في قوله «فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه الموت» فن ألمع اليه صاحب نهاية الأرب وابن أبي الإصبع وهو فن «التندير» وحدّه أن يأتي المتكلم بنادرة حلوة أو نكتة مستطرفة وهو يقع في الجد والهزل فهو لا يدخل في نطاق التهكم ولا في نطاق فن الهزل الذي يراد به الجد ويجوز أن يدخل في نطاق باب المبالغة وذلك واضح في مبالغته تعالى في وصف المنافقين بالخوف والجبن حيث أخبر عنهم أنهم تدور أعينهم حالة الملاحظة كحالة من يغشى عليه من الموت ولو اقتصر على قوله كالذي يغشى عليه من الموت لكان كافيا بالمقصود ولكنه زاد شيئا بقوله «من الموت» إذ أن حالة المغشي عليه من الموت أشد وأنكى من حالة المغشي عليه من غير الموت ولو جاء سبحانه في موضع الموت بالخوف لكان الكلام بليغا لا محالة غير أن ما جاء في التنزيل أبلغ وهو مع ذلك خارج مخرج الحق متنزل منزلة الصدق فإن من كان قوي النفس شجاع القلب لا يرضى بالنفاق بل يظهر ما يبطنه الخائف لأنه لا يبالي بالموت.

٦١٩

٢ ـ الاستعارة المكنية :

وذلك في قوله «سلقوكم بألسنة حداد» فقد شبه اللسان بالسيف ثم حذف المشبه به واستعار شيئا من خصائصه وهو الضرب وهذه الاستعارة تتأتى على تفسير السلق بالضرب والحامل عليه وصف الألسنة بالحداد كما تقدم في باب اللغة.

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢))

اللغة :

(بادُونَ) : جمع باد وهو ساكن البادية يقال : لقد بدوت يا فلان أي نزلت البادية وصرت بدويا وما لك والبداوة؟ وتبدّى الحضري ، ويقال : أين الناس؟ فتقول : لقد بدوا أي خرجوا الى البدو وكانت لهم غنيمات يبدون إليها.

(الْأَعْرابِ) : قال في القاموس وشرحه : العرب بالضم وبالتحريك خلاف العجم مؤنث وهم سكان الأمصار أو عام والأعراب

٦٢٠