إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٧

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٧

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٠

وأصعد في الأرض ذهب مستقبل أرض أرفع من الأخرى وأصعدت السفينة مدّ شراعها فذهبت بها الريح وعليك بالصعيد أي اجلس على الأرض وصعيد الأرض وجهها وتنفّس الصعداء إذا علا نفسه وذهب السهم صعدا وكأن قامته صعدة وهي القناة النابتة مستقيمة ، قال الأحنف :

إن على كل رئيس حقّا

أن يخضب الصّعدة أو تندقّا

ومن المجاز : له شرف صاعد وجد مساعد ، ورتبته بعيدة المصعد والمصاعد ، وعنق صاعد : طويل ، وجارية صعدة : مستقيمة القامة ، وجوار صعدات بالسكون ، وأخذ مائة فصاعدا بمعنى فزائدا ، وأرهقته صعودا : حملته مشقّة.

والصعافقة هم الذين يحضرون السوق بغير رأس مال فإذا اشترى أحد شيئا دخلوا معه فيه. وصعقتهم السماء وأصعقتهم :أصابتهم بصاعقة وهي نار لا تمر بشيء إلا أحرقته مع وقع شديد ، والصعلكة معروفة وهي الفقر والذهاب في الأرض بعيدا ، قال أبو داود :

مثل عير الفلاة صعلكه البقل مشيح بأربع عسرات أربع أتن ، وقال ذو الرمة :

تخيل في المرعى لهنّ بشخصه

مصعلك أعلى قلّة الرأس نقنق

٥٤١

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) : أي توسط فيه ، قال الزمخشري :«واعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين : لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» وأما قول عائشة في عمر رضي الله عنهما :«كان إذا مشي أسرع» فإنما أرادت السرعة المرتفعة على دبيب المتماوت».

(وَاغْضُضْ مِنْ) طرفك) : وانقص منه واقصر ، من قولك فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه ، وفي الأساس : «واغضض من صوتك : اخفض منه ، وغضّ طرفك ، وطرف غضيض ، وغضّ من لجام فرسك أي صوبه وطأ منه لتنقص من غربه ، واغضض لي ساعة أي احبس علي مطيتك وقف عليّ ، قال الجعدي :خليلي غضّا ساعة وتهجرا أي احبسا عليّ ركابكما ساعة ثم ارتحلا متهجّرين ، وفلان غضيض : ذليل بين الغضاضة وعليك في هذا غضاضة فلا تفعل ولحقته من كذا غضاضة أي نقص وعيب».

الاعراب :

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) يا بني تقدم إعرابه كثيرا وهذا من تتمة وصية لقمان ، وان واسمها وإن شرطية وتك فعل مضارع مجزوم لأنه فعل الشرط وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسم تك مستتر يعود الى الخطيئة وذلك

٥٤٢

أن ابن لقمان قال : يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يعلمها أحد كيف يعلمها الله؟ فقال يا بني انها إن تك مثقال حبة من جنس الخردل ، ومثقال خبر تك وحبة مضاف اليه ومن خردل صفة لحبة أي فكانت مثلا لحبة الخردل في الصغر والقماءة. (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) فتكن عطف على تك واسم تكن مستتر تقديره هي أي الخطيئة والهنة وفي صخرة خبر تكن ، أو في السموات أو في الأرض عطف على في صخرة أي في أخفى مكان من الثلاث المذكورات ويأت جواب الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة وبها متعلقان بيأت والله فاعل وإن واسمها وخبراها.

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أقم فعل أمر وفاعله مستتر وجوبا تقديره أنت والصلاة مفعول به وأمر بالمعروف عطف وكذلك وانه عن المنكر. (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) إن وخبرها المقدم واسمها المؤخر ومعنى عزم الأمور : من معزوماتها فهو مصدر بمعنى المفعول أو بمعنى الفاعل أي من عازمات الأمور أي مما جعله الله عزيمة وأوجبه على عباده.

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) الواو حرف عطف ولا ناهية وتصعر فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت وللناس متعلقان بتصعر ولا تمش عطف على ولا تصعر وفي الأرض متعلقان بتمش ومرحا مصدر وقع موقع الحال أو نعت لمصدر محذوف أي مشيا مرحا أو مفعول لأجله أي لا تمش لأجل المرح والأشر.

وعبارة الزمخشري «أراد ولا تمش تمرح مرحا أو أوقع المصدر موقع الحال بمعنى مرحا ويجوز أن يراد لأجل المرح والأشر».

٥٤٣

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) إن واسمها وجملة لا يحب خبرها وكل مفعول يحب وفخور عطف على مختال. (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) الواو عاطفة واقصد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وفي مشيك متعلقان بأقصر واغضض من صوتك عطف على ما تقدم. (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) الجملة تعليل للأمر بخفض الصوت بصورة مؤكدة كما سيأتي في باب البلاغة وإن واسمها والأصوات مضاف اليه واللام المزحلقة للتأكيد وصوت الحمير خبر إن.

البلاغة :

في قوله : «إنها إن تك مثقال حبة من خردل» الآية فن التمام أو التتميم وقد تقدمت الاشارة الى الفن في مواطن من هذا الكتاب ، والمعنى انه تمم خفاء الهنة أو الخطيئة في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة والأخفى من الصخرة كأن تكون في صخرة مستقرة في أغوار الأرض السحيقة أو في الأعالي من أجواز الفضاء ، ومنه في الشعر قول الخنساء :

وإن صخرا لتأتمّ الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

فقولها «في رأسه نار» تتميم جميل لا بد منه لتجسيد الظهور والشهرة للسارين والغادين.

وقول عنترة العبسي :

أثني عليّ بما علمت فإنني

سهل مخالقتي إذا لم أظلم

٥٤٤

فقوله «لم أظلم» تتميم حسن.

ومن التتميم الحسن قول امرئ القيس يصف الفرس :

على هيكل يعطيك قبل سؤاله

أفانين جري غير كزّ ولا واني

فقوله «قبل سؤاله» تتميم عجيب لقوله «أفانين جري» وما أجمل قول زهير بن أبي سلمى في هذا الباب :

من يلق يوما على علاته هرما

يلق السماحة منه والندى خلقا

والتتميم هنا في قوله «على علاته» وهو تتميم عجيب تضمن مبالغة أعجب. ويجري على هذا المنوال قول ابن محكان السعدي حين قدم الى القتل :

من ولست ـ وإن كانت إليّ حبيبة ـ

بباك على الدنيا إذا ما تولت

قال أبو العباس المبرد : فاستثنى : «وإن كانت إليّ حبيبة» استثناء مليحا ، ونوى التقديم والتأخير فلذلك جاز له أن يأتي بالضمير مقدّما على مظهره.

٢ ـ التأكيد بأن وفنون أخرى :

ومن بديع هذه الآية «إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» فنون عديدة نشير إليها :

٥٤٥

أ ـ فقد أتى بالتمثيل مؤكدا بإن أولا وعزز هذا التأكيد باللام فصار الكلام خبرا إنكاريا كأن التمثيل أمر مبتوت فيه لا يتطرق اليه الشك ، فقد تدخل إن في الجملة فترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف مقطوعا موصولا معا ، واستخدامها على هذا الوجه يحتاج الى تدبر وروية معا ، وقد خفي سر هذا الاستخدام حتى على أفراد العلماء ؛ روي عن الأصمعي أنه قال : كنت أسير مع أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر وكانا يأتيان بشارا فيسلمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان يا أبا معاذ ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ويسألانه ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان ، وأتياه يوما فقالا : ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة؟ قال :هي التي بلغتكم. قالوا : بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب ، قال :نعم بلغني أن سلم بن قتيبة يتباصر بالغريب فأحببت أن أرد عليه مالا يعرف ، قالا : فأنشدناها يا أبا معاذ فأنشدهما :

بكّرا يا صاحبيّ قبل الهجير

إن ذاك النجاح في التبكير

حتى فرغ منها فقال له خلف : لو قلت يا أبا معاذ مكان «إن ذاك النجاح في التبكير» «بكّرا فالنجاح في التبكير» كان أحسن فقال بشار : إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت : «إن ذاك النجاح في التبكير» كما يقول الأعراب البدويون ولو قلت : بكرا في النجاح كان هذا من كلام المولدين ولا يشبه ذاك الكلام ولا يدخل في معنى القصيدة ، قال : فقام خلف فقبل بين عينيه. قال عبد القاهر في تعليقه على هذه القصة : «فهل كان هذا القول من خلف والنقد على بشار إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟».

٥٤٦

ومضى عبد القاهر في تحليله لبيت بشار فقال : أما ان الجملة مستأنفة مع إنّ فلأنها غير معطوفة على ما قبلها بالواو وهي واقعة في جواب سؤال مقدر فكأن سائلا سأل : ولما ذا يطلب الى صاحبيه أن يبكرا قبل الهجير فكان الجواب : إن ذلك النجاح في التبكير واما انها تصل جملتها بالجملة السابقة فالدليل عليه أنك لو أسقطت «إن» من الجملة لرأيت الجملة الثانية لا تتصل بالأولى ولا تكون منها بسبيل حتى تجيء بالفاء فتقول : بكرا صاحبي قبل الهجير فذاك النجاح في التبكير ولعل ذلك هو سر لطفها ودقتها وجزالة التعبير بها وهو سمة البناء الأعرابي الوحشي على عكس ما لو قال : بكرا فالنجاح في التبكير فهو بناء سهل واضح الترابط بالفاء وذلك سمة بناء الجمل عند المولّدين وإذا كانت الفاء تفيد الربط فانها لا تفيد التوكيد الذي تدل على «إن» وهذا البناء الجزل هو الذي جاء في القرآن الى درجة لا يدركها الإحصاء.

ويروي عبد القاهر في دلائل الاعجاز حديث يعقوب بن اسحق الكندي المتفلسف إذ ركب الى أبي العباس وقال له : إني لأجد في كلام العرب حشوا فقال له أبو العباس : في أي موضع وجدت ذلك؟فقال : أجد العرب يقولون : عبد الله قائم ثم يقولون : إن عبد الله قائم ثم يقولون : إن عبد الله لقائم فالألفاظ متكررة والمعنى واحد.

كلام العرب حشوا فقال أبو العباس : في أي موضوع وجدت ذلك؟فقال أبو العباس : بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم عبد الله قائم إخبار عن قيامه وقولهم إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل وقولهم : إن عبد الله لقائم جواب عن انكار منكر قيامه فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعاني.

٥٤٧

وانما أطلنا في الاقتباس لدقة هذا البحث وخفائه وهو في الآية التي نحن بصددها واقع أجمل موقع وألطفه ، موضح لتعليل الأمر بخفض الصوت مبني على تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير وتمثيل أصواتهم بالنهيق وافراط في التنفير عن رفع الصوت وقد أجاد الخطيب في تعليله لهذا التعليل وننقل فصله بطوله لروعته وابداعه قال :«فإن قيل : لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي؟ أجيب بأن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوته وربما يخرق الغشاء الذي في داخل الأذن وأما سرعة المشي فلا تؤذي وإن آذت فلا تؤذي غير من في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين وعلى اليسار ولأن المشي يؤذي آلة المشي والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب فإن الكلام ينقل من السمع الى القلب ولا كذلك المشي ، وأيضا فلان قبيح القول أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان ترجمان القلب ، ولما كان رفع الصوت فوق الحاجة منكرا كما أن خفضه دونها يعتبر تماوتا وتكبرا وكان قد أشار الى النهي عن هذا بمن فأفهم أن الطرفين مذمومان علّل النهي عن الأول بقوله إن أنكر أي أفظع وأشنع الأصوات برفعها فوق الحاجة لصوت الحمير أي هذا الجنس لما له من العلو المفرط من غير حاجة فإن كل حيوان قد يفهم من صوته أنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو لغير ذلك والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق بصوت أوله شهيق وآخره شهيق».

٥٤٨

ب ـ توحيد الصوت :

وقال الزمخشري : «لم وحّد صوت الحمير ولم يجمع؟ قلت ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع وانما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس فوجب توحيده».

الاستعارة التصريحية :

وفي هذه الآية الاستعارة التصريحية حيث أخلي الكلام من لفظ التشبيه وأخرج مخرج الاستعارة فجعلوا حميرا وجعل صوتهم نهاقا مبالغة في الذم والتهجين وإفراط في النهي عن رفع الصوت والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة الموجعة وكذلك نهاقه.

ومن استفحاشهم لذكره مجردا وتفاديهم من اسمه انهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به فيقولون الطويل الأذنين ، وعن عبد الحميد الكاتب انه قال : لا تركب الحمار فإنه إن كان فارها أتعب يدك وإن كان بليدا أتعب رجلك. وقال أعرابي : بئس المطية الحمار إن وفقته أدلى وإن تركته ولى ، كثير الروث ، قليل الغوث ، سريع الى الفرارة ، بطيء في الغارة ، لا توقى به الدماء ، ولا تمهر به النساء ، ولا يحلب في الإناء. ومن العرب من لا يركبه أبدا ولو بلغت به الحاجة والجهد.

الصوت مصدر :

وفي القرطبي : «لصوت الحمير اللام للتأكيد ووحد الصوت وإن كان مضافا الى الجماعة لأنه مصدر والمصدر بدل على الكثرة وهو مصدر صات يصوت صوتا فهو صائت ويقال صوّت تصويتا فهو مصوت ورجل صات أي شديد الصوت بمعنى صائت».

٥٤٩

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤))

اللغة :

(وَأَسْبَغَ) : وأتم ، يقال : أسبغ الله عليه النعمة أتمها وأسبغ الثوب : أوسعه وأطاله وأسبغ الرجل لبس درعا سابغة وأسبغ له النفقة وسّع عليه وأنفق تمام ما يحتاج اليه ، وفي المصباح : «وسبغت النعمة سبوغا اتسعت وأسبغها الله أفاضها وأتمها وأسبغت الوضوء أتممته» وقرئ بالسين وبالصاد ، وهكذا كل سين اجتمع معه الغين والخاء والقاف تقول في سلخ صلخ وفي سقر صقر وفي سالغ صالغ ومعنى سالغ من سلغت البقرة والشاة إذا أسقطت السنّ التي خلقت السديس والسلوغ في ذوات الأظلاف بمنزلة البزول في ذوات الأحقاف.

٥٥٠

(بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) : جاء في القاموس ما يلي : «العروة من الدلو والكوز المقبض ومن الثوب أخت زره كالعري ويكسر ومن الفرج لحم ظاهره يعرض فيأخذ يمنة ويسرة مع أسفل البظر وفرج معرّى والجماعة من العضاة والحمض يرعى في الجدب والأسد والشجر الملتفّ تشتوفيه الإبل فتأكل منه أو مالا يسقط ورقه في الشتاء والنفيس من المال كالفرس الكريم وموالي البلد» وفي الأساس واللسان : «وتستعار العروة لما يوثق به ويعوّل عليه فيقال للمال النفيس والفرس الكريم : لفلان عروة ، وللابل عروة من الكلأ وعلقة :لبقية تبقى منه بعد هيج النبات تتعلق بها لأنها عصمة لها تراغم إليها وقد أكل غيرها قال لبيد :

خلع الملوك وسار تحت لوائه

شجر العرا وعراعر الأقوام

أي هم عصم للناس كالعضاه التي تعتصم بها الأموال ، ويقال لقادة الجيش : العرا ، والصحابة رضوان الله عليهم عرى الإسلام ، وقول ذي الرّمة :

كأن عرا المرجان منها تعلّقت

على أمّ خشف من ظباء المشاقر

أراد بالعرا : الأطواق ... والعروة من أسماء الأسد».

الاعراب :

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف للرجوع الى ما سلف قبل قصة لقمان ووصيته من خطاب

٥٥١

المشركين. والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو عاطفة على ما تقدم من خطابهم ولم حرف نفي وقلب وجزم وتروا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والرؤية قلبية وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تروا وأن واسمها وجملة سخر خبرها ولكم متعلقان بسخر وما مفعول به وفي السموات متعلقان بمحذوف هو صلة ما وما في الأرض عطف على ما في السموات. (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) وأسبغ عطف على سخر وعليكم متعلقان بأسبغ ونعمه مفعول به وظاهرة حال وباطنة عطف على ظاهرة وسيأتي معنى الظاهرة والباطنة في باب البلاغة. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) الواو استئنافية ومن الناس خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يجادل صلة من إذا كانت موصولة أو صفة لها إذا كانت نكرة تامة بمعنى ناس وفي الله متعلقان بيجادل أي في توحيده وصفاته وبغير علم حال ولا هدى معطوفة ولا كتاب منير عطف على علم. (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة فيل في محل جر باضافة الظرف إليها ولهم متعلقان بقيل وجملة اتبعوا مقول القول وما مفعول به وجملة أنزل الله صلة وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبل حرف إضراب وعطف ونتبع فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وما مفعول به وجملة وجدنا صلة وعليه متعلقان بوجدنا أو بمحذوف هو مفعول وجدنا الثاني وآباءنا هو مفعول وجدنا الاول أي وجدنا آباءنا عاكفين عليه.

(أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو فيها وجهان أحدهما أن تكون

٥٥٢

عاطفة على محذوف وثانيهما انها حالية ، وعلى كل حال لا بد من تقدير محذوف معناه : أيتبعونه ولو كان الشيطان يدعوهم ، ولو شرطية وجوابها محذوف أي يدعوهم فيتبعون ومحل الجملة النصب على الحال ، وكان الشيطان كان واسمها وجملة يدعوهم خبرها والى عذاب السعير متعلقان بيدعوهم. (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويسلم فعل مضارع مجزوم لأنه فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو ووجهه مفعول به والى الله متعلقان بيسلم ويسلم يتعدى باللام ولكنه عدي هنا بإلى ليكون معناه أنه سلم نفسه كما يسلم المتاع الى الرجل إذا دفع اليه والمراد التوكل عليه والتفويض اليه ، والواو واو الحال وهو مبتدأ ومحسن خبر ، فقد الفاء رابطة للجواب وقد حرف تحقيق واستمسك فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وبالعروة جار ومجرور متعلقان باستمسك والوثقى صفة للعروة والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من.

(وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) الى الله خبر مقدم وعاقبة الأمور مبتدأ مؤخر. (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) الواو حرف عطف والجملة معطوفة على سابقتها ولا ناهية ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا والجملة في محل جزم جواب الشرط. (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) إلينا خبر مقدم ومرجعهم مبتدأ مؤخر فننبئهم الفاء عاطفة وننبئهم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره نحن ومفعول به وبما متعلقان بننبئهم وجملة عملوا صلة ما وإن واسمها وعليم خبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم. (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) جملة نمتعهم يجوز أن تكون حالية من

٥٥٣

فاعل نمتعهم وأن تكون مستأنفة وقليلا ظرف أو صفة لمصدر محذوف أي زمانا قليلا أو متاعا قليلا ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ونضطرهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به والى عذاب متعلقان بنضطرهم وغليظ صفة لعذاب.

البلاغة :

١ ـ الطباق :

في قوله «وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة» طباق وقد مرّ بحثه ؛ والمراد بالنعم الظاهرة كل ما يعلم بالمشاهدة ، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل ، وجميل قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية : «الظاهرة الإسلام وما حسن من خلقك والباطنة ما ستر عليك من سيىء عملك» وقد أفاض المفسرون فيها مما يرجع اليه في المطولات.

٢ ـ الاستعارة التمثيلية :

وذلك في قوله «فقد استمسك بالعروة الوثقى» فقد مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من جبل شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه وقيل هو تشبيه تمثيلي لذكر طرف التشبيه.

٣ ـ الاستعارة المكنية :

وفي قوله «ثم نضطرهم الى عذاب غليظ» استعارة مكنية فقد شبه إلزامهم التعذيب وارهاقهم إياه باضطرار المضطر الى الشيء الذي

٥٥٤

لا يقدر على الانفكاك منه أي يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ والغلظ مستعار من الأجرام الغليظة والمراد الشدة والثقل على المعذّب.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧))

الاعراب :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) كلام مستأنف مسوق لبيان تناقضهم مع أنفسهم واعترافهم بما لا يسع المكابرين إنكاره من دلائل التوحيد الساطعة. واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعل ومفعول به ومن اسم استفهام مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض في محل رفع خبر والجملة الاسمية في محل نصب مفعول به ثان لسألتهم واللام واقعة في جواب القسم ويقولن فعل مضارع حذفت منه نون الرفع لتوالي الأمثال وواو الضمير لالتقاء الساكنين والله خبر لمبتدأ محذوف أي هو الله أو مبتدأ حذف خبره أي الله خالقها. (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الحمد مبتدأ ولله خبر والجملة مقول قول والأمر للالزام لهم على قرارهم بأن الذي خلق السموات والأرض هو

٥٥٥

الله وحده وأنه يجب أن يكون الحمد والشكر مصروفين له وبل حرف إضراب انتقالي للتنبيه بأنهم إذا ألزموا بذلك لم يلتزموا به ولم ينتبهوا ، وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعلمون خبر. (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) لله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات والأرض صلة وإن حرف مشبه بالفعل ولفظ الجلالة اسمها وهو ضمير فصل والغني خبرها الأول والحميد خبرها الثاني. (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) كلام مستأنف مسوق للتنبيه على أن معاني كلامه سبحانه لا تنفد ، ولو حرف شرط غير جازم وسيأتي مزيد بحث عنها في باب الفوائد وأن وما بعدها فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت وأن واسمها وفي الأرض صلة ما ومن شجرة في موضع الحال من ضمير الاستقرار أو من ما وأقلام خبر أن.

(وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) والبحر الواو حالية أو عاطفة والبحر مبتدأ خبره جملة يمده أو معطوف على موضع أن ومعمولها إذ هو مرفوع على الفاعلية كما تقدم وقرئ والبحر بالنصب عطف على اسم أن ، وبمده فعل مضارع ومفعول به مقدم ومن بعده حال وسبعة أبحر فاعل يمده وجملة ما نفدت جواب لو فلا محل لها وإن واسمها وعزيز خبرها الاول وحكيم خبرها الثاني.

الفوائد :

١ ـ تكلمنا فيما سبق عن «لو» ووعدناك بأن ننقل لك الخلاف الذي شجر بين النحاة والمعربين حول هذه الآية التي طال

٥٥٦

حولها الجدل وسنقدم لك خلاصة لأقوالهم لتقف على ما يذهلك من براعة الاستنتاج ودقة المنطق.

قال الشيخ شهاب الدين القرافي : «قاعدة «لو» أنها إذا دخلت على ثبوتين كانا منفيين وعلى نفيين كانا ثبوتين وعلى نفي وثبوت فالنفي ثبوت والثبوت نفي ، تقول لو جاءني لأكرمته فهما ثبوتان فما جاءك ولا أكرمته ، ولو لم يستدن لم يطالب فهما نفيان وقد استدان وطولب ، ولو لم يؤمن أريق دمه التقدير انه آمن ولم يرق دمه وبالعكس لو آمن لم يقتل ، وإذا تقررت هذه القاعدة فيلزم أن تكون كلمات الله قد نفدت وليس كذلك لأن «لو» دخلت على ثبوت أولا ونفي آخرا فيكون الأول نفيا وهو كذلك فإن الشجرة ليست أقلاما ويلزم أن يكون النفي الأخير ثبوتا فتكون نفدت وليس كذلك ونظير هذه الآية قوله عليه الصلاة والسلام : «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» إذ يقتضي انه خاف وعصى مع الخوف وهو أقبح فيكون ذلك ذنبا لكن الحديث سبق وعادة الفضلاء الولوع بالحديث كثيرا ، أما الآية فقليل من يتفطن لها وقد ذكروا في الحديث وجوها وأما الآية فلم أر لأحد فيها شيئا ويمكن تخريجها على ما قالوه في الحديث غير أنه ظهر لي جواب عن الحديث والآية جميعا وسأذكره فيما بعد ، وقال ابن عصفور : «لو» في الحديث بمعنى «إن» لمطلق الربط وان لا يكون نفيها ثبوتا ولا ثبوتها نفيا فيندفع الإشكال وقال الشيخ شمس الدين الخسروشاهي : إن «لو» في أصل اللغة لمطلق الربط وانما اشتهرت في العرف بانقلاب ثبوتها نفيا وبالعكس ، والحديث انما ورد بمعنى اللفظ في اللغة ، وقال الشيخ ابن عبد السلام : الشيء الواحد قد يكون له سبب واحد فينتفي عند انتفائه وقد يكون له

٥٥٧

سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدمه لأن السبب الثاني يخلف الأول كقولنا في زوج هو ابن عم لو لم يكن زوجا لورث أي بالتعصيب فانهما سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر وكذلك هاهنا إذ الناس في الغالب إنما لم يعصوا لأجل الخوف فإذا ذهب الخوف عصوا لاتحاد السبب في حقهم فأخبر صلى الله عليه وسلم أن صهيبا رضي الله عنه اجتمع له سببان يمنعانه من المعصية وهذا مدح جليل وكلام حسن ، وأجاب غيرهم بأن الجواب محذوف تقديره لو لم يخف الله عصمه الله ، ويدلّ على ذلك قوله : لم يعصه ، وهذه الأجوبة تتأتى في الآية غير الثالث فإن عدم نفاد كلمات الله تعالى وانها غير متناهية أمر ثابت لها لذاتها وما بالذات لا يعلّل بالأسباب فتأمل ذلك. هذا كلام الفضلاء الذي اتصل بي.

ويتابع القرافي : والذي ظهر لي أن «لو» أصلها أن تستعمل للربط بين شيئين نحو ما تقدم ثم أنها أيضا تستعمل لقطع الرابط فتكون جوابا لسؤال محقّق ومتوهم وقع فيه ربط فتقطعه أنت لاعتقادك بطلان ذلك الربط كما لو قال القائل لو لم يكن ذلك زوجا لم يرث فتقول أنت : لو لم يكن زوجا لم يحرم ، تريد أن ما ذكرته من الربط بين عدم الزوجية وعدم الإرث ليس بحق فمقصودك قطع ربط كلامه لا ربط كلامه وتقول لو لم يكن زيدا عالما لأكرم أي لشجاعته جوابا لسؤال سائل يتوهمه أو سمعته يقول إنه إذا لم يكن عالما لم يكرم فيربط بين عدم العلم وعدم الإكرام فتقطع أنت ذلك الربط وليس مقصودك أن تربط بين عدم العلم والإكرام لأن ذلك غير مناسب ولا من أغراض العقلاء ولا يتجه كلامك إلا الى عدم الربط ، فكذلك الحديث لما كان الغالب على الناس أن يرتبط عصيانهم بعدم خوف الله

٥٥٨

تعالى وان ذلك في الأوهام قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الربط وقال لو لم يخف الله يعصه وكذلك لما كان الغالب أن الأشجار كلها إذا صارت أقلاما والبحر الملح مع غيره يكتب به الجميع والوهم يقول ما يكتب بهذا شيء إلا نفد وما عساه أن يكون قطع الله هذا الربط وقال ما نفدت إلخ ... وهذا الجواب أصلح من الاجوبة المتقدمة لوجهين أحدهما شموله لهذين الموضعين وبعضها لم يشمل كما تقدم وثانيهما أن لو بمعنى خلاف الظاهر وما ذكرته من الجواب ليس مخالفا لعرف أهل اللغة فانهم يستعملون ما ذكرته ولا يفهمون غيره في تلك الموارد ونعم هذا الجواب الواجب لذاته لصفات الله تعالى وكلماته والممكن القابل للتعليل كطاعة صهيب رضي الله عنه» انتهى كلام شهاب الدين.

أما ابن هشام فبعد أن ذكر أن «لو» المستعملة على خمسة أوجه قال : «الثاني انها تفيد امتناع الشرط وامتناع الجواب جميعا وهذا هو القول الجاري على ألسنة المعربين ونص عليه جماعة من النحويين وهو باطل بمواضع كثيرة منها قوله تعالى : «ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا» «ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله» وقول عمر رضي الله عنه : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ، وبيانه أن كل شيء امتنع ثبت نقيضه فاذا امتنع «ما قام» ثبت «قام» وبالعكس ، وعلى هذا فيلزم على هذا القول في الآية الاولى ثبوت إيمانهم مع عدم نزول الملائكة وتكليم الموتى لهم وحشر كل شيء عليهم وفي الثانية نفاد الكلمات مع عدم كون كل ما في الأرض من شجرة أقلاما تكتب الكلمات وكون

٥٥٩

البحر الأعظم بمنزلة الدواة وكون السبعة الأبحر مملوءة مدادا وهي تمد ذلك البحر ، ويلزم في الأثر ثبوت المعصية مع ثبوت الخوف وكل ذلك عكس المراد ، والثالث أنها تفيد امتناع الشرط خاصة ولا دلالة لها على امتناع الجواب ولا على ثبوته ولكنه إن كان مساويا للشرط في العموم كما في قولك لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا ، لزم انتفاؤه لأنه يلزم من انتفاء السبب المساوي انتفاء مسببه وإن كان أعم كما في قولك : لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجودا فلا يلزم انتفاؤه وانما يلزم انتفاء القدر المساوي منه للشرط وهذا قول المحققين» الى أن يقول : «ويتلخص على هذا أن يقال إن «لو» تدل على ثلاثة أمور :عقد السببية والمسببية وكونهما في الماضي وامتناع السبب ثم تارة يعقل بين الجزأين ارتباط مناسب وتارة لا يعقل فالنوع الاول على ثلاثة أقسام :ما يوجب فيه الشرع أو العقل انحصار مسببية الثاني في سببية الأول نحو قوله تعالى : «ولو شئنا لرفعناه بها» ونحو لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا ، وهذا يلزم فيه من امتناع الأول امتناع الثاني قطعا. وما يوجب أحدهما فيه عدم الانحصار المذكور نحو : لو نام لانتقض وضوءه وهذا لا يلزم فيه من امتناع الأول امتناع الثاني كما قدمنا.

وما يجوز فيه العقل ذلك نحو : لو جاءني زيد أكرمته فإن العقل يجوز انحصار سبب الإكرام في المجيء ويرجحه أن ذلك هو الظاهر من ترتيب الثاني على الأول وأنه المتبادر الى الذهن واستصحاب الأصل وهذا النوع يدل فيه العقل على انتفاء المسبب المادي لانتفاء السبب

٥٦٠