إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٧

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٧

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٣٠

لا يقال جريحات وصبورات وسكرانات وحمراوات وعجماوات فلو جعلت أعلاما جاز الجمعان.

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠))

الاعراب :

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) الهمزة للاستفهام التوبيخي والتهكمي والإنكاري والفاء عاطفة على مقدر يقتضيه المقام وقد سبق تقريره والتقدير : أيكون حالهم كما ذكر من طلب الإنظار عند نزول العذاب الأليم فيستعجلون ، هكذا قدره بعض المعربين ولكنه لا يخلو من إيهام ،

١٤١

فالأولى أن يقدر : أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره فيستعجلون ، وقدم الجار والمجرور لأمرين : لفظي وهو مراعاة الفواصل ومعنوي وهو الإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ كون المستعجل به العذاب ، والجار والمجرور متعلقان بيستعجلون. (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) الهمزة للاستفهام والفاء حرف عطف ورأيت معطوف على فيقولوا وما بينهما اعتراض والتاء فاعل رأيت ورأيت بمعنى أخبرني فتتعدى الى مفعولين أحدهما مفرد والآخر جملة استفهامية غالبا وإن شرطية ومتعناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به وسنين ظرف متعلق بمتعناهم.

(ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) ثم حرف عطف وجاءهم فعل ومفعول به وما فاعل جاءهم وجملة كانوا صلة والواو اسم كان وجملة يوعدون خبرها.

ثم : تنازع أفرأيت وجاءهم في قوله «ما كانوا يوعدون» فإن أعملت الثاني وهو جاءهم كما تقدم في الاعراب رفعت به «ما كانوا» فاعلا به ، ومفعول أرأيت الأول ضميره ولكنه حذف والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية في قوله «ما أغنى عنهم» ولا بد من رابط بين هذه الجملة وبين المفعول الاول المحذوف وهو مقدر تقديره : أفرأيت ما كانوا يوعدونه ، وإن أعملت الاول نصبت به «ما كانوا» مفعولا به وأضمرت في جاءهم فاعلا به والجملة الاستفهامية مفعول ثان أيضا والعائد مقدر على ما تقرر في للوجه قبله والشرط معترض وجوابه محذوف. وقد تقدم البحث مستوفى في هذا التعبير في سورة الأنعام وهذا كله إنما يتأتى على قولنا إن «ما» استفهامية ولا يضيرنا تفسيرهم لها بالنفي فإن الاستفهام قد يرد للنفي ، وأما إذا جعلتها نافية ، فتكون حرفا ، ولا يتأتى ذلك لأن مفعول أرأيت الثاني

١٤٢

لا يكون إلا جملة استفهامية وقد ذكر هذا مفصلا كما ذكرت أقوال المعربين في سورة الانعام فجدد به عهدا. (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) ما استفهامية كما تقدم مفعول مقدم لأغنى وأغنى فعل ماض وعنهم متعلقان بأغنى وما مصدرية أو موصولة وعلى كل حال هي ومدخولها أو هي وحدها فاعل أغنى والتقدير ما أغنى عنهم تمتعهم أو ما كانوا يمتعون به من متاع الحياة الدنيا ، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي وقيل ما نافية ولا فرق بينهما كما تقدم. (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) الواو عاطفة أو استئنافية وما نافية وأهلكنا فعل وفاعل ومن حرف جر زائد وقرية مجرور بمن لفظا منصوب محلا على أنه مفعول أهلكنا وإلا أداة حصر ولها خبر مقدم ومنذرون مبتدأ مؤخر والجملة صفة لقرية أو حال منه وسوغ ذلك سبق النفي وقد تقدم الزمخشري رأي جميل في مثل هذا التعبير ونعيده هنا قال : «فإن قلت كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ولم تعزل عنها في قوله : وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم؟ قلت : الأصل عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف كما في قوله : سبعة وثامنهم كلبهم».

(ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) مفعول لأجله على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة ، وجوز أبو البقاء أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هذه ذكرى والجملة اعتراضية ، وأعربها الكسائي حالا أي مذكرين ، وأعربها الزجاج مصدر والعامل منذرون لأنه في معنى مذكرون ذكرى أي هذه ذكرى والجملة اعتراضية ، وأعرابها الكسائي حالا أي مذكرين ، (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) الواو عاطفة وما نافية وتنزلت فعل ماض وبه جار ومجرور متعلقان بتنزلت والضمير للقرآن والشياطين فاعل تنزلت (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ) الواو عاطفة وما نافية وينبغي فعل مضارع وفاعله مستتر يعود على

١٤٣

القرآن ولهم متعلقان بينبغي وما يستطيعون عطف على ما ينبغي ومفعول يستطيعون محذوف تقديره ذلك. (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) الجملة تعليل لعدم استطاعتهم أن يتنزلوا به وان واسمها وعن السمع متعلقان بمعزولون واللام المزحلقة ومعزولون خبر إن. (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) الفاء الفصيحة والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود غيره ، ولا ناهية وتدع فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت ومع ظرف متعلق بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لإلها وتقدم عليه وإلها مفعول به وآخر صفة لإلها ، فتكون الفاء فاء السببية وتكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء واسم تكون مستتر تقديره أنت ومن المعذبين خبر تكون. (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) الواو عاطفة وأنذر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعشيرتك مفعول به والأقربين صفة ، وسيأتي بحث واف عن هذا الانذار في باب الفوائد.

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عطف أيضا واخفض جناحك فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به ولمن متعلقان بأخفض وجملة اتبعك صلة من ومن المؤمنين حال. (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) الفاء عاطفة وإن شرطية وعصوك فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط ، فقل الفاء رابطة للجواب وان واسمها وبريء خبرها ومما متعلقان ببريء وجملة تعملون صلة وجملة اني بريء مقول القول ولذلك كسرت همزة إن. (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) عطف على ما تقدم وعلى العزيز متعلقان بتوكل. (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) الذي صفة للعزيز الرحيم وجملة يراك صلة وحين ظرف متعلق بيراك وجملة تقوم مجرورة بإضافة الظرف إليها ومتعلق تقوم

١٤٤

محذوف أي الى الصلاة (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) عطف على الكاف في يراك وفي الساجدين حال وفي بمعنى مع أي مصليا مع الجماعة ، وعن مقاتل أنه سأل أبا حنيفة رضي الله عنه : هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فتلا هذه الآية ، وقال بعضهم المراد بالساجدين المؤمنون أي يراك متقلبا في أصلاب وأرحام المؤمنين منذ زمن آدم وحواء الى عبد الله وآمنة (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والسميع العليم خبران لإن أو للضمير والجملة الاسمية خبر إن.

الفوائد :

أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الأقرب فالأقرب ، فلما أنزل الله تعالى «وأنذر عشيرتك الأقربين» دعاهم الى دار عمه أبي طالب وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه وفيهم أعمامه ، فأنذرهم فقال يا بني عبد المطلب : لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقيّ؟ قالوا : نعم ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. وروي انه قال : يا بني عبد المطلب ، يا بني هاشم ، يا بني عبد مناف افتدوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم شيئا ، ثم قال : يا عائشة بنت أبي بكر ، ويا حفصة بنت عمر ، ويا فاطمة بنت محمد ، ويا صفية عمة محمد اشترين أنفسكن من النار فإني لا أغني عنكن شيئا.

وهناك روايات أخرى لا تخرج عن هذا المعنى نجتزىء بما تقدم منها.

١٤٥

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

الاعراب :

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) كلام مستأنف مسوق لإبطال كونه كاهنا يتلقى من الشياطين ، وهل حرف استفهام وأنبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وعلى من جار ومجرور متعلقان بتنزل وقدم للاهتمام به ولأن للاستفهام صدر الكلام ، وهو معلق لفعل التنبئة عن العمل والجملة سدت مسد المفعولين الثاني والثالث وتنزل فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه والأصل تتنزل ، والشياطين فاعل تنزل.

(تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) الجار والمجرور متعلقان بتنزل ، وهو بدل من الجار والمجرور قبله وأفاك مضاف الى كل وأثيم صفة وهم الكهنة والمتنبئة كشق وسطيح ومسيلمة وطلحة. (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) يلقون فعل مضارع والواو فاعل وهو يعود على الشياطين فتكون الجملة حالية أو يعود على كل أفاك أثيم من حيث أنه جمع في المعنى فتكون الجملة مستأنفة أو صفة لكل أفاك أثيم ، ومعنى إلقائهم

١٤٦

السمع إنصاتهم الى الملأ الأعلى ليسترقو شيئا أو إلقاء الشيء المسموع الى الكهنة ، والسمع مفعول به والواو حالية وأكثرهم مبتدأ وكاذبون خبر والجملة حالية. (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) كلام مستأنف أيضا مسوق لإبطال كونه شاعرا كما زعموا وسيأتي بحث ضاف عن الشعر ومن هم الشعراء الذين يتبعهم الغاوون في باب الفوائد والشعراء مبتدأ وجملة يتبعهم خبر ويتبعهم فعل مضارع ومفعول به مقدم والغاوون فاعل مؤخر. (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) الجملة مفسرة والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي تر وفي كل واد متعلقان بيهيمون ويهيمون فعل مضارع وفاعل والجملة خبر أنهم ، ويجوز أن تعلق الجار والمجرور بمحذوف هو الخبر وجملة يهيمون حالية ، وتمثيل ذهابهم في كل شعب من القول بالوادي سيأتي بحثه في باب البلاغة.

(وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) جملة معطوفة. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) إلا أداة استثناء والذين مستثنى من الشعراء المذمومين وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا داخل في حيز الصلة وذكروا الله عطف أيضا وكثيرا صفة لمفعول مطلق محذوف أي ذكروا الله ذكرا كثيرا أو صفة لظرف زمان محذوف أي وقتا كثيرا.

(وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) عطف على ما تقدم وما مصدرية أي من بعد ظلمهم من إضافة المصدر لمفعوله. (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) الواو استئنافية والسين حرف استقبال ويعلم فعل مضارع والذين فاعله وجملة ظلموا صلة وأي منقلب منصوب على المفعولية المطلقة لأن أيا تعرب بحسب ما تضاف إليه وقد علقت يعلم

١٤٧

عن العمل ، هذا والعامل في أي هو ينقلبون لا يعلم لأن أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها ، قال النحاس : «وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر فلو عمل فيه لدخل بعض المعاني في بعض».

البلاغة :

في قوله تعالى : «ألم تر أنهم في كل واد يهيمون» استعارة تمثيلية لطيفة وليس ثمة واد ولا شعاب ولا هيام وانما هو تغلغل الى مناحي القول ، واعتساف في الأوصاف والتغزل والتشبيب والنسيب وقلة مبالاة بما يهتكونه من أعراض ، ويرجفون به من أقوال ، وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام على الشعر في باب الفوائد ، وعن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله :

فبتن بجانبي مصرعات

وبت أفض إغلاق الختام

فقال قد وجب عليك الحد ، فقال يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله «وأنهم يقولون ما لا يفعلون».

الفوائد :

١ ـ فضل الشعر :

واستثناء الشعراء الصالحين الذين ينافحون دون الأوطان ، ويدعون الى الفضائل والإصلاح ، ويصورون عيوب المجتمع وسيئاته لرأب صدوعه ، يدل على ما للشعر من مكانة سامية ومنزلة عالية ، وقد

١٤٨

روى البخاري عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن من الشعر حكمة ، وعن ابن عباس قال : جاء أعرابي الى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يتكلم بكلام فقال : إن من البيان سحرا وان من الشعر حكمة. أخرجه أبو داود ، وقالت عائشة رضي الله عنها : الشعر كلام منه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح ، وقال الشعبي : كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان عثمان يقول الشعر وكان علي أشعر من الثلاثة رضي الله عنهم أجمعين.

بين النظم والنثر :

وقال صاحب العمدة : «وكلام العرب نوعان : منظوم ومنثور ، ولكل منهما ثلاث طبقات : جيدة ومتوسطة ورديئة ، فإذا اتفق الطبقتان في القدر وتساوتا في القيمة ولم يكن لإحداهما فضل على الأخرى كان الحكم للشعر ظاهرا في التسمية لأن كل منظوم أحسن من كل منثور من جنسه في معترف العادة ، ألا ترى أن الدر ، وهو أخو اللفظ ونسيبه ، إليه يقاس وبه يشبه ، إذا كان منثورا لم يؤمن عليه ولم ينتفع به في الباب الذي له كسب ومن أجله انتخب ، وإن كان أعلى قدرا وأغلى ثمنا ، فإذا نظم كان أصون له من الابتذال ، وأظهر لحسنه مع كثرة الاستعمال ، وكذلك اللفظ إذا كان منثورا تبدد في الأسماع وتدحرج عن الطباع.

الكذب مذموم إلا من الشعراء :

ومن فضائله أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه ، وحسبك ما حسّن الكذب واغتفر له قبحه ، فقد أوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير لما أرسل الى أخيه بجير ينهاه عن الإسلام

١٤٩

وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بما أحفظه فأرسل اليه أخوه : ويحك ان النبي أوعدك لما بلغه عنك وقد كان أوعد رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه فقتلهم يعني ابن خطل وابن حبابة وان من بقي من شعراء قريش كابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر الى رسول الله فإنه لا يقتل من جاء تائبا وإلا فانج الى نجائك فإنه والله قاتلك ، فضاقت به الأرض فجاء الى رسول الله متنكرا فما صلى البني صلاة الفجر وضع كعب يده في يد رسول الله ثم قال : يا رسول الله إن كعب بن زهير قد أتى مسنأمنا تائبا أفتؤمنه فآتيك به؟ قال : هو آمن فحسر كعب عن وجهه وقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله هذا مكان العائذ بك أنا كعب بن زهير فأمنه رسول الله وأنشد كعب قصيدته التي أولها :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيّم إثرها لم يفد مكبول

يقول فيها بعد تغزله وذكر شدة خوفه ووجله :

أنبئت أن رسول الله أوعدني

والعفو عند رسول الله مأمول

مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الق

سر آن فيها مواعيظ وتفصيل

لا تأخذنّي بأقوال الوشاة فلم

أذنب وقد كثرت فيّ الأقاويل

١٥٠

فلم ينكر عليه النبي قوله ، وما كان ليوعده على باطل ، بل تجاوز عنه ووهب له بردته فاشتراها منه معاوية بثلاثين ألف درهم وقال العتبي بعشرين ألفا وهي التي توارثها الخلفاء يلبسونها في الجمع والأعياد.

ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بحسّان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : أرغاء كرغاء البعير ، فقال حسان : دعني عنك يا عمر فو الله انك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد لمن هو خير منك فما يغير عليّ ذلك فقال عمر : صدقت.

وقال صاحب العمدة : «فأما احتجاج من لا يفهم وجه الكلام بقوله تعالى «والشعراء يتبعهم الغاوون ، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ، وانهم يقولون ما لا يفعلون» فهو غلط وسوء تأول لأن المقصود بهذا النص شعراء المشركين الذين تناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء ومسّوه بالأذى فأما من سواهم من المؤمنين فغير داخل في شيء من ذلك ، ألا تسمع كيف استثناهم الله عز وجل ونبه عليهم فقال : «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا» يريد شعراء النبي الذين ينتصرون له ويجيبون المشركين عنه كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وقد قال فيهم النبي صلى الله عليهم وسلم «هؤلاء النفر أشدّ على قريش من نصح النبل» وقال لحسان بن ثابت : «اهجهم ـ يعني قريشا ـ وروح القدس معك فو الله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام والق أبا بكر يعلمك تلك الهنات» فلو أن الشعر حرام أو مكروه ما اتخذ النبي شعراء يثيبهم على الشعر ويأمرهم بعمله ويسمعه منهم.

١٥١

وأما قوله صلى الله عليه وسلم «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلىء شعرا» فإنما هو من غلب الشعراء على قلبه وملك نفسه حتى شغله عن دينه وإقامة فرضه ومنعه من ذكر الله تعالى.

وقد قال الشعر كثير من الخلفاء الراشدين والجلّة من الصحابة والتابعين والفقهاء المشهورين : فمن ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه قالوا :واسمه عبد الله بن عثمان ويقال : عتيق لقب له قال في غزوة عبيدة ابن الحارث :

أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث

أرقت أوامر في العشيرة حادث

ترى من لؤي فرقة لا يصدّها

عن الكفر تذكير ولا بعث باعث

رسول أتاهم صادق فتكذّبوا

عليه وقالوا : لست فينا بماكث

إذا ما دعوناهم الى الحق أدبروا

وهرّوا هرير المجمرات اللواهث

فكم قد متتنا فيهم بقرابة

وترك التقى شيء لهم غير كارث

١٥٢

فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم

فما طيبات الحلّ مثل الخ

بائث وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم

فليس عذاب الله عنهم

بلابث فأولى برب الراقصات عشية

حراجيح تخدي في السريح الر

ثائث كأدم ظباء حول مكة عكف

يردن حياض البئر ذات الن

بائث لئن لم يفيقوا عاجلا من ضلالهم

ولست إذا آليت قولا ب

حانث لتبتدرنهم غارة ذات مصدق

تحرم أطهار النساء الط

وامث تغادر قتلى تعصب الطير حولهم

ولا يرأف الكفار رأف ابن

حارث فأبلغ بني سهم لديك رسالة

وكل كفور يبتغي الشر باحث

١٥٣

فإن شتموا عرضي على سوء رأيهم

فإني من أعراضهم غير شاعث

هذا ولا بد من الإلماع الى أن ابن هشام قال في سيرته : «وأكثر أهل العلم ينكر هذه القصيدة لأبي بكر».

ومن شعر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة :

هوّن عليك فإن الأمو

ر بكف الإله مقاديرها

فليس يأتيك منهيها

ولا قاصر عنك مأمورها

ومن شعره أيضا وقد لبس بردا جديدا فنظر الناس إليه :

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته

يبقى الإله ويفنى المال والولد

لم تغن عن هرمز يوما خزائنه

والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح له

والجنّ والإنس فيما بينها ترد

حوض هنالك مورود بلا كذب

لا بد من ورده يوما كما وردوا

١٥٤

ومن شعر عثمان بن عفان رضي الله عنه :

غنى النفس يغني النفس حتى يكفّها

وإن عضّها حتى يضر بها الفقر

وما عمرة ـ فاصبر لها إن لقيتها ـ

بكائنة إلا سيتبعها يسر

ومن شعر علي بن أبي طالب ما قاله يوم صفين يذكر همدان ونصرهم إياه :

ولما رأيت الخيل ترجم بالقنا

نواصيّها حمر النحور دوامي

وأعرض نقع في السماء كأنه

عجاجة دجن ملبس بقتام

ونادى ابن هند في الكلاع وحمير

وكندة في لخم وحيّ جذام

تيمّمت همدان الذين هم هم

 ـ إذا ناب دهر ـ جنتي وسهامي

فجاوبني من خيل همدان عصبة

فوارس من همدان غير لئام

١٥٥

فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها

وكانوا لدى الهيجا كشرب مدام

فلو كنت بوّابا على باب جنة

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

ومن شعر الحسن بن علي وقد خرج على أصحابه مختضبا ، رواه المبرد :

تسوّد أعلاها وتأبى أصولها

فليت الذي يسودّ منها هو الأصل

ومن شعر الحسين بن علي وقد عاتبه أخوه الحسن في امرأته :

لعمرك انني لأحب دارا

تحل بها سكينته والرباب

أحبهما وأبذل جلّ مالي

وليس للائمي عندي عتاب

ومن الخلفاء كثيرون قالوا الشعر فمن شعر عمر بن عبد العزيز :

أيقظان أنت اليوم أم أنت حالم

وكيف يطيق النوم حيران هائم

١٥٦

فلو كنت يقظان الغداة لحرقت

جفونا لعينيك الدموع الس

واجم نهارك يا مغرور سهو وغفلة

وليلك نوم والردى لك

لازم وتشغل فيما سوف تكره غبّه

كذلك في الدنيا تعيش البهائم

واشتهر من الفقهاء محمد بن إدريس الشافعي بالشعر فكان من أحسن الناس افتنانا بالشعر ، وهو القائل :

ومتعب العيس مرتاحا إلى بلد

والموت يطلبه في ذلك البلد

وضاحك والمنايا فوق مفرقه

لو كان يعلم غيبا مات من كمد

من كان لم يؤت علما في بقاء غد

ماذا تفكره في رزق بعد غد

ومن روائعه المشهورة قوله في الحظ :

الجدّ يدني كلّ شيء شاسع

والجدّ يفتح كل باب مغلق

١٥٧

فإذا سمعت بأن مجدورا حوى

عودا فأورق في يديه

فصدق وإذا سمعت بأن محروما أتى

ماء ليشربه فجفّ

فحقق وأحقّ خلق الله بالهم امرؤ

ذو همة يبلى برزق

ضيق ولربّما عرضت لنفسي فكرة

فأودّ منها أنني لم أخلق

وحسبنا ما تقدم من الاستشهاد فذلك قد يخرج بنا عن الغرض.

نصائح بوالو للشاعر :

هذا ونختم المبحث بالنصائح القيمة التي أوردها الكاتب الفرنسي بوالو للشاعر وخلاصتها : انه على الشاعر أن يتنزه عن الإباحية ، صحيح ان تصوير الحب مباح ولكن بحيث لا يكون في هذا التصوير أي نوع من أنواع التبذّل ، وينبغي أن يتجرد من الغيرة ، إنها آفة من آفات رجال الأدب وهي رذيلة إن وجدت في أحدهم دلت على ضعف مواهبه.

ثم ينبغي عليه أن يكون طيب الصحبة ممتع الحديث ، ثم إن مما يشين شاعرا من الشعراء أن يوجه همه الى كسب المال ، كما يجدر به ـ على

١٥٨

العكس ـ أن يسعى لبلوغ المجد ، وعليه أن لا يحطّ من قدر الشعر ذلك الفن الإلهي الذي هذب فيما مضى النفوس وألهب فيها الوطنية وعلم الحكمة والفضيلة.

٢ ـ من هو سطيح الكاهن :

روى التاريخ أن سطحيا الغساني كان أكهن الناس وقد أنذر بسيل العرم وكان جسده يدرج كما يدرج الثوب خلا جمجمة رأسه وإذا مست باليد أثرت فيه للين عظمها وكان أبدا منسطحا على الأرض عاش ١٥٠ سنة على ما قيل ، ومات في الليلة التي ولد فيها محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن كهانته انه لما كان ليلة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتج إيوان كسرى فسقطت منه أربع عشرة شرفة فأعظم ذلك أهل المملكة وكتب الى كسرى صاحب الشام أن وادي السماوة قد انقطع في تلك الليلة وكتب إليه صاحب اليمن أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة وكتب إليه صاحب طبرية أن الماء لم يجر تلك الليلة في بحيرة طبرية وكتب إليه صاحب فارس أن النار خمدت تلك الليلة فلما تواترت عليه الكتب أظهر سريره وبرز الى أهل مملكته فأخبرهم الخبر فقال الموبذان : أيها الملك إني رأيت تلك الليلة رؤيا هالتني ، رأيت إبلا صعابا تقود خيلا عرابا ، حتى اقتحمت دجلة وانتشرت في بلادنا قال فما عندك في تأويلها؟ قال :ما عندي شيء ولكن أرسل الى عاملك في الحيرة يوجه إليك رجلا من علمائهم فإنهم أصحاب علم بالحدثان فوجه اليه عبد المسيح بن نفيلة الغساني فأخبره كسرى بالخبر فقال : أيها الملك ما عندي فيها من شيء ولكن جهزني الى خالي سطيح فجهزه فلما قدم عليه وجده قد احتضر فناداه فلم يجبه فقال :

١٥٩

أصمّ أم يسمع غطريف اليمن

أتاك شيخ الحيّ من آل سنن

أبيض فضفاض الرداء والرسن فرفع اليه سطيح رأسه وقال : عبد المسيح ، على جمل مشيح ، أقبل الى سطيح ، وقد أوفى على الضريح ، بعثك ملك بني ساسان ، لارتجاج الإيوان ، وخمود النيران ، ورؤيا الموبذان ، رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا ، حتى اقتحمت الواد وانتشرت في البلاد ، يا عبد المسيح إذا ظهرت التلاوة ، وفاض وادي السماوة ، وظهر صاحب الهراوة ، فليست الشام لسطيح بشام يملك منهم ملوك وملكات ، بعدد ما سقط من الشرفات ، وكل ما هو آت آت ثم قال :

إن كان ملك بني ساسان أفرطهم

فإن ذا الدهر أطوار دهارير

منهم بنو الصرح بهرام وأخوته

والهرمزان وسابور وسابور

فربما أصبحوا منهم بمنزلة

يهاب صولهم الأسد المهاصير

حثوا المطي وجدوا في رحيلهم

فما يقوم لهم سرج ولا كور

١٦٠