تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

فصبر كان خيرا له وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له» (١). واعلم أنه ذكر هاهنا (أَرَأَيْتَكُمْ) مرتين فزاد خطابا واحدا ، لأن عذاب الاستئصال ما عليه من مزيد فناسب زيادة الخطاب لأجل التأكيد ، وفيما بينهما قال (أَرَأَيْتُمْ) حيث لم يكن كذلك ، وكذلك في يونس. ثم ذكر أن الأنبياء والرسل بعثوا للتبشير والإنذار فقط ولا قدرة لهم على إظهار الآيات وإنزال المعجزات التي اقترحوها في قوله (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وأن ذلك مفوّض إلى مشيئة الله وحكمته فقال (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) بالثواب على الطاعات (وَمُنْذِرِينَ) بالعقاب على المعاصي. فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو من أفعال القلب والعمل الصالح الذي هو من أفعال البدن (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) ومعنى المس التقاء الشيئين من غير فصل. قال في الكشاف : جعل العذاب ماسا كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام وفيه نظر ، لأن المس ليس من خواص الأحياء ، نعم إنه من خواص الأجسام ، فلو ادعيت المبالغة من هذا الوجه لم يكن بعيدا. قال القاضي : إنه علل عذاب الكافرين بكونهم فاسقين فيكون كل فاسق كافرا. وأقول : هذا من باب إيهام العكس ولا يلزم العكس ، فإن كل كافر فاسق ولا يلزم العكس.

ثم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينفي عن نفسه أمورا ثلاثة فقال (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) وهي جمع خزانة للمكان الذي يخزن فيه الشيء ، وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) قال في الكشاف : محله النصب عطفا على محل قوله (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) لأنه من جملة المقول أي لا أقول لكم ذاك ولا هذا. قلت : ويحتمل أن يكون عطفا على (لا أَقُولُ) أي قل لا أعلم الغيب فيكون فيه دلالة على أن الغيب بالاستقلال لا يعلمه إلا الله بخلاف كون خزائن الله عنده وكونه ملكا فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحتمل أن يكون له هذه المقامات ولكن لا يظهرها. واختلف المفسرون في فائدة نفي هذه الأمور فقيل : المراد إظهار التواضع والخضوع لله تعالى والاعتراف بعبوديته حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح عليه‌السلام. وقيل : المقصود إبداء العجز والضعف وأنه لا يستقل بإيجاد المعجزات التي كانوا يقترحونها كقولهم (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣] وقيل : أي لا أدّعي سوى النبوّة والرسالة ولا أدّعي الإلهية ولا الملكية وإنما زيد هاهنا (لَكُمْ) بخلاف سورة هود حيث قال (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) [الآية : ٣١] لأنه تقدم ذكر لكم في قوله (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ) [هود : ٢٥] فاكتفى بذلك. قال الجبائي : في الآية دلالة على أن الملك أفضل إذ

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث ٦٤. أحمد في مسنده (٤ / ٣٣٢ ، ٣٣٣).

٨١

المراد لا أدّعي فوق منزلتي. قال القاضي : إن كان الغرض التواضع فالأقرب أن ذلك يدل على أن الملك أفضل ، وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على أفضلية الملائكة. (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) قيل : هذا النص يدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يحكم من تلقاء نفسه بالاجتهاد في شيء من الأحكام ، ولا يجوز لأحد من أمته أن يعمل إلا بالوحي النازل عليه لقوله تعالى (فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣] فلا يجوز العمل بالقياس ، وأكد هذا الحكم بقوله (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) وذلك أن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى ، والعمل بمقتضى الوحي يقوم مقام عمل البصير. ثم قال (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) تنبيها على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين. وأجيب بأن أصل الاجتهاد والقياس إذا كان بالوحي لم يلزم الضلالة ، والآية مثل للضال والمهتدي أو لمن ادعى المستقيم وهو النبوة والمحال وهو الإلهية والملكية (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) فلا تكونوا ضالين كالعميان ، أو فتعلموا أني ما ادعيت سوى ما يليق بالبشر والله تعالى أعلم وأحكم.

التأويل : (وَما مِنْ دَابَّةٍ) تدب في أرض البشرية وتتحرك من الحواس والجوارح والنفس وصفاتها (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) في السؤال عن أقوالهم وأحوالهم كقوله (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦] (ما فَرَّطْنا) ما تركنا في القرآن من شيء يحتاج إليه الإنسان ظاهره وباطنه ، ذاته وصفاته في السير إلى الله من الأوامر والنواهي والندب والآداب. (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) هاهنا بالسير وجذبات العناية ، أو هناك بالسلاسل والأغلال يسحبون في النار في نار القطيعة على وجوههم لأن من شأنهم التكذيب كما قال (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بدلائلنا الموصلة إلينا (صُمٌ) آذان قلوبهم عن استماع الحق (بُكْمٌ) ألسنة أحوالهم عن إجابة دعوة الحق في ظلمات صفات البشرية والأخلاق الذميمة. (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) لأن رجوعه إلى ربه مركوز في روحانيته. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ) أي أرسلنا إليهم نعمة الصحة والكفاف والأمن فشغلوا بها عنا ، فأرسلنا إليهم بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة ندعوهم بها إلينا فلم يهتدوا (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) التي هي موجبة للإلجاء. (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) وعلموا أن حقائق ألطافنا مدرجة في دقائق صور قهرنا ، وتحققوا أن درر محبتنا مستودعة في أصداف شدائد بأسنا ، فاستقبلوها بصدق الالتجاء وحسن التضرع في الدعاء. (فَلَمَّا نَسُوا) بسبب القساوة (ما ذُكِّرُوا بِهِ) من معارضة البأساء والضراء فإنها تذكر أيام الرخاء وتعرّف قدر الصحة والنعماء وتؤدي إلى رؤية المنعم (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) من البلاء في صورة النعماء لأرباب الظاهر بالنعم الظاهرة من المال والجاه والقبول وأمثالها ، ولأرباب الباطن بالنعم الباطنة من فتوحات

٨٢

الغيب وأشباهها (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) وظنوا أنهم قد استغنوا عن صحبة الشيخ وتعليم تصرفاته فشرعوا في الطلب على وفق هواهم (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) بفقد الأحوال والاشتغال بالقال (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) متحيرون في تيه الغرور. والحمد لله على إظهار اللطف لأربابه والقهر لأصحابه ليعلم أن الكل بقدر كما قال (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) الآية إلا القوم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم بصرف استعداد عبودية المولى في عبادة الهوى. فأما من ابتلي بعذاب الله من الآفات والمخافات والأمراض ونحوها ابتلاء فتاب ورجع فهو غيرها لك على الحقيقة (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ) لم يقل ليس (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) ليعلم أن خزائن الله وهي العلم بحقائق الأشياء وماهياتها عنده بإراءة (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣] وباستجابة دعائه في قوله «أرنا الأشياء كما هي» ولكنه يكلم الناس على قدر عقولهم. (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي لا أقول لكم هذا مع أنه كان يخبرهم عما مضى وعما سيكون بإعلام الحق ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة ليلة المعراج «نظرت خلفي نظرة علمت ما كان وما سيكون» (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) وإن كنت قد عبرت عن مقام الملك حين قلت لجبريل : تقدم فقال : لو دنوت أنملة لاحترقت (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أن أخبرهم وقل معهم. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) فلا يستوي مع الأعمى كلام البصير فكيف أخبركم عما أعمى الله بصائركم عنه وأنا به بصير. قوله تعالى :

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ

٨٣

وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠))

القراآت : (بِالْغَداةِ) مضموم الغين ساكن الدال مفتوح الواو وكذا في الكهف : ابن عامر. الباقون : بفتح الغين والدال وبالألف (أَنَّهُ) بالفتح (فَأَنَّهُ) بالكسر : أبو جعفر ونافع. وقرأ ابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب جميعا بالفتح. الباقون : بالكسر فيهما وليستبين بياء الغيبة : زيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل. الباقون : بالتاء الفوقانية (سَبِيلُ) بالنصب : أبو جعفر ونافع وزيد. الباقون : بالرفع (يَقُصُ) ابن كثير وأبو جعفر ونافع وعاصم. الباقون يقضي الحق.

الوقوف : (يَتَّقُونَ) ه (وَجْهَهُ) ط (الظَّالِمِينَ) ه (مِنْ بَيْنِنا) ط (بِالشَّاكِرِينَ) ه (الرَّحْمَةَ) ط لمن قرأ (أَنَّهُ) بكسر الألف (رَحِيمٌ) ه (الْمُجْرِمِينَ) ه (مِنْ دُونِ اللهِ) ط (أَهْواءَكُمْ) لا لتعيين «إذا» بما قبله أي قد ضللت «إذا» اتبعت (الْمُهْتَدِينَ) ه (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) ط (تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) ط (لِلَّهِ) ط (الْفاصِلِينَ) ه (وَبَيْنَكُمْ) ط (بِالظَّالِمِينَ) ه (إِلَّا هُوَ) ط (وَالْبَحْرِ) ط (مُبِينٍ) ه (مُسَمًّى) ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع اتحاد المقصود. (تَعْمَلُونَ) ه.

التفسير : لما وصف الرسل بكونهم مبشرين ومنذرين أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإنذار وهو الإعلام بموضع المخافة فقال له (وَأَنْذِرْ بِهِ) قال ابن عباس والزجاج : أي بالقرآن وهو المذكور هنا في قوله (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [الأنعام : ٥٠] وقال الضحاك : أي بالله. قيل : والأول أولى لأن الإنذار والتخويف إنما يقع بالقول وفيه نظر ، لأن الإنذار لا نزاع فيه أنه قول ولكن المنذر به قلما يكون قولا لقوله (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) [غافر : ١٨] (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) [الليل : ١٤] ولو زعم أن المراد وأنذرهم النار والعذاب بواسطة القرآن قلنا : فقدر مثله هاهنا ، والمعنى أنذرهم العذاب بقول ينبىء عن شدة سخط الله وعقوبته. أما (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا) فقيل : إنهم الكافرون الذين سبق ذكرهم ، فلعل ناسا من المشركين من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقا فيهلكوا فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار فأمر أن ينذر هؤلاء دون المتمردين منهم. ثم قال هذا القائل ولا يجوز حمله على المؤمنين لأنهم يعلمون أنهم يحشرون ، والعلم خلاف الخوف والظن. وضعف بأن الخوف شامل للناس كافة لعدم الجزم بالثواب وقبول الطاعة وإن كانوا مقرين بصحة الحشر والنشر فالظاهر أن الضمير يتناول الكل لأن العاقل لا بد أن يخاف

٨٤

الحشر سواء كان جازما به أو شاكا فيه. وأيضا إنه مأمور بتبليغ الكل فلا وجه للتخصيص. وقيل : إنهم قوم مسلمون مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه لعلهم يدخلون في زمرة أهل التقوى من المسلمين. وقيل : هم أهل الكتاب لأنهم مقرون بالبعث. ومعنى (إِلى رَبِّهِمْ) إلى حكمه وقضائه فلا يلزم منه مكان ولا جهة. أما قوله (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) فقال الزجاج : إن الجملة في موضع الحال من ضمير (يُحْشَرُوا) أي يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم. فإن كان الضمير للكفار فظاهر ، وإن كان للمؤمنين فشفاعة الملائكة والرسل إذا كانت بإذن الله تعالى فإنها تكون بالحقيقة من الله تعالى فصح أنه ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ، ولا بد من هذه الحال لأن الحشر مطلقا ليس مخوفا وإنما المخوف هو الحشر على هذه الحالة لأنهم اعتقدوا أن لا ناصر ولا شفيع إلا الله وإذا لم يكن الله ناصرا وشفيعا لزم أن لا يكون ناصرا أصلا. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) قال ابن عباس : لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي. قالت المعتزلة : فيه دلالة على أنه أراد من الكفار التقوى والطاعة. وأجيب بأن الترجي راجع إلى العباد. ولما أمر بإنذار عموم المكلفين ليتقوا أردفهم بذكر المتقين وأمر بتقريبهم وإكرامهم. روي عن ابن مسعود أن الملأ من قريش مروا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعنده صهيب وبلال وخباب وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين ـ فقالوا : يا محمد ، أرضيت بهؤلاء أتريد أن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أنا بطارد المؤمنين. فقالوا : فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت. فقال : نعم طمعا في إيمانهم. وروي أن عمر قال له : لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون. ثم إنهم قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اكتب بذلك كتابا ، فدعا بالصحيفة وبعلي ليكتب فنزلت (وَلا تَطْرُدِ) الآية. فرمى بالصحيفة واعتذر عمر عن مقالته. قال سلمان وخباب : فينا نزلت. فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقعد معنا وندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته ، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) [الكهف : ٢٨] فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه. وقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات ، أثنى الله عليهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي. قال ابن عباس والحسن ومجاهد : أي يصلون صلاة الصبح والعصر. وقيل : أي يذكرون ربهم طرفي النهار ، والمراد بالغداة والعشي الدوام. والغداة لغة ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس ، والعشي ما بين الزوال إلى الغروب. قال الجوهري : غدوة بالتنوين نكرة وبدونه معرفة غير مصروفة كسحر. ومحل (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) نصب على الحال أو على الاستئناف كأنه قيل : ما أرادوا بالمواظبة على الدعاء؟ فأجيب

٨٥

بقوله (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ولا يثبت به لله تعالى عضو كما زعمت المجسمة ولكن المراد به التعظيم ، فقد يعبر به عن ذات الشيء أو حقيقته كما يقال : هذا وجه الرأي وذاك وجه الدليل. وأيضا المحبة تستلزم طلب رؤية الوجه فلهذا السبب جعل الوجه كناية عن المحبة وطلب الرضا. ثم علل النهي بقوله (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قيل : الضمير عائد إلى المشركين أي لا يؤاخذوا بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك ذلك إلى أن تطرد المؤمنين ، والأولى أن يعود إلى الفقراء ليناسب قوله (فَتَطْرُدَهُمْ) كما في قصة نوح (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) [الشعراء : ١١٣] وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم وقالوا : يا محمد إنهم قبلوا دينك ولازموك لأجل المأكول والملبوس فقال الله تعالى : إن كان الأمر على ما زعموا فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر إن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم لا يتعدى إليك كما أن حسابك لا يتعدى إليهم ، فالجملتان لهما مؤدى واحد وهو المفهوم من قوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤] كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. وقيل : ما عليك من حساب رزقهم من شيء ولا من حساب رزقك عليهم من شيء ، وإنما الرازق لك ولهم هو الله سبحانه فدعهم يكونوا عندك ، أما قوله (فَتَطْرُدَهُمْ) فهو جواب النفي في (ما عَلَيْكَ) وفي انتصاب (فَتَكُونَ) وجهان : أحدهما أنه جواب النهي ، والثاني أنه عطف على (فَتَطْرُدَهُمْ) على وجه التسبب ، لأن كونه ظالما معلوم من طردهم ومسبب عنه ، فإن طرد من يستوجب التقريب والترحيب وضع للشيء في غير موضعه ومن هنا طعن بعض الناس في عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : كان يقول كلما دخل أولئك الفقراء عليه بعد هذه الواقعة مرحبا بمن عاتبني ربي فيهم أو لفظ هذا معناه. والجواب أنه ما طردهم لأجل الاستخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم وإنما أفرد لهم مجلسا تألفا لقلوب المشركين وتكثيرا لسواد الإسلام مع علمه بأنه لا يفوت الفقراء بهذه المصالحة أمر مهم في الدنيا ولا في الدين ، فغاية ذلك أنه يكون من باب تبرك الأولى والأفضل ، (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الفتن العظيم (فَتَنَّا) ابتلينا بعض الناس ببعض ، فأحد الفريقين وهم الكفار يرى الآخر مقدما عليه في المناصب الدينية فيقول (أَهؤُلاءِ) المسترذلون (مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) كقوله : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) [القمر : ٢٥] والفريق الآخر يرى الأول مقدما عليه في الخيرات العاجلة والخصب والسعة الراحة والدعة فيقول : أهذا هو الذي فضله الله علينا. وأما المحققون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله فهو صواب ، ولا اعتراض عليه بحكم المالكية وبحسب رعاية الأصلح. وبالجملة فصفات الكمال غير محصورة ولا تجتمع في إنسان واحد البتة بل هي موزعة على الخلائق وكلها محبوبة لذاتها. فكل إنسان يحسد

٨٦

صاحبه على ما آتاه الله تعالى من صفة الكمال ، فمن عرف سر القدر رضي بنصيب نفسه وسكت عن التعرض لغيره وعاش عيشا طيبا في الدنيا والآخرة. قال هشام بن الحكم الافتتان الاختبار والامتحان ، وفيه دليل على أنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند حدوثها. والجواب أنه يعامل المكلف معاملة المختبر وقد مر مرارا. وقالت الأشاعرة : في الآية دلالة على مسألة خلق الأعمال لأن تلك الفتنة التي ألقاها الله تعالى ليست إلا اعتراضهم على الله والاعتراض عليه كفر. فهو تعالى خالق للكفر. وأيضا منة الله عليهم ليست إلا بالإيمان ومتابعة الرسول ، فلو كان الموجد للإيمان هو العبد كان العبد هو المان على نفسه. أجاب المعتزلة بأن معنى فتناهم ليقولوا خذلناهم حتى آل أمرهم إلى أن قالوا ، فتكون اللام لام العاقبة ، وزيف بأنه عدول عن الظاهر مع أنا ننقل الكلام إلى الخذلان فلا بد من الانتهاء إليه تعالى (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) بمن يصرف كل ما أنعم به عليه فيما أعطاه لأجله فيظهر أفعاله على حسب معلوم الله تعالى. وقال في الكشاف : أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان ، وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق.

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا) قال عكرمة : نزلت في الذين نهى الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طردهم وكان إذا رآهم بدأهم بالسلام ، وقال : الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام. وقال ماهان الحنفي : أتى قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوبا عظاما ، وأظهروا الندامة والأسف فما أخاله رد عليهم بشيء. فلما ذهبوا وتولوا نزلت الآية. قال في التفسير الكبير : الأقرب أن تحمل الآية على عمومها ، فكل من آمن بآيات الله تعالى يدخل تحت هذا التشريف والإكرام ثم أيدى إشكالا وهو أن المفسرين اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال في كل واحدة من جميع آي هذه السورة إنها نزلت بسبب الأمر الفلاني؟ قلت : لا استبعاد في أن تنزل السورة دفعة وينزل الصحابة كل آية منها على واقعة تناسبها ، كيف وهم أعرف بحقائق التنزيل وأعلم بدقائق التأويل لأنهم أهل مشاهدة الوحي وأرباب مزاولة الأمر والنهي؟! واعلم أن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله ، وأنها لا تكاد تنحصر فيجب على المكلف أن يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار والسائح في هذه القفار ليكون دائما مترقيا في معارجها مترقبا أن تفيض عليه الأنوار من مدارجها فيستعد لبشارة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ويستأهل لكرامة (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) إما أن يكون أمرا بتبليغ سلام الله إليهم ، وإما أن يكون أمرا بأن يبدأهم بالسلام إكراما لهم. قال الزجاج : (سَلامٌ) إما مصدر «سلمت سلاما وتسليما» مثل : كلمت كلاما وتكليما. ومعناه الدعاء بأن يسلم من الآفات في نفسه

٨٧

ودينه ، وإما أن يكون جمع سلامة. وقيل : السلام هو الله أي الله عليكم أي على حفظكم ولعل هذا الوجه إنما يتأتى في المعرف لا في المنكر. (كَتَبَ رَبُّكُمْ) من جملة المقول لهم تبشيرا بسعة رحمة الله وقبوله التوبة. ومعنى كتب على نفسه أوجب على ذاته إيجاب الكرم لا إيجابا يستحق بتركه الذم. وقالت المعتزلة : كونه عالما بقبح القبائح وباستغنائه عنها يمنعه عن الإقدام عليها ولو فعل كان ظلما ، وإيجاب الرحمة ينافي القول بأنه منع الكافر من الإيمان ثم أمره حال ذلك المنع بالإيمان ثم يعذبه على ترك ذلك الإيمان ، وأجيب بأنه فاعل لما يشاء ولا اعتراض عليه. (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ) من قرأ بالفتح فعلى الإبدال من الرحمة ، ومن قرأ بالكسر فعلى الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل : إنه من عمل (مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) وهو في موضع الحال أي عمله وهو جاهل. والمراد أنه فاعل فعل الجهال لأن من عمل ما يضره في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه لا من أهل الحكمة والتدبير ، أو أنه جاهل بعاقبته ومن حق الحكيم أن لا يقدم على ما لا يعرف مآل حاله. (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ) بأن يندم على ما فعله (وَأَصْلَحَ) العمل في المستقبل (فَأَنَّهُ غَفُورٌ) يزيل العقاب عنه (رَحِيمٌ) يوصل الثواب إليه من قرأ بالكسر فعلى : أن الجملة جزاء للشرط ، ومن قرأ بالفتح فعلى أن الخبر أو المبتدأ محذوف أي فغفرانه كائن أو فأمره أنه غفور. قيل : إن الآية نزلت في عمر حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما طلبوا ولم يعلم أنها مفسدة. (وَكَذلِكَ) أي كما فصلنا في هذه السورة دلائلنا على التوحيد والنبوة والقضاء والقدر (نُفَصِّلُ الْآياتِ) ونميزها لك في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل وليستبين معطوف على محذوف كأنه قيل : ليظهر الحق وليستبين ، أو معلق بمحذوف أي وليستبين سبيل المجرمين فصلنا ذلك التفصيل البين. من رفع «السبيل» قرأ ليستبين بالياء أو بالتاء لأن السبيل يذكر ويؤنث ، ومن نصب السبيل قرأ (لِتَسْتَبِينَ) بتاء الخطاب مع الرسول يقال : استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته واستبانة سبيل المجرمين تستلزم استبانة طريق المحقين ، فلذلك اقتصر على أحدهما كقوله (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ولم يذكر البرد. وإنما ذكر المجرمين دون المحقين لأن طريق الحق واحد والمجرمون أصناف يشتبه أمرهم ، فمنهم من هو مطبوع على قلبه ، ومنهم من يرجى فيهم قبول الإسلام ، ومنهم من دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده فينبغي أن يستوضح سبيلهم ليعامل كلا منهم بما يجب ، ومن جملة ذلك أنه نهى عن عبادة معبوداتهم وذلك قوله (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) أي صرفت بالدلائل العقلية والسمعية (أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ) تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) لأن عبادة المصنوع والمخلوق محض التقليد وعين الهوى (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أثبت الضلال

٨٨

إذ ذاك ونفى الهدى مع أنهما متلازمان للتقرير والتأكيد ، وفيه تعريض بهم أنهم كذلك. ثم نبه على ما يجب اتباعه بقوله (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) على حجة واضحة من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه (وَكَذَّبْتُمْ) أنتم به حيث أشركتم به غيره. يقال : أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه إذا كان ثابتا عنده بدليل. وقيل : أي على حجة من جهة ربي وهي القرآن (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي بالبينة وذكر الضمير على تأويل القرآن أو البيان. (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] قال الكلبي : نزلت في النضر بن الحرث ورؤساء قريش كانوا يقولون : يا محمد آتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) مطلق يتناول الكل. فقال الأشاعرة : لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله تعالى فيمتنع منه فعل الكفر إلا بإرادة الله ، واحتجت المعتزلة بقوله يقضي الحق أي كل ما قضى به فهو الحق ، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر ولا المعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق. ويمكن أن يقال : إن جميع أحكامه حق وصدق ولا اعتراض لأحد عليه بحكم المالكية. وانتصاب (الْحَقَ) على أنه صفة مصدر أي يقضي القضاء الحق ، أو مفعول به من قولهم : قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره. ومثله من قرأ يقصر الحق كقوله (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٢] أي يقول الحق أو يتبعه من قص أثره (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أي القاضين ، وإنما كتب يقض في المصاحف بغير ياء لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين ، وليوافق قراءة (يَقُصُ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي) أي في قدرتي وإمكاني (ما تَسْتَعْجِلُونَ) من العذاب (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أمر الإهلاك (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) عاجلا غضبا لربي (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) فيؤخر عقابهم إلى وقته وأنا لا أعلم ما يجب في الحكمة من وقت عقابهم ومقداره. فإن قلت : أما يناقض هذا قوله (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا) [الكهف : ٦] فإن استعجال الهلاك ينافي الحرص على الإيمان ، لأن من حرص على إيمان أحد حرص على طول حياته طمعا في إيمانه. قلت : لا ، بل يؤكده لاشتراك كل من الحكمين في الاستعجال اللازم للبشرية في قوله (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١١] ثم بين سبحانه أعلميته بقوله على سبيل الاستعارة (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) أراد أنه المتوصل إلى المغيبات وحده كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها ولم يمنعه من ذلك مانع ، والمفاتح جمع مفتح وهو المفتاح ، أو جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن ، قال الحكيم في بيانه : إن العلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول وكل ما سوى الواجب فإنه موجود بإيجاده وتكوينه بواسطة أو بوسائط ، فعلمه

٨٩

بذاته يوجب العلم بجميع آثاره على ترتيبها المعتبر ـ كليات كانت أو جزئيات ـ وعلمه بذاته لم يحصل إلا لذاته فصح أن يقال : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو. وفيه أنه لا ضد له ولا ند إذ لو كان في الوجود واجب آخر لكانت مفاتح الغيب حاصلة أيضا عنده فيبطل هذا الحصر ، ولا يمكن أن تكون هذه المفاتح عند شيء من الممكنات لأن المحاط لا يحيط بمحيطه فلا يحيط ما دون الواجب بالواجب ، فلا يكون المفتاح الأوّل للعلم بجميع المعلومات إلا عنده. ثم إن قوله (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) قضية معقولة مجردة ، والإنسان الذي يقوي على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جدا والقرآن إنما نزل لينتفع به جميع الناس فذكر من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية الكلية أمثالا لها ليعين الحس العقل فقال (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) لأن ذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظيمة لذلك المعقول ، وقدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر وكثرة ما فيه من المدن والقرى والجبال والتلال والمعادن والنبات والحيوان ، وأما البحر فإحاطة الحس بأحواله أقل مع كثرة ما فيها من العجائب والغرائب أيضا. ثم أفرد من هذه المحسوسات قسما فقال (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) أي لا يتغير حال ورقة إلا والحق يعلمها. ثم عدل عن التعجيب من كثرة المدركات إلى التعجيب من صغر المدرك وخفائه فقال (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) وفي تخصيص الحبة والورقة تنبيه للمكلفين على أمر الحساب لأنه إذا كان بحيث لا يهمل أمر الأشياء التي ليس لها ثواب ولا عقاب فلأن لا يهمل أمر المكلفين أولى. ثم عاد إلى ذكر القضية الكلية المجردة بعبارة أخرى فقال (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) قال في الكشاف : ولا حبة ولا رطب ولا يابس عطف على ورقة وداخل في حكمها كأنه قيل : وما يسقط شيء من هذه الأشياء إلا وهو يعلمه. وقوله (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كالتكرير لقوله (إِلَّا يَعْلَمُها) ومعنى (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) واحد. والكتاب المبين علم الله أو اللوح. قال علماء التفسير : يجوز أن يكون الله جل شأنه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق لتقف الملائكة على نفاذ علمه في المعلومات وأنه لا يغيب عنه شيء ، فيكون في ذلك عبرة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في العالم فيجدونه موافقا له. أو لأنه إذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع تغيرها وإلا لزم الكذب أو الجهل فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب سببا تاما في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم. ثم لما بين كمال علمه أردفه ببيان كمال قدرته بقوله (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) أي يتوفى أنفسكم التي بها تقدرون على الإدراك والتمييز. وذلك أن الأرواح الجسمانية تغور حالة النوم من الظاهر إلى الباطن

٩٠

فتتعطل الحواس عن بعض الأعمال ، وأما عند الموت فتصير جملة البدن معطلة عن كل الأعمال فلهذا كان النوم أخا الموت فصح إطلاق لفظ الوفاة على النوم من هذا الوجه (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ) أي ما كسبتم من العمل بالنهار ومنه الجوارح للأعضاء وللسباع (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي يردّ إليكم أرواحكم بالنهار (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي أعماركم المكتوبة. وقضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت. ثم لما ذكر أنه يميتهم أولا ثم يوقظهم ثانيا كان ذلك جاريا مجرى الإحياء بعد الإماتة فلا جرم استدل بذلك على صحة البعث في القيامة فقال (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في ليلكم ونهاركم وجميع أحوالكم وأوقاتكم. واعلم أن في هذه الآية إشكالا لأن قوله (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) كان ينبغي أن يكون بعد قوله (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) فإن البعث في النهار مقدم على الكسب فيه بل على تعلق العلم بالكسب. ويمكن أن يجاب بأن المراد ويعلم ما جرحتم في النهار الماضي بدليل قوله (جَرَحْتُمْ) دون «تجرحون» ثم يبعثكم في النهار الآتي. والغرض بيان إحاطة علمه وقدرته بالزمانين المحيطين بالليل. ولعل صاحب الكشاف لمكان هذا الإشكال عدل عن هذا التفسير إلى أن قال : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) والخطاب للكفرة أي أنتم منسدحون الليل كالحيف. والانسداح الانبطاح أو الاستلقاء (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) ما كسبتم من الآثام فيه (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ) من القبور (فِيهِ) أي في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام في النهار ومن أجله كقولك : فيم دعوتني؟ فيقول : في أمر كذا (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) وهو المرجع إلى موقف الحساب. والأصوب عندي أن يقال : الخطاب عام ، وكذا الكسب في النهار فينبغي أن لا يقيد بالآثام. أما الضمير في (فِيهِ) فيكون جاريا مجرى اسم الإشارة إلى الكسب. والبعث هو البعث من القبور إلى آخر ما قال والله أعلم.

التأويل : (وَأَنْذِرْ بِهِ) أي بهذه الحقائق والمعاني (الَّذِينَ يَخافُونَ) أي يرجون (أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) بجذبات العناية ويتحقق لهم أن (لَيْسَ لَهُمْ) في الوصول إلى الله (مِنْ دُونِهِ وَلِيٌ) من الأولياء (وَلا شَفِيعٌ) يعني من الأنبياء ، لأن الوصول لا يمكن إلا بجذبات الحق. (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ) أخبر عن الفقراء أنهم جلساؤه بالغداة والعشي كما قال «أنا جليس من ذكرني» فلا تطردهم عن مجالستك فإنهم يطلبوني في متابعتك لا يريدون الدنيا ولا الآخرة ولكن يريدون وجهه.

وكل له سؤل ودين ومذهب

ووصلكم سؤلي وديني رضاكم

٩١

قال المحققون : الإرادة اهتياج يحصل في القلب يسلب القرار من العبد حتى يصل إلى الله. فصاحب الإرادة لا يهدأ ليلا ولا نهارا ، ولا يجد من دون الوصول إلى الله سبحانه سكونا ولا قرارا (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) يعني الذي لنا معك في الحساب من المواصلة والتوحيد في الخلوة فإنهم ليسوا في شيء من ذلك ليكون عليك ثقلا (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي الذي لنا معهم في الحساب من التفرد للوصول والوصال ليس لك إلى ذلك حاجة ليثقل عليهم (فَتَطْرُدَهُمْ) فتكسر قلوبهم بالطرد (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) بوضع الكسر مقام الجبر فإنك بعثت لجبر قلوبهم لا لكسر قلوبهم كقوله (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر : ٨٨] (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) ليشكر الفاضل وليصبر المفضول فيستويان في الفضل فلهذا قيل : لسليمان ولأيوب كليهما : نعم العبد. مع قدرة سليمان على أسباب الطاعة وعجز أيوب عنها. ومن فتنة الفاضل في المفضول رؤية فضله على المفضول أو تحقيره ، ومنع حقه عنه في فضله ، ومن فتنة المفضول في الفاضل حسده على فضله وسخطه عليه في منع حقه من فضله عنه ، فإن المعطي والمانع هو الله. ومنها أن لا يرى الفاضل مستحقا للفضل ليقولوا (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) إنه سبحانه من كمال فضله على الفقراء حملهم محمل الأكابر والملوك في الدنيا فقال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كن مبتدئا بالسلام عليهم وفي الآخرة فألهم الملائكة أن يسلموا عليهم في الجنة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ) [الزمر : ٧٣] بل سلم بذاته عليهم (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] وكل ذلك نتيجة سلامتهم من ظلمة الخلقة بإصابة رشاش النور في الأزل فلهذا قال (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي الرحمة الخاصة كما خص الخضر في قوله (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) [الكهف : ٦٥] والرحمة العامة كما في الحديث الرباني للجنة «إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي» (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ) أي من المؤمنين (سُوءاً بِجَهالَةٍ) أي بجهالة الجهولية التي جبل الإنسان عليها لا بجهالة الضلالة التي هي نتيجة إخطاء النور فإن هذه لا توبة لها (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ) أي رجع إلى الله بقدم السير من بعد إفساد الاستعداد الفطري وأصلح الاستعداد بالأعمال الصالحة لقبول الفيض. (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) في الأزل بإصابة النور المرشش. (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من عبادة الهوى (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) يعني أمر القتال والخصومات ولاسترحت من أذيتكم لأن الشيء إنما ينفعل عن ضده لا عن شبيهه (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) يعني العلوم العقلية التي هي سبب فتح باب صور عالم الشهادة كالنقاش ينشيء الصور في ذهنه ثم يصوّرها في الخارج. وإنما وحد الغيب وجمع المفاتح لأن عالم الغيب عالم التكوين وهو واحد في جميع الأشياء وفي الملكوت كثرة يعلم التكوين (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ) وهو عالم الشهادة (وَالْبَحْرِ) وهو عالم

٩٢

الغيب (وَ) بهذا العلم (ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) عن شجرة الوجود (إِلَّا يَعْلَمُها) لأنه مكونها ومسقطها (وَلا حَبَّةٍ) هي حبة الروح (فِي ظُلُماتِ) صفات أرض النفس ، أو حبة المحبة في ظلمات أرض القلب (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) الرطب المؤمن ، واليابس ما سيصير موجودا وما قد صار. أو الرطب الروحانيات ، واليابس الجمادات. أو الرطب المؤمن ، واليابس الكافر. أو الرطب العالم ، واليابس الجاهل. أو الرطب العارف ، واليابس الزاهد. أو الرطب أهل المحبة ، واليابس أهل السلوة. أو الرطب صاحب الشهود ، واليابس صاحب الوجود. أو الرطب الباقي بالله واليابس الباقي بنصيبه (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) ليل القضاء (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) نهار القدر أو الليل ، ليل صفات البشرية والنهار نهار الشهود في عالم الوحدة.

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٣) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣))

٩٣

القراآت : (تَوَفَّتْهُ) و (اسْتَهْوَتْهُ) ممالة : حمزة الباقون : بتاء التأنيث (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ) من الإنجاء : سهل ويعقوب وعباس. الباقون : بالتشديد (وَخُفْيَةً) بالكسر حيث كان : أبو بكر وحماد. الباقون : بالضم (أَنْجانا) ممالة : حمزة وعلي وخلف (أَنْجانا) بدون الإمالة : عاصم. الباقون (أَنْجَيْتَنا) (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ) بالتشديد : يزيد وحمزة وخلف وعاصم وهشام. الباقون : بالتخفيف (بَعْضٍ انْظُرْ) وأشباه ذلك بكسر التنوين : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وابن شنبوذ عن أهل مكة ، وابن ذكوان (يُنْسِيَنَّكَ) بالتشديد : ابن عامر.

الوقوف : (حَفَظَةً) ط (لا يُفَرِّطُونَ) ه (الْحَقِ) ط (الْحاسِبِينَ) ه (وَخُفْيَةً) ط لاحتمال الإضمار أي يقولون لئن أنجيتنا ، وتعلق «لئن» بمعنى القول في (تَدْعُونَهُ) أصح (الشَّاكِرِينَ) ه (تُشْرِكُونَ) ه (بَأْسَ بَعْضٍ) ط (يَفْقَهُونَ) ه (وَهُوَ الْحَقُ) ط (بِوَكِيلٍ) ه (مُسْتَقَرٌّ) ط للإبتداء بـ «سوف» على التهديد مع شدة اتصال المعنى يعلمون ه (غَيْرِهِ) ج (الظَّالِمِينَ) ه (يَتَّقُونَ) ه (وَلا شَفِيعٌ) ط للشرط مع العطف (بِما كَسَبُوا) لا لانقطاع النظم مع اتصال المعنى ، أو لاحتمال أن يكون (الَّذِينَ) صفة (أُولئِكَ) وقوله (لَهُمْ شَرابٌ) خبر (الْهُدَى ائْتِنا) ج (هُوَ الْهُدى) ط (الْعالَمِينَ) لا لأن التقدير وأمرنا بأن أقيموا الصلاة (وَاتَّقُوهُ) ط (تُحْشَرُونَ) ه (بِالْحَقِ) ط (فَيَكُونُ) ط (فِي الصُّورِ) ط (وَالشَّهادَةِ) ط (الْخَبِيرُ) ه.

التفسير : من الدلائل الدالة على كمال قدرته وحكمته قوله (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) والمراد منه الفوقية بالقدرة والتسخير كما يقال : أمر فلان فوق أمر فلان أي أنه أعلى وأنفذ منه ، ولا ريب أن الممكنات بأسرها تحت تصرف الواجب ينقلها من حيز العدم إلى حالة الوجود وبالعكس ، ويتصرف فيها كيف يشاء ، علويات كن أو سفليات ، ذوات أو صفات ، نفوسا أو أبدانا ، أخلاطا وأركانا. ومن جملة قهره إرسال الحفظة ـ وهي جمع حافظ ـ على عبيده بضبط أعمالهم من الطاعات والمعاصي والمباحات لأنهم مطلعون على أقوال بني آدم لقوله (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] وعلى أفعالهم بقوله (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار : ١٢] وأما صفات القلوب كالجهل والعلم فليس في الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها. وعن ابن عباس أن مع كل إنسان ملكين : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين ، وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار : انتظر لعله يتوب عنها فإن لم يتوب عنها فإن لم يتب كتب عليه. قالت العلماء : من فوائد هذه الكتبة أن المكلف إذا علم أن الملائكة الموكلين عليه يكتبون أعماله

٩٤

في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك زجرا له عن القبائح. ومنها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة فإن وزن الأعمال غير ممكن. ومنها التعبد فعلى المكلف أن يؤمن بكل ما ورد به الشرع وإن لم يعرف وجه الحكمة في بعض ذلك. وقال بعض الحكماء : الحفظة النفوس والقوى الجسمانية التي تحفظ الأركان مع طبائعها المتضادة على امتزاجها. وقال بعض القدماء : منهم النفوس البشرية والأرواح السفلية مختلفة بجواهرها متباينة بماهياتها ، فبعضها خيرة وبعضها شريرة ، وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والخساسة ، ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب المشفق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يقظتها ومنامها على سبيل الرؤيا تارة ، وعلى سبيل الإلهامات أخرى. فالأرواح الخيرة لها مباد من عالم الأفلاك وكذا الأرواح الشريرة وتلك المبادئ في مصطلحهم تسمى بالطباع التام لأن تلك الأرواح في تلك الطبائع والأخلاق تامة كلها وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها لأن المعلول في كل باب أضعف من علته ، لأصحاب الطلسمات والعزائم في هذا الباب كلام كثير. وقيل : إن النفوس المفارقة تميل إلى ما يناسبها ويساويها في الطبيعة والماهية من النفوس المتعلقة بالأبدان فتحفظها وتعينها (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي وقته أو أماراته (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) أي بإذننا وتفويضنا فالمتوفى بالحقيقة هو الله تعالى كما قال الله (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢]. وهؤلاء الرسل أتباع ملك الموت في قوله (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) [السجدة : ١١] وهل هم الحفظة بأعيانهم أم غيرهم فيه قولان : أشهرهما الثاني لكون ملائكة الروح والريحان وهم الريحانيون غير ملائكة الكرب والأحزان وهم الكروبيون. وعن مجاهد : جعلت الأرض مثل الطست لملك الموت يتناول من يتناوله ، وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين. (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به وفيه مدح لهم بالعصمة (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) أي إلى حكمه وجزائه (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) صفتان والضمير في (رُدُّوا) إما للملائكة يعني كما يموت بنو آدم يموت أولئك الملائكة ، أو إلى البشر أي أنهم بعد موتهم يردون إلى الله تعالى والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب ، فإذا ماتوا انتقلوا إلى تصرف المولى الحق. وفيه إشعار بأن الإنسان شيء آخر وراء هذا الهيكل المحسوس فإن هذا الهيكل يبقى ميتا والإنسان مردود إليه تعالى. وفي لفظ الرد إشارة إلى أن الروح كان موجودا قبل البدن وقد تعلق به زمانا ثم ردّ إلى موضعه الأصلي وهو عالم الأرواح بجذبة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) كقوله : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [الأنعام : ٥٧] (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) حسابا قيل : إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة فلا يشغله كلام عن كلام. وقيل : يحاسب كل إنسان واحد من الملائكة بإذن الله

٩٥

تعالى لأنه لو حاسب الكفار بذاته لتكلم معهم وهو محال لقوله (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٧٤] وقال الحكيم : معنى سرعة المحاسبة ظهور الملكات في الهيآت على النفس في آن قطع التعلق ، قليلة كانت أو كثيرة ، حميدة أو ذميمة ، وبعد تعارض البعض بالبعض يبقى ما هو أغلب وبحسب ذلك يكون الثواب أو ضده. وذلك أنه لا يحصل للإنسان لحظة ولا لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويظهر منها في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو ضدها قل أو كثر وهو المراد بكتبة الأعمال. قال الجبائي ـ هاهنا : لو كان كلامه قديما لوجب أن يكون متكلما بالمحاسبة الآن وقبل خلقه وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم. وعورض بالعلم فإنه كان قبل العالم عالما بأنه سيوجد وبعد وجوده صار عالما بأنه وجد ولا يلزم منه تغير العلم. ثم عدّد لطفه وإحسانه بقوله (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) مجازا عن مخاوفهما وأهوالهما يقال ليوم الكربة : يوم مظلم وذو كواكب كأنه أظلم عليه وجه الخلاص ، ويحتمل أن تكون الظلمات بالحقيقة. وظلمات البر ظلمة الليل وظلمة السحاب ، وظلمات البحر هما مع ظلمة الماء. (تَدْعُونَهُ) في موضع الحال (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) مفعول لأجلهما أو تمييز أو مصدر خاص. والمراد أن الإنسان عند حصول هذه الشدائد يأتي بأمور : أحدها الدعاء. الثاني التضرع. والثالث : الإخلاص بالقلب وهو المعني بقوله (وَخُفْيَةً) ورابعها : التزام الشكر هو المراد من قوله (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ) الظلم والشدة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) فبين الله سبحانه أنه إذا شهدت الفطرة السليمة في هذه الحالة بأنه لا ملجأ الا إلى الله ولا معول إلا عليه وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات. ثم بين أنه ينجيهم من تلك المخاوف ومن سائر موجبات الحزن والكرب ، ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك الجلي وهو عبادة الأوثان أو الخفي وهو اتباع الهوى. وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك إذا شاهدوا الخوف أخلصوا ، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا. ثم ذكر نوعا آخر من دلائل التوحيد مقرونا بنوع من التخويف فقال (قُلْ هُوَ الْقادِرُ) واللام للعهد أو للجنس فيفيد أنه هو الذي عرفتموه قادر ، وهو الكامل القدرة (عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) كالمطر أو الحجارة مثل ما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كما أغرق فرعون وخسف بقارون. وقيل : من قبل أكابركم وسلاطينكم أو من جهة سفلتكم وعبيدكم. وقيل : هو حبس المطر والنبات (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) هي جمع شيعة أي يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى ، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم أن يوقع القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال. عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذابا من فوقهم أو من تحت

٩٦

أرجلهم فأعطاني ذلك. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني» (١) «وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف» قالت الأشاعرة : في قوله (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) دلالة على أن الأهواء المختلفة والآراء الفاسدة والبدع كلها من الله تعالى وفي قوله (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) إشارة إلى أن المعاصي وأنواع الظلم مستندة إلى الله تعالى وقالت المعتزلة : الآية لا تدل إلا على أنه تعالى قادر على القبيح والنزاع في أنه هل يفعل ذلك أم لا؟ وأجيب بأن الآية دلت على أن القدرة على هذه الأمور تختص به ، وهذه الأمور واقعة فيكون هو فاعلها بالضرورة (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) نقرر الدلائل الواضحات. وقد قال مثل ذلك فيما قبل فالتقدير : انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون فلا نعرض عنهم بل نكررها (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ) أي بالعذاب المذكور في الآية السابقة (قَوْمُكَ) يعني قريشا ومن دان بدينهم (وَهُوَ الْحَقُ) أي لا بد أن ينزل بهم. وقيل : أي بالقرآن وهو الحق لأنه كتاب منزل من عند الله. وقيل : أي بتصريف الآيات لأنهم كذبوا كون هذه الأشياء دلالات. (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل إنما أنا منذر. (لِكُلِّ نَبَإٍ) لكل خبر يخبره الله تعالى (مُسْتَقَرٌّ) أي استقرار أو موضع استقرار. والمراد بالنبإ المنبأ به لأن النبأ قد حصل ، والمقصود أن لعذاب الله تعالى أو لاستيلاء المسلمين على الكفار بالقتل والأسر والقهر وقتا ومكانا يحصل فيه من غير خلف ولا تأخير (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) فيه من التهديد ما فيه.

ثم بين أن أولئك المكذبين إن ضموا إلى كفرهم وتكذيبهم الاستهزاء بالدين والطعن في الرسول فإنه يجب الاحتراز عن مجالستهم فقال (وَإِذا رَأَيْتَ) أيها السامع (الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) والخوض في اللغة عبارة عن المفاوضة على وجه اللغو والعبث ، ويقرب منه قول المفسرين إنه في الآية الشروع في آيات الله على سبيل الطعن والاستهزاء ، وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) بالقيام عنهم لقوله بعد ذلك (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) وقيل : المطلوب إظهار الإنكار وكل طريق أفاد هذا الغرض وإن كان غير القيام عن مجلسهم فإنه يجوز المصير إليه ، هذا عند عدم الخوف ، أما مع الخوف فهذا الفرض ساقط والتقية واجبة. نعم كل ما أوجب على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعله وجب عليه ، سواء ظهر أثر الخوف أو لم يظهر وإلا لم يبق الاعتماد على التكاليف التي يبلغها (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) أي يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) بعد أن تذكر النهي (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي معهم فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الفتن حديث ٢٠. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٩. الموطأ في كتاب القرآن حديث ٣٥. أحمد في مسنده (٥ / ٢٤٠ ، ٢٤٣).

٩٧

عليهم بالظلم. قال الليث : الذكرى اسم للتذكرة. وقال الفراء : هي الذكر. قال في الكشاف بناء على مذهبه : يجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى ، بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم. قال الجبائي : إذا كان عدم العلم بالشيء يوجب سقوط التكليف ، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف ، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف ، وهذا يدل على أن تكليف ما لا يطاق لا يقع ، ويدل على أن الاستطاعة حاصلة قبل الفعل لأنها لو لم تحصل إلا مع الفعل لم يكن الكافر قادرا على الإيمان فوجب أن لا يتوجه عليه الأمر بالإيمان. قال ابن عباس : قال المسلمون : لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزلت الرخصة أن يقعدوا معهم ويذكروهم ويفهموهم بقوله (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي الشرك والكبائر والفواحش (مِنْ حِسابِهِمْ) من ذنوبهم التي يحاسبون عليها (مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى) أي ولكن يذكرونهم تذكيرا ، أو ولكن عليهم أن يذكروهم ، أو ولكن الذي تأمرونهم به ذكرى. ولا يجوز أن يكون عطفا على محل (مِنْ شَيْءٍ) كقول القائل : ما في الدار من أحد ولكن زيد لأن قوله (مِنْ حِسابِهِمْ) يأبى ذلك فإن الذكرى ليس من حساب المشركين. ثم أكد الإعراض عنهم بقوله (وَذَرِ الَّذِينَ) والمراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم والمبالاة بهم لا ترك إنذارهم وتخويفهم كقوله (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) [النساء : ٦٣] وصفهم بوصفين الأوّل أنهم (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) وفيه وجوه : اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعبا ولهوا حيث سخروا به واستهزؤا ، أو اتخذوا ما هو لعب ولهو يعني عبادة الأوثان وغيرها دينا لهم ، أو المراد ما كانوا يحكمون به بمجرد التقليد والهوى كتحريم البحائر والسوائب ، أو المراد أن المشركين وأهل الكتاب اتخذوا أعيادهم لعبا ولهوا لا كالمسلمين حيث اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى. قال ابن عباس : أو هو إشارة إلى من جعل دين الإسلام وسيلة إلى المناصب والرياسات والغلبة والجلال لا لأنه حق وصدق في نفسه ، ويؤكد هذا الوجه الوصف الثاني وهو قوله (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) كأنهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوسلوا بها إلى حطام الدنيا (وَذَكِّرْ بِهِ) أي بالقرآن أو بالدين القويم مخافة (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ) قال الحسن ومجاهد : أن تسلم إلى الهلاك والعذاب وترتهن بسوء فعلها وأصله المنع فالمسلم إليه وهو العذاب يمنع المسلم ومنه الباسل الشجاع لامتناعه من قرنه. وقال قتادة : تحبس في جهنم. وعن ابن عباس : تفتضح (لَيْسَ لَها) أي النفس (مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) إن تفد كل فداء لأن الفادي يعدل المفدى بمثله (لا يُؤْخَذْ مِنْها) قال في الكشاف : فاعل (يُؤْخَذْ) قوله (مِنْها)

٩٨

لا ضمير العدل لأن العدل هاهنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ. وأما في قوله (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) فبمعنى المفدى به فصح إسناده. قلت : إن فسر الأخذ بالقبول كما في قوله (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) [التوبة : ١٠٤] ارتفع الفرق. (أُولئِكَ) المتخذون هم (الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) ثم بين ما به صاروا مرتهنين وعليه محبوسين بقوله (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) ثم رد على عبدة الأصنام بقوله (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) النافع الضار (ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) أي لا يقدر على النفع والضر (وَنُرَدُّ) داخل في الاستفهام أي أنرجع إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله تعالى منه وهدانا للإسلام ، فإن الردة عود الى الحالة الأولى التي كان الإنسان عليها من الجهل كقوله (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [النحل : ٧٨] (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ) محله النصب على الحال من الضمير في (نُرَدُّ) أي أننكص على العقبين مشبهين من استهوته وهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها كأن معناه طلبت هويه أي سقوطه من الموضع العالي إلى الوهدة العميقة كقوله : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) [الحج : ٣١] وقيل : اشتقاقه من اتباع الهوى و (حَيْرانَ) حال أخرى لكن من الضمير في (اسْتَهْوَتْهُ) وكذا الجملة بعده. ومعنى الحيرة التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه منه. ومنه تحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء. (لَهُ) أي لهذا المستهوي (أَصْحابٌ) رفقة (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) أي إن يهدوه الطريق المستوي فيكون مصدرا. وسمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له (ائْتِنا) أو الدعاء في معنى القول وهذا بناء على ما تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن والغيلان تستهوي الإنسان وتستولي عليه ، فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان ، والمسلمون يدعونه إلى الحق وقد اعتسف المهمة تابعا للجن غير ملتفت إليهم. وقيل : إن لذلك الكافر أصحابا يدعونه إلى ذلك الضلال ويسمونه بأنه هو الهدى. وروي أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فإنه كان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ) وهو الإسلام (هُوَ) الذي يحق أن يسمى هدى وما وراءه غي وضلال (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا) قال الزجاج : لا بد من تأويل ليستقيم العطف فالتقدير : وأمرنا لنسلم ولنقيم ، أو أمرنا أن أسلموا وأن أقيموا. قيل : والسر في العدول عن الظاهر أن المكلف كالغائب ما لم يسلم فإذا أسلم صار كالحاضر. وتقرير الآية أن متعلق الأمر إما أن يكون من باب الأفعال أو من باب التروك. والأول إما أن يكون من أفعال القلوب أو من أفعال الجوارح ، ورئيس أفعال القلوب الإيمان بالله والإسلام وهو قوله (لِنُسْلِمَ) ورئيس أعمال الجوارح الصلاة وهو قوله (وَأَنْ أَقِيمُوا) ثم أشار إلى جوامع التروك بقوله (وَاتَّقُوهُ) ثم قال (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ليعلم أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر.

٩٩

ثم دل على وجود الحاشر بقوله (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قائما أو ملتبسا (بِالْحَقِ) بالحكم اللطيفة والغايات الصحيحة والأغراض المطابقة ، وذلك أنه أودع في هذه الأجرام قوى وخواص وآثارا تتضمن مصالح الأبدان ومباهج نوع الإنسان وهكذا خلق (يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ) فقوله فاعل (فَيَكُونُ) و (يَوْمَ) مفعول (خَلَقَ) والمعنى أنه تعالى خلق العالم من الأفلاك والطبائع والعناصر والمواليد ، وخلق يوم القيامة لرد الأرواح إلى الأجساد بطريق «كن فيكون» وعلى هذا يجوز أن يكون قوله (الْحَقُ) مبتدأ وخبرا مستأنفا ، أو قوله (الْحَقُ) مبتدأ و (يَوْمَ يَقُولُ) ظرف دال على الخبر مثل «يوم الجمعة القتال» أي القتال واقع يوم الجمعة. والمراد أن قضاءه في ذلك اليوم حق وصدق خال عن الجور والعبث (وَيَوْمَ يُنْفَخُ) ظرف لقوله (وَلَهُ الْمُلْكُ) كقوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر : ١٦] والمقصود أنه لا ملك في ذلك اليوم إلا له من غير دافع ولا منازع. والصور باتفاق أكثر أهل الإسلام قرن ينفخ فيه ملك من الملائكة كما جاء في مواضع من القرآن (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ) [الزمر : ٦٨] ففزع (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) [المدثر : ٨] وقال أبو عبيدة : الصور جمع صورة مثل صوف وصوفة. وخطأه الأئمة فقالوا : كل جمع على لفظ الواحد سبق جمعه واحده فواحده بزيادة هاء فيه كالصوف ، أما إذا سبق الواحد الجمع فليس كذلك كغرفة وغرف ولهذا يجمع صورة الإنسان على صور بالفتح كقوله (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) [غافر : ٦٤] ومن أسكن فقد أخطأ ، ومما يدل على أن الصور هو القرن لا جمع صورة الإنسان أنه تعالى لم يضف النفخ إلى نفسه كما قال (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٢] (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [الأنبياء : ٩١] (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤] ثم لما بين كمال قدرته بقوله وله الملك ذكر كمال علمه بقوله (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي هو العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات (وَهُوَ الْحَكِيمُ) المصيب في أقواله وأفعاله (الْخَبِيرُ) النافذ علمه في بواطن الحقائق من غير اشتباه والتباس ، فإن أمر البعث لا يتم إلا بقدرة كاملة وعلم تام كيلا يشتبه المطيع والعاصي والصديق والزنديق.

التأويل : (وَهُوَ الْقاهِرُ) بوصف الجلال للأولياء ، قهار بوصف الجبروت للأعداء. (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) من صفات قهره حتى لو أرادت نفسه الخروج عن قيد مجاهدتها قهرتها سطوات العتاب فردتها إلى بذل الجهد ، وإن أراد قلبه فرجة عن مطالبات العزة قهرته صدمات الهيبة فردته إلى توديع البهجة ، ولو أراد روحه استرواحا من الحرقات قهرته بوارق التجلي فردته إلى بذل المهجة (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) يعني الفناء عن أوصاف

١٠٠