تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

به وجملتها ثمانية وعشرون وأساميها مشهورة : الشرطين الثريا البطين إلخ. وهي كواكب ثابتة معروفة عندهم جعلوها علامات المنازل ، فنرى القمر كل ليلة نازلا بقرب أحدها وذلك أنهم قسموا دور الفلك وهو اثنا عشر برجا على ثمانية وعشرين ـ عدد أيام دور القمر ـ فأصاب كل برج منزلان وثلث فسموا كل منزل بالعلامة التي وقعت وقت التسمية بحذائه. ثم ذكر بعض منافعهما العائدة على المكلفين فقال : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي. وقد ذكرنا السنة الشمسية والسنة القمرية وكيفية دوران إحداهما على الأخرى في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) [التوبة : ٣٦] الآية فلا حاجة إلى التكرار. ثم أشار إلى سائر منافعهما وخواصهما بقوله : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ) المذكور (إِلَّا) ملتبسا (بِالْحَقِ) والصواب دون الباطل والعبث ، فالشمس سلطان النهار والقمر خليفتها بالليل ، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى فصولها الأربعة ، وبالفصول تنتظم مصالح هذا العالم ويتحصل معايش الخلائق ، وبحركة القمر يحصل الشهور ، وباختلاف حاله في زيادة النور ونقصانه تختلف أحوال الرطوبات إلى غير ذلك من الخواص التي يرشد إليها التأمل والتدبر ولهذا قال : (يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) لأنهم هم الذين ينتفعون بهذه الدلائل. وقيل : المراد بالعلم هاهنا العقل الذي يعم الكل. ثم ذكر المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار وقد مر تفسيره في سورة «البقرة» في قوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الآية : ١٦٤]. ومعنى قوله : (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كقوله : (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) [الآية : ١٨٥] وقد مر في آخر «الأعراف». وإنما خص كونها آيات بالمتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى التدبر والنظر. قال القفال : من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لشقاء الناس وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم بل جعلها لهم دار عمل ، وإذا كان كذلك فلا بد من أمر ونهي ثم من ثواب وعقاب ليتميز المحسن عن المسيء ، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بالمبدإ والمعاد.

ثم شرع في شرح أحوال من لا يؤمن بالمعاد ومن يؤمن به فقال : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) عن ابن عباس ومقاتل والكلبي : معناه لا يخافون البعث كقوله تعالى : (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء : ٤٩] واستبعد الأكثرون تفسير الرجاء بالخوف وقالوا : إنه بمعنى الطمع أي لا يطمعون في حسن لقائه كما يأمله السعداء ، أو لا يتوقعونه أصلا لأنهم لا يؤمنون بالمعاد فهم ذاهلون عن طلب اللذات الحقيقية فارغون عن التوجه نحو السعادات الباقية (وَرَضُوا) مع ذلك (بِالْحَياةِ الدُّنْيا) الحسية الخسيسة (وَاطْمَأَنُّوا

٥٦١

بِها) سكنوا إليها سكون العاشق إلى معشوقه وهذه غاية الانهماك والاستغراق في اللذات الجسمانية (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) فلا يعتبرون بالآيات ولا ينظرون في الدلائل الموصلة إلى حقيقة المبدإ والمعاد ، فلم يقبلوها بالتقليد ولم ينظروا إليها بعين الاجتهاد (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ) فيه معنى الجزاء ولذلك تعلق به قوله : (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) وفيه أن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول العذاب الجسماني وهو النار المحسوسة ، والعذاب الروحاني وهو نار البعد من المألوفات والقطيعة من السعادات الباقيات فيكون مثاله مثال من أخرج عن مجالسة معشوقة فألقي في بئر ظلمانية لا إلف بها ولا مؤنس بل يكون فيها أنواع المؤذيات وأصناف الموحشات نعوذ بالله من تلك الحالات. هذا حال من لا يؤمن بالمعاد فلا يعمل له ، وأما حال الذي يؤمن به فذلك قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) استكملوا من جهة القوة النظرية (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) استكملوا من قبل القوة العملية أو صدقوا بقوله ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند الله ، أو أشغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة ثم جوارحهم بالخدمة حتى تكون عيونهم مشغولة بالاعتبار ، وآذانهم باستماع كلام الله ، وألسنتهم بذكر الله وسائر أعضائهم بطاعة الله تعالى : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) قال أكثر المفسرين : معناه يهديهم إلى الجنة ثوابا لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة. ومعنى قوله : (بِإِيمانِهِمْ) أي بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح ، وهذا التفسير يوافق قوله تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [الحديد : ١٢] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله الصالح في صورة حسنة فيقول له : أنا عملك فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة. والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة فيقول : أنا عملك فينطلق به إلى النار». وقيل : معنى الآية إن إيمانهم يهديهم إلى مزايا من الألطاف ولوامع من الأنوار بحيث تزول بواسطتها عنهم الشكوك والشبهات فتؤدي إلى حصول المثوبات ولذلك جعل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) بيانا له وتفسيرا لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها. فهذه الهداية عبارة عن الفوائد الزوائد الحاصلة في الدنيا بعد الإيمان. قال القفال : فعلى هذا الوجه كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار إلا أنه حذف الواو وجعل قوله : (تَجْرِي) خبرا مستأنفا منقطعا عما قبله. والتحقيق في تقرير هذا الوجه أن العلم نور والجهل ظلمة والروح كاللوح والعلوم والمعارف كالنقوش ولكن حالهم بالضد من النقوش الجسمانية ، فإن تزاحم النقوش الجسمانية يكدر اللوح وتوارد النقوش المعنوية وتكاثرها يزيد لوح الروح لمعانا وإشراقا حتى إنه يقوى بها على تحصيل المعارف الباقية

٥٦٢

بسهولة ، فليس فهم الرجل المنتهي للعلوم والحقائق كفهم المبتدئ ، فإن الإنسان إذا آمن بالله فقد أشرق روحه بنور المعرفة ، وإذا واظب على الأعمال الصالحة حصلت له ملكة التوجه إلى الآخرة والإعراض عن الدنيا ، ولا تزال تتزايد إشراقات هذه المعارف والملكات فيرتقي في معارجها لحظة فلحظة ، ولما كان لا نهاية لمراتب المعارف والأنوار العقلية فلا نهاية لمراتب هذه الهداية. وفي قوله : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) دليل لمن قال إن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة ولكنهما يعدّان الذهن لحصول الفيض من الجواد المطلق. ومعنى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أنهم يكونون في البساتين على مواضع مرتفعة كالسرر والأرائك والأنهار تجري من بين أيديهم. (دَعْواهُمْ فِيها) قال بعض المفسرين : أي دعاؤهم ونداؤهم كما يدعو القانت بقوله : اللهم إياك نعبد. وقيل : الدعاء العبادة كقوله : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [مريم : ٤٨] وإنما تكون هذه عبادتهم لا على سبيل التكليف بل على سبيل الإلهام والعادة ابتهاجا بذكر الله. وقيل : الادعاء بين المتخاصمين والمعنى أن أهل الجنة يدعون في الدنيا والآخرة تنزيه الله من المعايب والإقرار له بالإلهية. قال القفال : أصله من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما. وقيل : أي طريقتهم وسيرتهم وذلك لأن المدعي للشيء مواظب عليه فيمكن أن يجعل الدعوى كناية عن الملازمة وإن لم يكن في قولهم سبحانك اللهم دعاء ولا دعوى. وقيل : أي تمنيهم كقوله : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) [يس : ٥٧] أي ما يتمنونه. وتقول العرب : ادّع عليّ ما شئت أي تمن فكان تمنيهم في الجنة ليس إلا تسبيح الله وتقديسه ، ولقد كانوا في الدنيا يدعون في الحروب من يسكنون إليه ويستنصرونه فيقولون : يا آل فلان فأخبر الله تعالى عنهم أن أنسهم في الجنة بذكر الله وسكونهم بتحميده (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي بعضهم يحيي بعضا بالسلام. وقيل : هي تحية الله أو الملائكة إياهم إضافة للمصدر إلى المفعول (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ) هي «أن» المخففة من الثقيلة وأصله أنه الحمد (لِلَّهِ) على أن الضمير للشأن. قال أهل الظاهر من المفسرين : في سبب تخصيص هذه الأذكار بأهل الجنة أن قوله : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) علم بين أهل الجنة وخدامهم إذا سمعوا ذلك منهم أتوهم بما يشتهونه. قال ابن جريج : ورد في الأخبار أنه إذا مرّ بهم طير يشتهونه قالوا : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) فيأتيهم الملك بذلك المشتهى ، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وقال القاضي : إنه وعد المتقين بالثواب العظيم فإذا دخل أهل الجنة الجنة ووجدوا تلك المواعيد قالوا سبحانك اللهم أي نسبحك عن الخلف في الوعد. وقيل : ألهم الله بني آدم في الجنة بعد انقراض الدنيا ما افتخر به

٥٦٣

الملائكة قبلهم في قولهم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) [البقرة : ٣٠] ويمكن أن يقال : إن لكل إنسان معراجا بحسب قوته فإذا وصل العارف الصادق إلى صفات جلال الله تعالى قال سبحانك ، وإذا ارتقى منها إلى الذات قال اللهم ، فإذا عجز عن ذلك المضمار واحترق في أوائل تلك الأنوار رجع من عالم الجلال إلى عالم الإكرام فأفاض الخير على جميع المحتاجين ويدفع المخافات والمكاره عنهم بكل ما أمكنه وذلك قوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) ثم إذا شاهدوا أثر نعمة الله عليهم بالاستفاضة والإفاضة اختتموا الكلام بقولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). وعلى هذا يدور أمرهم في العروج والنزول ما داموا في الدنيا فيكون كذلك حالهم في العقبى لقوله : «كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون».

التأويل : (الر) فيه إشارتان : إحداهما من الحق المحق إلى حبيبه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قال : بآلائي عليك في الأزل وأنت في العدم وبلطفي عليك في الوجود وبرحمتي ورأفتي لك من الأزل إلى الأبد. والثانية من الحق لنبيه عليه‌السلام إليه يقول بإنسك معي حين خلقت روحي ولم يكن ثالث ، وبلبيك الذي أجبتني به حين دعوتك للخروج من العدم فقلت : ياسين أي يا سيد فقلت : لبيك وسعديك والخير كله بيديك. وبرجوعك منك إلى حين قلت لنفسك بجذبة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] (تِلْكَ) أي هذه الآيات المنزلة عليك (آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) الذي وعدتك في الأزل وراثته لك ولأمتك. والحكيم الحاكم على الكتب كلها فلا ينسخه كتاب وهو ينسخ الشرائع والأحكام والكتب كلها (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) لما رأى فيه رجولية قبول الوحي دون غيره ، ويحتمل أن يكون معنى للناس الناسي عهد الله (قَدَمَ صِدْقٍ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أول من خرج من العدم إلى الوجود ، أو هو العناية الأزلية «سبقت رحمتي غضبي» (١) (لَساحِرٌ مُبِينٌ) صدقوا في أنهم مسحورون إلا أنه سحرهم سحرة صفات فرعون النفس. إن الذي يربيكم هو الذي خلق السموات سموات أرواحكم وأرض نفوسكم من ستة أنواع هي : الروح والقلب والعقل والنفس الحيواني والنفس النباتي والصورة المعدنية (ثُمَّ اسْتَوى) على عرش القلب (يُدَبِّرُ) أمر السعادة والشقاوة يقلبه كيف يشاء. (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) فرجعوا مقبولين بجذبات العناية التي صورتها خطاب (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] وحقيقتها انجذاب القلب إلى الله ونتيجتها عزوف النفس عن الدنيا واستواء الذهب والمدر عندها ورجوع

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥. مسلم في كتاب التوبة حديث ١٤ ـ ١٦. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٩. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢ / ٢٤٢ ، ٢٥٨).

٥٦٤

المردودين بغير الاختيار بالسلاسل والأغلال. ومن نتائجه تعلقات الدنيا واستيلاء صفات النفس (بِالْقِسْطِ) أي لكل بحسب كماله ونقصانه. جعل شمس الروح ضياء يستنير بها قمر القلب إذا وقع في مواجهتها ، وإذا وقع في مقابلة أرض النفس انكسف ولهذا سمي قلبا لتقلب أحواله بين الروح والنفس. وتلك الأحوال هي منازله ومقاماته لتعلموا عدد سنين المقامات وحساب الكشوف والمشاهدات (إِنَّ فِي اخْتِلافِ) ليل صفات البشرية ونهار صفات الروحانية (وَما خَلَقَ اللهُ) في سموات الروحانية وأرض البشرية من الأوصاف والأخلاق وتبدل الأحوال (لَآياتٍ) دالة على التوحيد (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) الأخلاق الذميمة (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) وإن لم يركنوا إلى الدنيا وتمتعاتها كالرهابين والبراهمة وبعض الفلاسفة والله تعالى أعلم.

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))

القراآت : (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ) مبنيا للفاعل أجلهم بالنصب : ابن عامر ويعقوب. الآخرون مبنيا للمفعول ورفع (أَجَلُهُمْ) أو بدله بضم اللام وسكون الهاء : روى خلف عن الكسائي والاختبار عنه وعن غيره الإشمام لي أن بفتح الياء وكذلك (إِنِّي أَخافُ) : أبو

٥٦٥

جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. (نَفْسِي إِنْ) بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع. ولأدراكم بلام الابتداء فعلا ماضيا مثبتا : روى أبو ربيعة عن البزي وحمزة. وقرأ حمزة وعلي وأبو عمرو وخلف وورش من طريق النجاري والخراز عن جبيرة وهبيرة وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ، وحماد ويحيى من طريق أبي حمدون بالإمالة فعلا ماضيا منفيا بلا. الباقون : مثله ولكن بالتفخيم. تشركون بتاء الخطاب وكذلك في «النحل» و «الروم» : حمزة وعلي وخلف. الباقون بالياء.

الوقوف : (أَجَلُهُمْ) ط لأن ما بعده مستقبل فنحن نذر (يَعْمَهُونَ) ه (أَوْ قائِماً) ط (مَسَّهُ) ط (يَعْمَلُونَ) ه (ظَلَمُوا) لا لأن الواو للحال (لِيُؤْمِنُوا) ط (الْمُجْرِمِينَ) ه (تَعْمَلُونَ) ه (بَيِّناتٍ) لا لأن ما بعده جواب «إذا» (أَوْ بَدِّلْهُ) ط. (نَفْسِي) ج ط لأن «ان» النافية لها صدر الكلام ولكن القائل متحد (إِلَيَ) ط ج لمثل ما قلنا (عَظِيمٍ) ه (بِهِ) ط والوصل أولى للفاء أو لشدة اتصال المعنى (مِنْ قَبْلِهِ) ط (تَعْقِلُونَ) ه (بِآياتِهِ) ط (الْمُجْرِمُونَ) ه (عِنْدَ اللهِ) ط (فِي الْأَرْضِ) ط (يُشْرِكُونَ) ه (فَاخْتَلَفُوا) ط (يَخْتَلِفُونَ) ه (مِنْ رَبِّهِ) ج ط للابتداء بالأمر مع الفاء (فَانْتَظِرُوا) ج لاحتمال الابتداء أو التعليل (الْمُنْتَظِرِينَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه ابتدأ في هذه السورة بذكر شبهات القوم ؛ فالأولى أنهم تعجبوا من تخصيص الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنبوة فأزال ذلك التعجب بالإنكار وبالدلائل الدالة على صحة المبدا والمعاد فكأنه قيل : إنه ما جاء إلا بدليل التوحيد والإقرار بالمعاد فليس للتعجب معنى. ثم شرع في شبهة أخرى وهي أنهم كانوا يقولون أبدا اللهم إن كان محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء فأجابهم بقوله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ) الآية. وقال القاضي : لما ذكر الوعيد على عدم الإيمان بالمبدإ والمعاد ذكر أن ذلك العذاب من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيا وإلا نافى التكليف. وقال القفال : لما وصفهم فيما مر بالغفلة أكد ذلك بأن من غاية غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب فبيّن الله تعالى أنه لا مصلحة في تعجيل إيصال الشر إليهم فلعلهم يؤمنون ، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن. كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله بكشفها كما يجيء في الآية التالية ، وفي الرخاء كانوا يستعجلون النبي بالعذاب فقال ما معناه : ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما يعجل لهم الخير ونجيبهم إليه لأميتوا وأهلكوا. قال في الكشاف : أصل الكلام ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير. فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم

٥٦٦

الخير إشعارا بسرعة إجابته لهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل منه لهم. وقيل : التعجيل معناه طلب العجلة إلا أن الاستعجال أشهر وأظهر. فمعنى الآية لو أراد الله عجلة الشر للناس كما أرادوا عجلة الخير لهم. وقيل : هما متلازمان فكل معجل يلزمه الاستعجال إلا أنه تعالى وصف نفسه بتكوين العجلة ووصفهم بطلبها لأن اللائق به التكوين واللائق بهم الطلب. وسمي العذاب في الآية شرا لأنه أذى وألم في حق المعاقب به. ثم إن قوله (لَوْ يُعَجِّلُ) كان متضمنا لمعنى نفي التعجيل فيمكن أن يكون قوله (فَنَذَرُ الَّذِينَ) معطوفا على منوي كأنه قيل : ولكن لا يعجل فيذرهم إلزاما للحجة أو لمصالح أخرى. ثم بين أنهم كاذبون في استعجال الشر ولو أصابهم ما طلبوه أظهروا العجل والطيش فقال : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) أي هذا الجنس (دَعانا لِجَنْبِهِ) اللام في معنى الوقت كقولك : جئته لشهر كذا. وإن شئت قلت في موضع الحال لأن الظرف والحال متآخيان فيصح عطف أحدهما على الآخر وتأويل أحدهما بالآخر أي دعانا مضطجعا (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) أو وقت اضطجاعه وقعوده وقيامه. والمراد أنه يدعو الله في جميع أحواله لا يفتر عن الدعاء. ثم إن خص الضر بالمرض احتمل أن يراد أنه يدعو الله حين كان مضطجعا غير قادر على القعود أو قاعدا غير قادر على القيام ، أو قائما لا يطيق المشي إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها. أو يراد أن من المضرورين من هو أسوأ حالا وهو صاحب الفراش ، ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود ، ومنهم المستطيع للقيام وكلهم لا يصبرون على الضراء. قال بعض المفسرين : الإنسان هاهنا هو الكافر. ومنهم من بالغ فقال : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به الكافر. وهذا شبه تحكم لورود مثل قوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) [الدهر : ١] إلا أن يساعده نقل صحيح. والأصح عند العلماء العموم لأن الإنسان خلق ضعيفا لا يصبر على اللأواء ولا يشكر عند النعماء إلا من عصمه الله وقليل ما هم ، وهم الذين نظرهم في جميع الأحوال على المقدر المؤجل للأمور حسب إرادته ومشيئته فلا جرم إن أصابهم السراء شكروا وإن أصابهم الضراء صبروا فأفنوا إرادتهم في إرادته ورضوا بقضائه. قال الزجاج : في الآية تقديم وتأخير والتقدير : وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعدا أو قائما. وضعف بأن تعديد أحوال الدعاء أبلغ من تعديد أحوال الضر لأنه إذا كان داعيا على الدوام ثم نسي ذلك في وقت الرخاء كان أعجب. ومعنى (مَرَّ) مضى على طريقته التي له قبل مس الضراء ومرّ عن موقف الدعاء والتضرع لا يرجع إليه. ومعنى (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن (كَذلِكَ) مثل ذلك التزيين (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من

٥٦٧

تتبع الشهوات. والمزين هو الله تعالى أو النفس أو الشيطان مفرع عن مسألة الجبر والقدر وقد مر مرارا. قال العلماء : سمي الكافر مسرفا لأنه أنفق ماله من الاستعداد الشريف من القوى البدنية والأموال النفيسة في الأمور الخسيسة الزائلة من الأصنام التي هي أحقر من لا شيء ، ومن الشهوات الفانية التي لا أصل لها ولا دوام. والمسرف في اللغة هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس فصح ما قلنا.

ثم ذكر ما يجري مجرى الردع والزجر لهم عن إلقاء الشبه والأغاليط فقال : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ) وقد مضى تفسير القرن في أول الأنعام و (لَمَّا) ظرف لأهلكنا والواو في (وَجاءَتْهُمْ) للحال أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم (رُسُلُهُمْ) بالدلائل والحجج على صدقهم وهي المعجزات. وقوله : (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) إما أن يكون عطفا على (ظَلَمُوا) أو يكون اعتراضا واللام لتأكيد النفي ، وإن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر والسبب في إهلاكهم تكذيب الرسل وعلم الله بإصرارهم (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء وهو الاستئصال الكلي نجزي كل مجرم ، وفيه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم خاطب الذين بعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ) أي استخلفناكم (فِي الْأَرْضِ) بعد تلك القرون (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) خيرا أو شرا. استعير النظر للعلم الحقيقي الذي لا يتطرق إليه شك ، ويعني به العلم الذي يتعلق به الجزاء كما مر في «الأعراف». قال قتادة : صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنهار. ثم حكى نوعا ثالثا من شبهاتهم فقال : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) أي لا يؤمنون بالمعاد لأن كل من كان مؤمنا بالنشور فإنه يرجو ثواب الله ويخاف عقابه ، وانتفاء اللازم دليل انتفاء الملزوم. طلبوا من الرسول أحد أمرين : إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن مع بقاء هذا القرآن على حاله ، وإما تبديل هذا القرآن بنسخ بعض الآيات ووضع أخرى في مكانها ، فأمره الله تعالى أن يقول في جوابهم (ما يَكُونُ لِي) أي ما ينبغي وما يحل (أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) من قبل نفسي فنفى عن نفسه أحد القسمين الذي هو أسهل وأقل ليلزم منه نفي الأصعب الأكثر بالطريق الأولى. ثم أكد الجواب بقوله : (إِنْ أَتَّبِعُ) أي ما أتبع (إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) إن نسخت آية تبعت النسخ وإن بدلت آية مكان آية تبعت التبديل. وقد تمسك بهذا نفاة القياس ونفاة جواز الاجتهاد. وأجيب بأن رجوعهما أيضا إلى الوحي. ونقل عن ابن عباس أن قوله : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) منسوخ بقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] وضعف بأن النسخ إنما

٥٦٨

يكون في الأحكام والتعبدات لا في ترتيب العقاب على المعصية. قال المفسرون : هذا الالتماس منهم يحتمل أن يكون على سبيل السخرية. فقد روى مقاتل والكلبي أنهم خمسة نفر من مشركي مكة وهم المستهزءون في قوله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٥]. ويحتمل أن يكون على سبيل التجربة والامتحان حتى إنه إن فعل ذلك علموا أنه كاذب ، أو أرادوا أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم فطلبوا قرآنا آخر لا يكون كذلك. ثم أكد كون هذا القرآن من عند الله سبحانه وأنه غير مستبد في إيراده فقال : (لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ) ولا أعلمكم الله (بِهِ) على لساني. ومن قرأ بلام الابتداء فمعناه ما تلوته أنا عليكم ولأخبركم الله به على لسان غيري ، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده فرآني أهلا لذلك دون غيري. وقرىء (لا أَدْراكُمْ بِهِ) بالهمزة. ووجهه أن تكون الهمزة مقلوبة من الألف ، أو يكون من الدرء الدفع. ومعنى ادرأته جعلته دارئا أي لم أجعلكم بتلاوته خصما تدرؤنني بالجدال وتكذبونني (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً) أي بعضا معتبرا من العمر وهو أربعون سنة (مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل نزول القرآن (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فيه قدح في صحة عقولهم لأن ظهور مثل هذا الكتاب العظيم المشتمل على علوم الأوّلين والآخرين المعجز للثقلين عن معارضته على من عرفوا حاله من عدم التعلم والمدارسة ومخالطة العلماء إذا شك فيه أنه من قبيل الوحي والمدد السماوي ، كان ذلك إنكارا للضروريات وافتراء على الله فلهذا قال (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) الآية. وفيه أن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله ثم نسبه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الله لم يكن أحد أظلم منه. ثم قبح الله أصنامهم معارضة لهم بنقض مقصودهم من الالتماس فقال (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ) إن لم يعبدوه (وَلا يَنْفَعُهُمْ) إن عبدوه ومن حق المعبود أن يكون مثيبا معاقبا. وفيه إشعار بأنها جماد ، والمعبود لا بد أن يكون أكمل من العابد ، وإذا كانت المنافع والمضار كلها من الله فلا تليق العبادة إلا له (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ).قد ذكرنا وجه ذلك في أوائل سورة البقرة في قوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الآية : ٢٢] ثم أنكر عليهم معتقدهم بقوله : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ) والمراد انه لا وجود لكونهم شفعاء إذ لو كان موجودا لكان معلوما للعالم بالذات المحيط بجميع المعلومات وهذا مجاز مشهور. تقول : ما علم الله ذلك مني. والمقصود أنه ما وجد منك ذلك قط. وفي قوله : (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) تأكيد آخر لنفيه لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم. قوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) إما أن يكون من تمام ما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم ، أو ابتداء كلام من الله تعالى تنزيها لنفسه عن إشراكهم أو عن

٥٦٩

الشركاء الذين يشركونهم به. ثم بيّن أن عبادة الأصنام بدعة وأن الناس ـ يعني العرب أو البشر كلهم ـ كانوا على الدين الحق فاختلفوا. وقد مر تفسير مثله في سورة البقرة في قوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [الآية : ٢١٣] والمقصود هاهنا تقبيح صورة الشرك وعبادة الأصنام من دون الله في أعينهم ، وتنفير طباعهم عن مثل هذا الأمر المستحدث الفظيع (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) من بناء أمر الثواب والعقاب على التكليف لا على الإلجاء والقسر ، أو من تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة ، أو من قوله : «سبقت رحمتي غضبي» (١) (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) عاجلا ولميز المحق من المبطل. ثم ذكر نوعا رابعا من أغاليطهم فقال : (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وقد مر تفسيره في «الأنعام» في قوله : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [الأنعام : ٣٧] كأنهم لم يعتدّوا بالقرآن آية فاقترحوا غيره تعنتا. (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) هو المختص بعلمه (فَانْتَظِرُوا) نزول ما اقترحتموه وهذا أمر فيه تهديد ووعيد والله ورسوله أعلم.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ

__________________

(١) المصدر السابق.

٥٧٠

وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))

القراآت : يمكرون بياء الغيبة : سهل وروح. الباقون : بالتاء الفوقانية. ينشركم بالنون : ابن عامر ويزيد. الباقون (يُسَيِّرُكُمْ) من التسيير (مَتاعَ) بالنصب : حفص والمفضل. الباقون بالرفع (قِطَعاً) بسكون الطاء : ابن كثير وعلي وسهل ويعقوب. والآخرون بفتحها تتلوا بتاءين من التلاوة : حمزة وعلي وخلف وروح ، وروي عن عاصم نبلوا بالنون ثم الباء الموحدة. كل نفس بالنصب الباقون : بتاء التأنيث (كُلُ) بالرفع.

الوقوف : (آياتِنا) ط (مَكْراً) ط ، (تَمْكُرُونَ) ه (وَالْبَحْرِ) ط (فِي الْفُلْكِ) ج ط للعدول مع أن جواب «إذا» منتظر ، (أُحِيطَ بِهِمْ) لا لأن قوله : (دَعَوُا) بدل من (ظَنُّوا) لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو متلبس به ، وإن جعل (دَعَوُا) جوابا عن سؤال سائل فما صنعوا كان للوقف وجه. (الدِّينَ) ج لاحتمال إضمار القول وجعل الدعاء في معنى القول (الشَّاكِرِينَ) ه (بِغَيْرِ الْحَقِ) ط. (عَلى أَنْفُسِكُمْ) ط ، إلا لمن جعله متعلقا بـ (بَغْيُكُمْ تَعْمَلُونَ) ه (الْأَنْعامُ) ط (عَلَيْها) لا لأن ما بعده جواب «إذا». (بِالْأَمْسِ) ط (يَتَفَكَّرُونَ) ه (السَّلامِ) ط (مُسْتَقِيمٍ) ه (وَزِيادَةٌ) ط (وَلا ذِلَّةٌ) ط ، (الْجَنَّةِ) ج ط (خالِدُونَ) ه (بِمِثْلِها) لا لأن قوله (وَتَرْهَقُهُمْ) معطوف على محذوف أي يلزمهم جزاء سيئة وترهقهم ذلة. (عاصِمٍ) ج ط لأن الكاف لا يتعلق بـ (عاصِمٍ) مع تعلقها بذلة قبله معنى ، لأن رهق الذلة سواد الوجه المعبر عنه بقوله كأنما (مُظْلِماً) ط (أَصْحابُ النَّارِ) ج ط (خالِدُونَ) ه (وَشُرَكاؤُكُمْ) ج للعدول مع فاء التعقيب (تَعْبُدُونَ) ه (لَغافِلِينَ) ه (يَفْتَرُونَ) ه.

التفسير : لما بين في الآية المتقدمة أنهم يطلبون الآيات الزائدة عنادا ومكرا ولجاجا أكد ذلك بقوله : (وَإِذا أَذَقْنَا) روي أنه سبحانه سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم وأنزل الأمطار النافعة ، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع إلى الأصنام ـ وقيل نسبوها إلى الأنواء ـ فقابلوا نعم الله بالكفران فذلك مكرهم وهو احتيالهم في دفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في المناظرة. وفي تخصيص الإذاقة بجانب الرحمة دليل على أن الكثير من الرحمة قليل بالنسبة إلى رحمته الواسعة. وفيه أن الإنسان لغاية ضعفه الفطري لا يطيق أدنى الرحمة كما أنه لا يطيق أدنى الألم الذي يمسه. قال في الكشاف : معنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم. وهذا أيضا من جملة الضعف لأنه نسي ما عهده من الضر الشديد. و «إذا» الثانية للمفاجأة وقع مقام الفاء في

٥٧١

جواب الشرط كما في قوله : (إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) [التوبة : ٥٨] وفائدته أن يعلم أنهم فاجأوا وقوع المكر منهم في وقت الإذاقة وسارعوا إليه ولم يلبثوا قدر ما ينفضون عن رؤوسهم غبار الضر ولهذا قال سبحانه (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) يقدر على إيصال جزاء مكرهم إليهم قبل أن يرتد إليهم طرفهم ولكنه يمهلهم لأجل معلوم ليتضاعف خبثهم مع كونه محفوظا بيانه قوله (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) وقد مر تحقيق هذا في تفسير قوله : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) [الأنعام : ٦٢]. واعلم أن مضمون هذه الآية قريب من مضمون قوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) [يونس : ١٢] إلا أن هذه زائدة عليها بدقيقة هي أنهم بعد الإعراض عن الدعاء يطلبون الغوائل ويقابلون الرحمة بالمكر والخديعة ولا يرضون رأسا برأس. ثم ضرب لأجل ما وصفهم به مثالا حتى ينكشف المقصود تمام الانكشاف فقال : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) ومن قرأ ينشركم فكقوله : (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١٠] قال بعض العلماء : المسير في البحر هو الله سبحانه وتعالى ، وأما في البر فالمراد من التسيير التمكين والإقدار. والحق أن جميع الأفعال والحركات مستندة إلى إحداث الله تعالى ، غاية ذلك أن آثار إقداره وإحداثه في البحر أظهر كما مر في تفسير قوله : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) [البقرة : ١٦٤] قال القفال : هو الله الهادي لكم إلى السير في البحر طلبا للمعاش ، وهو المسير لكم لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير. وحتى لانتهاء الغاية والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها ، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة : أولها الكون في الفلك ، وثانيها جري الفلك بهم بالريح الطيبة ، والضمير في (جَرَيْنَ) للفلك على أنها جمع كما مر. وثالثها فرحهم بها. والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة أيضا : أوّلها (جاءَتْها) أي الفلك أو الريح الطيبة تلتها ريح عاصف ذات عصوف كلابن لذات اللبن ، أو لأن لفظ الريح مذكر والعصوف شدة هبوب الريح. وثانيها (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي من جميع جوانب أحياز الفلك ، والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر. وثالثها (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي غلب على ظنونهم الهلاك. وأصله أن العدوّ إذا أحاط بقوم أو بلد فقد دنوا من البوار ، فجعل إحاطة العدوّ بالشخص مثلا في الهلاك. وقرىء في الفلكي والياء زائدة كما في «الأحمري» أو أريد به الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه. قال في الكشاف : وإنما التفت في قوله : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) إلى آخره من الخطاب الى الغيبة للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح. وقال الإمام فخر الدين الرازي : الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذه الآية دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في

٥٧٢

قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] دليل الرضا والتقريب. قلت : هذا وجه حسن. أما قوله : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ) فقد قال ابن عباس : تركوا الشرك ولم يشركوا به من آلهتهم شيئا ، وأقروا لله بالربوبية والوحدانية. وقال الحسن : ليس هذا إخلاص الإيمان لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله فيكون ذلك جاريا مجرى الإيمان الاضطراري. وقال ابن زيد : هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون ، فإذا جاء الضر والألم لم يدعوا إلا الله. وعن أبي عبيدة : أن المراد من ذلك الدعاء قولهم : «أهيا شراهيا» تفسيره «يا حي يا قيوم» يحكى أن رجلا قال لجعفر الصادق رضي‌الله‌عنه : ما الدليل على إثبات الصانع؟ فقال : أخبرني عن حرفتك. فقال : التجارة في البحر قال : صف لي كيف حالك؟ فقال : ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح من ألواحها وجاءت الرياح العاصفة. قال جعفر الصادق رضي‌الله‌عنه : هل وجدت في قلبك تضرعا؟ فقال : نعم. قال جعفر : فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت. (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ) الشدة كما مر في الأنعام (يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) البغي قصد الاستعلاء بالظلم من قولك بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد ، وأصله الطلب فلهذا أكد المعنى بقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) قال في الكشاف : إنما زاد هذا القيد احترازا من استيلاء المسلمين على أرض الكفرة بهدم دورهم وإحراق زروعهم كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببني قريظة. قلت : ويحتمل أن يراد بغير شبهة حق عندهم كقوله (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [البقرة : ٦١] من قرأ متاع بالنصب فما قبله جملة تامة أي إنما بغيكم وبال على أنفسكم وهو مصدر مؤكد كأنه قيل : يتمتعون متاع الحياة الدنيا. ومن قرأ بالرفع فإما على أن التقدير هو متاع الدنيا بعد تمام الكلام ، أو على أنه خبر وقوله : (عَلى أَنْفُسِكُمْ) صلة أي إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها والبغي من منكرات المعاصي قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسرع الخير ثوابا صلة الرحم وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة» وروي «اثنتان يعجلهما الله في الدنيا : البغي وعقوق الوالدين» وعن محمد بن كعب : ثلاث من كن فيه كن عليه : البغي والنكث والمكر. قال تعالى : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياما قلائل وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها (ثُمَ) إلى ما وعدنا من المجازاة (مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وهو في هذا الموضع وعيد بالعقاب كقول الرجل في معرض التهديد سأخبرك بما فعلت. ثم ذكر مثلا لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا ويشتد تمسكه بها فقال : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي صفتها العجيبة الشأن (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ) أي اشتبك بسبب هذا الماء

٥٧٣

(نَباتُ الْأَرْضِ) فيحتمل أن يراد أن نباته ثم وصوله إلى حد الكمال كليهما بسبب المطر ، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أول بروزه ومبدإ حدوثه غير مهتز ولا مترعوع ، فإذا نزل المطر عليه اهتز وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض وتكاثف. (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) قال الجوهري : الزخرف الذهب ثم يشبه به كل مموه مزوّر. (وَازَّيَّنَتْ) أصله تزينت فأدغم واجتلبت لذلك همزة الوصل. وهذا كلام في نهاية الفصاحة وفيه تشبيه الأرض بالعروس التي تأخذ الثياب الفاخرة من كل لون فتلبسها ، ثم تزين بجميع الأقسام المعهودة لها من حمرة وبياض ونحوها (وَظَنَّ أَهْلُها) أي غلب على ظنونهم أو تيقنوا (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) متمكنون من تحصيل ريعها. (أَتاها أَمْرُنا) بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات. (لَيْلاً أَوْ نَهاراً) أي حين غفلتهم بالنوم أو حين اشتغالهم وتقلبهم في طلب معايشهم (فَجَعَلْناها) أي زرعها (حَصِيداً) شبيها بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله. (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) أي كأن الشأن لم يلبث زرعها (بِالْأَمْسِ) أي في زمان قريب. يقال : غنى بالمكان بالكسر يغنى بالفتح إذا أقام به. والأمس مثل في الوقت القريب. هذا والصحيح عند علماء البيان أن هذا التشبيه من التشبيه المركب. قال في الكشاف : شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاما بعد ما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه. وقيل : المراد أن عاقبة هذه الحياة التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء به وقع اليأس منه ، لأن الغالب أن المتمسك بالدنيا إذا اطمأن بها وعظمت رغبته فيها وانتظم أمره بعض الانتظام أتاه الموت. وتلخيصه أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة تحمد فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد. ويحتمل أن يكون هذا مثلا لمن لا يؤمن بالمعاد ، فإن الأرض المزينة إذا زال حسنها فإنه يعود رونقها مرة أخرى فكذا النشور (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) نذكر واحدة منها بعد الأخرى لتكون كثرتها وتواليها سببا لقوة اليقين وموجبا لزوال الشك (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في أحوال الآفاق والأنفس. ثم لما نفر المكلفين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق رغبهم في الآخرة بقوله : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) ومثله ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «سيد بنى دارا وصنع مائدة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل ورضي عنه السيد ، ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد ، فالله السيد والدار دار السلام والمائدة الجنة والداعي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١)

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب ٢. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٢.

٥٧٤

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق إلا الثقلين أيها الناس هلموا إلى ربكم والله يدعو إلى دار السلام» واتفقوا على أن دار السلام هي الجنة واختلفوا في سبب التسمية. فقيل : لأن السلام هو الله والجنة داره فالإضافة للتشريف ، وإنما أطلق اسم السلام عليه تعالى لأنه سلم من الفناء والتغير ومن جميع سمات النقص والحدوث ومن الظلم والعجز والجهل وهو القادر على تخليص المضطرين عن المكاره والآفات ، وكفى بدار أضافها الله تعالى لنفسه فضلا وشرفا وبهجة وسرورا. وقيل : سميت دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات والمخافات. وقيل : لفشوّ السلام بينهم (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [يونس : ١٠] (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٤] (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] واعلم أن الدعوة عامة ولكن الهداية خاصة فلذلك قال (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ومن هنا ذهب أهل السنة إلى أن الهداية والضلالة والخير والشر كلها بمشيئة الله تعالى وإرادته. وقالت المعتزلة : المراد ويهدي من يشاء إلى إجابة تلك الدعوة ويعنون أن من أجاب الدعاء وأطاع واتقى فإن الله يهديه إليها. والمراد من الهداية الألطاف ، ثم قسم أهل الدعوة إلى قسمين وبين حال كل طائفة فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) ولا بد من تفسير هذه الألفاظ الثلاثة : فعن ابن عباس أحسنوا أي ذكروا كلمة لا إله إلا الله. وذهب غيره إلى أن المراد إتيان الطاعات واجتناب المنهيات لأن الدرجات العالية لا تليق إلا بهم. وأما الحسنى فقال في الكشاف : المراد المثوبة الحسنى. وقال ابن الأنباري : العرب توقع هذه اللفظة على الخلة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها ، ولذلك ترك موصوفها. وأما الزيادة فحملها أهل السنة على رؤية الله لأن اللام في الحسنى للمعهود بين المسلمين من المنافع التي أعدها الله تعالى لعباده ، فالزيادة عليها تكون مغايرة لها فما هي إلا الرؤية. وقالت المعتزلة : الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه ، ورؤية الله تعالى بعد تسليم جوازها ليست من جنس نعيم الجنة ، فالمراد بها ما يزيد على المثوبة من التفضل كقوله : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [فاطر : ٣٠]. وزيف بأن الزيادة إذا كان المزيد عليه مقدرا بمقدار معين وجب أن يكون من جنسه كما لو قال الرجل لغيره : أعطيتك عشرة أمنان من الحنطة وزيادة. أما إذا كان غير مقدر كما لو قال : أعطيتك الحنطة وزيادة. لم يجب أن تكون الزيادة من جنس المزيد عليه. والمذكور في الآية لفظة الحسنى وهي الجنة وإنها مطلقة ، فالزيادة عليها شيء مغاير لكل ما في الجنة. وعن علي عليه‌السلام : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة. وعن ابن عباس : الحسنى الجنة والزيادة عشر

٥٧٥

أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وعن مجاهد : مغفرة من الله ورضوان. وعن يزيد بن سمرة : هي أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم. هذا شأن المنافع الحاصلة لهم ، وأما أنها منافع خالصة عن الكدورات فأفاد ذلك بقوله : (وَلا يَرْهَقُ) أي لا يغشى (وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ) غبرة فيها سواد (وَلا ذِلَّةٌ) ولا أثر هوان وكسوف بال. ثم أشار إلى كون تلك المنافع الخالصة آمنة من الانقطاع بقوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وهذا معنى قول علماء الأصول «الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم». ثم بين حال الفريق الآخر بقوله : (وَالَّذِينَ) أي وجزاء الذين (كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) أي جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها. ومن جوز العطف على عاملين مختلفين جوز أن يكون التقدير : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها. قالت المعتزلة : وفيه دليل على أن المراد بالزيادة في الآية المتقدمة الفضل ، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله فناسب أن يكون قد دل هناك بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله. (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) فإنهم حين ماتوا ناقصين خالين عن الملكات الحميدة كان شعورهم بذلك سببا لذلهم وهوانهم على أنفسهم ، وهذا على قاعدة حكماء الإسلام أن الجهل سواد وظلمة كما أن العلم والمعرفة بياض ونور ومنه قول الشبلي رضي‌الله‌عنه :

كل بيت أنت ساكنه

غير محتاج إلى السرج

ومريض أنت عائده

قد أتاه الله بالفرج

(ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي لا يعصمهم أحد من عذابه وسخطه ، أو ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما للمؤمنين. والتحقيق أنه لا عاصم من الله لأحد في الدنيا ولا في الآخرة إلا بإذن الله إلا أن هذا المعنى في الآخرة أظهر كقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] ثم بالغ في الكشف عن سواد وجوههم فقال : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ) أي ألبست (وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ) من قرأ بسكون الطاء فمعناه البعض والطائفة و (مُظْلِماً) صفته. ومن قرأ بفتحها على أنه جمع قطعة فمظلما حال من الليل والعامل فيه إما معنى الفعل في (مِنَ اللَّيْلِ) أو (أُغْشِيَتْ) لأن قوله : (مِنَ اللَّيْلِ) صفة لقوله : (قِطَعاً) فكان إفضاء العامل إلى الموصوف كإفضائه الى الصفة قاله في الكشاف. واعلم أن جمعا من العلماء ذهبوا إلى أن المراد بقوله : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) هم الكفار لأن سواد الوجه من علامات الكفر بدليل قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [آل عمران : ١٠٦] وقوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ

٥٧٦

تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس : ٤٠ ـ ٤٢] ولقوله بعدها (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) والضمير عائد إلى هؤلاء. ثم إنه وصفهم بالشرك. وقال الآخرون : اللفظ عام يتناول الكافر والفاسق إلا أن الآيات المذكورة مخصصة. ثم شرح بعض أحوال المشركين في القيامة فقال : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) منصوب بإضمار «اذكر» أو ظرف متعلق بتبلو أي في يوم كذا تبلو كل نفس. وحاصل الكلام أنه يحشر العابد والمعبود ليسألوا فيتبرأ المعبود من العابد خلاف ما كانوا يزعمون من قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وفيه إشارة إلى أن الممكن لا نسبة له إلى الواجب الحق ، فإذا اتخذ الممكن معبودا برىء من ذلك في مقام لا ينفع إلا الصدق. قال في الكشاف : (مَكانَكُمْ) أي الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما نفعل بكم. وعند أبي علي هو اسم من أسماء الأفعال وحركته حركة بناء وهو كلمة وعيد عند العرب. و (أَنْتُمْ) لتأكيد الضمير في (مَكانَكُمْ) لسده مسد قوله : «الزموا». (وَشُرَكاؤُكُمْ) عطف عليه. (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) ففرقنا بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم في الدنيا. قيل : عين الكلمة «واو» لأنه من زال يزول. وإنما قلبت ياء لأن وزن الكلمة «فيعل» أي زيولنا مثل بيطره أعل إعلال سيد. وقيل : هي من زلت الشيء أزيله ، فعينه على هذا ياء والوزن «فعل» ونظير زيلنا قوله : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) [الآية : ٤٨] لأن حكم الله بأنه سيكون كالكائن (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) في صحة هذه الإضافة وجوه منها : أنهم جعلوا نصيبا من أموالهم لتلك الأصنام فهم شركاؤهم. ومنها أنهم متشاركون في الخطاب في قوله : (مَكانَكُمْ) ومنها أنهم أثبتوا هذه الشركة والشركاء. وقيل : هم الملائكة لقوله : ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون وقيل : كل من عبد من دون الله. وقيل : الأصنام لأن هذا الخطاب مشتمل على التهديد وأنه لا يليق بالملائكة المقربين. وكيف تنطق هذه الأصنام؟ قيل : لأن الله يخلق فيهم الحياة والعقل والنطق. ثم هل يبقيهم أو يفنيهم؟ الكل محتمل ولا اعتراض لأحد عليه. وقيل : يخلق فيهم الكلام فقط. وهذا الخطاب تهديد في حق العابدين فهل يكون تهديدا في حق المعبودين؟ قالت المعتزلة : لا ، لأنه لا ذنب للمعبودين ومن لا ذنب له يقبح من الله تهديده وتخويفه. وقالت الأشاعرة : لا يسأل عما يفعل. أما قول الشركاء (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) وهم كانوا قد عبدوهم فالمراد أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا لقولهم : (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) الآية. ومن أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها ولا شعور. وقيل : لما في ذلك الموقف من الدهشة والحيرة فذلك الكذب يجري مجرى كذب الصبيان والمجانين والمدهوشين. وقيل : إنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا فجعلوها

٥٧٧

كالعدم. وقيل : المراد أنهم عبدوا الشياطين حيث أمروهم باتخاذ الأنداد ، ومن جوز الكذب في القيامة فلا إشكال. و (هُنالِكَ) أي في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان. (تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ) تختبر وتذوق (ما أَسْلَفَتْ) من العمل. ومن قرأ بالنون فالمعنى نفعل بها فعل الخابر ، أو نصيب بالبلاء وهو العذاب كل نفس عاصية لأجل ما أسلفت من الشر. ومن قرأ تتلوا بتاءين فمعناه تتبع ما أسلفت لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار ، أو تقرأ في صحيفتها ما قدمت من خير أو شر. (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) الصادق ربوبيته (وَضَلَّ عَنْهُمْ) وضاع عنهم (ما كانُوا) يدعون أنهم شركاء الله أو ما كانوا يختلفون من شفاعة الآلهة. والحاصل أنهم يرجعون عن الباطل ويعترفون بالحق حين لا ينفعهم ذلك.

التأويل : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ) ذوق توبة وإنابة أو ذوق كشف وشهود (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ) وهي الفسوق والأخلاق الذميمة وحجب الأوصاف (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) بإظهارها إلى غير أهلها بشرف النفس وطلب الجاه والقبول. (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) فيستدرجهم عن تلك المقامات إلى دركات البعد (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) في بر البشرية وبحر الروحانية ، أو في بر العبودية وبحر الربوبية (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ) في فلك جذبات العناية (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) بهبوب نسيم شهود الجمال (وَفَرِحُوا) بالوصول والوصال (جاءَتْها) نكباء تجلى صفات الجلال (وَجاءَهُمُ) موج البلايا والمحن من أماكن النعم والبلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) فيه إشارة إلى أن أرباب الطلب لما وصلوا بجذبات الحق إلى شهود الجمال واستغراق لجج بحر الجلال ، استقبلتهم عواصف العزة والكبرياء فيستدرجهم إلى البغي وهو الطلب في أرض ما سوى الحق غير الحق (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ) من سماء القلب إلى أرض البشرية (فَاخْتَلَطَ بِهِ) الصفات المولدة من أرض البشرية (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) من الصفات الحميدة الإنسانية والذميمة البهيمية (أَتاها) حكمنا الأزلي (لَيْلاً) عند استيلاء ظلمات صفات النفس (أَوْ نَهاراً) عند بقاء ضوء الفيض الروحاني ، لكنه بامتزاج القوة الخيالية والوهمية وقع في ورطة العقائد الباطلة كما لبعض الفلاسفة والمبتدعة. (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) وهي مقام الفناء لأن صاحبه يسلم عن آفات الحجب أو مقام العلم والمعرفة لأن صاحبه يسلم عن آفة الاثنينية والجهالة (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بجذبات العناية (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يؤدي إلى السير بالله في الله. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، والحسنى هي شواهد الحق والنظر إليه ، والزيادة الجنة وما فيها من

٥٧٨

النعيم أو هي ما زاد على النظر من إفناء الناسوتية في اللاهوتية والله ولي التوفيق.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١))

القراآت : كلمات ربك وكذلك في آخر السورة على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر لا يهدي مثل يرمي : حمزة وعلي وخلف (يَهْدِي) بسكون الهاء وتشديد الدال : أبو جعفر ونافع غير ورش وعباس وأبو عمرو غير عباس بإشمام الفتحة قليلا (يَهْدِي) بكسر الهاء وتشديد الدال : عاصم غير يحيى وجبلة ورويس يهدي بكسرتين والتشديد : يحيى يهدي بفتحتين والتشديد : ابن كثير وابن عامر وورش وسهل ويعقوب غير رويس.

الوقوف : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ط (اللهُ) ج (تَتَّقُونَ) ه ج ط (رَبُّكُمُ الْحَقُ) ج ط للاستفهام مع الفاء (إِلَّا الضَّلالُ) ج ط (تُصْرَفُونَ) ه (لا يُؤْمِنُونَ) ه (ثُمَّ يُعِيدُهُ) الأول ط (تُؤْفَكُونَ) ه (إِلَى الْحَقِ) ط (لِلْحَقِ) ط (أَنْ يُهْدى) ج ط لما مر (فَما لَكُمْ) ص لحق الاستفهام الثاني (تَحْكُمُونَ) ه ط (إِلَّا ظَنًّا) ط (شَيْئاً) ط (يَفْعَلُونَ) ه (الْعالَمِينَ) ه (افْتَراهُ) ط (صادِقِينَ) ه (تَأْوِيلُهُ) ط (الظَّالِمِينَ) ه (لا يُؤْمِنُ بِهِ) ط (بِالْمُفْسِدِينَ) ه (عَمَلُكُمْ) ج لأن (أَنْتُمْ) مبتدأ والعامل واحد (تَعْمَلُونَ) ه.

٥٧٩

التفسير : لما بين فضائح عبدة الأوثان أكدها بالحجج اللامعة والبراهين القاطعة من أحوال الرزق والموت والحياة والإبداء والإعادة والإرشاد والهداية ، وقد بنى الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسئول ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس. فالحجة الأولى قوله : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) بإنزال الأمطار النافعة الموجبة لتولد الأغذية النباتية والحيوانية في الأرض بعد رعاية شرائط تربيتها وإنمائها وحفظها من العاهات. (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) خص الحاستين بالذكر لما في خلقهما وتسويتهما من الفطرة العجيبة ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سبحان من بصّر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم» ولما في تحصينهما من الآفات في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء مزيد قدرة ورأفة. (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) الحيوان الماشي والطائر من النطفة والبيضة وقد مر سائر الأقوال في سورة الأنعام. (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) عمم بعد ما خصص لأن أقسام تدبيره تعالى في العالم العلوي والعالم السفلي وعالمي الغيب والشهادة أمور لا نهاية لها. وذكر كلها كالمتعذر. (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) وفيه دليل على أنهم كانوا يعبدون الأصنام بناء على أنها شفعاؤهم وأنها تقربهم إلى الله زلفى ، ولكنهم كانوا مخطئين في هذا الاعتقاد فلهذا ختم الآية بقوله (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) الله الذي اعترفتم بأنه سبب فيضان جميع الخيرات فكيف أشركتم بعبادته الجمادات التي لا تقدر على نفع أو ضر. (فَذلِكُمُ) الموصوف بالقدرة الكاملة والرحمة الشاملة (اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) الثابت ربوبيته بالوجدان والبرهان. (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِ) «ذا» مزيدة و «ما» نافية أو استفهامية أو مجموع «ماذا» كلمة واحدة معناها أي شيء بعد الحق (إِلَّا الضَّلالُ) والمراد أنه لما ثبت وجود الواجب الحق كان ما سواه ممكنا لذاته باطلا دعوى الإلهية فيه ، لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحدا في ذاته وفي صفاته وفي جميع اعتباراته وإلا لزم افتقاره إلى ما انقسم إليه فلا يكون واجبا هف محال ولهذا ختم الآية بقوله : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) كيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر وتقعون في الضلال ، إذ لا واسطة بين الأمرين ، فمن يخطىء أحدهما وقع في الآخر. (كَذلِكَ) أي كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال ، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق فكذلك (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ). وتفسير الكلمة (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) على أنه بدل أي حق عليهم انتفاء الإيمان وقد علم الله منهم ذلك في الأزل ، وأراد بالكلمة العدة بالعذاب وأنهم لا يؤمنون تعليل على حذف اللام. احتجت المعتزلة بمثل قوله تعالى : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أن الصارف لو كان هو الله تعالى لم يصح منه هذا التعجيب والإنكار. وقالت الأشاعرة : قد تعلق علمه تعالى بأنهم لا يؤمنون كما قال : (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وتعلق خبره بأنهم لا يؤمنون وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه بل بخلق الكفر

٥٨٠