تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢))

القراآت : (وَشُرَكاؤُكُمْ) بالرفع : يعقوب (إِنْ أَجْرِيَ) بفتح الياء حيث كان : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص ويكون لكما بياء الغيبة : حماد ويزيد وزيد. الباقون بتاء التأنيث آلسحر بالمد : يزيد وأبو عمرو أن تبويا بالياء : الخراز وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة. الآخرون بالهمز. (لِيُضِلُّوا) بضم الياء : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل (وَلا تَتَّبِعانِ) بتخفيف النون : ابن عامر غير الحلواني عن هشام. (تَتَّبِعانِ) خفيفة التاء والنون : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ، وفي كلتا القراءتين خففت النون ثم كسرت لالتقاء الساكنين تشبيها بنون التثنية. الباقون والحلواني عن هشام (تَتَّبِعانِ) بتشديدها في الحالين منت أنه بكسر الهمزة على الاستئناف بدلا من (آمَنْتُ) : حمزة وعلي وخلف. الآخرون بالفتح. ننجيك من الإنجاء : سهل ويعقوب وقتيبة. والآخرون بالتشديد.

الوقوف : (نَبَأَ نُوحٍ) م لئلا يوهم أن «إذ» ظرف لقوله : (اتْلُ) بل التقدير : واذكر إذ قال. (وَلا تُنْظِرُونِ) ه (مِنْ أَجْرٍ) ط (عَلَى اللهِ) ج لأن التقدير وقد أمرت (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ه (بِآياتِنا) ج للفاء ولأن أمر النظر للعبرة يقتضي التثبيت للتدبر (الْمُنْذَرِينَ) ه (مِنْ قَبْلُ) ط (الْمُعْتَدِينَ) ه (مُجْرِمِينَ) ه (مُبِينٌ) ه (لَمَّا جاءَكُمْ) ط بناء على أن التقدير أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر والاستفهام في قوله : (أَسِحْرٌ) يستحق الابتداء وسيجيء له مزيد بيان (هذا) ط للفصل بين الأخبار والاستخبار (السَّاحِرُونَ) ه (فِي الْأَرْضِ) ط (بِمُؤْمِنِينَ) ه (عَلِيمٍ) ه (مُلْقُونَ) ه (ما جِئْتُمْ بِهِ) ط لمن قرأ آلسحر مستفهما (السِّحْرُ) ط (سَيُبْطِلُهُ) ط (الْمُفْسِدِينَ) ه (الْمُجْرِمُونَ) ه (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) ط (فِي الْأَرْضِ) ج لاتصال الكلام (الْمُسْرِفِينَ) ه (مُسْلِمِينَ) ه (تَوَكَّلْنا) ج للعدول مع اتحاد القائل (الظَّالِمِينَ) ه لا للعطف. (الْكافِرِينَ) ه ج (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ط لأن قوله

٦٠١

(وَبَشِّرِ) خطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن أريد به موسى فلا بد من العدول (الْمُؤْمِنِينَ) ه (الدُّنْيا) لا لتعلق قوله : (لِيُضِلُّوا) بقوله : (آتَيْتَ) و (رَبَّنا) تكرار للأول لأجل التضرع. (عَنْ سَبِيلِكَ) ج لابتداء النداء مع اتحاد القائل (الْأَلِيمَ) ه (لا يَعْلَمُونَ) ه (وَعَدْواً) ط (الْغَرَقُ) لا لأن قال جواب «إذا» (الْمُسْلِمِينَ) ه (الْمُفْسِدِينَ) ه (آيَةً) ط (لَغافِلُونَ) ه.

التفسير : لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات والجواب عن الشبهات شرع في قصص الأنبياء المتقدمين ، لأن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب أقرب إلى انشراح الصدور ودفع الملال مع أن في ذكرها تسلية للرسول وعبرة للمعتبر إلى غير ذلك من الفوائد التي سبق ذكرها في «الأعراف». ومعنى كبر ثقل وشق كقوله : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) [البقرة : ٤٥] وفي مقامي وجوه منها : أنه زيادة كقولك : فعلت كذا لمكان فلان أي لأجله ، وكقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) [الرحمن : ٤٦] أي ربه ومثله قولهم : فلان ثقيل الظل. ومنها أن يراد به المكث أي شق عليكم مكثي بين أظهركم مددا طوالا ألف سنة إلا خمسين عاما ، ولا شك أن من ألف طريقة ويدعى إلى خلافها ولا سيما إذا تكرر الدعاء كان ذلك موجبا للتنفر والثقل ، وخاصة إذا كانت تلك الطريقة مقتضاة النفس والطبيعة الداعيتين إلى اللذات العاجلة. ومنها أن يكون المقام بمعنى القيام لأنهم كانوا يقومون على أرجلهم في الوعظ والتذكير ليكون مكانهم بينا وكلامهم مسموعا كما يحكى عن عيسى عليه‌السلام أنه كان يعظ الحواريين قائما وهم قعود. وجواب الشرط إما قوله : (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) أي إن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي وأنا لا أقابل ذلك الشر بالتوكل على الله فإن ذلك هجيراي قديما وحديثا وإما قوله : (فَأَجْمِعُوا) وقوله : (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) اعتراض كقولك : إن كنت أنكرت عليّ شيئا فالله حسبي فاعمل ما تريد. ولا يحسن أن يقال : إن الفاء الثانية عاطفة للاختلاف طلبا وخبرا ، ومعنى (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) اعزموا عليه من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه قاله الفراء. وقال أبو الهيثم : أجمع أمره أي جعله جميعا بعد ما كان متفرقا وتفرقه أنه يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا ، فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه أي جعله جميعا. فهذا هو الأصل في الإجماع ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بـ «على» فقيل : أجمعت على الأمر أي عزمت عليه والفصيح أجمعت الأمر ، والمراد بالأمر وجوه مكرهم وكيدهم. وانتصب (شُرَكاءَكُمْ) على المفعول معه أي مع شركائكم. ومن قرأ بالرفع جعله عطفا على الضمير المتصل ، وإنما يحسن ذلك من غير تأكيد بالمنفصل للفصل. والمراد بالشركاء إما من هم على مثل قولهم ودينهم ، وإما الأصنام. وحسن إسناد الإجماع إليهم على وجه التهكم

٦٠٢

كقوله : (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ) [الأعراف : ١٩٥] واعلم أنه عليه‌السلام قال في أول الأمر (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) ليدل على أنه واثق بوعد الله جازم بأن تهديدهم إياه بالقتل لا يضره ، ثم أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه فقال : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) كأنه قال : حصلوا كل ما تقدرون عليه من الأسباب المؤدية الى مطلوبكم غير مقتصرين على ذلك بل ضامين إلى أنفسكم شركاءكم الذين تزعمون أن حالكم يقوى بمكانهم. ثم ضم إلى ذلك قيدا آخر فقال : (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) قال أبو الهيثم : أي مبهما من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم أي التبس. وقال الليث : لقي غمة من أمره إذا لم يهتد له. وقال الزجاج : أي ليكن أمركم الذي أجمعتموه ظاهرا منكشفا أي تجاهرونني بالإهلاك. ويحتمل أن يراد بهذا الأمر العيش والحال أي أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة أي غما وهما والغم والغمة كالكرب والكربة. ثم زاد قيدا آخر فقال : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) ذلك الأمر الذي تريدون بي أي أدوا إليّ قطعه واحكموا بصحته وإمضائه. وعن القفال أن فيه تضمينا والمعنى ألقوا إليّ ما استقر عليه رأيكم محكما مفروغا منه. ثم ختم الكلام بقوله : (وَلا تُنْظِرُونِ) أي عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير إهمال ، ومعلوم أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عمن بلغ في التوكل الغاية القصوى. ثم بين أن كل ما أتى به فإن ذلك فارغ من الطمع الدنيوي والغرض الخسيس فقال : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن نصحي وتذكيري (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) فما كان عندي ما ينفركم عني وتتهمونني لأجله من طمع أو غرض عاجل (إِنْ أَجْرِيَ) ليس أجري (إِلَّا عَلَى اللهِ) أي ما نصحتكم إلا لوجهه ولا يثيبني إلا هو. وفي الآية نكتة كأنه أراد أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه لا بإيصال الشر وذلك قوله : (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) إلى آخره. ولا بانقطاع الخير منهم وذلك قوله : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) الآية. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوه فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام ، أو مأمور بالاستسلام لكل ما ألقى من قبل هذه الدعوة. (فَكَذَّبُوهُ) بقوا على تكذيبهم إلى آخر المدة المتطاولة. (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) قد ذكرنا في «الأعراف» الفرق بين هذه العبارة وبين ما هنالك (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) يخلفون الهالكين بالطوفان (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) تعظيم لشأن إهلاكهم وتحذير لغيرهم وتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ) من بعد نوح (رُسُلاً) كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالحجج الواضحات والمعجزات الباهرات (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) الآية وقد مر تفسيرها في أواسط الأعراف إلا أنه زيد هاهنا لفظة «به» فقيل : لتناسب ما قبله وهو (كَذَّبُوا

٦٠٣

بِآياتِنا) وكذلك في «الأعراف» راعى المناسبة لأن ما قبله (وَلكِنْ كَذَّبُوا) [الآية : ٩٦] بغير الباء (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) بعد الرسل أو الأمم (بِآياتِنا) يعني الآيات التسع (فَاسْتَكْبَرُوا) عن قبولها (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) كفارا ذوي آثام ولذلك اجترءوا على رد الآيات. أما قوله : (أَسِحْرٌ هذا) فليس بمقول لقوله : (أَتَقُولُونَ) لأنهم قطعوا في قوله : (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) بأنه سحر ، وما استفهموا ولكن الوجه فيه أن يقال : إن القول هاهنا بمعنى الطعن والعيب كالذكر في قوله : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) [الأنبياء : ٦٠] ومنه قولهم : فلان يخاف القالة أي مطاعن الناس فكأنه قال : أتعيبون الحق وتطعنون فيه؟ ثم أنكر عليهم قولهم فقال : (أَسِحْرٌ هذا) أو يقال : مفعول تقولون محذوف وهو قولهم (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أو يقال : جملة قوله (أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) حكاية لكلامهم كأنهم قالوا منكرين لما جاءا به أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ولا يفلح السحرة ، لأن حاصل صنيعهم تخييل وتمويه (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) التركيب يدل على الالتواء ومنه الفتل والالتفات «افتعال» من اللفت وهو الصرف واللي (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) أي الملك والعز في أرض مصر. قال الزجاج : سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا. وأيضا فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اعترف القوم بصدقه صارت مقاليد أمر أمته إليه وصار أكبر القوم. وقيل : لأن الملوك موصوفون بالكبر والحاصل أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين : التمسك بالتقليد وهو عبادة آبائهم الأصنام ، والحرص في طلب الدنيا والجد في بقاء الرياسة. ويجوز أن يقصدوا ذمهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا. ثم صرحوا بالتكذيب قائلين (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) ثم حاولوا المعارضة وقد مرت تلك القصة في «الأعراف». أما قوله : (ما جِئْتُمْ بِهِ) فمعناه الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحرا من آيات الله. قال الفراء : وإنما قال السحر بالألف واللام لأنه جواب الكلام الذي سبق كأنهم قالوا لموسى ما جئت به سحر. فقال موسى : بل ما جئتم به السحر. فوجب دخول الألف واللام لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة. يقول الرجل لغيره : لقيت رجلا. فيقول له : من الرجل؟ ولو قال : من رجل؟ لم يقع في وهمه أنه يسأل عن الرجل الذي ذكره. ومن قرأ آلسحر بالاستفهام فما استفهامية مبتدأ و (جِئْتُمْ بِهِ) خبره كأنه قيل أي شيء جئتم به. ثم قال على وجه التوبيخ السحر أي أهو لسحر أو آلسحر جئتم به (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) بإظهار المعجزة عليه (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) لا يؤيده بجميل الخاتمة (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) يثبته (بِكَلِماتِهِ) بمواعيده أو بما سبق من قضائه أو بأوامره (فَما آمَنَ لِمُوسى) أي في أول أمره (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ

٦٠٤

مِنْ قَوْمِهِ) قال ابن عباس : لفظة الذرية يعبر بها عن القوم على وجه التحقير ، ولا ريب أن المراد هاهنا ليس هو الإهانة ، فالمراد التصغير بمعنى قلة العدد. وقيل : المراد أولاد من أولاد قومه كأنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون ، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف من فرعون أن يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم. وقيل : إن الذرية أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل. وقيل : الذرية مؤمن آل فرعون وآسية امرأته وخازنه وامرأة خازنه وماشطته ، فالضمير في (قَوْمِهِ) على هذا لفرعون وعوده إلى موسى أظهر لأنه أقرب المذكورين ، ولما نقل أن الذين آمنوا به كانوا من بني إسرائيل والضمير في ملئهم إما لفرعون على جهة التعظيم لأنه ذو أصحاب يأتمرون له ، أو المراد آل فرعون بحذف المضاف ، أو للذرية يعني أشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم يدل على ذلك قوله : (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أي يعذبهم فرعون. ثم أكد أسباب الخوف بقوله : (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ) لغالب (فِي الْأَرْضِ) أرض مصر (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) في القتل والتعذيب أو لمن المجاوزين الحد لأنه من أخس العبيد فادعى الربوبية العليا (وَقالَ مُوسى) تثبيتا لقومه (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) صدقتم به وبآياته (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) خصوه بتفويض أموركم إليه (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) قال العلماء : المؤخر في مثل هذه السورة مقدم في المعنى نظيره : إن ضربك زيد فاضربه إن كانت بك قوة. والمراد إن كانت بك قوة فإن ضربك زيد فاضربه فكأنه قيل لهم في حال إسلامهم إن كنتم منقادين لتكاليف ربكم بالإخلاص مصدقين له بالتحقيق عارفين بأنه واجب الوجود لذاته وما سواه محدث مخلوق مقهور تحت حكمه وتدبيره ، ففوضوا جميع أموركم إليه وحده. (فَقالُوا) مؤتمرين لموسى (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) ثم اشتغلوا بالدعاء قائلين (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) أي موضع فتنة لهم. والمراد بالفتنة تعذيبهم أو صرفهم عن دينهم ، أو المراد لا تفتن بنا فرعون وقومه لأنك لو سلطتهم علينا صار ذلك شبهة لهم في أنا لسنا على الحق. ويجوز أن تكون الفتنة بمعنى المفتون أي لا تجعلنا مفتونين بأن تمكنهم من صرفنا عن الدين الحق ، ولما قدموا التضرع إلى الله في أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه سؤال عصمة أنفسهم فقال : (وَنَجِّنا) الآية. وفي ذلك دليل على أن عنايتهم بمصالح الدين فوق اهتمامهم بمصالح النفس ، وهكذا يجب أن تكون عقيدة كل مسلم والله الموفق. (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) تبوّأ بالمكان اتخذه مباءة ومرجعا مثل توطنه إذا اتخذه وطنا. واختلف المفسرون في البيوت فمنهم من ذهب إلى أنها المساجد كقوله : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ)

٦٠٥

[النور : ٣٦] فالمراد من قوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أن يجعل تلك البيوت مساجد متوجهة نحو القبلة وهي جهة بيت المقدس أو الكعبة على ما نقل عن ابن عباس. وقال الحسن : الكعبة قبلة كل الأنبياء. وإنما وقع العدول عنه بأمر الله تعالى في أيام نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهجرة. ومنهم من قال : إنها مطلق البيوت. ثم قيل : المراد واجعلوا دوركم قبلة أي صلوا في بيوتكم. وقيل : المراد اجعلوا بيوتكم متقابلة ، أما السبب في اتخاذ هذه البيوت فأن يصلوا في بيوتهم خفية خيفة من الكفرة كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام بمكة ، أو المقصود الجمعية واعتضاد البعض بالبعض. وقيل : على التفسير الأول لما أظهر فرعون العداوة الشديدة أمر الله موسى وهارون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء وتكفل أن يصونهم عن شرهم. وإنما ثنى الخطاب أوّلا ثم جمع لأن اختيار المكان للعبادة مما يفوض إلى الأنبياء فخوطب موسى وهارون بذلك ، ثم جعل الخطاب عاما لهما ولقومهما لأن استقبال القبلة وإقامة الصلاة واجب على الجمهور. ثم خص موسى عليه‌السلام بالتبشير في قوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) لأن الغرض الأصلي من جميع العبادات هو هذه البشارة فلم تكن لائقة إلا بحال موسى الذي هو الأصل في الرسالة ، وفيه تعظيم لشأن البشارة والمبشر (قال الضعيف مؤلف الكتاب) قد سنح في خاطري وقت هذه الكتابة أن الخطاب في قوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريقة الالتفات والاعتراض. ومضمون البشارة أنه جعلت الأرض كلها لهذه الأمة مسجدا وطهورا دون سائر الأمم فإنهم أمروا باتخاذ موضع يرجعون إليه البتة للعبادة والله أعلم بمراده. ثم إن موسى عليه‌السلام لما بالغ في إظهار المعجزات القاهرة ، ورأى القوم مصرين على الجحود والإنكار أخذ يدعو عليهم ، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أوّلا سبب الدعاء عليه فلهذا (قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً) فالزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب وأثاث البيت والأموال ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق. عن ابن عباس كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة. قالت الأشاعرة : اللام في قوله : (لِيُضِلُّوا) لام التعليل كأن موسى عليه‌السلام قال : يا رب إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا ، ففيه دلالة على أنه تعالى تسبب لضلالهم وأراد منهم ذلك وإلا لم يهيىء أسبابه. ثم شرع في الدعاء عليهم بالطمس على أموالهم. والطمس المحو أو المسخ كما مر في سورة النساء في قوله سبحانه : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) [النساء : ٤٧] وبالشد على قلوبهم ومعناه الاستيثاق والختم. وقالت المعتزلة : قوله (لِيُضِلُّوا) دعاء بلفظ الأمر للغائب ، دعا عليهم بثلاثة أمور : بالضلال

٦٠٦

وبالطمس وبالشد. كأنه لما علم بالتجربة وطول الصحبة أن إيمانهم كالمحال أو علم ذلك بالوحي اشتد غضبه عليهم فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره قائلا ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال وليطبع الله على قلوبهم كما يقول الأب المشفق لولده إذا لم يقبل نصحه واستمر على غيه. سلمنا أن قوله : (لِيُضِلُّوا) ليس دعاء عليهم لكن اللام فيه للعاقبة كقوله : «لدوا للموت». سلمنا أن اللام للتعليل لكنهم جعلوا الله سببا في الضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا. ولم لا يجوز أن يكون «لا» مقدرة أي لئلا يضلوا كقوله : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] أي أن لا تضلوا ، أو يكون حرف الاستفهام مقدرا في آتيت على سبيل التعجب. أما قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُوا) فإما أن يكون معطوفا على قوله : (لِيُضِلُّوا) على التفاسير كلها وما بينهما اعتراض ، وإما أن يكون جوابا لقوله (وَاشْدُدْ) ويجوز أن يكون دعاء بلفظ النهي معطوفا على (اشْدُدْ). (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) أضاف الدعوة إليهما لأن موسى كان يدعو وهارون يؤمن ، ويجوز أن يكونا جميعا يدعوان إلا أنه خص موسى بالذكر في الآية لأصالته في الرسالة ، والمعنى أن دعاءكما مستجاب وما طلبتما كائن ولكن في وقته (فَاسْتَقِيما) فاثبتا على ما أنتما عليه من التبليغ والإنذار زيادة في إلزام الحجة ، ولا تستعجلا فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا قليلا. قال ابن جريج : فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة يدعوهم إلى الله (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أن الاستعجال لا يفيد في اجابة الدعاء فقد يستجاب الدعاء ولكن يظهر الأثر بعد حين. (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) قد مرت تلك القصة في أوائل سورة البقرة في قوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة : ٥٠] الآية ، ومعنى قوله : (فَأَتْبَعَهُمْ) لحقهم. يقال : تبعه حتى أتبعه ، والبغي الإفراط في الظلم والعدو ومجاوزة الحد. وفي الآية سؤال وهو أن فرعون تاب ثلاث مرات إحداها قوله : (آمَنْتُ) وثانيتها (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) وثالثتها (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فلم تقبل توبته. والجواب من وجوه : الأول أنه إيمان اليائس وأنه لا يقبل لأن الإلجاء ينافي التكليف. الثاني أنها لم تكن مقرونة بالإخلاص وإنما كانت لدفع البلية الحاضرة والمحنة الناجزة. الثالث أن ذلك التوحيد كان مبنيا على محض التقليد والمخذول كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع ، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته إلا بنور الحجة القطعية. الرابع ما روي أن بعض بني إسرائيل لما جاوز البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلعله أراد الإيمان بذلك العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت ، وكانت هذه الكلمة سببا لزيادة الكفر. الخامس أن أكثر اليهود يميلون إلى التجسيم والتشبيه ولذلك عبدوا العجل فكأنه ما آمن إلا بالإله الموصوف

٦٠٧

بالجسمية والحلول والنزول. السادس لعل الإيمان إنما يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى وبنبوة موسى كما أنه لو قيل ألف مرة لا إله إلا الله لم يصح إيمان إلا إذا قرن به محمد رسول الله إلى الناس كافة. السابع يروى أن جبريل عليه‌السلام أتى فرعون بفتيا ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه يقول أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعمته أن يغرق في البحر ، ثم إن فرعون لما غرق دفع جبريل إليه خطه فعرفه. أما قوله (آلْآنَ) فالمشهور من الأخبار أنه قول جبريل. وقيل : إنه قول الله سبحانه والتقدير : أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين ألجمك الغرق وأدركك. وقوله : (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) في مقابلة قوله : (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يروى أن جبريل أخذ يملأ فاه بالطين حين قال : (آمَنْتُ) لئلا يتوب غضبا عليه ، والأقرب عند العلماء أن هذا الخبر غير صحيح لأنه إن قال ذلك حين بقاء التكليف لم يجز على جبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب أن يحثه عليها أو على كل طاعة لقوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا) [المائدة : ٢] ولو منعه لكانت التوبة ممكنة لأن الأخرس قد يتوب بأن يعزم بقلبه على ترك المعاودة إلى القبيح ، ولو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر. وكيف يليق به سبحانه أن يقول لموسى وهارون (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه : ٤٤] ثم يأمر جبريل بمنعه عن الإيمان. ولو قيل إن جبريل فعل ذلك من تلقاء نفسه كان منافيا لقوله : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم : ٦٤] (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) [الأنبياء : ٢٧] وإن كان قال ذلك بعد زوال التكليف فلم يكن لما فعل جبريل فائدة اللهم إلا أن يقال : إنه دس حال البحر في فيه في وقت لا ينفعه إيمانه غضبا لله على الكافر. قوله : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) فيه أقوال منها : أن معناه نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ولكن بعد أن تغرق. وقوله : (بِبَدَنِكَ) في موضع الحال أي في الحال التي لا روح فيك وإنما أنت بدن. قال كعب : رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور ، أو المراد ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير ، أو عريانا لست إلا بدنا وفيه نوع تهكم كأنه قيل : ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك كما يقال : نعتقك أو نخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت. وقيل : ننجيك ببدنك أي نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع. وقيل : ببدنك أي بدرعك. قال الليث : البدن الدرع القصير الكمين. عن ابن عباس قال : كان عليه درع من ذهب يعرف بها فأخرجه الله من الماء مع ذلك الدرع ليعرف ، فإن صحت هذه الرواية كانت معجزة لموسى عليه‌السلام. وأما قوله : (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ

٦٠٨

آيَةً) فقيل : إن قوما اعتقدوا في إلهيته وزعموا أن مثله لا يموت فأظهر الله تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى يشاهدوه ، وزالت الشبهة عن قلوبهم وكانت مطروحة على ممر من بني إسرائيل فلهذا قيل : (لِمَنْ خَلْفَكَ) وقيل : إنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والإهانة بعد ما سمعوا منه قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] ليكون ذلك زجرا للعابرين عن مثل طريقته ، ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة ثم آل أمره إلى ما آل ، فلا يجترأوا على نحو ما اجترأ عليه. وقيل : المراد ليكون طرحك بالساحل وحدك دون المغرقين آية من آيات الله للأمم الآتية ، ثم زجر هذه الأمة عن ترك النظر في الدلائل وحثهم على التأمل والاعتبار فقال (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ).

التأويل : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) الروح (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) وهم القلب والسمع والنفس وصفاتها (يا قَوْمِ إِنْ كانَ) عظم (عَلَيْكُمْ مَقامِي) في الأخلاق الحميدة الروحانية ودعائي إلى الله ببراهينه الواضحة (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) من حظ من حظوظ مشاربكم الدنيوية ما حظي إلا من مواهب الله وشهود جماله. (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) خلفاء الله في أرضه وباقي التأويل كما مر في «الأعراف». وهكذا في قصة موسى (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) لأن الفلاح هو الخلاص عن قيد الوجود المجازي. (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) أي الذكر (بِكَلِماتِهِ) وهي لا إله إلا الله (وَلَوْ كَرِهَ) أهل الهوى والنفوس الأمارة (فَما آمَنَ لِمُوسى) القلب إلا صفاته أو بعض صفات فرعون النفس بتبديل أخلاقها الذميمة بالأخلاق الحميدة القلبية (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ) النفس والهوى والدنيا وشهواتها أن يصرفهم إلى حالها الطبيعية التي جبلت عليها. (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى) القلب وهارون السر أن هيئا لصفاتكما بمصر عالم الروح مقامات ومنازل لا في عالم النفس السفلي. واجعلوا تلك المقامات متوجهة إلى طلب الحق. (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أديموا العروج من المقامات الروحانية إلى المواصلات الربانية (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) ليكون عاقبة أمرهم أن ينقطعوا أو يقطعوا بتلك الملاذ عن السير في طلبك (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) بمحقها وتحقيرها في نظرهم (وَاشْدُدْ) طريق النظر إلى الدنيا وما فيها (عَلى قُلُوبِهِمْ) واجعل همتهم عليه في طلبك والنظر إليك فقط (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) فإن النفس وصفاتها لا يؤمنون بالآخرة وطلب الحق حتى يذيقهم ألم الفطام عن الدنيا ومشتهياتها. (سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) طريق الوصول إلى الله ولا يعرفون قدره (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ) هم القلب والسر وصفاتها. والبحر بحر الروحانية الملكوتية (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ) النفس وصفاتها بعد الفطام عن شوائب عالم الملك

٦٠٩

قهرا وقسرا ، حتى إذا هبت رياح اللطف وتموجت بحار الفضل واستغرق موسى القلب وصفاته في لجي بحر الوصال ، وبلغت أفواج أمواجه إلى ساحل البشرية ، أدرك فرعون النفس الغرق فاستمسك بعروة ذلك الفريق قال : (آمَنْتُ) ومن أمارات أجنبية فرعون النفس من عالم الروح أنه لم يتمسك بحبل التوحيد والمعرفة بيد الصدق والاستقلال ، ولم يقل آمنت بالله الذي لا إله إلا هو وإنما تمسك بيد الاضطراب والتقليد فقال : (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) أي نخلصك مع قالبك من بحر الضلالة لتكون دليلا على كمال قدرتنا وعنايتنا. وإن من اتبع خواص عبادنا نجعله من أهل النجاة والدرجات بعد أن كان من أهل الهلاك والدركات والله حسبنا.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

٦١٠

القراآت : (بَوَّأْنا) مثل (أَنْشَأْنا) ونجعل بالنون : يحيى وحماد. الآخرون بالياء التحتانية. (ثُمَّ نُنَجِّي) من الإنجاء : نصر وروح ويزيد. (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) من الإنجاء أيضا : علي وسهل ويعقوب وحفص والمفضل. الآخرون بالتشديد فيهما.

الوقوف : (الطَّيِّباتِ) ج للابتداء بالنفي مع الفاء (الْعِلْمُ) ط (يَخْتَلِفُونَ) ٥ (مِنْ قَبْلِكَ) ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى (المُمْتَرِينَ) ه لا للعطف (الْخاسِرِينَ) ه (لا يُؤْمِنُونَ) ه لا لتعلق لو بما قبلها (الْأَلِيمَ) ه (يُونُسَ) ط (حِينٍ) ه (جَمِيعاً) ط (مُؤْمِنِينَ) ه (بِإِذْنِ اللهِ) ط أي وهو يجعل (لا يَعْقِلُونَ) ه (وَالْأَرْضِ) ط للفصل بين الاستخبار والإخبار. (لا يُؤْمِنُونَ) ه (مِنْ قَبْلِهِمْ) ط (مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) ه (كَذلِكَ) ج لاحتمال يراد ننجيهم كإنجاء الرسل أو يكون الوقف على (آمَنُوا) والتقدير ننجي المؤمنين إنجاء كذلك و (حَقًّا عَلَيْنا) اعتراض. (الْمُؤْمِنِينَ) ه (يَتَوَفَّاكُمْ) ج لاحتمال أن يراد وقد أمرت (الْمُؤْمِنِينَ) ه لا للعطف (حَنِيفاً) ج للعطف مع زيادة نون التأكيد المؤذن بالاستئناف (الْمُشْرِكِينَ) ه (وَلا يَضُرُّكَ) ج للابتداء بالشرط مع الفاء (الظَّالِمِينَ) ه (إِلَّا هُوَ) ج للعطف مع حق الفصل بين المتضادين (لِفَضْلِهِ) ط (مِنْ عِبادِهِ) ط (الرَّحِيمُ) ه (مِنْ رَبِّكُمْ) ج (لِنَفْسِهِ) ج (عَلَيْها) ج للعطف مع النفي (بِوَكِيلٍ) ه ط (يَحْكُمَ اللهُ) ج لاحتمال العطف والاستئناف (الْحاكِمِينَ) ه.

التفسير : لما ذكر ما وقع عليه الختم في واقعة فرعون وجنوده أراد أن يذكر ما وقع عليه الختم في واقعة بني إسرائيل فقال : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا) أي أسكناهم مسكن صدق أو إسكان صدق فيكون المبوأ اسم مكان أو مصدرا ، والعرب إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصدق ليعلم أن كل ما يظن به من الخير ويطلب منه فإنه يصدق ذلك الظن ويوجد فيه فيكون المعنى منزلا صالحا مرضيا. والمراد ببني إسرائيل إما اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه‌السلام فمبوّأ الصدق الشام ومصر وما يدانيها فإنها بلاد كثيرة الخصب غزيرة الأرزاق ومع ذلك فقد أورثهم الله جميع ما كان تحت تصرف فرعون وقومه من الناطق والصامت (فَمَا اخْتَلَفُوا) في دينهم وما تشعبوا فيه شعبا وكانوا على طريقة واحدة حتى قرأوا التوراة فقابلوها بضد المقصود منها وبدلوا الاتفاق بالاختلاف وأحدثوا المذاهب المتعددة ، وإما اليهود المعاصرون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى هذا ذهب جم غفير من المفسرين. عن ابن عباس : هم قريظة والنضير وبنو قينقاع ، أنزلناهم منزل الصدق ما بين المدينة والشام ورزقناهم من طيبات تلك البلاد رطبا وتمرا ليس في غيرها ، فبقوا على دينهم ولم يظهر فيهم الاختلاف حتى جاءهم سبب العلم وهو القرآن النازل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٦١١

فاختلفوا في نعته وصفته ، وآمن به قوم وبقي على الكفر آخرون. وبالجملة فالله تعالى يقضي بين المحقين منهم والمبطلين في يوم الجزاء لأن دار التكليف ليست دار القضاء. ولما بيّن كيفية اختلاف اليهود في شأن كتابهم أو في شأن رسوله حقق حقيقته وحقيقة ما أنزل عليه بقوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) والشك في اللغة ضم الشيء بعضه إلى بعض ومنه شك الجوهر في العقد ، وشككته بالرمح أي خرقته وانتظمته ، والشكيكة الفرقة من الناس ، والشكاك البيوت المصطفة. والشاك يضم إلى ما يتوهمه شيئا آخر خلافه ، والخطاب فيه للرسول في الظاهر والمراد أمته كقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ) [الطلاق : ١] والدليل عليه قوله بعيد ذلك (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) ولأنه لو كان شاكا في شأنه لكان غيره بالشك أولى. ويمكن أن يقال : الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقيقة ولكن ورد على سبيل الفرض والتمثيل كأنه قيل : فإن وقع لك شك مثلا والقضية الشرطية لا إشعار فيها البتة بوقوع الشرط ولا عدم وقوعه ، بل المراد استلزام الأول للثاني على تقدير وقوع الأول. وقد يكونان محالين كقول القائل : إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين. وفيه من الفوائد الإرشاد إلى طلب الدلائل لأجل مزيد اليقين وحصول الطمأنينة ، وفيه استمالة لأمته والحث لهم على السؤال عما كانوا منه في شك ، وفيه أن أهل الكتاب من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك بحيث يصلحون لمراجعه مثلك فضلا عن غيرك فيكون الغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى الرسول لا وصف الرسول بالشك ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند نزوله : لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق. وعن ابن عباس : لا والله ما شك طرفة عين ولا سأل أحدا منهم. وقيل : «إن» نافية أي فما كنت في شك يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ولكن لتزداد يقينا. وقيل : الخطاب لكل سامع يتأتى منه الشك. ومن المسئول منه قال المحققون : هم مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وعبد الله بن صوريا وتميم الداري وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم. ومنهم من قال : الكل سواء لأنهم إذا بلغوا حد التواتر وقرأوا آية من التوراة والإنجيل تدل على البشارة بمقدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد حصل الغرض ، لأن تلك الآية لما بقيت مع توفر دواعيهم على تحريف نعته كانت من أقوى الدلائل. والظاهر أن المقصود من السؤال معرفة حقيقة القرآن وصحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله : (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) وقيل : السؤال راجع إلى قوله : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ). ثم إنه سبحانه لما بين الطريق المزيل للشك شهد بحقيته فقال : (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ثم إن فرق المكلفين بعد المصدقين إما متوقفون في صدقه وإما مكذبون فنهى الفريقين مخاطبا في الظاهر لنبيه قائلا

٦١٢

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَ) الآية. والمراد فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية وانتفاء التكذيب ، وفيه من التهييج والبعث على اليقين والتصديق ما فيه. ثم لما زجر كل فريق عما زجر بين أن له عبادا قضى عليهم بالشقاء وعبادا ختم لهم بالحسنى فلا يتغيرون عن حالهم البتة. أما الأولون فأشار إليهم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ) الآية. وقد مر مثله في هذه السورة. وقالت المعتزلة : إن عدم إيمان هذا الفريق إلى حين وقوع اليأس وموتهم على الكفر مكتوب عند الله وثبت عليهم قوله في الأزل بما يجري عليهم ، لكنها كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد. وقالت الأشاعرة : كلمته حكمة وإرادته وخلقه فيهم الكفر ، وقد مر أمثال هذه الأبحاث مرارا كثيرة. وأما الآخرون فذلك قوله : (فَلَوْ لا كانَتْ) أي فهلا حصلت (قَرْيَةٌ) واحدة (آمَنَتْ) تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل معاينة العذاب (فَنَفَعَها إِيمانُها) لوقوعه في وقت الاختيار والتكليف دون أوان اليأس والاضطرار (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) هو استثناء منقطع أي ولكن قوم يونس لأن أول الكلام جرى على القرية وإن كان المراد أهلها. وقيل : إن «لولا» في هذا المقام بمعنى النفي كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس. يروى أن يونس صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضبا كما سيجيء في سورة الأنبياء ، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة. وقيل : قال لهم يونس إن أجلكم أربعون ليلة فقالوا : إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك ، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد سطوحهم ، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرّقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها ، فحنّ بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة. وعن ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى إن الرجل منهم كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيرده. وقيل : خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم : قولوا يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت ، فقالوها فكشف عنهم ومتعوا بالإيمان والأعمال الصالحة وبالخيرات الدنيوية إلى حين انقضاء آجالهم. وعن الفضيل بن عياض قالوا : اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل ، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله. ثم بيّن أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره فقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) قالت الأشاعرة : هذه القضية تفيد الشمول والإحاطة

٦١٣

لكنه ما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل. وأول المعتزلة المشيئة بمشيئة الإلجاء والقسر. وأجيب بأن الكلام في الإيمان الذي كان يطلبه النبي منهم وهو الإيمان المنوط به التكليف لا الإيمان القسري الذي لا ينتفع به المكلف ، فلو حمل الإيمان المذكور في الآية وكذا المشيئة على إيمان الإلجاء ومشيئة القسر لم ينتظم الكلام. ثم ذكر أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى فقال : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ) فأولى الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه ، وإنما الكلام في المكره من هو وما هو إلا الله وحده. فحمل المعتزلة هذا الإكراه على الإلجاء ومعناه أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان. وحمل الأشاعرة الإكراه على خلق الإيمان ومعناه أنه قادر على خلق الإيمان والكفر فيهم لا أنت بدليل قوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) أي الكفر والفسق (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) وفسر المعتزلة الإذن بمنح الألطاف والرجس بالخذلان ، لأن الرجس هو العذاب والخذلان سببه ، وخصصوا النفس بالنفس المعلوم إيمانها والذين لا يعقلون يعني المصرين على الكفر. واستدلت الأشاعرة بقوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ) على أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع لأن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحجر. وإذا كان أصل الشرع ـ وهو الإيمان بإذن الله ـ فما ترتب عليه أولى. أجابت المعتزلة بأن المراد بالإذن التوفيق والتسهيل والألطاف. ولما بين أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض فقال : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي شيء فيهما من الآيات والعبر. ثم ذكر أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حق من حكم الله عليه في الأزل بالشقاء فقال : (وَما تُغْنِي) يحتمل أن تكون «ما» نافية أي لا تفيد هذه (الْآياتُ وَالنُّذُرُ) وهي جمع نذير صفة أو مصدر في حق المحكوم عليهم بعدم الإيمان. وأن تكون استفهامية للإنكار بمعنى أي شيء يغني عنهم؟ ثم قال : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ) والمراد أن الأنبياء المتقدمين كانوا يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب أو بوقائع الله فيهم وهم يكذبونهم ويسخرون منهم ، وكذلك كان يفعل الكفار المعاصرون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال سبحانه (قُلْ فَانْتَظِرُوا) وفيه تهديد ووعيد بأنه سينزل بهؤلاء مثل ما أنزل بأولئك من الإهلاك بعد إنجاء الرسول وأتباعه كما حكى تلك الأحوال الماضية بقوله : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا) الآية. قالت المعتزلة : (حَقًّا عَلَيْنا) المراد به الوجوب والاستحقاق إذ لا يحسن تعذيب الرسول والمؤمنين. وقالت الأشاعرة : إنه حق بحسب الوعد والحكم فإن

٦١٤

العبد لا يستحق على خالقه شيئا. ثم أمر رسوله بإظهار التباين الصريح بين طريقته وطريقة المشركين فقال : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) والمعنى يا أهل مكة إن كنتم لا تعرفون ديني فاعلموا أني مبرأ عن أديانكم الباطلة (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) وتخصيص هذا الوصف لأنه يدل على الخلق أوّلا وعلى الإعادة ثانيا كما مر مرارا ، أو لأن الموت أشد الأحوال مهابة في القلوب فكان أقوى في الزجر والردع ، أو لأنه قد تقدم ذكر الإهلاك والوقائع النازلة بالأمم الخالية فكأنه قال : أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم وإنجائي. وفي الآية إشارة إلى أنه لن يوافقهم في دينهم كيلا يشكوا في أمره ويقطعوا أطماعهم عنه. ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله بين أنه مأمور بالإيمان والمعرفة فقال : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) أي بأن أكون (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ثم عطف عليه قوله : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) ولا تدع نظرا إلى المعنى كأنه قيل له : كن مؤمنا ثم أقم ولا تدع ، أو المراد وأمرت بكذا وأوحي إلي أن أقم. قال في الكشاف : قد سوغ سيبويه أن يوصل «أن» بالأمر والنهي وشبه ذلك بقولهم : أنت الذي تفعل على الخطاب لأن الغرض وصلها بما يكون معه في معنى المصدر ، والأمر والنهي دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال. ومعنى (أَقِمْ وَجْهَكَ) استقم إليه ولا تلتفت يمينا ولا شمالا. و (حَنِيفاً) حال من (لِلدِّينِ) أو من الوجه. قال المحققون : الوجه هاهنا وجه العقل أو المراد توجه الكلية إلى طلب الدين كمن يريد أن ينظر إلى شيء نظرا تاما فإنه يقيم وجهه في مقابلته لا يصرفه عنه. ثم أكد الأمر بالنهي عن ضده فقال : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ) أي فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ، وكنى عنه بالفعل للاختصار. و «إذا» جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان وجعل من الظالمين لأن إضافة التصرف بالاستقلال إلى ما سوى مدبر الكل وضع للشيء في غير موضعه. ثم صرح بأنه مبدأ الكائنات ومنتهى الحاجات لا غيره فقال : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ) الآية. وقد مر تفسير مثلها في أول سورة الأنعام. قال الواحدي : (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) من القلب وأصله وإن يرد بك الخير ، ولكنه لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز إبدال كل واحد منهما بالآخر. وأقول في تخصيص الإرادة بجانب الخير والمس بجانب الشر دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات والشر بالعرض. ثم ختم السورة بما يستدل به على قضائه وقدره في الهداية والضلال فقال : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) الآية. وفسرها الأشاعرة بأن من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع له ذلك ، وإن من حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في دفعه كما مر في سورة الأنعام (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ) [الأنعام : ١٠٤] الآية. وقالت المعتزلة : المراد أنه بين الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة ، فمن اختار

٦١٥

الهدى فما نفع باختياره إلا نفسه ، ومن آثر الضلال فلا يعود وباله إلا على نفسه. يروى عن ابن عباس أن الآية منسوخة بآية القتال ولا يخفى ضعفه. ثم أمره باتباع الوحي والتنزيل فإن وصل إليه بسبب الاتباع مكروه فليصبر عليه إلى أن يحكم الله وهو خير الحاكمين. ولبعضهم في الصبر :

سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري

وأصبر حتى يحكم الله في أمري

سأصبر حتى يعلم الصبر أنني

صبرت على شيء أمر من الصبر

التأويل : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) يعني متولدات الروح العلوي من القلب والسر دون النفس لأنها من البنات لا من البنين (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) منزلا عليا في العالم النوراني (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من الفيض الرباني الفائض على الروح لأن الروح مستو على عرش القلب ، فكل ما فاض من صفة الروحانية على الروح يفيض الروح على القلب والسر ، فما اختلف القلب والسر حتى جاءهم دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فمن قبلها صار مقبولا ، ومن ردها كان مردودا. وبوجه آخر (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) بين الإصبعين من أصابع الرحمن (فَمَا اخْتَلَفُوا) حتى أدركهم علم الله الأزلي بالسعادة والشقاء (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) خلق الإنسان ضعيفا ، فإذا انفتح عليه أبواب الكرامات وهبت رياح السعادات فربما ظن أنه مما يخادع به الأطفال فلا يدري هل هو من كرامة الاجتباء أو من وخامة الابتلاء ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خصوصية (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الكهف : ١١٠] يرتع في هذه الرياض وباختصاص (يُوحى إِلَيَ) [الكهف : ١١٠] يسقى كاسات المناولات من تلك الحياض ، فشك عند سكره أنها من شهود التلوين أو من كشوف التمكين ، فأدركته العناية الأزلية فأكرم بخطاب (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَ) بل كان هذا النهي نهي التكوين فما كان ممتريا ولهذا قال : والله لا أشك ولا أسأل. (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا) من أنه كل ميسر لما خلق له (قُلْ فَانْتَظِرُوا) ظهور ما قدر لكم (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) بالفناء عن النفس وصفاتها حنيفا طاهرا عن لوث الالتفات إلى ما سواه والله أعلم.

تم الجزء الحادي عشر ، وبه يتم المجلد الثالث من تفسير غرائب القرآن ورغائب

الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري ، ويليه المجلد الرابع وأوله تفسير سورة هود

٦١٦

الفهرس فهرس المجلد الثالث

من

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان

٦١٧
٦١٨

تتمة تفسير سورة المائدة

الآيات : ٨٢ ـ ٨٦............................................................ ٣

الآيات : ٨٧ ـ ١٠٠.......................................................... ٦

الآيات : ١٠١ ـ ١٢٠....................................................... ٢٦

تفسير سورة الأنعام

الآيات : ١ ـ ١١............................................................ ٤٥

الآيات : ١٢ ـ ٢٤.......................................................... ٥٤

الآيات : ٢٥ ـ ٣٧.......................................................... ٦٣

الآيات : ٣٨ ـ ٥٠.......................................................... ٧٤

الآيات : ٥١ ـ ٦٠.......................................................... ٨٤

الآيات : ٦١ ـ ٧٣.......................................................... ٩٤

الآيات : ٧٤ ـ ٨٣........................................................ ١٠٢

الآيات : ٨٤ ـ ٩٠........................................................ ١١١

الآيات : ٩١ ـ ١٠٠....................................................... ١١٦

الآيات : ١٠١ ـ ١١٠..................................................... ١٣٤

الآيات : ١١١ ـ ١٢١..................................................... ١٤٦

الآيات : ١٢٢ ـ ١٣٠..................................................... ١٥٦

الآيات : ١٣١ ـ ١٤٠..................................................... ١٦٨

الآيات : ١٤١ ـ ١٥٠..................................................... ١٧٥

الآيات : ١٥١ ـ ١٦٥..................................................... ١٨٦

تفسير سورة الأعراف

الآيات : ١ ـ ١٠.......................................................... ١٩٧

الآيات : ١١ ـ ٢٥........................................................ ٢٠٥

الآيات : ٢٦ ـ ٣٤........................................................ ٢٢٠

الآيات : ٣٥ ـ ٤٣........................................................ ٢٣٠

٦١٩

الآيات : ٤٤ ـ ٥٣........................................................ ٢٣٧

الآيات : ٥٤ ـ ٥٨........................................................ ٢٤٥

الآيات : ٥٩ ـ ٧٢........................................................ ٢٦٥

الآيات : ٧٣ ـ ٨٤........................................................ ٢٧٣

الآيات : ٨٥ ـ ٩٣........................................................ ٢٨٣

الآيات : ٩٤ ـ ١٠٢....................................................... ٢٩٠

الآيات : ١٠٣ ـ ١٢٦..................................................... ٢٩٤

الآيات : ١٢٧ ـ ١٤١..................................................... ٣٠٤

الآيات : ١٤٢ ـ ١٥٤..................................................... ٣١٢

الآيات : ١٥٥ ـ ١٥٩..................................................... ٣٢٥

الآيات : ١٦٠ ـ ١٧١..................................................... ٣٣٥

الآيات : ١٧٢ ـ ١٨٣..................................................... ٣٤٢

الآيات : ١٨٤ ـ ١٩٨..................................................... ٣٥٤

الآيات : ١٩٩ ـ ٢٠٦..................................................... ٣٦٤

تفسير سورة الأنفال

الآيات : ١ ـ ١٠.......................................................... ٣٧١

الآيات : ١١ ـ ١٩........................................................ ٣٨٠

الآيات : ٢٠ ـ ٣٠........................................................ ٣٨٦

الآيات : ٣١ ـ ٤٠........................................................ ٣٩٤

الآيات : ٤١ ـ ٤٩........................................................ ٤٠٠

الآيات : ٥٠ ـ ٦٦........................................................ ٤٠٨

الآيات : ٦٧ ـ ٧٥........................................................ ٤١٨

تفسير سورة التوبة

الآيات : ١ ـ ١٦.......................................................... ٤٢٦

الآيات : ١٧ ـ ٢٨........................................................ ٤٤١

الآيات : ٢٩ ـ ٣٧........................................................ ٤٥١

الآيات : ٣٨ ـ ٤٩........................................................ ٤٦٨

الآيات : ٥٠ ـ ٥٩........................................................ ٤٨١

الآيات : ٦٠ ـ ٦٩........................................................ ٤٨٨

الآيات : ٧٠ ـ ٧٩........................................................ ٥٠١

٦٢٠