تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

حبسوا أنفسهم وصبروا وثبتوا وندموا. وقيل : ما كان إلا حديث نفس بلا عزيمة ومع ذلك خافوا أن يكون معصية. الرابع : ذكر التوبة في أول الآية فلم كررها في قوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ)؟ الجواب إن عاد الضمير في (عَلَيْهِمْ) الى الفريق فلا تكرار ، وإن عاد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرين والأنصار جميعا فالتكرير للتوكيد مع رعاية دقيقة هي أن التوبة اكتنفت الذنب من جانبيه ، وذلك أنه بدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب تطييبا لقلوبهم ثم ذكر الذنب ، ثم أردفه بذكر التوبة ليدل على أن العفو عفو متأكد كما يقول السلطان عند كمال الرضا : عفوت عنك ثم عفوت عنك. وإليه الإشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يغفر ذنب الرجل المسلم عشرين مرة». وقال ابن عباس في تفسير قوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) يريد ازداد عنهم رضا. ثم أكد هذه المعاني بقوله (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فيشبه أن يراد بالرأفة إزالة الضرر ، وبالرحمة إيصال المنفعة. أو الأوّل رحمة سابقة ، والثاني لاحقة. الخامس : الثلاثة الذين خلفوا من هم؟ الجواب هم المرجون لأمر الله كما مرّ ، سمّوا مخلفين كما سموا مرجئين أي مؤخرين عن أبي لبابة وأصحابه حيث تيب عليهم بعد أولئك. وقيل : لأنهم خلفوا عن الغزو ومثله قراءة من قرأ بالتخفيف أي خلفوا الغازين. وقيل : المخلف من خلوف الفم أي فسدوا ، وقرأ جعفر الصادق عليه‌السلام : خالفوا. (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ) مع سعتها وهو مثل للحيرة في الأمر ، (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور (وَظَنُّوا) أي علموا وتيقنوا (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ) سخط (اللهِ إِلَّا) إلى استغفاره كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بك منك». وقيل : الظن بمعناه الأصلي وهو الرجحان وذلك أنهم ما كانوا قاطعين بأن ينزل الله في شأنهم قرآنا ، وإن سلم أنهم قطعوا بذلك إلا أنهم جوزوا أن تكون المدة قصيرة وجواب «إذا» محذوف والتقدير حتى إذا كان كذا وكذا تاب عليهم ، وحسن حذفه لتقدم ذكره. عن كعب بن مالك قال : لما قفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلمت عليه فرد عليّ كالمغضب بعد ما كان ذكرني في الطريق وقال : ليت شعري ما خلف كعبا فقيل له : ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه. فقال : معاذ الله ما أعلم إلا فضلا وإسلاما ونهى عن كلامنا ـ أيها الثلاثة ـ فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد ، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن ، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع ـ وهو جبل بالمدينة ـ أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجدا وكنت كما وصفني ربي (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) [التوبة : ٢٥] وتتابعت البشارة فلبست ثوبي وانطلقت الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقال إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول إلي حتى صافحني وقال : لتهنك توبة

٥٤١

الله عليك فلن أنساها لطلحة. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يستنير استنارة القمر : أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ثم تلا علينا الآية. سئل أبو بكر الورّاق عن التوبة النصوح فقال : أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه. السادس : قد عرفنا فائدة قوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) فما فائدة قوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا)؟ الجواب معناه رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم ، أو تاب عليهم في الماضي ليتوبوا في المستقبل إذا فرطت منهم خطيئة علما منهم بأن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة ، أو تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين ، أو تاب عليهم لينتفعوا بالتوبة وثوابها لأن الانتفاع بها لا يحصل إلا بعد توبة الله عليهم. وقالت الأشاعرة : المقصود بيان أن فعل العبد مخلوق لله تعالى حتى إنه لو لم يتب عليهم لم يتوبوا. وأيضا قالوا : في الآية دلالة على أن قبول التوبة غير واجب عقلا لأن توبة هؤلاء قد حصلت من أوّل الأمر ، ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يلتفت إليهم وتركهم خمسين يوما. ويمكن أن يجاب بأن شرائط التوبة من الإخلاص والنصح وغير ذلك لعلها لم تكن حاصلة من أوّل الأمر فلهذا تأخر القبول دليله قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ) الآية.

ثم حث سبحانه المؤمنين على ملازمة سيرة التقوى والانضمام في زمرة أهل الصدق لا النفاق فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. قال بعض العلماء : ظاهر الأمر للوجوب فوجب على المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين لا بمعنى أن يكونوا على طريقهم وسيرتهم ، لأن ذلك عدول عن الظاهر بل بمعنى المصاحبة. والكون مع الشيء مشروط بوجود ذلك الشيء فلا بد من وجود الصادقين. ثم إنه ثبت بالتواتر من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن التكاليف المذكورة في القرآن متوجهة على المكلفين إلى يوم القيامة فلا يكون هذا الأمر مختصا بالكون مع الرسول وأصحابه في الغزوات بل أعم من ذلك. ثم إن الصادق لا يجوز أن يكون منحصرا في الإمام المعصوم الذي يمتنع خلو زمان التكليف عنه كما يقوله الشيعة ، لأن كون كل واحد من المؤمنين مع ذلك الصادق بعد تسليم وجوده تكليف بما لا يطاق ، فالمراد بالصادقين أهل الحل والعقد في كل حين ، والمراد أنهم إذا أجمعوا على شيء كانوا صادقين فيه محقين ويجب على الباقين أن يكونوا معهم ظاهرا وباطنا. وقال أكثر المفسرين : الصادقون هم الذين صدقوا في دين الله وفيما عاهدوا عليه من الطاعة نية وقولا وعملا. وقيل : أي كونوا مع الثلاثة المذكورين في الصدق والثبات. وعن ابن عباس : الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب أي وافقوا المهاجرين والأنصار في الصدق ، وقيل :

٥٤٢

الخطاب للذين شدوا أنفسهم على السواري. وفي الآية دلالة على فضيلة الصدق وكمال درجته. ومن خصائص الصدق ما روي أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إني أريد أن أؤمن بك إلا أني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء كلها ولا طاقة لي بتركها بأسرها ، فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك ، فقبل ذلك وشرط له الصدق ثم أسلم. فلما خرج من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرضوا عليه الخمر فقال : إن شربت وسألني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد ، وإن صدقت أقام الحد علي فتركها ، ثم عرض عليه الزنا فجاءه ذلك الخاطر فتركه ، وكذا في السرقة فعاد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : ما أحسن ما فعلت ، لما منعتني عن الكذب انسد أبواب المعاصي علي وتبت عن الكل. ومن فضائل الصدق أن الإيمان منه لا من سائر الطاعات ، ومن معايب الكذب أن الكفر منه لا من سائر الذنوب ، ومن مثالب الكذب أن إبليس مع تمرّده وكفره استنكف منه حتى استثنى في قوله (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص : ٨٢]. ثم المقتضي لقبح الكذب هو كونه كذبا عند المعتزلة وكونه مفضيا إلى المفاسد عند الأشاعرة والله أعلم.

التأويل : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى) في التقدير الأزلي ولهذا تيسر لهم الآن بذل النفس والمال في الجهاد الأصغر وفي الجهاد الأكبر ، وإنه كما (اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) اشترى من أوليائه الصديقين قلوبهم وأرواحهم بأن لهم الجنة. (التَّائِبُونَ) عما سوى الله (الْعابِدُونَ) المتوجهون إليه على قدم العبودية (الْحامِدُونَ) له على ما وفقهم لنعمة طلبه (السَّائِحُونَ) السائرون إليه بقدمي الصبر والشكر أو التبري والتولي (الرَّاكِعُونَ) أي الراجعون عن مقام القيام بوجودهم إلى القيام بموجدهم (السَّاجِدُونَ) الساقطون على عتبة الوحدة بلاهم (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) الحقيقي (النَّاهُونَ) عما سواه (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) لئلا يتجاوزوا عن طلبه إلى طلب غيره. (ما كانَ لِلنَّبِيِ) فيه أن الاجتهاد ليس سببا لنيل المراد ، وأن الهداية من مواهب الربوبية لا من مراتب العبودية (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) الأواه هو المتبرئ من المخلوقات لكثرة نيل المواجيد والكرامات فيكون لضيق البشرية تولاه مولاه ، فمهما ورد له وأراد الحق ضاق عليه نطاق الخلق فيتأوه عند تنفس القلب المضطر من الخلق إلى الحق. (حَلِيمٌ) عما أصابه من الخلق للحق فلا رجوع له من الحق إلى الخلق بحال من الأحوال ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبرائيل حين سأله ألك حاجة : أما إليك فلا (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) ليردّهم بالمكر إلى الاثنينية والبعد (بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) إلى الوحدانية والفردانية بالتوحيد والتفريد (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) من آفات

٥٤٣

البشرية وعاهات الدنيا فهي رأس كل خطيئة ، فإن لم يتحرزوا عنها وقعوا بالاستدراج إلى حيث خرجوا عنها نعوذ بالله من الحور بعد الكور أو نقول : إن الله تعالى بعد إذ هداهم بالإفناء عن الوجود إلى البقاء بالجود لا يردهم إلى بقاء البقاء وهو الإثبات بعد المحو والصحو بعد السكر وقد سماه المشايخ الإثبات التأني حتى يبين لهم ما يتقون من الأعمال والأقوال رعاية لتلك الأحوال. (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ) سموات القلوب (وَالْأَرْضِ) أرض النفوس (يُحْيِي) بنور ربوبيته من يشاء (وَيُمِيتُ) عن صفات بشريته من يشاء (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) فلا يشغلنكم طلب الملك عن المالك فإن طالب الملك لا يجد الملك ولا المالك وطالب المالك يجد الملك والمالك جميعا (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) التوبة فضل من الله ورحمة ، فقدم ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المهاجرين ليكون وصول فضله إليهم بعد العبور على النبي تحقيقا لقوله (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ) عسرة الدنيا وترك شهواتها. أو نقول (لَقَدْ تابَ اللهُ) أي أفاض أنوار عرفانه على نبي الروح ومهاجري صفاته الذين هاجروا معه من مكة ـ عالم الروح ـ إلى مدينة الجسد (وَالْأَنْصارِ) من القلب والنفس وصفاتهما (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ) رجوعه إلى عالم العلو بالعسرة لأنهم من عالم السفل. (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) من النفس والهوى والطبع وما تبعوا الروح عند رجوعه إلى عالمه ابتلاء (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ) أرض البشرية شوقا إلى تلك الحضرة (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) تحننا إلى نيل تلك السعادات وتحقق لهم بنور اليقين أن لو بقوا في السفل لا ملجأ لهم من عذاب البعد عن الله إلا الفرار إليه (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) بجذبة العناية ، ولو وكلهم إلى طبيعتهم ما سلكوا طريق الحق أبدا مع الصادقين الذين صدقوا يوم الميثاق والله أعلم.

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ

٥٤٤

هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

القراآت : (مَوْطِئاً) ونحوه بالياء : يزيد والشموني وحمزة في الوقف غلظة بفتح الغين : المفضل. الباقون بكسرها. أولا ترون بتاء الخطاب للمؤمنين : حمزة ويعقوب. الباقون على الغيبة.

الوقوف : (عَنْ نَفْسِهِ) ط (صالِحٌ) ط (الْمُحْسِنِينَ) ه لا للعطف (يَعْمَلُونَ) ه (كَافَّةً) ط (يَحْذَرُونَ) ه (غِلْظَةً) ط (الْمُتَّقِينَ) ه (إِيماناً) ط (يَسْتَبْشِرُونَ) ه (كافِرُونَ) ه (يَذَّكَّرُونَ) ه (إِلى بَعْضٍ) ط لحق المحذوف أي يقولون هل يراكم (ثُمَّ انْصَرَفُوا) ط (لا يَفْقَهُونَ) ه (عَزِيزٌ) ط ، على تأويل عليه شفاعة ما عنتم والصحيح الوصل لأن المعنى شديد عليه ما أثمتم ولا وقف في الآية إلى قوله رحيم (حَسْبِيَ اللهُ) ط والأصح الوصل على جعل الجملة حالا أي يكفي الله غير مشارك في الألوهية (إِلَّا هُوَ) ط (الْعَظِيمِ) ه.

التفسير : لما أمر بموافقة النبي وأصحابه في جميع الغزوات والمشاهد بقوله (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [الآية : ١١٩] أكد ذلك المعنى بالنهي عن التخلف عنه فقال : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) أي لا يستقيم ولا يجوز لهم. والأعراب الذين كانوا حول المدينة قد ذكرنا ـ عن ابن عباس ـ أنهم مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار ، وكأنه أراد المعروفين منهم وإلا فاللفظ عام. ومعنى (وَلا يَرْغَبُوا) ولا أن يرغبوا. يقال : غبت بنفسي عن هذا الأمر أي أبخل بها عليه ولا أتركها له ، والمراد أنه لا يصح لهم أن يرغبوا عن صحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب صلاح أنفسهم وبقائها بل عليهم أن يصحبوه على البأساء والضراء ويرضوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول لنفسه لأن نفسه أعز نفس عند الله ، فإذا تعرضت مع كرامتها للخوض في شدة وجب على سائر الأنفس أن لا يضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه. وفي هذا النهي مع التهييج توبيخ عظيم ، ولا يخفى أن الجهاد لا يجب على كل فرد

٥٤٥

بعينه للإجماع وأن أصحاب الأعذار من الضعفاء والمرضى ونحوهم مخصوصون بالعقل وبالنقل فيبقى ما وراء هاتين الصورتين داخلا تحت عموم الآية. ثم ذكر ترغيبا يجري مجرى علة المنع من التخلف فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) أي الوجوب الدال عليه بقوله : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) بسبب أنهم مثابون على أنواع المتاعب وأصناف الشدائد بل على جميع الحركات والسكنات مدة الذهاب والإياب. والظمأ شدة العطش ، والنصب الإعياء والتعب ، والمخمصة المجاعة الشديدة التي تظهر ضمور البطن ، والموطئ إما مصدر كالمورد أو مكان وعلى التقديرين الضمير في (يَغِيظُ) عائد إلى الوطء الصريح أو المقدر. ثم الوطء يجوز أن يكون حقيقة فيراد به الدوس بالأقدام وبحوافر الخيول وبأخفاف الإبل ، ويجوز أن يكون مجازا فيراد به الإيقاع والإهلاك. قال ابن الأعرابي : غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى. ويقال نال منه إذا رزأه ونقصه وهو عام في كل ما يسوءهم ويلحق بهم ضررا من قتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة ، والمراد أنهم لا يتصرفون في أرض الكفار تصرفا يغيظهم ويرزؤهم شيئا إلا كتب لهم به عمل صالح. وفيه دليل على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله ، وكذا القول في طرف المعصية ولكن بالضد فما أعظم بركة الطاعة وما أشد شؤم المعصية. وبهذه الآية استشهد أصحاب أبي حنيفة أن المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك الجيش في الغنيمة لأن وطء ديارهم مما يغيظهم وينكي فيهم. وقال الشافعي : لا يشاركون الغانمين في الغنيمة وإن شاركوهم في الثواب لأن الغنيمة من خواص المحاربين ومن قد تعاطى خطرا. قال قتادة : هذا الحكم من خواص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر. وقال ابن زيد : هذا حين كان في المسلمين قلة فلما كثروا نسخه الله بقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً). وقال عطية : ما كان لهم التخلف إذا دعاهم الرسول وأمرهم. قال العلماء : وكذلك غيره من الأئمة والولاة إذا عينوا طائفة لأنا لو جوزنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض فيؤدي الى تعطيل الجهاد. قوله : (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً). قال المفسرون : يريد تمرة فما فوقها وعلاقة سيف أو سوط وما أربى عليها مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) أي أرضا في ذهابهم ومجيئهم وهذا شائع في استعمال العرب يقولون : لا تصل في وادي غيرك. وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال. والوادي كل منعطف بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل. (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) ذلك الإنفاق والقطع أو ذلك العمل الصالح المعهود في الآية المتقدمة. ثم ذكر غاية الكتب فقال : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) أي أثبت في صحائفهم

٥٤٦

لأجل الجزاء جزاء أحسن من أعمالهم وأجل. وقيل : الأحسن من صفة الفعل أي يجزيهم على الأحسن وهو الواجب والمندوب دون المباح. واعلم أنه سبحانه عدد أشياء بعضها ليس من أعمال المجاهدين وهو الظمأ والنصب والمخمصة ، وباقيها من أعمالهم وهي الوطء والنيل والإنفاق وقطع الأرض ، وقسم هذا الباقي قسمين فضم شطرا منه إلى ما ليس من أعمالهم تنبيها على أنه في الثواب جار مجرى عملهم ولهذا صرح بذلك فقال : (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) أي جزاء عمل صالح وأكد ذلك بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). ثم أورد الشطر الباقي لغرض آخر وهو الوعد بأحسن الجزاء ، واقتصر هاهنا على قوله (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) لأن هذا القسم من عملهم فلم يحتج إلى تصريح بذلك ، أو اكتفاء بما تقدم ، أو لأن الضمير عائد إلى المصدر الدال عليه الفعل والله تعالى أعلم بمراده. ثم قال : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ) وفيه قولان : أحدهما أنه من بقية أحكام الجهاد لأنه سبحانه لما بالغ في عيوب المنافقين كان المسلمون إذا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرية إلى الكفار ينفرون جميعا ويتركونه بالمدينة وحده فنزلت الآية. قاله ابن عباس. والمعنى أنه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بأسرهم إلى الجهاد بل يجب أن يصيروا طائفتين إحداهما لملازمة خدمة الرسول والأخرى للنفر إلى الغزو. ثم هاهنا احتمالان لأنه قال محرضا (فَلَوْ لا نَفَرَ) أي هلا نفر (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) فذهب الأكثر إلى أن الضمير في (لِيَتَفَقَّهُوا) عائد إلى الفرقة الباقية في حضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم إذا بقوا في خدمته شاهدوا الوحي والتنزيل وضبطوا ما حدث من الشرائع ، وعلى هذا فلا بد من إضمار والتقدير : فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة وأقام طائفة ليتفقه المقيمون في الدين (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) النافرين (إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) معاصي الله عند ذلك وبهذا الطريق يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين وإلا ضاع أحد الشقين ، والاحتمال الآخر ما روي عن الحسن أن الضمير يعود إلى الطائفة النافرة. وتفقههم هو أنهم يشاهدون ظهور المسلمين على المشركين وأن العدد القليل منهم من غير زاد ولا سلاح كيف يغلبون الجم الغفير من الكفار فينتبهون لدقائق صنع الله في إعلاء كلمته. فإذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بما شاهدوا من دلائل الحق فيحذروا أي يتركوا الكفر والشرك والنفاق. القول الثاني أنه ليس من بقية أحكام الجهاد وإنما هو حكم مستقل بنفسه ، ووجه النظم أن الجهاد أمر يتعلق بالسفر وكذلك التفقه ، أما في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجوبه ظاهر لمن ليس بحضرته حتى يصل إليه ويستفيد من خدمته لأن الشريعة ما كانت مستقرة بل كانت تتجدد كل يوم شيئا فشيئا ، وأما في زماننا فلا ريب أنه متى عجز عن التفقه إلا بالسفر وجب

٥٤٧

عليه ، وإن أمكنه في الحضر فلا شك أن للسفر بركة أخرى يعرفها كل من زاول الأسفار وحاول الأخطار. ومعنى (لِيَتَفَقَّهُوا) ليتكلفوا الفقاهة في الدين ويتجشموا المتاعب في دلائلها التفصيلية. والظاهر أن المراد في الآية أعم من ذلك بحيث يشمل علوم الشرع كلها من التفسير والحديث وأصول الدين وأصول الفقه ومقدمات كل من ذلك وغاياتها بحسب الإمكان النوعي أو الشخصي. وفي قوله : (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) إشارة إلى أن الغرض الأصلي من التعلم هو الإنذار والإرشاد لا ما يقصده علماء السوء من الأغراض الفاسدة كالمطاعم والملابس والمناصب والمفاخر ، أعاذنا الله تعالى بفضله من قبح النية وفساد الطوية ، وجعلنا ممن لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا. القائلون بأن خبر الواحد حجة قالوا : أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة ، والخارج من الثلاثة اثنين أو واحدا. ثم إنه أوجب العمل بأخبارهم بقوله : (وَلِيُنْذِرُوا) وأجيب بأن إيجاب الإنذار لا يدل على وجوب العمل لأن الشاهد الواحد يلزمه أداء الشهادة وإن لم يلزم القبول ورد بأن قوله : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) إيجاب للعمل بأخبارهم. ثم أرشد سبحانه إلى ترتيب القتال فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ) أي يقربون منكم مبتدأ من الأقرب ومنتقلا إلى الأبعد. والقتال واجب مع كافة الكفر بآية القتال ، ولكن هذه الآية أخص لأن الغرض منها الترتيب ما لم يدع إلى قتال الأبعد قبل دفع الأقرب ضرورة فلا تكون هذه منسوخة بآية القتال على ما نقل عن الحسن ، وإنما وجب الابتداء بالغزو من المواضع القريبة لأن قتال الكل دفعة متعذر وللأقرب ترجيح ظاهر كما في الدعوة وكما في سائر المهمات مثلا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يبتدأ بالجمع الحاضرين ثم ينتقل الى الغائبين. وأيضا المئونة في قتال الأقربين من النفقة والدواب تكون أقل والقتال معهم يكون أسهل للوقوف على أحوالهم وعدد عسكرهم ، والفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فقد عرضوا الذراري للفتنة. وقد حارب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه ثم غيرهم من عرب الحجاز ثم غزا الشام. ويروى أن أعرابيا جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كل مما يليك. فثبت بهذه الوجوه أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب ما لم يضطر الى العدول ضرورة. وقوله (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أي شدة نظير قوله : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التحريم : ٩] ومن قرأ بفتح الغين فهو المصدر أيضا كالسخطة وهي لفظة جامعة للجراءة والصبر على القتال ولشدة العداوة والعنف في القتل والأسر ، كل ذلك فيما يتصل بالدعوة إلى الدين إما بإقامة الحجة وإما بالسيف ، أما فيما يتصل بالبيع

٥٤٨

والشراء والمجالسة فلا وليكن تقوى الله سبحانه على ذكر منه في موارده ومصادره ، ولهذا ختم الآية بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فإن قلته قتله لله وان تركه على الجزية تركه لله وإن كسر عدوه وآل الأمر إلى أخذ الغنيمة راعى فيه حدود الله. ثم حكى بقية فضائح أعمال المنافقين فقال : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) أي يقول بعض المنافقين لبعض إنكارا واستهزاء بالمؤمنين المعتقدين زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به ، أو يقولونه لقوم من المسلمين وغرضهم صرفهم عن الإيمان والمقول (أَيُّكُمْ) مرفوع بالابتداء وخبره (زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً). ثم إنه تعالى حكى أنه حصل للمؤمنين بسبب نزول هذه السورة أمران : أحدهما ازدياد الإيمان وقد مر معناه في أول سورة الأنفال ، والثاني الاستبشار وهو استدعاء البشارة إما بثواب الآخرة وإما بالعزة والنصرة في الدنيا والمراد أنهم يفرحون بسبب تلك التكاليف الزائدة من حيث إنه يتوسل بها إلى مزيد الثواب. وحصل للمنافقين الذين لهم عقائد فاسدة وأخلاق ذميمة أمران : أولهما زيادة الرجس لأن تكذيب سورة بعد تكذيب مثلها انضمام كفر إلى كفر أو لأن حصول حسد وغل ونفاق عقيب أمثالها ازدياد ملكة ذميمة غب أخرى ، وثانيهما بقاؤهم على تلك العقائد والأعمال إلى أن ماتوا لأن الملكة الراسخة لا تزول إلا إن مات صاحبها ، وإسناد زيادة الرجس إلى السورة إسناد حقيقي عند الأشاعرة لأنهم يقولون إنه سبحانه يخلق الكفر والإيمان في العبد فلا يبعد إحداث السورة فيهم الرجس ، وإسناد مجازي عند المعتزلة لأنهم يقولون إنهم أحدثوا الرجس من عند أنفسهم حين نزول السورة بدليل أن الآخرين سمعوا السورة وازدادوا إيمانا. والتحقيق فيه أن النفس الطاهرة النقية عن درن الدنيا باستيلاء حب الله والآخرة إذا سمعتها صار سماعها موجبا لازدياد رغبته في الآخرة ونفرته عن الدنيا. وأما النفس الحريصة المتهالكة على لذات الدنيا وطيباتها الغافلة عن حب الآخرة وعشق المولى إذا سمعتها مشتملة على تعريض النفس للقتل والمال للنهب بسبب الجهاد زادت نفرته عنها وإنكاره عليها وكل بقدر. ثم عجب من حال المنافقين فقال : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) قال ابن عباس : أي يمتحنون بالمرض (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) من النفاق ولا يتعظون بذلك المرض كما يتعظ المؤمن فإنه عند ذلك يتذكر ذنوبه وموقفه بين يدي ربه فيزيده ذلك إيمانا وخوفا. وقال مجاهد : بالقحط والجوع. وقال قتادة : بالغزو أو الجهاد فإن تخلفوا وقعوا في ألسنة الناس باللعن والخزي ، وإن ذهبوا وهم على حالة النفاق عرضوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنهب من غير فائدة. وقال مقاتل : كانوا يجتمعون على ذكر الرسول بالطعن فيخبره جبرائيل فيوبخهم

٥٤٩

بذلك ويعظهم فما كانوا يتعظون. ثم ذكر نوعا آخر من مخازيهم فقال (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي سورة مشتملة على ذكرهم أو أعم من ذلك. والنظر نظر الطعن والاستهزاء والازدراء بالوحي قائلين (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) من المسلمين لننصرف فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك فنخاف الافتضاح بينهم لأن نظر التغامز دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد ، أو أرادوا إن كان من ورائكم أحد فلا تخرجوا وإلا فاخرجوا لنتخلص من هذا الإيذاء وسماع الباطل. (ثُمَّ انْصَرَفُوا) أي من مكان الوحي إلى مكانهم أو عن استماع القرآن الى الطعن فيه. ومعنى (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) قال ابن عباس : منعهم عن كل رشد وخير. وقال الحسن : طبع الله على قلوبهم. وقال الزجاج : أضلهم الله. قالت الأشاعرة : هو إخبار عما فعل الله بهم من الصد عن الإيمان والمنع منه. وقالت المعتزلة : هو دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عن الانشراح ، أو إخبار بأنه صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن بها ، أو المراد صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد. قالوا : ومعنى قوله : (لا يَفْقَهُونَ) لا يتدبرون حتى يفقهوا. وعند الأشاعرة : هم قوم جبلوا على ذلك. يحكى عن محمد بن إسحق أنه قال : لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا صرف الله قلوبهم ، لكن قولوا قضينا الصلاة كان مقصوده التفاؤل باللفظ الوارد في الخير دون الشر فإنه تعالى قال : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة : ١٠]. ثم لما أمر رسوله في هذه السورة بتبليغ تكاليف شاقة يعسر تحملها ختم السورة بما يهون الخطب في تحملها فقال : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنس البشر لا الملك لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آلف وآنس ، أو الخطاب للعرب والمقصود ترغيبهم في نصرته والقيام بخدمته لأن كل ما يحصل له من الدولة والرفعة فإن ذلك سبب لعزهم وفخرهم لأنه من أبناء جلدتهم ، أو الخطاب لأهل الحرم خاصة لأنهم كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل لهم : كنتم قبل مقدمه مجدين في خدمة أسلافه فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف إلى آبائه؟ أو المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته كأنه قيل : هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف ، وتعرفون كونه حريصا على دفع الآفات عنكم وإيصال الخيرات إليكم. فإرسال من هذه حاله وصفته يكون من أعظم نعم الله عليكم. وقرىء (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم. وتنسب هذه القراءة الى النبي والوصي وأهل البيت عليهم‌السلام. ثم وصفه بما تستتبعه المجانسة والمناسبة من النتائج وذلك قوله : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) العزة

٥٥٠

الغلبة والشدة والعنت المشقة والوقوع في المكروه والإثم. و «ما» مصدرية أي شديد شاق عليه ـ لكونه بعضا منكم ـ عنتكم ولقاؤكم المكروه ، وأولى المكاره بالدفع عقاب الله وهو إنما أرسل لدفع هذا المكروه. (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) الحرص يمتنع أن يتعلق بذواتهم فالمراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدارين ؛ فالصفة الأولى لدفع الآفات والثانية لإيصال الخيرات والسعادات فلا تكرار. وقال الفراء : الحريص الشحيح والمعنى أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار وفيه نوع تكرار. ثم بين أنه رحمة للعالمين فقال (بِالْمُؤْمِنِينَ) أي منكم ومن غيركم (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) قال ابن عباس : لم يجمع الله بين اسمين من أسمائه إلا له ، وحاصل هذه الخاتمة أن هذا الرسول منكم فكل ما يحصل له من العز والشرف فذاك عائد إليكم وإنه كالطبيب الحاذق وكالأب الشفيق وإذا عرف أن الطبيب حاذق والأب مشفق فالعلاج والتأديب منهما إحسان وإحمال ، وإن كان صعبا مؤلما فاقبلوا ما أمركم به من التكاليف وإن كانت شاقة لتفوزوا بسعادة الدارين ، ثم قال لرسوله فإن لم يقبلوا بل أعرضوا وتولوا فاتركهم ولا تلتفت إليهم وارجع في جميع أمورك إلى الله الذي بالحق أرسلك فهو كافيك (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) فلا يخرج عن قبضة قدرته وتصرفه شيء لأنه يحيط بالعرش وبما يحويه العرش والله أعلم.

التأويل : (ما كانَ لِأَهْلِ) مدينة القالب وهو النفس والهوى والقلب (وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) الصفات النفسانية والقلبية (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ) الروح السائر إليه ولا يبذلوا وجودهم عند بذل وجوده بالفناء في الله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) من ماء الشهوات (وَلا نَصَبٌ) من أنواع المجاهدات (وَلا مَخْمَصَةٌ) بترك اللذات وحطام الدنيا في طلب الله (لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً) من مقامات الفناء (يَغِيظُ) كفار النفس والهوى (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ) الشيطان والنفس والدنيا بلاء ومحنة وفقرا وحزنا وغير ذلك من أسباب الفناء (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) من البقاء بالله بقدر الفناء في الله (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً) هي بذل الصفات (وَلا كَبِيرَةً) هي بذل الذات في صفات الله وفي ذاته (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) من أودية الدنيا والآخرة والنفس والهوى والقلب والروح. (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لأن عملهم بقدر معرفتهم وجزاؤه يضيق عنه نطاق فهمهم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) [السجدة : ١٧] (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا) في السير إلى الله وبالله وفي الله ، فهلا نفر من كل قوم وقبيلة فرقة طائفة هم خواصهم وأهل الاستعداد الكاملون ليتعلموا السلوك ويخبروا بذلك قومهم (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) من غير الله. (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ) من كفار النفس والهوى وصفاتها

٥٥١

(وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) عزيمة صادقة في ترك شهواتها (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) أي لموت قلبهم لتزايد ظلمة النفاق كل حين ، ثم أخبر عن موت القلب بقوله : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) والفتنة موجبة لانتباه القلب الحي (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧] أي قلب حي (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) في مقام الإنكار والنفاق أي هل يرى محمد إنكارنا على رسالته والقرآن ، فإن كان رسولا يرانا بنور رسالته (ثُمَّ انْصَرَفُوا) على هذا الحسبان لأن قلوبهم مصروفة وليس لهم فقه القلب لأن ذلك من أمارات حياة القلب. (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) تسكين للعوام لئلا يتنفروا عنه وإشارة للخواص إلى أن البشر لهم استعداد الوصول والوصال ، فإن لم يكن بالاستقلال فبالمتابعة فاتبعوني يحببكم الله. ومن قرأ (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي أشرفكم فلأنه أوّل جوهر خلقه الله تعالى «أول ما خلق الله تعالى روحي» ولاختصاصه بالخلاص عن تعلق الكونين وبلوغه إلى قاب قوسين أو أدنى وتحليه بحلية (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] ولعلو همته ، (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] ولرؤيته سر القدر و (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) [النجم : ١٨] (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) فمن رأفته أمر بالرفق كما قال : «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه بالرفق» (١) ومن رحمته قيل له (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] وهاهنا نكتة وهي أن رأفته ورحمته لما كانت مخلوقة اختصت بالمؤمنين فقط ، وكانت رحمته تعالى ورأفته للناس عامة (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ونكتة أخرى هي أن رحمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامة للعالمين بقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] وأما رحمته المضمومة الى الرأفة فخاصة بالمؤمنين وكأن الرأفة إشارة إلى ظهور أثر الدعوة في حقهم ، فالمؤمنون أمة الدعوة والإجابة جميعا وغيرهم أمة الدعوة فقط (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) لأن المقصود من التبليغ قد حصل لك وهو وصولك إلى الله أعرضوا عن دعوتك أو أقبلوا والله المستعان.

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٣ / ١٩٩).

٥٥٢

سورة يونس مكية إلا ثلاث آيات

قوله تعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) إلى آخرهن

حروفها ٥٥٦٧ كلماتها ١٨٣٢ وآياتها ١٠٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠))

القراآت : (الر) بالإمالة وكذلك ما بعده : أبو عمرو وخلف وحمزة وعلي والخراز عن هبيرة والنجاري عن ورش ويحيى وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. (لَساحِرٌ) بالألف : ابن كثير وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون لسحر (حَقًّا إِنَّهُ) بالفتح. يزيد. (ضِياءً) بالهمز حيث كان : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل (يُفَصِّلُ) بالياء : ابن

٥٥٣

كثير وعمرو وسهل ويعقوب وحفص والمفضل والعجلي. الباقون بالنون. (وَاطْمَأَنُّوا) بغير همز : الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف.

الوقوف : (الر) ق كوفي (الْحَكِيمِ) ه ط (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ط (مُبِينٌ) ه (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ط (إِذْنِهِ) ط (فَاعْبُدُوهُ) ط (تَذَكَّرُونَ) ه (جَمِيعاً) ط ، (حَقًّا) ط ، إلا لمن قرأ أنه بالفتح. (بِالْقِسْطِ) ط (يَكْفُرُونَ) ه (وَالْحِسابَ) ط (إِلَّا بِالْحَقِ) ط لمن قرأ نفصل بالنون ، ومن قرأ بالياء أمكنه أن يجعل (يُفَصِّلُ) حالا. (يَعْلَمُونَ) ه (يَتَّقُونَ) ه (غافِلُونَ) ه لا لأن (غافِلُونَ) خبر «إن» (إِنَ) ج ط للحذف تقديره يهديهم ربهم بإيمانهم إلى دار البقاء مع اتحاد المقصود وتمام الموعود (النَّعِيمِ) ه (سَلامٌ) ج ط لأن الجملتين وإن اتفقتا فقد اعترضت جملة معطوفة أخرى لأن قوله (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) معطوف على (دَعْواهُمْ) الأوّل (الْعالَمِينَ) ه.

التفسير : اتفقوا على أن قوله (الر) ليس بآية وعلى أن (طه) آية. ولعل الفرق أن (الر) لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده ، عن ابن عباس (الر) معناه انا الله أرى. وقيل : لا رب غيري. وقيل : الر وحم ون اسم الرحمن (تِلْكَ) إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات ، والتبعيد للتعظيم ، والكتاب السورة ، والحكيم ذو الحكمة لاشتماله عليها أو وصف بصفة من تكلم به ومنه قولهم للقصيدة حكيمة. وقيل : «فعيل» بمعنى «فاعل» لأنه يحكم بين الحق والباطل ، أو يحكم بأن محمدا صادق لأن القرآن أظهر معجزاته وأبقاها. وقيل : بمعنى مفعول أي حكم فيه بجميع المأمورات والمنهيات وقيل : بمعنى المحكم والإحكام المنع من الفساد وذلك أنه لا يمحوه الماء ولا يحرقه النار ولا يغيره الدهور. ويحتمل أن يقال : الكتاب الحكيم هو القرآن أو اللوح المحفوظ أو التوراة والإنجيل ، لأن جميع الكتب الإلهية متوافقة في الأصول ، ويجوز أن يكون (تِلْكَ) إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن. واعلم أنه سبحانه لما ختم السورة المتقدمة بقوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٧] صدر هذه السورة بتعديد بعض الحروف على طريق التحدي ، وذلك أن حروف القرآن من جنس الحروف التي يتلفظون بها فلو لا أنه معجز لعارضوه وناقضوه. ولما بين بهذا الطريق أن محمدا رسول حق من عند الله أنكر على كفار قريش تعجبهم من كونه رسولا فقال : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) نصب على أنه خبر كان واسمه (أَنْ أَوْحَيْنا) وفائدة اللام في قوله : (لِلنَّاسِ) مع تقديمه هي أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتحدثون بها ، ثم إن تعجبهم إما أن يكون من جعل البشر رسولا أو من تخصيص محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحي والنبوة فقد روي أنهم كانوا يقولون العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله

٥٥٤

إلى الناس إلا يتيم أبي طالب ، وكلا الأمرين ليس بعجب ، أما الأول فلأن الجنس إلى الجنس أميل (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩] (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً). [الاسراء : ٩٥]. وأما الثاني فلأن الفقر واليتم لا يوجب في النبوة قدحا لأن الله غني عن العالمين (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) [سبأ : ٣٧] وإنما المعتبر في الاستنباء كونه متصفا بالصدق والأمانة والتقوى ، وكان لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك قبل بعثه اليد الطولى إذ كان يدعى محمدا الأمين. و «أن» في قوله : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) هي المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول ، أو مخففة من الثقيلة وقد عملت في ضمير شأن مقدر معناه إنه أي إن الشأن قولنا أنذر الناس. وقوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ) أي بأن لهم ، والإنذار إخبار مع تخويف وإنه عام للناس كلهم ، ولكن البشارة خاصة بالمؤمنين. ويحتمل أن يراد بالناس الكفار فقط ويمكن أن يكون تعجبهم عائدا إلى الإنذار والتبشير وليس ذلك بعجب بل المنكر في العقول تعطيل الأعمال وأن يترك الإنسان سدى ، وإرسال الرسل أمر ما أخلى الله تعالى المكلفين عنه شيئا من الأزمنة ، وبه تتم المالكية والأمر والنهي والإذن والمنع والثواب والجزاء. وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن الإنذار تحذير عن فعل ما لا ينبغي ، والتبشير ترغيب في فعل ما ينبغي والتخلية مقدمة على التحلية. ومعنى (قَدَمَ صِدْقٍ) سابقة فضل ومنزلة رفيعة أي سبق لهم عند الله خير. قال أحمد بن يحيى : القدم كل ما قدمت من خير. وقال ابن الأنباري : كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ولا إبطاء. والسبب في إطلاق القدم على السابقة أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد ، وإضافة القدم إلى صدق لأجل المبالغة وللتنبيه على أنها من السوابق العظيمة أي القدم التي يصدق ويحق أن تسمى قدما. وأما عبارات المفسرين فمنهم من قال : قدم صدق هي الأعمال الصالحة ، ومنهم من قال الثواب ، ومنها من قال شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أما قوله : (قالَ الْكافِرُونَ) فقال القفال : فيه إضمار والتقدير : فلما أنذرهم قالوا ذلك. ثم من قرأ لساحر بالألف فقوله هذا إشارة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن قرأ السحر فهو إشارة الى القرآن وفيه دليل على عجزهم واعترافهم بأنهم قاصرون عن معارضته كالسحر ، ومن هنا جوز بعضهم أن يكونوا أرادوا به المدح أي إنه لكمال فصاحته وتعذر الإتيان بمثله جار مجرى السحر. ثم لما أنكر عليهم تعجبهم من الأمور المذكورة وهي الواسطة أراد أن يقيم البرهان عليها بإثبات المبدأ ويبين غايتها بإثبات المعاد وذلك في آيتين متواليتين. وقد مر في الأعراف تفسير قوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ

٥٥٥

الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) فلا حاجة إلى الإعادة.

ثم ذكر ما يدل على مزيد عظمته وجلاله وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره فقال : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) وإنما فقد العاطف لأنهما كالتفسير والتفصيل لما دل عليه قوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) إلخ. والأمر الشأن أراد به أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات والأرض والعرش. والمعنى أنه يقضي ويقدر بمقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله الناظر في أدبار الأمور وعواقبها لئلا يدخل في الوجود ما لا ينبغي. قال الزجاج : إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يقولون إن الأصنام شفعاؤنا عند الله فرد الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح. ففي قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) إشارة إلى استقلاله في التصرف في جانب المبدإ ، وفي قوله (ما مِنْ شَفِيعٍ) إشارة إلى استقلاله في طرف المعاد. ويمكن أن يقال : المراد أنه خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من الأصلح مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في تحصيل المصالح فدل ذلك على أنه محسن إلى عباده مريد للخير والرأفة بهم كامل العناية بأحوالهم. قال أبو مسلم : الشفيع معناه الثاني من الشفع الذي يخالف الوتر أي خلق السموات والأرض وحده ولا حي معه ولا شريك يعينه ثم خلق الملائكة والثقلين ، والمراد أنه لم يدخل في الوجود أحد إلا من بعد أن قال له : «كن» حتى كان وحصل. ثم أشار إلى المعلوم بالأوصاف المذكورة فقال : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) الذي يستأهل منكم العبادة بإزاء النعم الجسام من خلق السموات والأرض بما فيهما وعليهما (فَاعْبُدُوهُ) وحده (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فيه تنبيه على وجوب الاعتبار والنظر في الدلائل الدالة على عظمته وجلاله. ثم شرع في إثبات المعاد فقال : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) أي رجوعكم (جَمِيعاً) مجموعين. وتقديم الجار والمجرور للاختصاص والمعنى لا ترجعون في العاقبة إلا إلى جزائه وحكمه فاستعدوا للقائه ، ثم أكد ذلك بقوله : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) وفيه تأكيدان كما مر. ثم قال : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) وهو استئناف فيه معنى التعليل كأنه قال إن الذي قدر على الإبداء يقدر على الإعادة بالطريق الأولى كقوله : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [الواقعة : ٦١] يعني أنه سبحانه لما كان قادرا على إنشاء ذواتكم أوّلا ثم على إنشاء أجزائكم حال حياتكم ثانيا شيئا فشيئا من غير أن تكونوا عالمين بوقت حدوثه وبوقت نموّه ، وجب القطع بأنه لا يمتنع عليه إعادة تلك الأجزاء بعد البلى والتفرق. ومن قرأ أنه بالفتح فعلى حذف لام التعليل أي لأنه ، أو على أنه منصوب بالفعل الذي نصب

٥٥٦

وعد الله أي وعد الله وعدا بدء الخلق ثم إعادته ، ويجوز أن يكون مرفوعا بما نصب حقا أي حق حقا بدء الخلق.

ثم ذكر غاية الإعادة وحكمتها فقال : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال المفسرون : في الآية إضمار والتقدير أنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم ثم يعيدهم ليجزي. وإنما حسن هذا الحذف لتقدم قوله : (فَاعْبُدُوهُ) ولأن الإعادة لا تكون إلا بعد الإماتة والإعدام. وقوله : (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل متعلق بـ (لِيَجْزِيَ) أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجرهم أو ليجزيهم بقسطهم وبما لم يظلموا أنفسهم حين آمنوا وعملوا صالحا وهذا وجه حسن لطباق قوله : (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) وفي قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) من غير أن يدخل لام العاقبة في الجملة كما أدخلها في الأولى دليل على أنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ، وإنما جاء التعذيب لغرض وقوعهم في طريق القهر. والحميم الماء الذي أسخن بالنار حتى انتهى حره. قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على عدم منزلة بين المنزلتين على ما يقول بها المعتزلة. وأجيب بأن عدم الذكر لا يدل على العدم وردّ بأن الفساق أكثر من أهل الطاعة فكيف يجوز طي ذكرهم؟ واعلم أن للعلماء في إثبات المعاد طريقين : الأول طريق القائلين بالحسن والقبح العقليين ، والثاني طريق من يقول لا يجب على الله شيء أصلا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. أما الفريق الأول فلهم على وجوب المعاد حجج عقلية منها : أنه تعالى خلق الخلق وأعطاهم عقولا وقدرا فيجب في حكمته أن يرغبهم في الخيرات ويزجرهم عن السيئات ، وهذا الترغيب والزجر لا يمكن إلا بربط الثواب على الفعل والعقاب على الترك. هذا في المأمورات وبالعكس في المنهيات ، وذلك الثواب المرغب والعقاب المرهب غير حاصل في الدنيا فلا بد من دار أخرى هي دار الآخرة ليحصل فيها ذلك وإلا لزم أن يكون الله تعالى كاذبا في قوله : (لِيَجْزِيَ) إلخ. فإن قيل : لم لا يكفي في الترغيب والردع ما أودع الله في العقول من تحسين الخيرات وتقبيح المنكرات فلا يحتاج إلى الوعد والوعيد؟ ولئن سلم فلم لا يجوز أن يكون الغرض من الترغيب والترهيب نظام العالم لا أنه يفعل ذلك ولا يلزم منه الكذب على الله ، ألستم تخصصون أكثر عمومات القرآن ثم تزعمون أنه لا كذب؟ سلمنا أنه يفعل لكن لم لا يجوز أن يكون الثواب والعقاب هو ما يصل إلى الإنسان في دار الدنيا من الراحات والآلام؟ فالجواب أن العقل وإن كان يدعو إلى فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوان إلى الانهماك في الشهوات الجسمانية ، وإذا حصل هذا التعارض فلا بد من مرجح وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد على الأعمال ، وتجويز الخلف في ذلك مناف للغرض ، وأخذ

٥٥٧

الأجرة إنما يكون بعد الفراغ من العمل والعبد ما دام في الدنيا فهو في العمل ، وقد ترى أزهد الناس وأعلمهم مبتلى بالآفات والبليات ، وأفسقهم وأجهلهم في أتم اللذات والمسرات. ومنها أن صريح العقل يوجب في حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن والمسيء والمظلوم والظالم وأن لا يجعل من كفر به وعصاه كمن آمن به وأطاعه وليس هذه التفرقة في الدنيا كما قيل :

كم عالم عالم أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

فلا بد من دار أخرى يظهر فيها التفاوت. ومنها أنه كلف عبيده بأن يعبدوه ، والحكيم إذا أمر عبده بشيء فلا بد أن يجعله فارغ البال منتظم الأحوال حتى يمكنه الاشتغال بأداء تكليفه ، والناس جبلوا على طلب اللذات والتبادر إلى تحصيل أسباب الراحات فلو لم يكن زاجر من خوف المعاد لوقع الهرج والمرج والفتن وحينئذ لا يتفرغ المكلف لأداء ما أمر به. فإن قيل : لم لا يكفي في نظام العالم مهابة الملوك وسياستهم؟ قلنا : إن لم يكن السلطان قاهرا قادرا على الرعية فلا فائدة فيه ، وإن كان قاهرا غالبا ولا خوف له من المعاد فحينئذ يقدم على أنواع الظلم والإيذاء لأن الداعية النفسانية قائمة ولا وازع له في الدنيا ولا في الآخرة. ومنها أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق فيه الناس ، والعبث لا يليق بالحكيم الرحيم فوجب أن يقال : إنه خلقهم لمقصود ومصلحة وخير وليس ذلك في الدنيا لأن لذات هذا العالم جسمانية لا حقيقة لها إلا إزالة الألم ، وإزالة الألم أمر عدمي وكان هذا حاصلا قبل الوجود فلا يبقى للتخليق فائدة. وأيضا إن لذات الدنيا مشوبة بالآلام بل اللذة في الدنيا كالقطرة من البحر فعلمنا أن للراحة دار أخرى. فإن قيل : ليس أنه يعذب أهل النار لا لمصلحة وفائدة لهم؟ قلنا : الفرق أن ذلك الألم استحقوه على أعمالهم وهذا الألم الحاصل في الدنيا غير مستحق فوجب أن يعقبه خيرات عظيمة وإلا فينافي كونه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. ومنها أنه لو لم يحصل للإنسان معاد لكان أحسن من جميع الحيوانات لأنها تشاركه في اللذات الحسية لأن الروث في مذاق الجعل كاللوز في فم الإنسان ، والإنسان يزيد عليها بعقل هو سبب تألمه وتأذيه في أغلب الأحوال ، يتفكر في الأحوال الماضية فيتأسف ، ويتأمل في الأحوال الآتية فيخاف ، فلو لم يكن للإنسان معاد به يكمل حاله ويظهر سعادته كان عقله سببا لشقائه وخسته دون شرفه ومزيته. ومنها أن إيصال النعم إما أن يكون مشوبا بالآفات أو خالصا عنها ، فلما أنعم الله تعالى علينا في الدنيا بالمرتبة الأولى وجب أن ينعم علينا بالمرتبة الثانية في دار أخرى إظهارا لكمال القدرة والرأفة والحكمة ، فهناك ينعم على المطيعين ويعفو عن

٥٥٨

المذنبين ويزيل الغموم والهموم والآفات والمخافات. ومما يقوّي هذا الكلام أن الإنسان دائما في الترقي من حين كونه جنينا في بطن أمه إلى أن يخلص من ذلك السجن ويخرج إلى فضاء الدنيا ، وإلى أن ينتقل من تناول اللبن والشد الوثيق في المهد إلى تناول الأطعمة اللذيذة والمشي والعدو إلى أن يصير أميرا نافذ الحكم على الخلق أو عالما مشرفا على حقائق الأشياء ، فوجب بحكم هذا الاستقراء أن يكون حاله بعد الموت أشرف وأبهى من اللذات العاجلة المشوبة بالآلام. ومنها طريقة الاحتياط فإنا إذا آمنا بالمعاد وتأهبنا له فإن كان هذا المذهب حقا فقد نجونا وهلك المنكر ، وإن كان باطلا لم يضرنا هذا الاعتقاد ، غاية ذلك فوات بعض اللذات الزائلة المشوبة بالمنغصات. ومنها أن أحوال الإنسان من صباه إلى هرمه تضاهي حال الأرض من الربيع إلى الشتاء. ثم إنا نرى الأرض في الربيع الثاني تعود إلى تلك الحياة فلم لا يعقل مثل ذلك في الإنسان؟ ومنها أن الإنسان إنما يتولد من نطفة نولدت من الأغذية الكائنة من الأجزاء العنصرية المتفرقة في مشارق الأرض ومغاربها ، فإذا مات وتفرقت تلك الأجزاء فكيف يمتنع أن تجتمع مرة أخرى على مثال الاجتماع الأول؟ ومنها أن النظر في تغيرات العالم أدى إلى إثبات صانع حكيم قادر قاهر ، والعقل يحكم بأن هذا الحكيم لا يليق به أن يترك عبيده هملا يكذبون عليه ويجورون ، فلا بد من أن يكون له أمر ونهي ووعد ووعيد من غير تجويز خلف فيهما كما مر ، ولا يتحقق جميع ذلك إلا في دار الجزاء.

وأما الفريق الآخر الذين لا يعللون أفعال الله تعالى برعاية المصالح فإنهم يقولون : المعاد أمر جائز الوجود لأن تعلق النفس بالبدن لما كان في المرة الأولى جائزا فالمرة الثانية أيضا جائزة. ثم إن إله العالم قادر مختار عالم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات فلا يعجز تمييز أجزاء بدن زيد ـ وإن اختلطت بأجزاء التراب والبحار ـ عن أجزاء بدن عمرو ، وإذا ثبت هذا الإمكان وقد دل الدليل على صدق الأنبياء عليهم‌السلام وعلى أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم إنهم قطعوا بوقوع هذا الممكن والقرآن مشحون بآيات البعث والجزاء فوجب علينا القطع بالمعاد الجسماني. أما شبهة المنكرين فمن ذلك أنهم قالوا الدار الآخرة إن كانت شرا من هذه فالتبديل سفه ، وإن كانت مثلها فعبث ، وإن كانت خيرا منها فإما أن يقال إنه قادر على خلق ذلك الأجود أولا ثم تركه وفعل الأرذل فذلك سفه ، أو يقال إنه ما كان قادرا ثم حدثت له القدرة فذلك انتقال من العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى الحكمة فهو محال على القديم. والجواب أن كلا من الدارين خير في وقتها فالأولى لتحصيل الكمالات

٥٥٩

النفسانية الممكنة للنوع الإنساني من قبيل العلم والعمل ، والأخرى للراحة والجزاء ، ومن ذلك أنهم قالوا : حركات الأفلاك مستديرة والمستدير لا ضد له وما لا ضد له لا يقبل الفساد. والجواب ما ذكرنا في كتبنا الحكمية من أن كل جسم مركب وكل مركب ينحل لا محالة. ولئن سلمنا أنها أزلية فحركاتها غير أزلية لأن الحركة عبارة عن الانتقال من حال إلى حال ، وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها والأزلية تنافي المسبوقية بالغير فكان الجمع بين الأزل والحركة محالا. ولئن سلم أن الحركة أزلية فلم لا يجوز أن يكون بعض أوضاع الأفلاك مقتضيا لإعادة المعدومات من الأشخاص الإنسانية؟ ومن ذلك أنهم قالوا : الإنسان عبارة عن هذا البدن ذي الأجزاء لا كيف كانت بل بشرط وقوعها على تأليف مخصوص ، لأن أجزاء البدن كانت موجودة قبل هذا الإنسان والموجود مغاير للمعدوم. فإذا مات الإنسان وتفرقت أجزاؤه فقد عدمت تلك الصورة والأعراض وعود المعدوم محال. وأجيب بأن الإنسان ليس عبارة عن هذا الجسد وإنما هو النفس سواء كانت جوهرا مجردا مفارقا أو جسما مخصوصا لطيفا باقيا في جميع أحوال البدن من الصبا إلى الهرم مصونا عن التحلل والتبدل وهو الذي يسميه المتكلمون بالأجزاء الأصلية. ومن ذلك أنهم قالوا : إذا قتل الإنسان واغتذى به إنسان آخر لزم أن تعاد تلك الأجزاء في بدن كل واحد من الشخصين وذلك محال. وأجيب بعين ما مر وهي أن الأجزاء الأصلية لا تصير جزءا من إنسان آخر. فهذه خلاصة ما وصل إليه العقول من أمر المعاد والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.

ثم عدد بعض نعمه على المكلفين فقال : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) وهو أجوف واوي مهموز اللام قلبت واوه ياء لكسرة ما قبلها ، ومن قرأ بهمزتين بينهما ألف فمحمول على القلب لأن إذا قدم اللام على العين وقع حرف العلة على الطرف فانقلب همزة كما في «كساء». وهو إما أن يكون جمع ضوء كحوض وحياض ، أو مصدر ضاء يضوء مثل قام قياما وصام صياما ، ولا بد من تقدير مضاف أي جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور إلا أن يحمل على المبالغة فجعلا نفس الضياء والنور كما يقال للرجل الكريم إنه كرم وجود. والضياء أقوى من النور. ولا خلاف بين العقلاء أن ضوء الشمس كيفية قائمة بها لذاتها ، وأما نور القمر فقد ذهب جمهور الحكماء إلى أنه مستفاد من الشمس وبذلك يقع اختلاف أحواله من الهلالية إلى البدرية كما بينا في تفسير قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) [البقرة : ١٨٩] (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) قال في الكشاف : أي قدّر مسيره منازل أو قدره ذا منازل. ومنزلة القمر المسافة التي يقطعها في يوم وليلة بحركته الخاصة

٥٦٠