تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

مصحف عبد الله فإنك أنت الغفور الرحيم وضعفه العلماء لأن ذلك يشعر بكونه شفيعا لهم لا على تفويض الأمر بالكلية إلى حكمه تعالى ، والمقام مقام هذا لا ذاك ، وعن بعضهم أن ذكر الغفور والرحيم يشبه الحالة الموجبة للمغفرة والرحمة ، وأما العزة والحكمة فلا يوجبان إلا التعالي عن جميع جهات الاستحقاق ، فحصول المغفرة بعد ثبوت هذا الاستغناء والعزة يكون أدل على كمال العفو والرحمة فإن العفو عند المقدرة. قال بعض العلماء : في الآية نوع شفاعة من عيسى عليه‌السلام لفساق أمته ، فلأن يثبت ذلك من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفساق أمته أولى (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ) من قرأ بالرفع فظاهر وأنه في تقدير الإضافة أي هذا يوم منفعة الصادقين ، ومن قرأ بالنصب فإما على أنه ظرف لـ (قالَ) ، وإما على أن هذا مبتدأ والظرف خبر أي هذا الذي ذكرنا من كلام عيسى واقع في هذا اليوم كقولك : القتال يوم السبت. وقال الفراء : يوم أضيف إلى ما ليس باسم فبني على الفتح كما في «يومئذ» وخطأه البصريون وقالوا : إنما يبنى الظرف إذا أضيف إلى المبنى كالماضي في قول النابغة :

على حين عاتبت المشيب على الصبا

أو مثل «لا» في قوله تعالى (يَوْمَ لا تَمْلِكُ) [الانفطار : ١٩] وأجمعوا على أن هذا اليوم يوم القيامة. والمراد أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في القيامة كما قال قتادة : متكلمان تكلما يوم القيامة : أما إبليس فقال (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) [إبراهيم : ٢٢] فصدق وكان قبل ذلك كاذبا فلم ينفعه ، وأما عيسى فكان صادقا في الدنيا وفي الآخرة فنفعه صدقه. وفي هذا الكلام تصديق من الله تعالى لعيسى في قوله (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) هما متلازمان لأن رضا الله عن العبد في رعاية وظائف العبودية (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] وإذا صحح الإنسان نسبة العبودية علم أن العبد لا يكون له إرادة واختيار فتكون إرادته مغمورة في إرادة ربه. (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إشارة إلى جميع المذكورات أو إلى الجزء الأشرف الأقرب وهو الرضوان (ما فِيهِنَ) لم يقل «ومن فيهن» ليكون أدل على العموم ، ولينبه على أن عقول ذوي العقول وعلوم أرباب العلوم بالنسبة إلى علمه كلا علم ، وإنما هم وغيرهم تحت قهره وتسخيره سواء. واعلم أنه سبحانه افتتح السورة بقوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] وهو الشريعة والبداية وختم السورة بهذه الآية الدالة على فناء الكل في جنب جلاله وكبريائه وهو الحقيقة والنهاية ، فما أحسن هذا النسق! وأيضا في السورة بيان الشرائع والأحكام الكثيرة والمناظرة مع اليهود والنصارى ، فهذا الاختتام ذكر فيه أن سبحانه مالك لجميع الممكنات والكائنات موجد لجميع الأرواح والأجساد ليصح التكليف على أيّ وجه أراد ، وليكون ردا على اليهود بحكم المالكية في

٤١

نسخ شريعة موسى ووضع شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليكون ردا على النصارى في أن عيسى ومريم عليهما‌السلام داخلان في المخلوقات موجودان بإيجاد الله ولا معنى للعبودية إلا هذا. وأيضا لما أخبر عن فناء وجودهم المجازي لم يبق هناك مجيب فأجاب بنفسه (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كقوله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] ولعل في هذه الخاتمة من الأسرار أضعاف ما عثرنا عليه والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.

التأويل : أخبر عن كثرة السؤال أنها تورث الملال وذلك أن علوم القال غير علوم الحال ، والصنف الأول يحمد فيه السؤال والثاني يذم فيه ذلك إذ يحصل بالعيان لا بالبرهان كما كان حال الأنبياء عليهم‌السلام مع الله (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) [الأنعام : ٧٥] (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) [النجم : ١٨] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أرنا الأشياء كما هى». وقال الخضر لموسى عليه‌السلام (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) [الكهف : ٧٦] وقال موسى في الثالثة (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) [الكهف : ٧٦] فإن تعلم العلم اللدني بالحال في الصحبة والمتابعة والتسليم. وفي السؤال الانقطاع عن الصحبة (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) أي إن كان لا بد لكم من السؤال عن حقائق فاسألوا عنها بعد نزول القرآن ليخبركم عن حقائقها على قدر عقولكم. (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن تاب من طلب علوم الحقائق بالقال (حَلِيمٌ) لمن يطلب بالحال فيصدر عنه في أثناء الطلب سؤال (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) كقدماء الفلاسفة أعرضوا عن متابعة الأنبياء وأقبلوا على مجرد القيل والقال ، فوقعوا في أودية الشبهات والضلال (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) قال الشيخ المحقق نجم الدين : المعروف بداية هم الحيدرية والقلندرية يشقون آذانهم وذكورهم ويجعلون فيها حلق الحديد ويحلقون لحيتهم (وَلا سائِبَةٍ) هم الذين يضربون في الأرض خليعي العذار بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة (وَلا وَصِيلَةٍ) هم أهل الإباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المؤاخاة والاتحاد ويرفضون صحبة الأقارب لأجل العصبية والعناد (وَلا حامٍ) وهو المغرور بالله يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفات الشريعة. (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) من الأحكام (وَإِلَى الرَّسُولِ) لمتابعته (قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي مشايخنا وأهل صحبتنا (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) من الشريعة والطريقة (وَلا يَهْتَدُونَ) إلى الحقيقة. (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي اشتغلوا أوّلا بتزكية نفوسكم ثم بإرشاد الغير فإن الفريق الذي لم يتعلم السباحة إذا تشبث به مثله هلكا معا (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) فللطالبين بجذبات العناية وللمضلين بسلاسل القهر والنكاية (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي النفس تموت عن صفاتها الذميمة بالرياضة والمجاهدة فتوصي بصفاتها لورثتها وهم القلب وأوصافه والوصيان (اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) هما العقل والسر

٤٢

من الروحانيات ، (أَوْ آخَرانِ) من غير الروحانيات هما الوهم والخيال من النفسانيات. فالعقل والسر يشهدان الحق وإن كان على ذي قرابة من الروحانيات ، والوهم والخيال شهادتهما الصدق والكذب. (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم في السفليات (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي فتصيب النفس جذبة الحق فتموت (تَحْبِسُونَهُما) إن كنتم في بعد من الروحانيات (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) من بعد حضورهما مع الله وتوجيههما إلى الحق ومراقبة تامة ، فيشدد على الشاهدين بالقسم والتخويف بالله أن يؤديا شهادة الحق ويدفعا تركة النفس وهي صفاتها إلى ورثتها وهم القلب وصفاته ، ولا يصرفانها في شيء من السفليات فإن كل خلق إذا استعملته النفس كان صفة ذميمة ، فإذا استعمله القلب صار وصفا محمودا كالحرص إذا استعملته النفس في طلب الدنيا ولذتها كان وصفا مذموما ، وإذا استعمله القلب في طلب العلوم والكمالات صار ممدوحا. (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) بأن مالا إلى حظ من الحظوظ السفلية (فَآخَرانِ) من صفات القلب هما : التذكر والفكر الصائب ينظران في عواقب الأمور ويشهدان على أن الآخرة خير من الدنيا والباقي خير من الفاني (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) لأن الوهم والخيال مالا إلى الحظوظ بكتمان الحقوق ، والتذكر والتفكر مالا إلى حفظ الحقوق بترك الحظوظ. (أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) أي العقل والسر يأتيان في بدو الأمر باستعمال صفات النفس في السعادات الأخروية ، أو يخافان عواقب الأمور بأن يشددوا على أنفسهم بالاستمهال وتضييع الأعمال وإفساد الاستعداد ، ثم بالتفكر والتذكر يردّ الأمر إلى وجوب رعاية الحقوق فيحتاجان إلى كثرة الرياضة. (ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا) وهم مستغرقون في بحر الشهود. (لا عِلْمَ لَنا) اي ببواطن الأمور وحقائقها. (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) أي في عالم الأرواح يوم الميثاق قالوا بسبب ذلك التعارف في عالم الأشباح آمنا. إن بعض الحواريين المقلدين في الإيمان قالوا (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) فما راعوا الأدب مع نبيهم حيث لم يقولوا يا رسول الله أو يا روح الله ، ولا مع ربهم حيث تشككوا في كمال قدرته. ثم أظهروا دناءة همتهم حيث طلبوا بواسطة مثل عيسى من واهب المواهب مائدة جسمانية لا فائدة روحانية فقال عيسى (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً) الأسرار والحقائق من سماء العناية عليها أطعمة الهداية (تَكُونُ لَنا) أي لأهل الحق والصدق (عِيداً) نفرح بها (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) أي لأول أنفاسنا وآخرها فإن أهل الحق يراقبون الأنفاس لتصعد مع الله وتهوي مع الله (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لأن الذي ترزق رزق منك والذي يرزق ظاهرا من غيرك فهو أيضا منك بالواسطة ، وما بالذات خير مما بالواسطة. (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) بأن لا يقوم بحقها ويجعلها شبكة يصطاد بها الدنيا فإني أرده من المراتب الروحانية إلى المهالك الحيوانية وهو المسخ

٤٣

الحقيقي ، ويوم القيامة أيضا بحيث يحشرون على صفاتهم التي ماتوا عليها كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يموت المرء على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه» (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) الخطاب مع الأمة إلا أن من سنته سبحانه أن لا يكلم الكفار فكلم عيسى بدلا منهم ، أو المراد بالقول أمر التكوين فالمعنى أأنت خلقت فيهم اتخاذك وأمك الهين أم أنا خلقت ذلك فيهم خذلانا لهم؟ (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) الغيب ما غاب عن الخلق. ويحتمل أن سيعلمه الخلق ، وغيب الغيب ما غاب عنهم ولا يمكنهم أن يعلموه ، والله حسبي ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير.

٤٤

تفسير سورة الأنعام وهي مائة وخمس وستون

آية وهي مكية إلا ثلاث آيات

قل تعالوا إلى قوله

ثم آتينا موسى الكتاب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))

القراآت : (وَأَنْشَأْنا) بغير همز حيث كان : أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش من طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف. (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) وبابه بالهمز : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم ، وقرأ يزيد والشموني وحمزة في الوقف بغير همز الباقون بغير همز مطلقا (فَحاقَ) بالإمالة حيث كان حمزة.

٤٥

الوقوف : (وَالنُّورَ) ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار (يَعْدِلُونَ) ه (أَجَلاً) ط (تَمْتَرُونَ) ه (وَفِي الْأَرْضِ) ج وقيل : لا وقف ليصير التقدير وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض وفيه بعد ، بل المعنى وهو المستحق للعبودية في أهل السموات وأهل الأرض. (تَكْسِبُونَ) ه (مُعْرِضِينَ) ه (لَمَّا جاءَهُمْ) ط للابتداء بالتهديد (يَسْتَهْزِؤُنَ) ه (مِدْراراً) ص لعطف المتفقين (آخَرِينَ) ه (سِحْرٌ مُبِينٌ) ه (عَلَيْهِ مَلَكٌ) ط (لا يُنْظَرُونَ) ه (يَلْبِسُونَ) ه (يَسْتَهْزِؤُنَ) ه (الْمُكَذِّبِينَ) ه.

التفسير : عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «نزلت الأنعام جملة واحدة وتنزلت ، معها من الملائكة سبعون ألف ملك فملؤا ما بين الأخشبين» فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم سوى آيات معدودات. وعن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لقد بعث إليّ بها جبريل مع خمسين ملكا أو خمسين ألف ملك تحفها حتى أقروها في صدري كما يقرّ الماء في الحوض ولقد أعزني الله تعالى وإياكم بها عزا لا يذلنا بعدها أبدا فيها دحض حجج المشركين ووعد من الله لا يخلفه» ولاشتمال هذه السورة على دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد ولنزولها جملة ذهب علماء الكلام إلى أن علم الأصول مع جلالة قدره يجب تعلمه على الفور لا على التراخي بخلاف الأحكام فإنها نزلت كفاء المصالح وبحسب الحوادث والنوازل.

واعلم أن قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) مذكور في أوائل سور خمس واختص كل منها بصفة ، لكن أعمها صدر فاتحة الكتاب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ١] فإن العالم كل موجود سوى الله سبحانه فكان سائر السور تفاصيل لهذه الجملة. أثنى الله سبحانه على نفسه بقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) والثناء على النفس قبيح في الشاهد ففيه دليل على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق ، فكما أنه واحد في ذاته فهو واحد في صفاته وأفعاله لا اعتراض لأحد عليه. والتحقيق فيه أن استحقاق المدح بحسب الفضيلة والكمال ولا يوجد في الممكن صفة كمال إلا وهي مشوبة بالنقص والاختلال أدناه الأفول في أفق الإمكان بخلاف واجب الوجود فإنه لا غاية لكماله ولا نهاية لعظمته وجلاله ، فلا ينبغي أن يمدح إلا هو ، ولا أن يثنى إلا عليه ، ولا أن يشكر ويحمد إلا له. ثم الأوصاف الجارية عليه سبحانه إنما تذكر زيادة في المدح لا لأجل التوضيح والكشف.

أساميا لم تزده معرفة

وإنما لذة ذكرناها

وقد تقدم في الأسماء أن معنى الخلق راجع إلى التقدير والتقدير عائد إلى العلم ،

٤٦

فالمراد أنه أوجد السموات والأرض على حسب علمه الأزلي. قال بعض العلماء : السماء كالدائرة والأرض كالمركز ، وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها فلهذا ذكر السماء قبل الأرض مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء. وجمع السموات حقيقة وكذا إفراد الأرض ، وقد تجمع الأرض باعتبار الطبقات وسوف يجيء تقرير ذلك في قوله (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢] والمقصود من هذا الوصف إلزام المشركين ، وأن تخصيص حجم الفلك بمقدار معين وتخصيص كل من أجزائه بحيز معين وتخصيص الفلك بالحركة والأرض بالسكون مع اشتراكهما في الطبيعة الجسمية ، وتخصيص كل حركة بحد معين من السرعة والبطء وبجهة معينة دلائل ظاهرة على وجود فاعل مختار واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله. وأيضا إن لحركة كل فلك أوّلا لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة فتقتضي المسبوقية بالغير ، وعدم الأولية ينافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال. وإذا ثبت أن لكل حركة أوّلا فاختصاص ابتداء حدوثه بوقت معين يدل على الفاعل المختار وكذا اتصاف بعض الأجسام بالفلكية وبعضها بالعنصرية مع تساوي الكل في تمام الماهية. وأيضا إن خارج العالم الجسماني خلاء لا نهاية له كما ثبت في الكلام ، فحصول هذا العالم في حيزه الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر ممكن يحتاج إلى مرجح قادر مختار حكيم يفعل ما يشاء كما يشاء. هذا إذا نظرنا في ذوات هذه الأجرام ، أما إن اعتبرنا منافعها وكيفية تأثير الأثيريات وهي ـ الآباء ـ في العنصريات ـ وهي الأمهات ـ لتحصيل المواليد الثلاثة : المعادن والنباتات والحيوانات ، ارتقينا من ذلك أيضا إلى وجود صانع قدير وحكيم خبير رتبته أعلى وأجل من رتب الممكنات. أما قوله (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) فمعناه أحدث وأنشأ ، ولهذا اقتصر على مفعول واحد ، ولو كان بمعنى «صير» اقتضى مفعولين. وإنما لم يقل «وخلق» لأنه أراد التضمين أعني إنشاء شيء من شيء كقوله (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١] فالنور والظلمة لما تعاقبا صار كأن كل واحد منهما تولد من الآخر. وقيل : لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة ، والنور من النار ، ولهذا جمع الظلمات إذ لكل حرم ظل والظل ظلمة. ووحد النور لأن النار واحد وهو منها ، والظلمة والنور هاهنا هما الأمران المحسوسان بالبصر ، لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة والقرينة ذكر السموات والأرض. وعن ابن عباس أن الظلمة ظلمة الشرك والنفاق ، والنور نور الإسلام واليقين ، وعلى الأوّل فإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية ، ثم إنها تقبل التناقص قليلا قليلا وتلك المراتب كثيرة ، أو لأنه قصد بالنور الجنس. وعلى الثاني فذلك لأن الحق واحد والباطل أكثر من أن يحصى. وإنما قدمت الظلمة على النور لأن عدم المحدثات سابق

٤٧

على وجودها ، والظلمة عدمية عند من يجعلها عدم النور أو شبيهة بالعدم عند من يجعلها هيئة مضادة للنور. وقد ورد في الأخبار أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره. وقوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) معطوف على قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) والمعنى أنه حقيق بالحمد على ما خلق ثم الذين كفروا يعدلون عن طريق الإنصاف فيكفرون بربهم ، أو على (خَلَقَ السَّماواتِ) معناه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون أي يسوّون به ما لا يقدر على شيء من ذلك. فعلى المعنى الأول يعدلون من العدول ، وعلى الثاني هو من العدل. ومعنى «ثم» هاهنا وفي قوله (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) تراخي الرتبة واستبعاد مضموني الجملتين أحدهما عن الآخر. ثم ذكر دليلا آخر على إثبات الصانع وعلى صحة المعاد الجسماني فقال (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) أي من آدم لأنه مخلوق من الطين ، أو خلقكم من النطفة المتولدة من الأغذية المنتهية إلى العناصر ، ولا ريب أن خلق الأغذية المتنوعة من العناصر المتشابهة الأجزاء ، ثم توليد النطفة المتشابهة الأجزاء من تلك الأغذية المختلفة ، ثم تخليق الأعضاء المختلفة في الصفة والصورة واللون والشكل كالقلب والدماغ والكبد والعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها من المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ومدبر رحيم. ثم إن تلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادرا على إعادتها وإعادة الحياة فيها وذلك يدل على صحة القول بالمعاد. أما قوله (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) فاعلم أن لفظ القضاء قد يرد بمعنى الحكم والأمر (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] وبمعنى الخبر والإعلام (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [الإسراء : ٤] وبمعنى صفة الفعل إذا تم (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [فصلت : ١٢] ومنه قولك : قضى فلان حاجة فلان. والأنسب هاهنا هو الأول. والأجل في اللغة بمعنى الوقت المضروب لانقضاء الأمد. وأصله من التأخير ومنه الآجل نقيض العاجل. ثم إن صريح الآية يدل على حصول أجلين لكل إنسان. فقال أبو مسلم : الأول آجال الماضين لأنهم لما ماتوا صارت آجالهم معلومة ، والثاني آجال الباقين لأنها غير معلومة بعد وإنما هي مسماة عند الله تعالى. وقيل : الأول أجل الموت ، والثاني أجل القيامة لأنه لا آخر له ولا يعلم أحد كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله تعالى. وقيل : الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. وقيل : الأول النوم ، والثاني الموت. وقيل : الأول مقدار ما انقضى من عمر كل أحد ، والثاني ما بقي من عمره. وقال حكماء الإسلام : الأول الأجل الطبيعي الذي يمكن بالنسبة إلى المزاج الأول لكل شخص لو بقي مصونا عن الآفات الخارجية ، والثاني الأجل الاخترامي الذي يحصل بسبب من الأسباب الخارجية كالغرق والحرق والقتل واللدغ وغيرها من الأمور المنفصلة. ومعنى (مُسَمًّى) أي مذكور اسمه في اللوح المحفوظ.

٤٨

ومعنى (عِنْدَهُ) أي في حكمه وعلمه كما تقول : هذه المسألة عند الشافعي كذا وعند أبي حنيفة كذا. وارتفع (أَجَلٌ) بالابتداء وجاز ذلك مع تنكيره لمكان وصفه فقارب المعرفة. وإنما لم يقل «وعنده أجل مسمى» تعظيما لشأن هذا الأجل فكأنه قيل : وأي أجل مسمى عنده؟ والمرية والامتراء الشك. ومعنى «ثم» تبعيد الامتراء عن مثل هذه الحجة الباهرة الموجبة للتيقن في أمر المبدأ والمعاد ، ثم قرر أنه سبحانه عالم بجميع المعلومات ردّا على من زعم أنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو فقال (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) وزعمت المجسمة بهذا وبنحو قوله (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) [الملك : ١٧] أنه سبحانه مستقر في السماء قالوا : ويؤكده وقف بعض القراء على السموات والابتداء بقوله (وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) أي يعلم سرائركم الموجودة في الأرض. ولو سلم أن لا وقف فالإجماع حاصل على أنه ليس موجودا في الأرض ، ولا يلزم من ترك العلم بأحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر من غير دليل. ونوقض بأنه تعالى قال في مواضع (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) [البقرة : ٢٨٤] فلو كان هو في السماء لزم أن يكون مالكا لنفسه ، ولا يخفى ضعف هذا النقض لأنه مخصوص بالقرينة كقوله (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢٠] وبأنه إما أن يراد كونه في سماء واحدة وهو ترك الظاهر ، أو في جميع السموات وهو يقتضي كونه ذا أجزاء أو حصول المتحيز الواحد في مكانين وكلاهما محال. والحق أنه لا يلزم من استصحاب المكان الافتقار إليه ولا التجسيم والتجزئة وهو دقيق يفهمه من وفق له ، وبأنه لو كان موجودا في السموات لكان محدودا متناهيا فيكون قابلا للزيادة والنقصان ، فيكون اختصاصه بمقدار معين لمخصص فيكون محدثا. ويرد عليه أنه لم لا يجوز أن يكون في السموات وفوقها إلى ما لا يتناهى لا سيما عند من يقول إن وراء هذا العالم خلاء غير متناه ، وبأنه لو كان في السموات فإن لم يقدر عل عالم آخر فوقها لزم تعجيزه ، وإن قدر فلو فعل لحصل تحت ذلك العالم والقوم ينكرون كونه تحت العالم ، والاعتراض أنه لا يلزم من القدرة الإيجاد ، وقال غير المجسمة : المراد وهو الله في تدبير السموات والأرض كما يقال : فلان في أمر كذا أي في تدبيره وإصلاحه. وعلى هذا يكون (فِي السَّماواتِ) خبرا بعد خبر ، ويوقف على اسم الله ثم يبتدأ بما بعد ذلك ويكون المعنى أنه يعلم في السموات والأرض سرائر الملائكة والإنس والجن ، أو المراد وهو المعبود فيهما ، أو المعروف بالإلهية أو المتوحد بها ، أو هو الذي يقال له الله فيهما لا شريك له في هذا الاسم. والسر من صفات القلوب وهي الدواعي والصوارف ، والجهر من أعمال الجوارح ، ولأن الأول مقدم على الثاني طبعا فلا جرم قدم عليه وضعا. والجملة أعني قوله (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) مقررة لما قبلها أو خبر ثالث أو كلام مبتدأ. (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ)

٤٩

الكسب أخص من الأعمال السرية والجهرية لأنه الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو اندفاع ضر ولهذا لا يوصف فعل الله تعالى بأنه كسب. وإفراد الأخص بالذكر بعد الأعم للتقرير والتأكيد ، أو لكونه أهم حسن لا يلزم منه عطف الشيء على نفسه. والمراد أنه عالم بما يستحقه الإنسان على أفعاله من ثواب أو عقاب.

ثم لما فرغ من دلائل التوحيد والمعاد شرع في النبوات فرتب أحوال الكفار مع الأنبياء في ثلاث مراتب : الأولى كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل وذلك قوله (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) «من» الأولى للاستغراق والثانية للتبعيض. والمراد وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار إلا وهم على حالة الإعراض لقلة تدبرهم وفرط غفلتهم. الثانية : كونهم مكذبين وهذه شر مما قبلها لأن الإعراض قد يكون للغفلة لا للتكذيب وإذا كذب فقد أعرض وزاد. قال علماء المعاني : هاهنا حذف كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية وهو الحق. قال أنس : هو انشقاق القمر بمكة انفلق فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة. وقيل : هو القرآن الذي تحدّوا به فعجزوا عنه. وقيل : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : شرعه. وقيل : وعده ووعيده وتبشيره وإنذاره. والأولى الحمل على الكل. المرتبة الثالثة : كونهم مستهزئين لأن التكذيب إذا انضم معه الاستهزاء كان غاية في الغواية وذلك قوله (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا) أي أخبار الشيء الذي كانوا (بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو القرآن وغيره من المعجزات. وليس المراد نفس الأنباء بل العذاب الذي أنبأ الله تعالى به كقوله (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [ص : ٨٨] والحكيم إذا توعد فربما قال : ستعرف نبأ هذا إذا نزل بك ما تحذره. وذلك أن الغرض من الخبر حصول العلم بالمخبر عنه وذلك إنما يتحقق بعد المعاينة. ومعنى الآية سيعلمون بأي شيء استهزؤا وأنه لم يكن موضع استهزاء وذلك عند نزول العقاب بهم في الدنيا كيوم بدر وغيره أو في الآخرة. ثم لما زجرهم عن الإعراض والتكذيب والاستهزاء وأوعدهم على ذلك عاد إلى الموعظة والنصيحة بتذكير أحوال الأمم الماضية والقرون الخالية. والقرن القوم المقترنون في زمان من الدهر المفترقون بعد ذلك بالموت وذلك الزمان في الأغلب ستون سنة. وقيل : سبعون. وقيل : ثمانون. والأقرب أنه غير مقدر بزمان لا يقع فيه زيادة ولا نقصان ، ولكنه إذا انقضى الأكثر من أهل كل عصر فقد انقضى القرن. وليس المراد أن يصدّق الكفار محمدا في هذه الأخيار لانهم بصدد التكذيب فسيكذبونه فيها أيضا ، وإنما المراد أن ما يختص بالمتقدمين منهم مشهور بين الناس فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا تلك الحكايات ومجرّد سماعها يكفي في الاعتبار. ثم وصف تلك القرون بثلاثة أوصاف : الأول : تمكينهم في الأرض. مكن له في الأرض جعل له مكانا ، ومكنه فيها أثبته ، وهما متقاربان ولهذا جمع بينهما في

٥٠

الآية. والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما آتينا عادا وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال وأسباب الدنيا. الثاني : إرسال السماء عليهم مدرارا يعني الغيث أو السحاب أو الخضراء ، لأن المطر ينزل من ذلك الصوب والمدرار كثير الدرّ درّ اللين إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير. ومدرارا نعت المطر ويقال أيضا سحاب مدرارا إذا تتابع أمطاره. ومفعال من أبنية المبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث. الثالث (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أي من تحت أمكنتهم والمراد أنهم أصحاب البساتين والقصور والمنتزهات. فإن قيل : الهلاك غير مختص بهم وإنما يجري ذلك على الأنبياء والمؤمنين أيضا ، قلنا : لدفع هذا الإشكال كرر فقال (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) فإن الإهلاك بسبب المعاصي والآثام لا يكون إلا بالعذاب والإيلام. ثم نبه بقوله (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) على كمال عزته واستغنائه ونهاية قدرته واستعلائه كقوله (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [فاطر : ١٦] فالبلاد بلاده والعباد عباده بيده التخريب والتعمير وإليه الإعدام والإيجاد. ثم ان الذين يتمردون عن قبول دعوة الأنبياء طوائف متعددة. منهم من بالغ في حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها على وفق هواه ومناه لا على قانون الخير والعدل فمنعه ذلك عن التزام التكاليف وهو المذكور في الآية ، وفيه أن لذات الدنيا ذاهبة وعذاب الكفر باق ، وليس من العقل تحمل العقاب الدائم لأجل اللذات الفانية. ومنهم من حملته العصبية والعناد على تكذيب معجزات الأنبياء وجعلها من قبيل السخر الذي لا أصل له وهم الذين عنوا بقوله (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) والمعنى أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه وشاهدوه عيانا لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر. وهاهنا سؤال وهو أن نزول الكتاب من السماء جملة إن لم يكن من باب المعجزات لم يكن إنكاره منكرا ، وإن كان من قبيل الإعجاز فالملك يقدر على إنزاله من السماء وقبل الإيمان بصدق الرسل لم تكن عصمة الملائكة معلومة ، وحينئذ يجوز أن يكون نزول ذلك من قبل بعض الجن والشياطين ، أو من بعض الملائكة الذين لم تثبت عصمتهم فلا يكون دليلا على الصدق. وأجيب بأن المقصود من الآية ليس بيان الإعجاز ، ولكن المراد أنهم إذا لمسوه بأيديهم يقوى الإدراك البصري بالإدراك اللمسي وبلغ الغاية في القوة والظهور. ثم إن هؤلاء يبقون شاكين في أن ذلك الذي رأوه ولمسوه هل هو موجود أم لا ، وذلك يدل على أنهم بلغوا في الجهالة إلى حد السفسطة. قال القاضي : في الآية دليل على وجوب اللطف لأنه بيّن أنه إنما لم ينزل هذا الكتاب من حيث إنه لو أنزله لقالوا هذا القول فيفهم منه أنهم لو قبلوه وآمنوا به لأنزله لا محالة ، وزيف بأن المفهوم ليس بحجة ، ولو سلم فوقوع اللطف لا يدل على وجوبه. ومن الكفرة من قابل النبوات بإيراد الشبهات والاقتراحات. قال الكلبي : إن مشركي مكة قالوا :

٥١

يا محمد والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله وذلك قوله (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) فأجاب الله تعالى عن مقترحهم بقوله (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) ومعنى القضاء الإتمام والإلزام كما مر. وتقرير الجواب أن إنزال الملك على البشر آية باهرة وحينئذ ربما لم يؤمنوا فيجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال ، أو لعلهم إذا شاهدوا الملك زهقت أرواحهم. ألا ترى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى جبرائيل على صورته الأصلية غشي عليه؟ وأن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم ولوط ، وكالذين تسوّروا المحراب ، وأن جبرائيل تمثل لمريم بشرا سويا؟ وفائدة ثمّ أن عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأة الشدة أفظع من نفس الشدة. ثم إنهم كانوا يطعنون في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة أخرى وهي أنه بشر مثلهم ويقولون : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان : ٧] وتقرير الشبهة أن الرسل إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر وقدرتهم أشد ومهابتهم أعظم وامتيازهم عن الخلق أكمل والاشتباه في نبوتهم ورسالتهم أقل ، والحكيم إذا أراد تحصيل مهم اختار ما هو أسرع إفضاء إلى المطلوب ، فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله (وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي الرسول (مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) لأن إنزال الملك آية ظاهرة جارية مجرى الإلجاء وإزالة الاختيار وذلك مناف لغرض التكليف ، ولأن الجنس إلى الجنس أميل ، ولأن البشر لا يطيق رؤية الملك ، ولأن طاعات الملك كثيرة فيحقرون طاعات البشر ويستعظمون إقدامهم على المعاصي فلا يصبرون معهم ، ولأن إنزال الملك يقوي الشبهة من وجه آخر وذلك أن أيّ معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك ، ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة لفعلنا مثل ما فعلت. ثم قال (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) لبست الأمر على القوم ألبسه لبسا إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلا ومنه لبس الثوب لأنه يفيد الستر. والمعنى إذا جعلنا الملك في صورة البشر كان فعلنا نظيرا لفعلهم في التلبيس ، وإنما كان ذلك لبسا لأن الناس يظنونه ملكا مع أنه ليس بملك ، أو يظنونه بشرا مع أنه ليس ببشر وإنما كان فعلهم لبسا لأنهم يخلطون على أنفسهم ويقولون إن البشر لا يصلح للرسالة فلا ينقطع السؤال أبدا ويبقى الأمر في حيز الاشتباه. وعلى هذا التفسير يكون قوله (ما يَلْبِسُونَ) مفعولا مطلقا. ويجوز أن يراد ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ فيكون مفعولا به يعني أن القوم إذا رأوا الملك في صورة الإنسان اشتبه الأمر عليهم ، وإذا كنا قد فعلنا ذلك كان اللبس منسوبا إلينا.

ثم إنه سبحانه وتعالى سلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقى من قومه بقوله (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ) أي نزل. وقال الفراء : عاد عليهم والتركيب يدور على الإحاطة ومنه

٥٢

الحوق بالضم ما استدار بالكمرة (ما كانُوا) أي الشيء الذي كانوا يستهزؤن به وهو الحق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أسند الحق إليه حيث أهلكوا لأجل الاستهزاء به. ويحتمل أن يراد بلفظة «ما» العذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله وهم يستهزؤن بذلك ، ثم أمر رسوله بأن يقول لهم : لا تغتروا بما وجدتم من زخارف الدنيا وسيروا في الأرض لتشاهدوا آثار الأمم السالفة الذين كذبوا رسلهم ونزل بهم ما نزل فإن الأسفار تورث الاعتبار وتفيد الاستبصار. واعلم أنه سبحانه قال هاهنا (ثُمَّ انْظُرُوا) وفي موضع آخر (فَانْظُروا) [آل عمران : ١٣٧] فالفاء لمجرد اعتبار ترتيب النظر على السير. وثم لتباعد ما بين المباح والواجب فإن السير مباح والنظر واجب. وأيضا شتان بين السير الصوري بقدم الأشباح وبين السير المعنوي بقدم الأرواح والله أعلم.

التأويل : حمد نفسه القديم الأزلي بكلامه القديم الأزلي على أن خلق سموات القلوب وأرض النفوس وجعل الظلمات. أي الصفات البهيمية والسبعية في النفوس والنور في القلوب وهو صفاتها الملكية والروحانية ، فخص الجعل بالمعاني التي هي من عالم الأمر والخلق بالأعيان لأنها من عالم الصورة ، ولهذا لما ذكر صورة آدم قال (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [ص : ٧١] وحيث أراد معناه قال (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ثم بعد هذا الجعل والخلق مال نفوس الكفار بغلبات الظلمات إلى طاغوت الهوى فجعلوه عديلا لربهم (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) للروح المفارق عن حضرته لأيام فراقه (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وهو أجل الوصال بعد الفراق بجذبة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) يا أهل الوصال كما يمتري أهل الفراق وهذا محال (وَهُوَ اللهُ) في سموات القلوب وفي أرض النفوس يعلم سر الخلافة الذي أودع فيكم (وَجَهْرَكُمْ) الذي يظهر عنكم (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) باستعمال الاستعداد السري والجهري في المأمورات والمنهيات في الخير أو الشر (مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) في الآفاق وفي أنفسهم مكناهم في طلب الحق من قهر النفس وأسباب الخيرات والطاعات. وأرسلنا مطر الواردات من سماء القلوب عليهم مدرارا متواليا ، وجعلنا أنهار الحكمة تجري من تحت نظرهم فأهلكنا مع هذه المقدمات أرواحهم بسموم ذنوب طلب الدنيا مالها وجاهها (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) من الطلاب الصادقين التائبين المستقيمين (لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) ليفهموا خطابه ويكون واقفا على الأحوال البشرية فيعالجهم بما يرى فيه صلاح حالهم كما قال (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم : ٤] قل سيروا في أرض النفوس بقدم التقوى ومخالفة الهوى إلى أن تبلغوا سواحل بحار القلوب فتشاهدوا بأنوار الله المودعة فيها عاقبة من هلكوا في بوادي القطيعة إذ ساروا بقدم الطبيعة.

٥٣

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))

القراآت : (إِنِّي أُمِرْتُ) بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع (إِنِّي أَخافُ) بفتح الياء : هما وابن كثير وأبو عمرو. الباقون : بالسكون. (مَنْ يُصْرَفْ) مبنيا للفاعل : سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون : مبنيا للمفعول (أَإِنَّكُمْ) بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام يدخل بينهما مدة أينكم بالياء بعد الهمز : ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد آينكم بالمد والياء : أبو عمرو ويزيد. وقالون (بَرِيءٌ) بغير همز حيث كان : يزيد وحمزة في الوقف يحشرهم ثم يقول بياء الغيبة فيهما : يعقوب. الباقون : بالنون (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ) بتاء التأنيث : حمزة وعلي وحماد والمفضل وسهل ويعقوب الباقون : بالياء (فِتْنَتُهُمْ) بالرفع : ابن كثير وابن عامر وحفص والمفضل. الباقون : بالنصب (وَاللهِ رَبِّنا) بالنصب على النداء : حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون : بالجر على البدل أو البيان.

الوقوف : (وَالْأَرْضِ) ط (قُلْ لِلَّهِ) ط (الرَّحْمَةَ) ط لأن قوله (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) جواب قسم محذوف. وقيل : لا وقف و (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) جواب معنى القسم في (كَتَبَ) وفيه نظر لأن (كَتَبَ) وعد ناجز و (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) وعد منتظر. (لا رَيْبَ فِيهِ) ط بناء على أن الذين مبتدأ فيه معنى الشرط (لا يُؤْمِنُونَ) ه (وَالنَّهارِ) ط (الْعَلِيمُ) ه (وَلا يُطْعَمُ) ط (مِنَ

٥٤

الْمُشْرِكِينَ) ه (عَظِيمٍ) ه (رَحِمَهُ) ط (الْمُبِينُ) ه (إِلَّا هُوَ) ط (قَدِيرٌ) ه (عِبادِهِ) ط (الْخَبِيرُ) ه (شَهادَةً) ط (وَمَنْ بَلَغَ) ط (أُخْرى) ط لانتهاء الاستخبار إلى الإخبار. (قُلْ لا أَشْهَدُ) ج لاتساق الكلام بلا عطف يشركون ه (أَبْناءَهُمُ) م لئلا يوهم أن ما بعده وصف (لا يُؤْمِنُونَ) ه (بِآياتِهِ) ط (الظَّالِمُونَ) ه يزعمون ه (مُشْرِكِينَ) ه (يَفْتَرُونَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه لما برهن على إثبات الصانع وتحقيق النبوّات وتقرير المعاد ، وانجر الكلام إلى الأمر باعتبار أحوال الغابرين ، عاد إلى إثبات هذه المطالب بطريق الإلزام وأخذ الاعتراف ، وذلك أن آثار الحدوث وسمات الإمكان لائحة على صفات السماويات والأرضيات حتى بلغ في ظهوره إلى حيث لا يقدر منكر على إنكاره ، فكان في السؤال تبكيت وإفحام ، وفي الجواب تقرير وإلزام ، أي هو لله بلا مراء وشقاق ولن يتم الملك إلا إذا كان قادرا على الإعادة كما هو قادر على الإبداء ، ولن تحصل حكمة الإعادة إلا بثواب المطيعين وعقاب العاصين ، ولن يحسن إيصال الثواب والعقاب إلا بعد نصب الدلائل وإرسال الرسل فلأجل ذلك قال (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي بنصب الأدلة وإزاحة العلة إيجاب الفضل والكرم. وقيل : هذه الرحمة هي أنه يمهلهم مدّة عمرهم ولا يعاجلهم بالاستئصال ، أو فرض على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدّقهم وقبل شريعتهم ، أو تلك الرحمة هي أنه يجمعهم إلى يوم القيامة فإنه لو لا هذا التهديد لحصل الهرج والمرج وارتفع الضبط وكثر الخبط كأنه قيل : لما علمتم أن كل ما في السموات والأرض لله تعالى ، وأنه مالك الكل فاعلموا أن الله الملك الحكيم لا يهمل أمور عبيده ، ولا يجوز في حكمته التسوية بين المطيع والعاصي والعامل والساهي. ومعنى (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) ليضمنكم. وقيل : فيه حذف أي ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة فإن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان. وقيل : ليجمعنكم في الدنيا بخلقكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة. قال الأخفش : (الَّذِينَ خَسِرُوا) بدل من ضمير المخاطبين في (لَيَجْمَعَنَّكُمْ). وقال الزجاج : إنه مبتدأ خبره (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وذلك لتضمنه معنى الشرط فكأنه قيل : ما للمشركين مع وضوح الدلائل الباهرة لا يؤمنون؟ فأجيب (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي في علم الله وسابق قضائه فهم لا يؤمنون في طرف الأبد ، فكان امتناعهم الآن عن الإيمان مسببا عن سبق القضاء عليهم بالخسران والخذلان. وقال في الكشاف (الَّذِينَ خَسِرُوا) نصب أو رفع على الذم بمعنى أريد الذين ، أو أنتم الذين. ثم لما بيّن أن له المكان والمكانيات ارتقى في البيان كما هو شأن الترتيب التعليمي إلى ما هو أخفى من ذلك عند الحس وهو الزمان والزمانيات فقال (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) عن ابن عباس أن كفار

٥٥

مكة أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد إنا قد علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة فنحن نجعل لك نصيبا من أموالنا حتى تكون من أغنانا رجلا وترجع عما أنت عليه فنزل (وَلَهُ ما سَكَنَ) الآية. قيل : اشتقاقه من السكون والتقدير كل ما سكن وتحرك كقوله (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي تقيكم الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر للقرينة. والأصوب أن يقال : اشتقاقه من السكنى كما يقال : فلان سكن ببلد كذا أي حل فيه. والمراد كل ما حل في الوقت والزمان سواء كان متحركا أو ساكنا ، وذلك أن الدخول تحت الزمان يستلزم التغير والحدوث فلا بد له من محدث يتقدم عليه وعلى نفس الزمان (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الذي يسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين فيوصل كل ممكن إلى كمال يليق به ويستعدّ له.

ثم لما كان لزاعم أن يزعم أن الذي يتعالى عن المكان وعن الزمان قد يكون ممكنا في نفسه كالمفارقات التي يثبتها الفلاسفة فلا جرم قال (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ) منكر الاتخاذ غير الله (وَلِيًّا) ولذلك قدم المفعول لكونه أهم ، ولو كان حرف الاستفهام داخلا على الفعل توجه الإنكار أوّلا إلى نفس اتخاذ الولي وأنه غير مهم (فاطِرِ السَّماواتِ) عطف بيان من (اللهِ) أو بدل. وقرىء بالرفع على إضمار هو ، وبالنصب على المدح. وعن ابن عباس : ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها. وقال ابن الأنباري : أصل الفطر الشق وقد يكون شق إصلاح كقوله (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [فاطر : ١] أي خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق والتأليف عند ضمه بعض الأشياء إلى بعض. وقد يكون شق إفساد ومنه قوله تعالى (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) [الملك : ٣] (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. والرزق والإطعام وإن كانا متغايرين وإلا لم يحسن العطف في قوله (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) [الذاريات : ٥٧] إلا أنهما متقاربان فحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر. وقرىء (وَهُوَ يُطْعِمُ) مبنيا للمفعول على أن الضمير لغير الله وقرىء (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) كلاهما للفاعل. والمعنى هو يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) [البقرة : ٢٤٥] أو الثاني بمعنى لا يستطعم. وحاصل الآية أنه يجب شغل القلب كله بالله وقطع العلائق بالكلية عما سواه لأنه الجواد المطلق الذي يهب لا لعوض ولا انتفاع. ثم بيّن أن النبي أيضا داخل في تكليف المعرفة بل هو أسبق قدما في ذلك فقال (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) وقيل لي (لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وفيه أن الواعظ يجب أن يتعظ أوّلا بما يقوله ، فالمريض لا

٥٦

يتصور منه العلاج. ثم ذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع جلالة قدره بصدد المؤاخذة على تقدير المخالفة فقال (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ولا يلزم من هذا جواز المعصية عنه لأن الفرض قد يتعلق بالمستحيل كقولك : إن كانت الخمسة زوجا فهي منقسمة بمتساويين. من قرأ (مَنْ يُصْرَفْ) مبنيا للفاعل فالضمير فيه عائد إلى الله والمفعول وهو العذاب محذوف لكونه معلوما أو مذكورا قبله. قال في الكشاف : ويجوز أن تنصب يومئذ على أنه مفعول به لـ (يُصْرَفْ) أي من يصرف الله عنه ذلك اليوم أي هو له ، ومن قرأ على بناء المفعول فهو مسند إلى ضمير العذاب ، ولم يسم الفاعل وهو الله تعالى للعلم به (فَقَدْ رَحِمَهُ) أي الله الرحمة العظمى كقولك : إن أطعمت زيدا من جوعه فقد أحسنت إليه يعني كمال الإحسان. أو المراد فقد أدخله الجنة فإن من لم يعذب لم يكن له بد من الثواب تفضلا أو استيجابا. قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أن إيصال الثواب على الطاعة غير واجب وإنما هو ابتداء فضل وإحسان وإلا لم يحسن ذكر الرحمة هاهنا ، ألا ترى أن الذي يقبح منه أن يضرب زيدا فإذا لم يضربه لا يقال أنه رحمه؟ (وَذلِكَ) أي صرف العذاب وإيصال الثواب على سبيل التفضل أو الاستيجاب (الْفَوْزُ الْمُبِينُ) لأنه المطلب الأعلى والمقصد الأسنى لكل مكلف. ثم أكد المعنى المذكور وهو أنه لا يجوز للعاقل أن يرغب في اتخاذ ولي غير الله بقوله (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) من مرض أو فقر أو غير ذلك من البليات (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) من غنى أو صحة (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عمم الحكم لندرج تحته كل خير والحاصل أن اندفاع جميع المضار بقدرته ، وكذا حصول جميع الخيرات لأن كل ما عداه فإنما هو تحت قهره وتسخيره وقد حصل بإيجاده وتكوينه ، فإن الممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ، ورأس المضارّ هو الكفر ، وسنام الخيرات هو الإيمان ، ولن يحصل نفرة الكفر وداعية الإيمان إلا بتوفيقه تعالى. وكل ما يتصور أنه قد نفع أو ضر من الجمادات أو المختارات فإن ذلك ينتهي إلى تخليق الله وجعله ذلك الشيء واسطة لذلك النفع أو الضر ، فلا ضارّ ولا نافع بالحقيقة إلا هو سبحانه. ثم زاد لهذا المعنى بيانا فقال (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) وهو إشارة إلى كمال القدرة (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) وإنه إشارة إلى كمال العلم. فالحكمة أعم من العلم لأنها عمل وعلم ، وكونه خبيرا أخص من العلم لأنه العلم ببواطن الأمور وخباياها ، فإذا اجتمعت هذه المعاني حصل العلم بكماله وغايته ، وقد استدل بظاهر الآية من أثبت الفوقية لله تعالى وعورض بوجوه منها : أنه لو كان فوق العالم فإن كان في الصغر بحيث لا يتميز منه جانب من جانب كالجوهر الفرد مثلا فذلك لا يقوله عاقل ، وإن كان ذاهبا في الأقطار كلها كان متجزئا. والجواب أنه لم لا يجوز أن يكون نورا قائما بذاته غير متناه لا متجزئا ولا متبعضا قاهرا لجميع الأنوار غالبا على جميع الأشياء ، فلا غاية لجوده ولا نهاية

٥٧

لوجوده. وأما إنه كيف يتصور نور بلا نهاية مع أنه لا ينقسم ولا يتبعض فمجرد استبعاد فلا يصلح حجة وإدراك شيء من هذا النور محتاج إلى نور (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠] ومنها أنه لو كان غير متناه من كل الجهات لزم اختلاطه بالقاذورات. والجواب أن هذا كلام مخيل فلا يستعمل في البرهان. ومنها أنه لو لم يكن خارج العالم خلاء ولا ملاء لم يمكن حصول ذات الله تعالى فيه ، وإن كان خلاء فحصوله في جزء من أجزاء ذلك الخلاء دون سائر أجزائه محتاج إلى مخصص ، فيكون الواجب مفتقرا فيكون محدثا هذا خلف. والجواب أنا ذكرنا أن نور الأنوار لا يتناهى وأنه وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى فيسقط هذا الاعتراض. ومنها أنه سبحانه موجود قبل الخلاء والحيز والجهة ، فلا يكون بعد حصول هذه الأشياء موجودا فيها وإلا لزم التغير في ذاته. والجواب بالفرق بين المعية وبين الافتقار. ومنها أن العالم كرة فإما أن يكون الله تعالى فوق أقوام بأعيانهم وحينئذ يلزم أن يكون تحت أقدام من يقابلهم وإما أن يكون فوق الكل فيكون فلكا محيطا بسائر الأفلاك وهذا لا يقوله مسلم. والجواب الإلزامي بعد تسليم كون العالم كرة أنا نختار القسم الأول ، ولا يلزم التحتية لأن التحت من جميع الجوانب هو ما يلي المركز ، والفوق ما يلي السماء. أو القسم الثاني ولا يلزم من إحاطته بجميع الأشياء كونه فلكا كسائر الأفلاك ، وأما التحقيق فقد مر. ومنها أن لفظ الفوق في الآية مسبوق بالقهر ويراد به القدرة والمكنة وملحوق بلفظ عباده ، وأنه مشعر بالمملوكية والمقدورية. فالمناسب أن يراد بالفوق أيضا فوقية القدرة ولا يلزم التكرار لأن المراد أن القهر والقدرة عام في حق الكل. والجواب أن حمل الوسط على الطرفين أولى من العكس ، بل لا نزاع في مفهوم العباد وإنما النزاع في مفهومي القاهرية والفوقية ، وليس حمل أحدهما على الآخر أولى من غيره ، ومنها أن الآية سيقت ردا على من اتخذ غير الله وليا وهذا إنما يحسن لو كان المراد بالفوقية القدرة لا الجهة. والجواب أن الفوقية بالوجه الذي قررناه في جواب الاعتراض الأول يفيد الاستعلاء المطلق وذلك يوجب أن يكون التعويل عليه في كل الأمور إذ لا وجود ولا ظهور لشيء من الأشياء إلا بفيضه ونوره. وقد يلوح للمتأمل في هذه الأجوبة بعد التنزيه عن التشبيه والتجسيم والحلول والاتحاد أسرار غامضة شريفة إن كان أهلا لها «وكل ميسر لما خلق له». (١) قال الكلبي : إن رؤساء مكة قالوا : يا محمد ما نرى أحدا يصدقك بما تقول من أمر الرسالة. ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٩٢ باب ٣ ـ ٥ ، ٧. مسلم في كتاب القدر حديث ٦ ـ ٨. أبو داود في كتاب السنّة باب ١٦. الترمذي في كتاب القدر باب ٣. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٠. أحمد في مسنده (١ / ٦ ، ٢٩ ، ١٣٣).

٥٨

من يشهد لك أنك رسول كما تزعم فنزلت (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) الآية.قال العلماء : إنها دلت على أن أكبر الشهادات وأعظمها شهادة الله. ثم بيّن أن شهادة الله حاصلة إلا أنها لم تدل على أن تلك الشهادة لإثبات أيّ المطالب فقيل : إنها لإثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ذكرنا من سبب النزول. والمعنى قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة حتى يعترفوا بأن أكبر الأشياء شهادة هو الله تعالى ، فإذا اعترفوا بذلك فقل إن الله شهد لي بالنبوة بأن أظهر على وفق دعواي معجزا هو القرآن الذي عجزتم معاشر الفصحاء والبلغاء عن معارضته. وقيل : إن حصول هذه الشهادة في وحدانية الله تعالى وذلك أن الوحدانية ليست مما يتوقف صحته على صحة السمع فلا يمتنع إثباتها بالسمع والمعنى (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) في إثبات الوحدانية والبراءة عن الأضداد والأنداد والأمثال والأشباه (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) وأبلغكم أن الدين هو التوحيد والشرك مردود. واستدل الجمهور بالآية على أنه يصح إطلاق الشيء على الله تعالى وخالف جهم محتجا بقوله تعالى (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢] إذ لا يمكن دعوى التخصيص فيه ، فإن التخصيص إنما يجوز في صورة شاذة لا يلتفت إليها لقلة اعتبارها فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيها على أن البقية جارية مجرى العدم. فلو كان الباري تعالى شيئا لكان أعظم الأشياء وأشرفها فيكون إخراجه من هذا العموم محض الكذب. وأيضا احتج بأن الشيء يطلق على المعدوم لقوله تعالى (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣] والشيء الذي سيفعله غدا معدوم في الحال ، فالشيء لا يفيد صفة مدح فلا يطلق عليه. والجواب عن الأول أن إخراج الأكثر من العموم جائز عندنا. ولو سلم فإنه تعالى واحد من الأشياء ، والمخرج بهذا الاعتبار أقل عددا من الباقي. وعن الثاني أن لفظ الشيء أعم الألفاظ ، ومتى صدق الخاص كالذات ، والحقيقة صدق العلم بالضرورة. قال جهم (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ) جملة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها فلا يصح استدلالكم. قلنا (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ) سؤال ولا بد له من جواب. وهو إما مذكور رأي قل الله أكبر الأشياء شهادة ثم ابتدئ فقيل شهيد أي وهو شهيد بيني وبينكم ، أو محذوف والمعنى قل هو الله والله شهيد بيني وبينكم. وحسن الحذف لأنه إذا سأل عن أكبر الأشياء شهادة وذكر بعد ذلك أن الله شهيد علم جزما أن أكبر الأشياء شهادة هو الله أما قوله (وَمَنْ بَلَغَ) فمعطوف على ضمير المخاطبين والعائد إلى من محذوف أي لأنذركم يا أهل مكة وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم. وقيل : من الثقلين. وقيل : من بلغه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : ومن بلغ أي من احتلم وبلغ أوان التكليف ، وعلى هذا فلا حاجة إلى

٥٩

إضمار العائد.

ثم استفهم مبكتا فقال (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) وصف الجمع بصفة الواحدة كما يقال : الرجال فعلت. ثم دل على إيجاب التوحيد بثلاث جمل : أولاها (قُلْ لا أَشْهَدُ) أي بما تذكرونه من إثبات الشركاء ، وثانيتها (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) وكلمة «إنما» تفيد الحصر. وثالثتها (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) ومن هنا قالت العلماء : المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويضم إليهما التبري عن كل دين سوى دين الإسلام. ولما زعم مشركو مكة أنهم سألوا اليهود والنصارى عن نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : ليس عندنا ذكره كذّبهم الله تعالى بقوله (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) أي يعرفون رسول الله بنعوته وحلاه الثابتة في الكتابين (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) بالنعوت والحلي لا يخفون عليهم ولا يشتبهون بغير أبنائهم. (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) إما بدل أو بيان من «الذين» الأولى ، ويكون المقصود وعيد المعاندين منهم والجاحدين. وإما مبتدأ والكلام جملة مستأنفة شاملة لجميع الجاحدين من أهل الكتاب ومن المشركين. والمراد بخسران النفس الهلاك الدائم الذي يحصل لهم بسبب الكفر. وقيل : ما من أحد إلا وله منزلة في الجنة إلا أن من كفر صارت منزلته إلى من أسلم فيكون قد خسر نفسه وأهله بأن ورّث منزلته غيره. ثم بيّن سبب خسرانهم مستفهما على سبيل الإنكار فقال (وَمَنْ أَظْلَمُ) وذلك أنهم جمعوا بين أمرين متنافيين : إثبات الباطل وهو الافتراء على الله ، وجحد الحق وهو التكذيب بآيات الله ، فمن الأول أن المشركين كانوا يقولون للأصنام إنهم شركاء الله والله أمرهم بذلك ، وكانوا يقولون : الملائكة بنات الله وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، واليهود والنصارى كانوا يزعمون أن التوراة والإنجيل ناطقان بعدم النسخ ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة إلى غير ذلك من مفترياتهم. ومن الثاني قدحهم في القرآن وفي صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الذين وضعوا الشيء في غير موضعه الباطل مكان الحق والحق بإزاء الباطل. ثم كشف عن حالهم يوم القيامة فقال (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) وناصبه محذوف أي ويوم كذا كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في الوعيد. ويحتمل أن يكون مفعول «واذكر» أو معطوفا على محذوف أي لا يفلح الظالمون في الدنيا ويوم الحشر. (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) آلهتكم التي جعلتموهم شركاء (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) هم شركاء فحذف المفعولان. والمقصود من هذا الاستفهام التقريع والتبكيت ، ويجوز أن يشاهدوهم إلا أنهم حيث لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم ، ويجوز أن يحال بينهم وبين آلهتهم وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها فتزداد حسرتهم ، ويحتمل أن يقال : أين شفاعتهم لكم وانتفاعكم بهم؟ والغرض من جميع الوجوه أن يتقرر

٦٠