تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩))

القراآت : (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) وبابه بغير همز : أبو عمرو غير شجاع وورش ويزيد والحلواني عن قالون والأعشى وحمزة في الوقف.

الوقوف : (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) ط (بِالْبَيِّناتِ) ج لابتداء النفي مع فاء التعقيب. (يَظْلِمُونَ) ه (أَوْلِياءُ بَعْضٍ) م لما مر. (وَرَسُولَهُ) ط (سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) ط (حَكِيمٌ) ه (عَدْنٍ) ط (أَكْبَرُ) ط (الْعَظِيمُ) ه (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) ط (جَهَنَّمُ) ط (الْمَصِيرُ) ه (ما قالُوا) ط (لَمْ يَنالُوا) ج (مِنْ فَضْلِهِ) ط (خَيْراً لَهُمْ) ج (وَالْآخِرَةِ) ج (وَلا نَصِيرٍ) ه (مِنَ الصَّالِحِينَ) ه (مُعْرِضُونَ) ه (يَكْذِبُونَ) ه (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ه ج لاحتمال النصب أو الرفع على الذم. وكونه بدلا من الضمير في (نَجْواهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) ط. (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) ط لإتمام الجزء مع اختلاف النظم. (أَلِيمٌ) ه.

التفسير : لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في تكذيب الأنبياء والاشتغال بالنعيم الزائل بين أن أولئك الكفار من هم فذكر ست طوائف سمع العرب أخبارهم لأن بلادهم ـ وهي الشام ـ قريبة من بلادهم وقد بقيت آثارهم مشاهدة ، ولهذا صدر الكلام بحرف الاستفهام للتقرير. فأوّلهم قوم نوح وقد أهلكوا بالإغراق ، وثانيهم : قوم عاد وأهلكوا بالريح العقيم ، وثالثهم : ثمود وأخمدوا بالصيحة ، ورابعهم : قوم إبراهيم سلط الله عليهم البعوض وكفى شر ملكهم وهو نمرود ببعوضة واحدة سلطها على دماغه ، وخامسهم : أصحاب مدين قوم شعيب أخذتهم الرجفة ، وسادسهم : أصحاب المؤتفكات قوم لوط أمطر الله عليهم الحجارة بعد أن جعل مدائنهم عاليها سافلها. والائتفاك الانقلاب سميت مدائنهم بذلك لأن الله تعالى قلبها عليهم. ويمكن أن يراد بالمؤتفكات الناس لانقلاب أحوالهم من الخير إلى الشر. ثم قال (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات ولا بد بعد هذا من إضمار والتقدير فكذبوهم فأهلكهم الله. (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) قالت المعتزلة : أي ما صح منه الظلم ولكنهم استحقوا ذلك بسبب كفرهم ، وقد مر الكلام في أمثال ذلك. ثم بين أن شأن المؤمنين في الدنيا والآخرة بخلاف المنافقين فقال (وَالْمُؤْمِنُونَ) الآية قال بعض العلماء : إنما قال هاهنا (أَوْلِياءُ بَعْضٍ) وهناك (مِنْ بَعْضٍ) [الآية : ٦٦] لأن نفاق

٥٠١

أتباع المنافقين حصل بسبب التقليد لأكابرهم بمقتضى الطبع والعادة بخلاف الموافقة بين المؤمنين فإنها بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية. وأقول : كون بعض المنافقين من بعض يوجب اشتراكهم في أمر من الأمور بالجملة كالدار أو حكم من الأحكام الشرعية أو سيرة وطريقة وهذا هو المقصود ، ولكنه يحتمل أن يكون تكلفا أو بطريق النفاق لأن سببه انعقاد غرض من الأغراض الدنيوية العاجلة فذكر الله تعالى اشتراكهم في ذلك بلفظ «من» لمكان الاحتمال المذكور. وأما تشارك المؤمنين في السيرة فلما كان سببه الإخلاص والعصبية للدين والاجتماع على ما يفضي إلى سعادة الدارين كانت الموالاة بينهم محققة فصرح الله تعالى بذلك. ثم وصفهم بأضداد صفات المنافقين فقال (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهاتان الصفتان بالنسبة إلى غيرهم. ثم قال (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) وهاتان لهم في أنفسهم وهما بإزاء قوله في صفة المنافقين (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) [التوبة : ٥٤]. ثم وصفهم بالطاعة على الإطلاق فقال (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي في كل ما يأتون ويذرون. ثم ذكر ما أعدّ لهم من الثواب على سبيل الإجمال فقال (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) والسين تفيد المبالغة في إنجاز الوعد بالرحمة كما يؤكد الوعيد به إذا قلت سأنتقم منك يوما يعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك. ثم ختم الآية بقوله (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وفيه ترغيب للمؤمنين وترهيب للكافرين لأن العزيز هو من لا يمنع من مرادة في عباده من رحمة أو عقوبة. والحكيم هو الذي يدبر عباده على وفق ما يقتضيه العدل والصلاح. ثم فصل ما أجمل من الرحمة بقوله (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ) لآية. وقد كثر كلام أصحاب الآثار في معنى جنات عدن فقال الحسن : سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن ذلك فقالا : على الخبير سقطت سألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «هو قصر في الجنة من اللؤلؤ وفيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء ، في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا على كل فراش زوجة من الحور العين ، وفي كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام ، وفي كل بيت سبعون وصيفة يعطى المؤمن من القوة ما يأتي على ذلك أجمع». وعن ابن عباس أنها دار الله لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر. وقال ابن مسعود : جنات عدن بطنان الجنة أي وسطها قاله الأزهري. وبطنان الأودية المواضع التي يستنقع فيها السيل واحدها بطن. وقال عطاء عن ابن عباس : هي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى. وسائر الجنات حولها. وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدر والياقوت والذهب. فتهب الريح من تحت العرش فتدخل عليها كثبان المسك الأبيض.

٥٠٢

وقال عبد الله بن عمر : وإن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج وله خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صدّيق أو شهيد. وفي هذه الأخبار دلالة على أن عدنا علم ويؤيده قوله (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) [مريم : ٦١] ولو لم يكن علما لم يوصف بالمعرفة. ولا ريب أن أصله صفة من قولك عدن بالمكان إذا أقام به ، ومنه المعدن للمكان الذي تخلق فيه الجواهر. وعلى هذا فالجنات كلها جنات عدن. إلا أن يغلب الاسم على بعضها. (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) شيء يسير من رضاه (أَكْبَرُ) من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز وكرامة وكل خطب مع رضا المولى هين ، وكل نعيم مع سخطه منغص. وفيه دليل على أن السعادات الروحانية أعلى حالا وأشرف مآلا من السعادات الجسمانية بل لانسبة لتلك اللذة والابتهاج إلى هذه على أن الاعتراف بالسعادات الجسمانية واجب من حيث الشرع (ذلِكَ) الموعود والرضوان (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وحده دون ما يعده الناس فوزا. في الحديث «إن الله عزوجل يقول لأهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا وأي شيء أفضل من ذلك قال أدخل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» (١)

ثم عاد مرة أخرى إلى شرح أحوال المنافقين فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) قال الضحاك : أي جاهد الكفار واغلظ على المنافقين لأن المنافق لا تجوز محاربته في ظاهر الشرع. وضعف بأن النسق يأباه. وقيل : المراد بهؤلاء المنافقين هم الذين عرفه الله حالهم فصاروا كسائر الكفرة فجاز قتالهم ، وزيف بأنه وإن علم حالهم بالوحي إلا أنه مأمور بأن يحكم بالظاهر والقوم كانوا يظهرون الإسلام فكيف يجوز قتالهم؟ والصحيح أن الجهاد بذل المجهود في حصول المقصود وهو شامل للسيف واللسان ، فالمراد جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة واغلظ عليهم في الجهادين جميعا عن ابن مسعود : إن لم يستطع بيده فبلسانه ، فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه ، فإن لم يستطع فبقلبه بأن يكرهه ويبغضه ويتبرأ منه. وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها. واعترض عليه بأن إقامة الحدود واجبة على كل فاسق فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق. واعتذر عنه بأنه قال ذلك لأن عنده أن كل فاسق منافق أو

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٥١. كتاب التوحيد باب ٣٨. مسلم في كتاب الجنة حديث ٩. الترمذي في كتاب الجنة باب ١٨.

٥٠٣

لأن الغالب ممن يقام عليه الحد في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كونه منافقا. قال الضحاك : خرج المنافقون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك ، وكانوا إذا خلا بعضهم إلى بعض سبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين ، فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم؟ فحلفوا ما قالوا شيئا من ذلك فأنزل الله تعالى (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) وعن قتادة أن رجلين اقتتلا رجل من جهينة ورجل من غفار فظهر الغفاري على الجهني فنادى عبد الله بن أبيّ يا بني الأوس انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك وقال (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقون : ٨] فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل إليه فجعل يحلف بالله ما قال فنزلت الآية. ومعنى قوله (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أنهم أظهروا الكفر بعد ما كانوا يظهرون الإسلام. أما قوله (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) فهو الفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند مرجعه من تبوك ، وذلك أنه توافق خمسة عشر رجلا منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل ، وكان عمار بن ياسر أخذ بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها ، فبيناهم كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلام فالتفت فإذا هم قوم متلثمون فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا. وقيل : همّ المنافقون بقتل عامر بن قيس لرده على الجلاس بن سويد وقد مر في تفسير قوله (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) [التوبة : ٦٢] وقيل : أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَما نَقَمُوا) وما أنكروا وما عابوا (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ) كقول القائل.

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فظفروا بالغنائم وجمعوا الأموال. وروي أنه قتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى ، ثم استعطف قلوبهم بعد صدور هذه الجنايات العظيمة عنهم فقال (فَإِنْ يَتُوبُوا) بك يعني ذلك الرجوع (خَيْراً لَهُمْ) وكان الجلاس ممن تاب فحست توبته (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) يعرضوا عن التوبة (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا) بالقتل والسبي واغتنام الأموال. وقيل : بما ينالهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب. وقيل : في القبر وأما عذاب الآخرة فمعلوم (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) يحتمل أرض الدنيا وأرض القيامة.

ثم بين أن هؤلاء كما ينافقون الرسول والمؤمنين فكذلك ينافقون ربهم فيما يعاهدونه

٥٠٤

عليه فقال (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) يروى عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ادع الله أن يرزقني مالا فقال : ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. ثم قال مرة أخرى فقال : أما ترضى أن تكون مثل نبي الله ، فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال فضة وذهبا لسارت. فقال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأوتين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم ارزق ثعلبة مالا. فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة ، فسأل عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبر خبره فقال : يا ويح ثعلبة ثلاثا وأنزل الله عزوجل (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣] فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلين على الصدقة رجلا من جهينة ورجلا من بني سليم ، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة وقال لهما. مرا بثعلبة وبفلان رجل من بني سليم فخذا صدقاتهما. فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ما أدري ما هذا ، انطلقا حتى تفرغا ثم تعودان إليّ. فانطلقا وأخبرا السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهم بها فلما رأوها قالوا : ما يجب هذا عليك وما نريد أن نأخذ هذا منك. قال : بلى خذوه فإن نفسي بها طيبة. فأخذوها منه ثم رجعا على ثعلبة فقال : أروني كتابكما ثم قال : ما هذه إلا أخت الجزية ، انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رآهما قال : يا ويح ثعلبة قبل أن يكلمهما ودعا للسلمي بالبركة ثم نزلت الآية وعند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من أقارب ثعلبة ، فخرج إليه وقال : يا ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا. فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته فقال : إن الله قد منعني أن أقبل منك صدقتك. فجعل يحثو التراب على رأسه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني. فلما أبى أن يقبل منه شيئا رجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقبل منه شيئا ، ثم أتى أبا بكر حين استخلف فقال : قد علمت منزلتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموضعي من الأنصاري فاقبل صدقتي. فقال : لم يقبلها رسول الله وأنا أقبلها؟ فقبض أبو بكر وأبى أن يقبلها ، ثم جاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها في خلافة عثمان ولم يقبل صدقته واحد من الخلفاء اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأقول وما ذاك إلا بشؤم اللجاج أولا وآخرا. قال بعض العلماء : المعاهدة أعم من أن تكون باللسان أو بالقلب. وقال المحققون : إنه لا بد من التلفظ بها لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفوسهم ولم

٥٠٥

يتلفظوا به» (١) ولأن قوله عز من قائل (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَ) ظاهره مشعر بالقول اللساني. والمراد بالفضل إيتاء المال بطريق التجارة أو الاستغنام ونحوهما. وأصل (لَنَصَّدَّقَنَ) لنتصدقن أدغمت التاء في الصاد. والمصدق المعطي لا السائل كقوله تعالى (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) [يوسف : ٨٨] ومعنى قوله (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) عن ابن عباس أنه أراد الحج. ولعل المراد إخراج كل ما يجب إخراجه إذ لا دليل على التقييد. ثم وصفهم بصفات ثلاث فقال (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) فالبخل عبارة عن منع الحق الشرعي ، والتولي نقض العهد ، والإعراض أراد به الإحجام عن تكاليف الله وأن ذلك منهم عادة معتادة ، ولترتب هذا الذم عل أمنع الصدقة ولإطلاق لفظة البخل عليه وهو في عرف الشرع عبارة عن منع الواجب. ذكر العلماء أن الصدقة الملتزمة في قوله (لَنَصَّدَّقَنَ) هي الصدقة الواجبة. وأن الرجل قد عاهد ربه أن يقوم بما يلزمه من الإنفاقات الواجبة. إن وسع الله عليه دون ما يلتزمه الإنسان بالنذر من المندوبات إذ لا دليل في الآية على ذلك مع أن سبب النزول يأباه. فإن قيل : الزكاة لا تلزم بسبب الالتزام وإنما تلزم بسبب ملك النصاب وحلول الحول. قلنا إن قوله (لَنَصَّدَّقَنَ) لا دليل فيه على الفور بل المراد لنصدقن في وقته الذي يليق به. وفي الآية دلالة على أن الرجل حين عاهد بهذا العهد كان مسلما ثم إنه لما بخل بالمال ولم يف بالعهد صار منافقا ويؤكده قوله سبحانه (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً) عن الحسن وقتادة أن أعقب مسند إلى ضمير البخل أي أورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم لأنه كان سببا فيه وباعثا عليه ، وكذا التأويل إن جعل عائدا إلى التولي أو الإعراض. وضعت بأن حاصل هذه الأمور كونه تاركا لأداء الواجب وذلك لا يمكن جعله مؤثرا في حصول النفاق فى القلب لأن ترك الواجب عدم والنفاق جهل وكفر وهو أمر وجودي والعدم لا يؤثر في الوجود ، ولأن هذا الترك قد يوجد في حق كثير من الفساق مع أنه لا يحصل معه النفاق ، ولأنه لو أوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه سواء كان الترك جائزا شرعا أو محرما فسبب اختلافات الأحكام الشرعية لا يخرج السبب عن كونه مؤثرا ، ولأن البخل أو التولي أو الإعراض هو بعينه خلاف ما وعدوا الله به فيصير تقدير الآية إن التولي أوجب النفاق بسبب التولي وهذا كلام كما ترى فلم يبق إلا أن يسند الفعل إلى الله تعالى فيكون فيه دليل

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب ١٥. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٢٠١ ، ٢٠٢. أبو داود في كتاب الطلاق باب ١٥. الترمذي في كتاب الطلاق باب ٨. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب ١٤. أحمد في مسنده (٢ / ٢٥٥ ، ٢٩٣).

٥٠٦

على أن خالق الكفر في القلوب هو الله ، ومن هنا قال الزجاج : معناه أنهم لما ضلوا في الماضي فالله تعالى يضلهم عن الدين في المستقبل ومما يؤكد القول بأن الضمير في (فَأَعْقَبَهُمْ) لله أن الضمير في قوله (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) عائد إلى الله. وللمعتزلة أن يقولوا : النفاق وإن سلم أنه وجودي لكنه أمر شرعي ولا يبعد جعل شيء عدمي أمارة عليه. وأيضا الترك المقرون بالتولي والإعراض لا نسلم أنه لا يحصل معه النفاق ، ولا يلزم من كون الترك المحرم موجبا للكفر بجعل الشارع كون الترك الجائز كذلك ، ولا نسلم أن البخل هو بعينه إخلاف الوعد والكذب بل قد يقع البخل من غير سبق وعد. سلمنا عود الضمير إلى الله لكن من أين يلزم كونه خالقا للكفر والنفاق ، ولم لا يجوز أن يراد فأعقبهم الله العقوبة على النفاق بإحداث الغم في قلوبهم وضيق الصدور ما ينالهم من الذل والخوف ، أو يراد فخذلهم حتى نافقوا وتمكن في قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا؟ ولأهل السنة أن يقولوا هذا عدول عن الظاهر مع أن الدلائل الدالة على وجوب انتهاء الكل إلى مشيئة الله وتقديره تعضد ما قلناه. قال العلماء : ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق ، فعلى المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه. ومذهب الحسن البصري أن نقض العهد يوجب النفاق لا محالة تمسكا بهذه الآية وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» (١) وقال عطاء بن أبي رباح : حدثني جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما ذكر قوله «ثلاث من كن فيه فهو منافق» في المنافقين خاصة الذين حدثوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكذبوه واؤتمنوا على سره فخانوه ووعدوه أن يخرجوا معه إلى الغزو فأخلفوه. ونقل أن عمرو بن عبيد فسر الحديث فقال : إذا حدث عن الله كذب عليه وعلى دينه ورسوله ، وإذا وعد أخلف كما ذكره الله فيمن عاهده ، وإذا اؤتمن على دين الله خان في السر وكان قلبه على خلاف لسانه. ونقل أن واصل بن عطاء أرسل إلى الحسن رجلا فقال : إن أولاد يعقوب حدثوه في قولهم (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف : ١٧] فكذبوا ، ووعدوه في قولهم (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [يوسف : ١٢] فأخلفوا وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه ، فهل تحكم بكونهم منافقين؟ فتوقف الحسن في مذهبه. قال أهل التفسير : قوله (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) دل على أن ذلك المعاهد يموت على ذلك وكان كما أخبر فيكون إخبارا بالغيب ومعجزا. قال الجبائي : هذا اللقاء لا شك أنه ليس بمعنى الرؤية لأن الكفار لا يرونه بالاتفاق فدل على

__________________

(١) رواه أحمد في كتاب الإيمان باب ٢٤. مسلم في كتاب الإيمان حديث ١٠٧ ـ ١٠٩. الترمذي في كتاب الإيمان باب ١٤.

٥٠٧

أن اللقاء في القرآن ليس بمعنى الرؤية ، وضعف بأنه لا يلزم من عدم كون هذا اللقاء بمعنى الرؤية كون كل لقاء ورد في القرآن كذلك كقوله (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦].

ثم وبخهم على التجاهل أو عدم العلم بعلم الله وإحاطته بضمائرهم وتناجيهم فقال (أَلَمْ يَعْلَمُوا) الآية. والسر ما ينطوي عليه الصدر ، والنجوى ما يكون بين اثنين وأكثر مع الإخفاء عن غيرهم. والترتيب يدل على التخليص كما مر في الإنجاء كان المتناجيين تخلصا عن غيرهما ومنه (خَلَصُوا نَجِيًّا) [يوسف : ٨٠] ومعنى الآية كيف تتجرؤون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع أنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر ويعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر لأنه العالم بجميع المعلومات على أي وجه يفرض؟! عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبهم ذات يوم وحثهم على أن يجمعوا الصدقات ، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالي ثمانية آلاف جئتك بنصفها فاجعلها في سبيل الله وأمسكت نصفها لعيالي. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى إنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله لهما مائة وستين ألف درهم. وقيل ؛ صولحت إحداهما على ثمانين ألفا. وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر ، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال : أجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله فأخذت صاعين من تمر ، أمسكت أحدهما لعيالي وأقرضت الآخر لربي ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوضعه في الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلّا رياء وسمعة ، وأما أبو عقيل فإنه جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر والله غني عن صاعه فأنزل الله سبحانه (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) أي المتطوعين فأدغمت. والتطوع التنفل وهو الطاعة لله بما ليس بواجب. والجهد بالضم والفتح شيء قليل يعيش به المقل ، قاله الليث. وقال الفراء : الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم. وفرق ابن السكيت بينهما فقال : الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة. وقال الشعبي : الأول في العمل والثاني في القوة (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) خير لا دعاء كقوله (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] وقد عرفت أن هذا من قبيل المشاكلة ، أو المراد منه لازم السخرية وهو إيقاع الذل والهوان بهم. وقال الأصم : المراد أنه تعالى يكلفهم إنفاق المال مع أنه لا يثيبهم عليه ، وإنما توجه الذم على المنافقين في هذا اللمز لأن الحكم بالرياء لمن يعطي الكثير كعبد الرحمن بن عوف

٥٠٨

وعاصم حكم على بواطن الأمور وذلك أمر استأثر الله به ورسوله. وأيضا لمز الفقير على جهد المقل سفه لأنه لما لم يقدر إلا عليه فقد بذلك كل ما له فعلم منه غالبا أنه إن قدر على أكثر من ذلك لم يكن منه منع ، وسعي الإنسان في أن يضم نفسه إلى أهل الخير والدين خير له من أن يضم نفسه إلى أهل الكسل والبطالة ، ولو لم تكن فيه إلا الثقة بالله والدخول في زمرة من يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة لكفى به منقبة وفضلا.

التأويل (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) لأن التعارف في عالم الأرواح يوجب التآلف في عالم الأشباح (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) الحقيقي أي بطلبه والمطلوب هو الله لقوله «فأحببت أن أعرف» (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو ما يقطع العبد عن الله (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) الحقيقية (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) يعني ما فضل عن كفافهم الضروري (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) بخلاف المنافقين فإنهم يطيعون النفس والهوى (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) على مراتب النفوس الطيبة فإن الطيبات للطيبين (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) يعني القلب الذي له نبأ من مقام الانباء (جاهِدِ) النفوس الكافرة بسيف الصدق والمخالفات ، وجاهد نفوس المريدين الذين يدعون الإرادة في الظاهر دون الباطن (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) في المأخذات بأحكام الشريعة والطريقة حتى تتمرن نفوسهم وإلا (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) القطيعة (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) وهي التي توجب الإنكار والاعتراض على الشيخ (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) أي أثبتوا لأنفسهم مرتبة الشيخوخة قبل أوانها (وَما نَقَمُوا) إلا أن الشيخ رباهم بلبان فضل الله عن حلمة الولاية فلم يحتملوا لضيق حوصلة الهمة ، ومربد الطريقة أعظم من مربد الشريعة فلهذا يكون عذابه أليما في الدنيا والآخرة كما قال الجنيد : لو أقبل صديق إلى الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) باستعداده الفطري (لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ) جعلنا متمكنين من اكتساب الكمال (لَنَصَّدَّقَنَ) لنصرفن كل ما أعطانا فيما أعطى لأجله (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) أي يلقون جزاء النفاق (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يعلم ما توسوس به أنفسهم وهو غيب عن الخلق ويعلم ما يستكن في قلوبهم وهو غيب في نفوسهم ولهذا قال (الْغُيُوبِ). (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) ذكره بلفظ الماضي ليعلم ان سخرية المنافقين نتيجة سخرية الله بهم في الأزل.

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى

٥٠٩

طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩))

القراءات : (مَعِيَ أَبَداً) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص والمفضل (مَعِيَ عَدُوًّا) بالفتح : حفص فقط.

الوقوف : (أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ط (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ط (وَرَسُولِهِ) ط (الْفاسِقِينَ) ه (فِي الْحَرِّ) ط (حَرًّا) م لأن المعنى لو كانوا يفقهون حرارة النار لما قالوا لا تنفروا في الحر. ولو وصل لأوهم أن جهنم لا يكون نارها أشد حرا إذا لم يفقهوا ذلك (يَفْقَهُونَ) ه (كَثِيراً) ج لأن (جَزاءً) يصلح أن يكون مفعولا له أو مصدر محذوف أي يجزون جزاء (يَكْسِبُونَ) ه (مَعِيَ عَدُوًّا) ط (الْخالِفِينَ) ه (عَلى قَبْرِهِ) ط (فاسِقُونَ) ه (وَأَوْلادُهُمْ) ط (كافِرُونَ) ه (الْقاعِدِينَ) ه (لا يَفْقَهُونَ) ه (وَأَنْفُسِهِمْ) ط (الْخَيْراتُ) ز لابتداء وعد الفلاح على التعظيم بدليل تكرار (أُولئِكَ) مع اتفاق الجملتين. (الْمُفْلِحُونَ) ه (خالِدِينَ فِيها) ط (الْعَظِيمُ) ه.

التفسير : عن ابن عباس ان عند نزول الآية الأولى في المنافقين قالوا : يا رسول الله استغفر لنا واشتغل بالاستغفار لهم فنزل (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الآية ، ومن المفسرين من قال : إنهم طلبوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستغفر لهم وإن الله نهاه عنه. والنهي عن الشيء لا يدل على أن المنهي أقدم على ذلك الفعل. ثم إن الدليل قد يدل على أنه ما اشتغل بالاستغفار لأن المنافق كافر ، وقد ظهر في شرعه ان الاستغفار للكافر غير جائز ، ولأن الاستغفار للمنافق يجري مجرى إغرائه على مزيد النفاق ولأنه يلزم أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مجاب الدعوة وإن أكثر في الدعاء. ومن الفقهاء من قال : التخصيص بالعدد المعين يدل على أن الحال

٥١٠

فيما وراء ذلك العدد بخلافه لما روي أنه لما نزلت الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأزيدن على السبعين فنزل (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [المنافقون : ٦] فكف عنه. فلو لا أنه فهم بدليل الخطاب أن الأمر فيما وراء السبعين بالخلاف لم يقل لأزيدنّ على ذلك. وأجيب بأنه أراد إظهار الرحمة والرأفة بأمته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم لبعض لا أنه فهم منه ذلك ، كيف وقد قال تعالى (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وأردفه بقوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ). فليس المقصود بهذا العدد تحديد المنع وإنما هو كقول القائل لمن يسأله حاجة : لو سألتني سبعين مرة لم أقضها. ولهذا بين العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول وهي كفرهم وفسقهم ، وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين. وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجها هو أن السبعة عدد شريف لأنه عدد السموات والأرضين والبحار والأقاليم والنجوم السيارة والأعضاء وأيام الأسبوع ، فضرب السبعة في عشرة لأن الحسنة بعشر أمثالها. وقيل : خص بالذكر لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كبّر على حمزة سبعين تكبيرة وكأنه قال : إن تستغفر لهم سبعين مرة بإزاء تكبيراتك على حمزة. هذا وقد مر في تفسير قوله (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [التوبة : ٥٣] أن هذا أمر في معنى الخبر كأنه قيل : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لا ، وانتصاب سبعين على المصدر كقولك : ضربته عشرين ضربة. ثم ذكر نوعا آخر من قبائح أفعالهم فقال (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ) قيل : إنهم احتالوا أن يتخلفوا وكان الأولى أن يقال فرح المتخلفون. وأجيب بأنهم استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأذن لهم وخلفهم بالمدينة في غزوة تبوك ، أو أريد خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان ، أو المجاهدون لما لم يوافقوهم في القعود فكأنهم خلفوهم ، أو أطلق عليهم المخلفون باعتبار أنهم سيصيرون ممنوعين من الخروج في الآية الآتية (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ) إلى قوله (وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) ومعنى (بِمَقْعَدِهِمْ) بقعودهم قاله مقاتل. أو بموضع قعودهم وهو المدينة قاله ابن عباس. ومعنى (خِلافَ رَسُولِ اللهِ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخالفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سار وأقاموا قاله قطرب والزجاج فانتصابه على أنه مفعول له أي قعد والأجل خلافه أو على الحال مثل «فأرسلها العراك» أي مخالفين له. وقال الأخفش ويونس : الخلاف بمعنى الخلف أي بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك أن جهة الأمام التي يقصدها الإنسان يخالفها جهة الخلف (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا) كيف لا يكرهون وليس فيهم باعث الإيمان وداعي الإخلاص ومعهم صارف الكفر والنفاق؟ وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين أموالهم وأرواحهم في الله المؤثرين ذلك على الدعة والخفض. واعلم أن الفرح بالإقامة يدل على كراهية الذهاب إلا أنه صريح بذلك للتوكيد ، ولعل المراد أنه مال طبعهم إلى الإقامة لإلفهم بالبلد واستئناسهم بالأهل والولد ، وكرهوا الخروج إلى الغزو لأنه تعريض بالنفس

٥١١

والمال للقتل والإهدار. (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أن بعد هذه الدار دار أخرى وبعد هذه الحياة حياة أخرى. وهذه المشقة منقضية سهلة وتلك باقية صعبة ولبعضهم وكأنه صاحب الكشاف :

مسرة أحقاب تلقيت بعدها

مساءة يوم أنها شبه أنصاب

فكيف بأن تلقى مسرة ساعة

وراء تقضيها مساءة أحقاب

وفي هذا استجهال عظيم لهم. ثم قال (فَلْيَضْحَكُوا) وهو خبر إلا أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره ومعناه فسيضحكون قليلا أي ضحكا قليلا أو زمانا قليلا وسيبكون كثيرا. يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم. ثم عرف نبيه وجه الصلاح في سائر الغزوات فقال (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) أي إن ردّك إلى المدينة. الرجع متعد مثل الرد ، والرجوع لازم. وإنما قال طائفه لأن منهم من تاب عن النفاق وندم أو اعتذر بعذر صحيح. وقيل : لم يكن المخلفون كلهم منافقين فأراد بالطائفة المخلفين من المنافقين. (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) إلى غزوة أخرى بعد غزوة تبوك (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) عاقبهم بإسقاط عن ديوان الغزاة جزاء على تخلفهم لما فيه من الذم والطرد وصلاحا لأمر الجهاد لما في استصحابهم من المفاسد المذكورة في قوله (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) [التوبة : ٤٧] ويعني بأول مرة غزوة تبوك. وإنما لم يقل أول المرات معرفا مجموعا لأن المعنى إن فصلت المرات مرة مرة كانت هذه أولها نظيره «هو أفضل رجل» يعني إن عدّ الرجال رجلا رجلا كان هو أفضلهم. وإنما لم يقل «أولى مرة» لأن أكثر اللغتين «هند أكبر النساء» ولا يكاد يقال «هي كبرى امرأة» (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) كقوله (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) [التوبة : ٤٦] والخالف من يخلف الرجل في قومه. وعن الأصمعي أنه الفاسد من خلف اللبن والنبيذ إذا فسد. وعن الفراء معناه المخالف. قال قتادة : ذكر لنا أن الخالفين الذين أمروا بالقعود كانوا اثني عشر رجلا. عن ابن عباس أنه لما اشتكى عبد الله ابن أبيّ ابن سلول عاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره ويعطيه قميصه الذي يلي جلده ليكفن فيه ففعل كل ذلك. وعنه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : لما توفي عبد الله بن أبيّ دعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصلاة عليه فقام إليه ، فلما وقف عليه يريد الصلاة تحوّلت حتى قمت في صدره فقلت : يا رسول الله أعلى عدوّ الله عبد الله ابن أبيّ القائل يوم كذا كذا وكذا؟ أعدد أيامه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتبسم ، حتى إذا أكثرت عليه قال : أخر عني يا عمر إني خيرت فاخترت ، قد قيل لي استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن

٥١٢

تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت. قال : ثم صلى عليه ومشى معه فقام على قبره حتى فرغ منه قال : فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله ورسوله أعلم. قال : فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزل (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) الآية. فما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله. قال المفسرون : وكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما فعل بعبد الله بن أبيّ قال : وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله ، والله إن كنت لأرجو أن يسلم به ألف من قومه وكان كما قال. وقيل : لعل السبب فيه أنه لما طلب من الرسول قميصه الذي مس جلده ليدفن فيه غلب على ظن الرسول أنه انتقل إلى الإيمان لأنه وقت يتوب فيه الكافرة فرغب أن يصلي عليه. وذكر من أسباب دفع القميص أن العباس عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ أسيرا ببدر ولم يجدوا له قميصا طويلا فكساه عبد الله قميصه ، ومنها أن المشركين قالوا له يوم الحديبية إنا لا ننقاد لمحمد ولكنا ننقاد لك. فقال : إن لي في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسوة حسنة ، فشكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صنيعه. ومنها أنه كان لا يرد السائل لقوله تعالى (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [الضحى : ١٠] ومنها أن ابنه عبد الله كان من الصالحين فالرسول أكرمه لمكان ابنه. ومنها إظهار الرأفة والرحمة كما مر.

قوله (ماتَ) صفة لأحد و (أَبَداً) ظرف لقوله (لا تُصَلِ) وإنه يحتمل تأبيد النفي ونفي التأبيد والظاهر الأول ، لأن القرائن تدل على منعه من أن يصلي عل أحد منهم منعا كليا دائما. قال الزجاج : معنى قوله (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع هاهنا منه. وقال الكلبي : معناه لا تقم بإصلاح مهمات قبره و (إِنَّهُمْ كَفَرُوا) تعليل للنهي ويرد عليه أن الكفر حادث وحكم الله قديم والحادث لا يكون علة للقديم. وأجيب بأن العلة هاهنا بمعنى الإمارة المعرفة للحكم. قال في الكشاف : وإنما قيل مات وماتوا بلفظ الماضي والمعنى على الاستقبال على تقدير لكون والوجود لأنه كائن موجود لا محالة. وإنما وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر لأن الكافر قد يكون عدلا في دينه ، والكذب والنفاق والخداع والجبن والخبث مستقبح في جميع الأديان. أما قوله (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ) فقد سبق مثله في هذه السورة بتفاوت ألفاظ فوجب علينا أن نذكر سبب التفاوت ، ثم فائدة التكرار فنقول والله تعالى أعلم بمراده : إنما ذكر النهي هاهنا بالواو وهناك بالفاء لأنه لا تعلق له هاهنا بما قبله وهو موتهم على حالة الفسق خلاف ما هنالك. وإنما قال هاهنا (وَأَوْلادُهُمْ) بدون «لا» لأن المراد هنالك الترقي من الأدون إلى الأعلى وهو أن إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم

٥١٣

كقولك : لا يعجبني أمر النائب ولا أمر المنوب. وهاهنا أراد المعية فقط إما اكتفاء بما سبق هناك ، وإما لأن هؤلاء أقوام آخرون لم يكن عندهم تفاوت بين الأمرين. وقيل : إنه هناك لما علق الثاني بالأول تعليق الجزاء بالشرط أكد معنى النهي بتكرار «لا» ، وإنما قال هاهنا (أَنْ يُعَذِّبَهُمْ) لأنه إخبار عن قوم ماتوا على الكفر فتعلق الإرادة بما هم فيه وهو العذاب. وأما في الآية المتقدمة فالمفعول محذوف وقد مر. وقيل : الفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله محال وأنه أينما ورد حرف التعليل فمعناه «أن» ، وإنما حذف الحياة هاهنا اكتفاء بما ذكر هنالك وقيل تنبيها على أن الحياة الدنيا لا تستحق أن تسمى حياة لخستها. وأما فائدة التكرير فهي المبالغة في التحذير من الأموال والأولاد لأنها جذابة للقلوب فتحتاج إلى صارف قوي ، ويحتمل أن تكون الأولى في قوم والثانية في آخرين. وقيل : الثانية في اليهود والأولى في المنافقين. ثم عاد إلى توبيخ المنافقين فقال (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) أي تمامها ويجوز أن يزاد عليها كما يقع القرآن والكتاب على بعضه. وقيل : هي براءة لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد (أَنْ آمِنُوا) «أن» هي المفسرة لأن إنزال السورة في معنى القول. وقال الواحدي : تقديره بأن آمنوا وإنما قدم الأمر بالإيمان لأن الاشتغال بالجهاد لا يفيد إلا بعد الإيمان (أُولُوا الطَّوْلِ) ذو الفضل والسمعة من طال عليه طولا قاله ابن عباس والحسن. وقال الأصم : الرؤساء والكبراء المنظور إليهم ، وخصوا بالذكر لأن الذم لهم ألزم إذ لا عذر لهم في القعود (مَعَ الْقاعِدِينَ) مع أصحاب الأعذار من الضعفة والزمنى. والخوالف النساء اللواتي تخلفن في البيت ، وجوز بعضهم أن يكون الخوالف جمع خالف وكان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخوالف. ثم قال (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) كقوله (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧] وقد مر البحث فيه ، وقال الحسن : الطبع بلوغ القلب في الكفر إلى حد كأنه مات عن الإيمان. وقالت الأشاعرة : هو حصول داعية الكفر المانعة من الإيمان. والطبع في اللغة الختم وهو التأثير في الطين ونحوه ، ومنه الطبع للسجية التي جبل عليها الإنسان (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أسرار حكمة الله في الجهاد أو في الذهاب من السعادة وما في التخلف من الشقاء. وفي قوله (لكِنِ الرَّسُولُ) نكتة هي أنه إن تخلف هؤلاء فقد أنهض إلى الغزو من هو خير منهم وأصدق نية كقوله (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) [الأنعام : ٨٩] ثم ذكر منافع الجهاد على الإجمال فقال (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) وهي شاملة لمنافع الدارين. وقيل : هي الحور لقوله (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) [الرحمن : ٧٠] وقوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المراد منه الخلاص من المكاره. ثم فصل ما أجمل فقال (أَعَدَّ اللهُ) الآية وقيل : الخيرات

٥١٤

الفلاح في الدنيا وهذه في الآخرة. و (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعة ودرجة عالية.

التأويل : إنما لم يؤثر استغفار الرسول في حقهم لقصور في القائل لا لتقصير في الفاعل ، والأثر يتوقف على الأمرين (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من رين القلوب وكدورة الأرواح بظلمة الصفات الحيوانية. (وَهُمْ كافِرُونَ) مستورو القلوب بحجاب حب الأموال والأولاد. لهم الخيرات لما سعوا سعي العبودية نالوا خيرات الربوبية ، (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المتخلصون عن حجب صفات النفس (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إذ لا حجاب أعظم من حجاب النفس والله أعلم.

تم الجزء العاشر من تفسير النيسابوري ويليه الجزء الحادي عشر وأوله

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ .........)

٥١٥

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الحادي عشر من أجزاء القرآن الكريم

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩))

القراآت : (الْمُعَذِّرُونَ) من الأعذار : قتيبة ويعقوب. الباقون : بالتشديد (دائِرَةُ السَّوْءِ) بضم السين وكذلك في الفتح : أبو عمرو وابن كثير. الآخرون بفتحها (قُرْبَةٌ) بضم الراء : نافع غير قالون. الباقون بإسكانها وكلاهما بمعنى.

الوقوف : (وَرَسُولَهُ) ط (أَلِيمٌ) ه (لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) ط (مِنْ سَبِيلٍ) ط (رَحِيمٌ) ه لا للعطف ، (ما يُنْفِقُونَ) ه (أَغْنِياءُ) ج لاحتمال أن يكون (رَضُوا) مستأنفا أو وصفا. (مَعَ الْخَوالِفِ) لا لأن الواو إما للعطف أو للحال. (لا يَعْلَمُونَ) ه (إِلَيْهِمْ) ط (مِنْ

٥١٦

أَخْبارِكُمْ) ط (تَعْمَلُونَ) ه (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) ط (عَنْهُمْ) ط (رِجْسٌ) ز لاختلاف الجملتين مع شدة اتصال المعنى في إتمام الوعيد. (جَهَنَّمُ) ج لأن جزاء يصلح أن يكون مفعولا له أو مفعولا مطلقا لمحذوف أي يجزون جزاء (يَكْسِبُونَ) ه (لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) ط لابتداء الشرط مع فاء التعقيب. (الْفاسِقِينَ) ه (عَلى رَسُولِهِ) ط (حَكِيمٌ) ه (الدَّوائِرَ) ط (دائِرَةُ السَّوْءِ) ط (عَلِيمٌ) ه (الرَّسُولِ) ط (لَهُمْ) ط (فِي رَحْمَتِهِ) ط (رَحِيمٌ) ه.

التفسير : لما شرح أحوال منافقي المدينة شرع في أحوال المنافقين من أهل البدو فقال (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ). من قرأ بالتخفيف فهو من أعذر إذا اجتهد في العذر وبالغ فيه ومنه قولهم : من أنذر فقد أعذر. فكأنه تعالى فصل بين أصحاب العذر وبين الكافرين ؛ فالمعذرون هم الذين أتوا بالعذر وهم أسد وغطفان قالوا : إن لنا أتباعا وعيالا وإن بنا جهدا فأذن لنا في التخلف. وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيء على أهالينا ومواشينا فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : سيغنيني الله عنكم. وعن مجاهد : نفر من غفار. ومن قرأ بالتشديد ففيه وجهان : الأوّل أن يكون من التعذير وهو التقصير في الأمر والتواني فيه وحقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له. الثاني وقد ذكره الفراء والزجاج وابن الأنباري أنه من الاعتذار والأصل فيه المعتذرون أدغمت التاء في الذال بعد نقل حركتها إلى العين. والاعتذار قد يكون بالكذب كقوله تعالى : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا) وقد يكون صحيحا كقول القائل :

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

أي ما جاء بعذر صحيح. فإذا أخذنا بقراءة التخفيف كان المعذرون صادقين ، وإذا أخذنا بقراءة التشديد وفسرناها بالمعتذرين فاحتمل الأمران. ومن المفسرين من رجح جانب صدقهم لأنه تعالى ميزهم من الكاذبين بقوله : (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) ومنهم من مال إلى أنهم كاذبون. روى الواحدي بإسناده عن أبي عمرو أنه قال : إن أقواما تكلفوا عذرا بباطل وهم الذين عناهم الله بقوله (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) وتخلف آخرون لا بعذر ولا بشبهة عذر جراءة على الله وهم الذين أرادهم الله بقوله : (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان. (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أي من الأعراب (عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا بالقتل وفي العقبى بالنار. وإنما قال : (مِنْهُمْ) لعلمه بأن بعضهم سيؤمن ويتخلص من هذا العقاب. ثم ذكر أن تكليف الجهاد ساقط عن أصحاب الأعذار الحقيقية فقال (لَيْسَ عَلَى

٥١٧

الضُّعَفاءِ) وهم الذين في أبدانهم ضعف في أصل الخلقة أو لهرم (وَلا عَلَى الْمَرْضى) ويدخل فيه أصحاب العمى والعرج والزمانة وكل من كان موصوفا بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) في الغزو على أنفسهم (حَرَجٌ) قيل : هم مزينة وجهينة وبنو عذرة ، وفيه دليل على أنه لا يحرم عليه الخروج إذا أمكنه الإعانة بمقدار القدرة كحفظ متاع المجاهدين وتكثير سوادهم وإنما يكون ذلك طاعة مقبولة منه إذا لم يجعل نفسه كلا ووبالا عليهم. ثم إنه شرط في جواز القعود النصح لله ورسوله ليحترزوا بعدهم عن إلقاء الإرجاف وإثارة الفتن ويقوموا على إصلاح مهمات بيوتهم. وبالجملة على كل ما له مدخل في طاعة الله ورسوله وموافقة السر العلن كما يفعل المولى الناصح بصاحبه. ثم قال : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي المعذورين الناصحين (مِنْ سَبِيلٍ) للعتاب والمؤاخذة. قال بعض أهل الظاهر كداود الأصفهاني وغيره : إن المحسن هو الآتي بالإحسان ورأس الإحسان وسنامه هو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله. فهذا يدل على أن المكلف إذا تكلم بهذه الكلمة برئت ذمته عن مطالبة نفسه وماله إلا بدليل منفصل كما أن السلطان لو قال لأهل مملكته تكليفي عليكم كذا وكذا وبعد ذلك لا سبيل لأحد على أحد كان ذلك دليلا على أنه لا تكليف عليهم فيما وراء ذلك لأن باب النفي لا نهاية له فلا ينضبط إلا بهذا الطريق. وعلى هذا لو ورد في القرآن ألف تكليف أو أقل أو أكثر كان ذلك تنصيصا على أن التكاليف محصورة فيها وفيما وراءها ليس لله على الخلق تكليف وأمر ونهي ، وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة ويكون القرآن وافيا ببيان التكاليف والأحكام ، ولا حاجة إلى التمسك بالقياس لأن هذا النص دل على أن الأصل براءة الذمة. فإن كان القياس مفيدا للبراءة أيضا فضائع ، وإن كان يفيد شغل الذمة صار مخصصا لعموم النص ، وإنه لا يجوز لأن النص أقوى من القياس. ولما ذكر الضعفاء والمرضى والفقراء بيّن قسما رابعا وهم الذين لا يجدون الراحلة وإن قدروا على الزاد فقال : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) أي على المركوب. قلت : قال في الكشاف : هو حال من الكاف في (أَتَوْكَ) بإضمار «قد» أي إذا ما أتوك قائلا (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا) وجوز أن يكون واسطة بين الشرط والجزاء كالاعتراض. قلت : ويحتمل أن يكون بدلا من (أَتَوْكَ). قال مجاهد : هم أبناء مقرن معقل وسويد والنعمان ، وقيل : أبو موسى الأشعري وأصحابه أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يستحملونه ووافق منه غضبا فقال : والله ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم مدبرون يبكون فدعاهم وأعطاهم ذو داغر الذري. فقال أبو موسى : ألست حلفت يا رسول الله فقال : أما إني إن شاء الله لا أحلف

٥١٨

بيمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني. وقيل : هم البكاءون سبعة نفر من الأنصار معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وعلبة بن زيد وسالم بن عمير وثعلبة بن عنمة وعبد الله بن مغفل ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : يا نبي الله إن الله عزوجل قد ندبنا للخروج معك فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو معك. فقال : لا أجد ما أحملكم عليه فولوا وهم يبكون. وقوله (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) كقولك تفيض دمعا وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كلها فائضة. و «من» للبيان والجار والمجرور في محل النصب على التمييز. (حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا) أي على أن لا يجدوا. (إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي سبيل الخطاب والعتاب في أمر الغزو والجهاد (عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) في التخلف وهم أغنياء. ثم قال على سبيل الاستئناف (رَضُوا) كأنه قيل ما لهم استأذنوا وهم قادرون على الاستعداد؟ فقيل : رضوا بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف ومن جملة أسباب الاستئذان أن طبع الله تعالى على قلوبهم. قال أهل العلم : لما قال في الآية الأولى و (إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) [التوبة : ٨٦] قال هناك (وَطُبِعَ) [التوبة : ٨٧] ليكون المجهول مبنيا على المجهول بخلافه في هذه الآية. ثم إن العلم فوق الفقه فكان أنسب بالمقام الذي جرى فيه ذكر الله. أما قوله (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) فإنه علة المنع من الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصير عذره مقبولا فإذا علم بأن القوم يكذبونه وجب عليه تركه. وقوله (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ) علة لانتفاء التصديق. (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) يعني رؤية وقوع أي سيقع أنكم هل تبقون على الحالة التي تظهرونها أم لا. وفي قوله (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ) تخويف شديد وفيه أنه مطلع على بواطنهم الخبيثة وضمائرهم المملوءة من النفاق والكذب. وإنما لم يقل في هذه الآية و «المؤمنون» كما في الآية التي تجيء ، لأن هذه في المنافقين ولا يطلع على ما في باطنهم إلا الله ثم رسوله باطلاع الله إياه أو بنور نبوته كما قال (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) والآية الأخرى في المؤمنين وعباداتهم ظاهرة للكل. وختم آية المنافقين بقوله (ثُمَّ تُرَدُّونَ) لأنه وعيد فقطعه عن الأول بخلاف آية المؤمنين حيث وصلها بالواو لأنه وعد من الله. ثم ذكر أن منافقي الأعراب سيؤكدون أعذارهم بالأيمان الكاذبة مثل ما حكى تعالى عن منافقي المدينة فقال : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) أي لأجلكم (إِذَا انْقَلَبْتُمْ) أي رجعتم (إِلَيْهِمْ) ولم يذكر المحلوف عليه. والظاهر أنهم حلفوا على أنهم ما قدروا على الخروج ولكن بين غرضهم من الحلف فقال (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) أرادوا الصفح والعفو فأمر الله المؤمنين بإعطاء طلبتهم ولكن على سبيل المقت لا الصفح ولهذا قال ابن عباس : أراد ترك الكلام

٥١٩

والسلام. وقال مقاتل : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم المدينة : لا تجالسوهم ولا تكلموهم وكانوا ثمانين رجلا منهم د بن قيس ومعتب بن قشير. ثم بين علة الاجتناب عنهم فقال : (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) فكأنهم نجس العين فلا سبيل إلى تطهيرهم بالعتاب والتوبيخ وفي أمثالهم إنما يعاتب الأديم ذو البشرة. المعاتبة المعاودة وبشرة الأديم ظاهره الذي عليه الشعر أي إنما يعاد إلى الدباغ من الأديم ما سلمت بشرته ، يضرب لمن فيه مراجعة ومستعتب وإذا لم تكن المعاتبة نافعة فيهم فتركها هو الصواب (وَمَأْواهُمْ) جهنم منقلبهم النار عتابا توبيخا.

ثم بين أنهم طلبوا إعراض الصفح بقوله (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) نهاهم عن الرضا بقوله (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) الآية ، ذلك أن إرادة المؤمن يجب أن تكون موافقة لإرادة الله ، وأي فائدة في رضا المؤمنين إذا كان الله تعالى ساخطا عليهم؟. ثم عدد مثالب الأعراب وأراد بهم جمعا معينين كانوا يوالون منافقي المدينة. قال أهل اللغة : رجل عربي إذا كان نسبه إلى العرب ثابتا ، ورجل أعرابي إذا كان بدويا سواء كان من العرب أو من مواليهم وجمعه أعراب كالمجوسي والمجوس واليهودي واليهود. فالأعرابي إذا قيل له يا أعرابي فرح ، وإذا قيل للعربي يا أعرابي غضب ، وذلك أن من استوطن القرى العربية فهو عربي ومن نزل البادية فهو أعرابي ولهذا لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب وإنما هم عرب. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تؤمنّ امرأة رجلا ولا فاسق مؤمنا ولا أعرابي مهاجرا» (١) قيل : إنما سمى العرب عربا لأن أولاد إسماعيل عليه‌السلام نشؤا بالعربة وهي من تهامة ونسبوا إلى بلدهم ، وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم. وقيل : لأن ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم لما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة ، يحكى عن بعض الحكماء أنه قال : حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة ، وحكمة الهند في أوهامهم ، وحكمة اليونان في أفئدتهم وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية ، وحكمة العرب في ألسنتهم وذلك لحلاوة ألفاظهم وعذوبة عباراتهم. وإنما حكم على الأعراب بأنهم أشد كفرا ونفاقا لأنهم يشبهون الوحوش. سئل بعض الحكماء ما بال أهل البادية لا يحتاجون إلى الطبيب؟ فقال : كما لا يحتاج حمر الوحش الى البياطرة ولاستيلاء الهواء الحار عليهم الموجب لكثرة الطيش والخروج عن الاعتدال ، وإن من أصبح وأمسى مشرفا عليه أنوار النبوة ومشرفا باستماع مواعظه وآدابه كيف يكون مساويا

__________________

(١) رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ٣١ ، ٧٨.

٥٢٠