تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨))

القراآت : مسجد الله ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون : على الجمع (يُبَشِّرُهُمْ) خفيفا : حمزة وعشيراتكم على الجمع : أبو بكر وحماد وجبلة (وَضاقَتْ) ونحو ممالة : حمزة (رَحُبَتْ ثُمَ) مظهرا : أبو جعفر ونافع وابن كثير وخلف ويعقوب وعاصم غير الأعشى.

الوقوف : (بِالْكُفْرِ) ط (أَعْمالُهُمْ) ج لعطف المختلفين (خالِدُونَ) ه (الْمُهْتَدِينَ) ه (فِي سَبِيلِ اللهِ) ط (عِنْدَ اللهِ) ط (الظَّالِمِينَ) ه لئلا يشتبه بالوصف (وَأَنْفُسِهِمْ) لا لأن ما بعده خبر «الذين» (عِنْدَ اللهِ) ط (الْفائِزُونَ) ه (مُقِيمٌ) ه لا لأن ما بعده حال (أَبَداً) ط (عَظِيمٌ) ه (عَلَى الْإِيمانِ) ط (الظَّالِمُونَ) ه (بِأَمْرِهِ) ط (الْفاسِقِينَ) ه (كَثِيرَةٍ) لا لعطف الظرف على الظرف (حُنَيْنٍ) لا لأن «إذ» ظرف (نَصَرَكُمُ). (مُدْبِرِينَ) ه ج للآية والعطف. (كَفَرُوا) ط (الْكافِرِينَ) ه (مَنْ يَشاءُ) ط (رَحِيمٌ) ه (هذا) ج (إِنْ شاءَ) ط (حَكِيمٌ) ه.

التفسير : إنه سبحانه بدأ السورة بذكر البراءة من المشركين وبالغ في إيجاب ذلك بتعداد فضائحهم وقبائحهم ، ثم أراد يحكي شبهاتهم التي كانوا يحتجون في أن هذه البراءة غير جائزة مع الجواب عنها. قال المفسرون : لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه

٤٤١

المسلمون فعيروه بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ علي رضي‌الله‌عنه له القول فقال العبّاس : ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟ فقال علي عليه‌السلام : ألكم محاسن؟ فقال : نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني فأنزل الله تعالى ردا عليهم (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ) ما صح لهم وما استقام أن يعمروا مسجد الله يعني المسجد الحرام. ومن قرأ على الجمع فإما أن يراد جميع المساجد فيشمل المسجد الحرام أيضا الذي هو أشرفها وهذا آكد لأن طريقه طريق الكناية كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله كنت أنفي لقراءته القرآن من تصريحك بذلك ، أو يراد المسجد الحرام وجمع لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد ، أو لأن بقعة منه مسجد. قال الفراء : العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم : فلان كثير الدرهم ، وبالعكس كقولهم : فلان يجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا ملكا واحدا. وعمارة المسجد إما لزومه وإما كثرة إتيانه للصلاة والاعتكاف ، ولا شك أنه ليس للمشرك ذلك وإما مرمته وتعهده ، وليس للمشرك هذا أيضا لأنه يجري مجرى الإنعام على المسلمين ولا ينبغي أن يكون للكافر منه على أهل الإسلام ، ولأن دخوله المسجد يؤدي إلى تلوث المسجد إما لكونه نجسا في الحكم ، وإما لأنه قلما يحترز من النجاسات. وما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنزل وفد ثقيف في المسجد وهم كفار وشدّ ثمامة بن أثال الحنفي على سارية من سواري المسجد محمول على تعظيم شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه أراد أن يكون ذلك بمحضر منه وهو في المسجد. وقوله (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) حال من الواو في (يَعْمُرُوا) والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين : عمارة معابد الله مع الكفر به. وفي تفسير هذه الشهادة أقوال أصحها أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان وتكذيب النبي والقرآن ولهذا قال السدي : هي أن النصراني إذا قيل له ما أنت؟ قال : نصراني. واليهودي يقول : يهودي ، وعابد الوثن يقول : أنا عابد الوثن. وقيل : هي قولهم في طوافهم «لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك». وعن ابن عباس أنه قال : المراد أنهم يشهدون على محمد بالكفر. وإنما جاز هذا التفسير لقوله تعالى (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] ثم بيّن تعالى ما هو الحق في هذا الباب فقال (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) الصادرة عنهم كإكرام الوالدين وبناء الربط وإطعام الجائع لأنه لا يفيد مع الكفر طاعة لأن الكفر يوجب عقاب الأبد ولهذا قال (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) ولإفادة هذا التركيب الحصر احتجت الأشاعرة به على خلاص صاحب الكبيرة. ثم وصف من له استئهال عمارة المسجد فقال (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لأن

٤٤٢

المرء ما لم يعرف المبدأ والمعاد لا يصح منه التوجه إليه. وإنما طوى ذكر الرسول تنبيها على أنه واسطة والتوجه الحقيقي من الله وإلى الله ولهذا ورد في الحديث : «المصلي يناجي ربه». وقيل : إن المشركين كانوا يقولون إن محمدا ادّعى رسالة الله طلبا للرياسة والملك فلنفي هذه التهمة ترك ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : دل عليه بقوله (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) لأنهما معلومتان من أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما في الصلاة من التشهد وقبلها الأذان والإقامة. ثم إن إقامة الصلاة لا ريب أن فيها عمارة المسجد والحضور فيه ، وأما إيتاء الزكاة فإنما كان سببا للعمارة لأنه يحضر المسجد طوائف الفقراء والمساكين لأخذ الزكاة ، ولأن إيتاء الزكاة واجب وبناء المسجد وإصلاحه نفل والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لم يشتغل بالنافلة ، فلو لم يكن مؤديا للزكاة فالظاهر أنه لم يشتغل بعمارة المسجد. ثم قال (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) ليعلم أنه لو أتى المسجد وبناه رياء وسمعة لم يكن عامرا له. فعلى المؤمن أن يختار في جميع الأحوال رضوان الله على غيره فإن ذلك لو ضره في العاجل فسينفعه في الآجل وفي إدخال كلمة «إنما» في صدر الآية تنبيه على أن من لم يكن موصوفا بالصفات المذكورة لم يكن من أهل عمارة المسجد ، وأن المسجد يجب صونه عن غير العبادة. فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا ذكرهم الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة» وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال الله تعالى : «إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زوّاري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره» ومن عمارة المساجد تعظيمها والدرس فيها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح. فعن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه». وفي قوله (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم فإن الموصوفين بالصفات المذكورة إذا كان اهتداؤهم المستعقب لصلاح حالهم في الدارين دائرا بين عسى ولعل فما ظنك باهتداء المشركين ومغبتهم؟ وفيه أن المؤمن يجب أن لا يغتر بالله عزوجل. هذا وقد مر أن بعض الأمة ذهبوا إلى أن «عسى» من الله الكريم واجب. وقال بعضهم : إن الرجاء راجع إلى العباد.

ثم إنه قال (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) ومعناه هبوا أن عمارة المسجد وسقي الحجيج يوجب لكم نوعا من الفضيلة إلا أن هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد شيء

٤٤٣

نزر. قال المفسرون : إنها نزلت في مناظرة جرت بين فريقين إلا أنهم اختلفوا فقيل : «كافر» و «مؤمن» لقوله (كَمَنْ آمَنَ) وقصة ما مر أن العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر قال : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج. وروي أن المشركين قالوا لليهود : نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت اليهود لهم : أنتم أفضل. وقيل : إن كلا الفريقين مؤمن لقوله (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً) وهذا يقتضي أن يكون للمفضول أيضا درجة. وقصته ما روى عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رجل : لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج. وقال الآخر : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم : فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك يوم الجمعة ولكني إذا صليت دخلت فاستفتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله الآية. ويروى عن الحسن والشعبي أن طلحة قال : أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه ولو أشاء بت فيه. وقال العباس : وذلك بعد إسلامه أنا صاحب السقاية والقائم عليها. وقال عليّ رضي‌الله‌عنه : ما أدري ما تقولان لقد صليت ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فنزلت. وعن ابن سيرين : قال عليّ رضي‌الله‌عنه للعباس بعد إن كان أسلم : ألا تهاجر ألا تلحق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ ففقال : ألست في أفضل من الهجرة ، ألست أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية. فقال العباس : ما أراني إلا ترك سقايتنا. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا». والسقاية والعمارة مصدران من سقي وعمر ، ولا بد من تقدير مضاف أي أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن ، أو أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كخصال من آمن؟ ثم كان لسائل أن يسأل ما بال أحد الفريقين لا يشبه بالآخر فلا جرم قال مستأنفا (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) ثم صرح بالمفضول فقال (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي المشركين (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وأي ظلم أشنع من وضع أخس الموجودات وهو الأصنام مقام أشرفها وهو الله سبحانه. وإنما لم يهدهم الله لعدم قابلية وقع في استعدادهم الفطري. وذلك لكونهم مظاهر القهر فافهم. ثم صرح بالفريق الفاضل فقال (الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. ثم من قال إن الفريقين المتناظرين كافر ومؤمن أورد عليه أن قوله (أَعْظَمُ دَرَجَةً) وجب أن يكون للمفضول أيضا درجة ولكنه ليس للكافر درجة. وأجيب بأن هذا وارد على حسب ما كانوا يقدرونه لأنفسهم من الدرجة والفضيلة نظيره

٤٤٤

قوله (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ). أو المراد أنهم أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفا بالهجرة ولا الجهاد وإن كان مؤمنا فضلا عن الكافر. أو المراد ترجيح الإيمان والهجرة والجهاد على السقاية والعمارة. ولا شك أنهما من أعمال والخير وموجبان للثواب لو لا الكفر. وفي قوله (عِنْدَ اللهِ) تشريف عظيم لقوله (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) وكذا في قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) لدلالته على انحصار الفوز فيهم. ثم فسر الفوز بقوله (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ) التنكير فيها يفيد أنها وراء وصف الواصف ، قال المتكلمون : الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فالتبشير بالرحمة والرضوان إشارة إلى غاية التعظيم ونهاية الإجلال والجنات إشارة إلى حصول المنافع العظيمة. وقوله (لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ) إشارة إلى خلوص تلك المنافع عن شوائب الكدورات. ثم عبر عن دوامها بثلاثة ألفاظ مؤكدات أولها (مُقِيمٌ) وثانيها (خالِدِينَ) وثالثها (أَبَداً) وقال أهل التحقيق : الفرح بالنعمة قد يكون من حيث إنها نعمة وقد يكون من حيث إن المنعم خصه بها كالسلطان إذا أعطى بعض الحاضرين تفاحة مثلا ، ثم النعمة قد تكون حسية وقد تكون عقلية فقوله (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ) إشارة إلى أعلى المراتب وهو مقام العارفين الذين نظرهم على مجرد سماع البشارة لا على المبشر به. وقوله (بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) إشارة إلى المرتبة الوسطى وهم العاكفون على عتبة اللذات الروحانية العقلية. وقوله (جَنَّاتٍ) إلى آخره إشارة إلى المرتبة السفلى وهم الواقفون عند ساحات مواقع اللذات الحسيات. وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها يبشركم بخيرات دائمة وسعادات باقية لا حصر لها. ويجوز أن تكون الرحمة إشارة إلى رضا العبد بقضائه فيسهل عليه الغموم والآفات ، والرضوان إشارة إلى رضاه عن العبد فيكون كقوله (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر : ٢٨] ثم أكد المعاني المذكورة بقوله (اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) وفي تصدير الجملة الاسمية بأن وفي لفظ «عند» وتقديمه وتنكير «أجر» ووصفه بالعظم مبالغات لا تخفى.

قال الكلبي : لما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه ولأخيه ولقرابته إنا قد أمرنا بالهجرة فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه ، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده فيقولون : ننشدك الله أن لا تدعنا إلى غير شيء فنضيع فيرق فيجلس معهم ويدع فنزل فيهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا) الآيتين. وذكروا في وجه النظم أن هذه الآية جواب عن شبهة أخرى قالوها وهي أنه كيف يمكن دعوى البراءة من الكفار وبينهم وبين المسلمين قرابات ومواصلات ومعاملات؟ فذكر الله تعالى أن الانقطاع

٤٤٥

عن الآباء والأبناء والإخوان واجب بسبب الكفر. ومعنى استحبوا اختاروا وهو في الأصل طلب المحبة. ثم إن النهي كان يحتمل أن يكون نهي تنزيه لا تحريم فلإزالة الوهم ختم الآية بقوله (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قال ابن عباس : يريد أنه يكون مشركا مثلهم لأن الرضا بالشرك شرك. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله حتى يحب في الله أبعد الناس ويبغض في الله أقرب الناس» (١) وعن ابن عباس : هي في المهاجرين خاصة كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم .. فقالوا : يا رسول الله إن نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا ضائعين فنزلت (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) الآية. فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه وأبوه وأخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ثم رخص لهم بعد ذلك. وقيل : نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة فنهى الله عزوجل عن موالاتهم. قال الواحدي : عشيرة الرجل أهله الأدنون وهم الذين يعاشرونه. ومن قرأ على الوحدة فلأن العشيرة اسم جمع. ومن قرأ على الجمع فلأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة. قال الأخفش : لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات وإنما يجمعونها على عشائر القرآن حجة عليه. والاقتراب الاكتساب والتركيب يدور على الدنو والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه. والترتيب المذكور في الآية غاية الحسن لأن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة القريبة ثم البعيدة ، ثم إنه يتوسل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال المكتسبة ثم إلى التجارات المثمرة ، وفي آخر المراتب الرغبة في الأوطان التي بنيت للسكنى ، فبيّن تعالى أنه يجب تحمل هذه المضار في الدنيا ليبقى الدين سليما ، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى عندهم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله (فَتَرَبَّصُوا) انتظروا بما تحبون (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) عن الحسن هو عقوبة عاجلة أو آجلة. وقيل : يعني القتال. وعن ابن عباس : هو فتح مكة وفيه بعد لما روي أن هذه السورة نزلت بعد فتح مكة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الخارجين عن طاعة الله إلى معصيته ولا يخفى ما فيه من التهديد. ثم لما أوجب ترك مصالح الدنيا لأجل الدين أراد أن يبين أن كل من أعرض عن الدنيا لأجل مصالح دينه فإن الله تعالى يراعي مصالح دنياه فيفوز بسعادة الدارين وضرب لنا مثلا فقال (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) قال الواحدي : النصر المعونة على الأعداء

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب ١٥. الترمذي في كتاب القيامة باب ٦٠. أحمد في مسنده (٣ / ٤٣٨ ، ٤٤٠) بلفظ «من أحب لله وأبغض لله ... فقد استكمل الإيمان».

٤٤٦

خاصة ، والمواطن جمع موطن وهو كل موضع أقام به الإنسان لأمر. ومواطن الحرب مقاماتها ومواقعها. وامتناعها من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع ولا هاء كمساجد. والمواطن الكثيرة غزوات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي على ما في الصحاح تسع عشرة منها : غزوة بدر وقريظة والنضير وأحد وغزوة الخندق وذات الرقاع وغزوة بني المصطلق وغزوة أنمار وغزوة ذي قرد وخيبر والحديبية والفتح. (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) أي يوم حنين. واستبعد صاحب الكشاف عطف الزمان على المكان فقال : معناه في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين ، وجوّز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين رضي‌الله‌عنه. قال علي : أن الواجب أن يكون يوم (حُنَيْنٍ) منصوبا بالفعل مضمر لا بهذا الظاهر أي ونصركم يوم حنين لأن قوله (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بدل من (يَوْمَ حُنَيْنٍ) فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع المواطن ولم يكونوا كثيرا في جميعها ، وجوّز أن يكون «إذ» منصوبا بإضمار «اذكر». قلت : ولعله لا حاجة إلى هذه التكلفات فلا استبعاد في عطف الزمان والمكان ، وما جعل بدلا عن الزمان لا يلزم أن يكون بدلا عن المكان حتى يكون الفعل الأوّل مقيدا بهما جميعا. وحنين ودا بين مكة والطائف. قال المفسرون : لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان خرج متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف. واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينئذ فعن عطاء عن ابن عباس كانوا ستة عشر ألفا. وقال قتادة : كانوا اثني عشر ألفا وعشرة آلاف من الذين حضروا مكة وألفان من الطلقاء الأسارى الذين أعتقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الكلبي : كانوا عشرة آلاف. وبالجملة كانوا عددا كثيرين وكانت هوازن وثقيف أربعة آلاف ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة. فهذه الكلمة ساءت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي المراد من قوله (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) وقيل : قالها أبو بكر. وقيل : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بعيد لأنه كان في جميع الأحوال متوكلا على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها. ثم قال (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) والإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة أي لم تعطكم الكثرة شيئا يدفع حاجتكم ولم تفدكم (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) «ما» مصدرية والباء بمعنى «مع» والرحب السعة والجار والمجرور في موضع الحال أي متلبسة برحبها كقولك : دخلت عليه بثياب السفر ، والمعنى أنكم لشدة ما لحقكم من الرعب لم تجدوا في الأرض ذات الطول والعرض موضعا يصلح لهربكم إليه وكأنها ضاقت عليكم (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) أي انهزمتم انهزاما. قال البراء بن عازب : كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على

٤٤٧

الغنائم فاستقبلونا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحرث ، والذي لا إله إلا الله ما ولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دبره قط ، ولقد رأيته وأبو سفيان أخذ بالركاب والعباس آخذ بلجام الدابة وهو يقول :

أنا النبيّ لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي وكانت بغلته شهباء ثم قال للعباس : ناد المهاجرين والأنصار وكان العباس رجلا صيتا فنادى يا أصحاب الشجرة فرجعوا ونزلت الملائكة عليهم ثياب بيض وهم على خيول بلق ، وأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده كفا من الحصباء فرماهم بها وقال : شاهت الوجوه ، فما زال جدهم مدبرا وحدهم كليلا ولم يبق منهم أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب فانهزموا وذلك قوله سبحانه (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) رحمته التي سكنوا بها وآمنوا (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الذين كانوا انهزموا وعلى الذين ثبتوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين وقع الهرب. (وَأَنْزَلَ) الله (جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) يعني الملائكة ستة عشر ألفا أو ثمانية آلاف أو خمسة آلاف على اختلاف الروايات. وعن سعيد بن المسيب قال : حدّثني رجل كان من المشركين يوم حنين : قال لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسان فقالوا : شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا وركبوا أكتافنا. واختلفوا في قتال الملائكة فقيل : قاتلوا. وقيل : ما قاتلوا إلا يوم بدر وإنما نزلوا في هذا اليوم لتكثير السواد ولإلقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين. ثم قال (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بالقتل والأسر وأخذ الأموال وسبي الذراري. واحتجت الأشاعرة بإنزال السكينة وهي داعية السكون والثبات وبقوله (وَعَذَّبَ) على أن الدواعي والأفعال كلها بخلق الله تعالى. ثم ختم الآية بقوله (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) واعلم أن الحنفية تمسكوا في مسألة الجلد مع التغريب بقوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) [النور : ٢] قالوا الفاء للجزاء اسم للكافي وكون الجلد كافيا يمنع أن يكون غيره مشروعا معه. وأجابت الشافعية بأنه قال تعالى في هذه الآية (وَذلِكَ) أي الأخذ والأسر (جَزاءُ الْكافِرِينَ) سمي العذاب العاجل جزاء مع أنه غير كاف لأن العذاب الآجل باق. أما قوله (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي يسلم ناس منهم. روي أن ناسا منهم جاؤا تائبين فأسلموا وقالوا : يا رسول الله أنت خير الناس وأبرهم وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. قيل سبي يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى. فقال : إن عندي ما ترون العساكر الفقراء وإن خير القول أصدقه ،

٤٤٨

اختاروا وإما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم. قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئا. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن هؤلاء جاؤا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا. فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه. قالوا : رضينا وسلمنا فقاال : إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا. فرفعت إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم العرفاء أن قد رضوا. ثم إنه سبحانه أجاب عن شبهة أخرى لهم وذلك أن عليا عليه‌السلام حين قرأ عليهم براءة فنبذ إليهم عهدهم قال أناس : يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات فقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) قال في الكشاف : هو مصدر كالقذر ومعناه ذو ونجس. وقال الليث : إنه صفة يستوي فيه الواحد وغيره : رجل نجس وقوم نجس وامرأة نجس. قلت : ويجوز أن يجعل المصدر نعتا للمبالغة في الوصف. واختلف في تفسير كون المشرك نجسا فعن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وعن الحسن من صافح مشركا توضأ وهو قول الهادي من أئمة الزيدية. وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم واحتج القاضي على ذلك بما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرب من أوانيهم وبأنه لو كان نجس العين لما تبدلت النجاسة بسبب الإسلام ، وأوّلوا الآية بأن معناها أنهم لا يغتسلون عن الجنابة ولا يتوضؤون عن الحدث ، أو أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب الاجتناب والاحتراز عنهم ، أو أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) وهي السنة التاسعة من الهجرة التي وقع النداء فيها بالبراءة من المشركين واختلفوا في هذا النهي فعن أبي حنيفة وأصحابه أن المراد أن لا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلونه في الجاهلية ، والدليل عليه قول علي عليه‌السلام في النداء : ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك. وقال الشافعي : المراد المنع من الدخول فيه وهو ظاهر النص. وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع من الدخول فيه. وقيل : المراد أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه ويعزلوا عن ذلك. وعن عطاء أن المراد بالمسجد الحرام والحرم وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله ، ونهي المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه لقوله (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي فقرا بسبب منع المشركين وموضع التجارات ليس هو عين المسجد بل الحرم كله. ومن قال إن المراد منعهم من الحج قال إنهم إذا لم يحضروا الموسم لم يحصل للمسلمين ما كان لهم في قدومهم عليهم من الأرفاق والمكاسب فلهذا خافوا الفقر ، ثم وعدهم الله إزالة الفقر بقوله (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي من تفضله بوجه آخر قال عكرمة : أنزل الله عليهم

٤٤٩

المطر فكثر خيرهم. وعن الحسن : جعل الله لهم أخذ الجزية بدلا عن ذلك. وقيل : أغناهم من الفيء. وعن مقاتل : أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش وحملوا الطعام إلى مكة فكان ذلك أعود عليهم. واعلم أن هذا إخبار بالغيب وقد وقع فكان معجزا. ومعنى (إِنْ شاءَ) تعليم وإرشاد وأن لا يغتر المسلمون بذلك فيتركوا التضرع إلى الله واللجأ إليه ، وليعلم أن حصول ذلك لا يكون في كل الأوقات لأغراض ومقاصد لا يعلمها إلا ضابط الأمور ورابط الأسباب ، ولهذا ختم الآية بقوله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) أي بأحوالكم (حَكِيمٌ) لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب.

التأويل : ما كان لمشركي النفوس الأمارة (أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) وهي القلوب وهم مصرون على ما جبلوا عليه من التمرد وتعبد الهوى. (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي صدرت عنهم رياء وسمعة (إِنَّما يَعْمُرُ) القلوب (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) صدق بأن المقصود والمعبود هو الله ، وعمل لنيل السعادات الأخروية وأدام المناجاة مع الله بصدق الطلب ، وزكى نفسه عن الأخلاق الذميمة ولم يخف فوات الخطوط الدنيوية وإنما يخاف فوات الحقوق الإلهية. (سِقايَةَ الْحاجِ) خدمة هذه الطائفة للأغراض الفاسدة (وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الأعمال الموجبة لعمارة القلوب إذا كانت مشوبة بالرياء والهوى (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) الطالبون والبطالون (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين يضعون الأعمال الصالحة في غير موضعها (الَّذِينَ آمَنُوا) أي القلوب المؤمنة (وَهاجَرُوا) أي الأرواح المهاجرة إلى القوالب (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الجهاد الأكبر (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ببذل الموجود والوجود جميعا (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ) بعد الخلاص عن حبس الوجود بتجلي صفات لطفه وجنات الشواهد والكشوف (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي من وصل إلى مقام العندية فالله يعظم أجره (لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ) الآيتان. فيهما إشارة إلى أن آثر محبة المخلوق على محبة الخالق فقد أبطل الاستعداد الفطري لقبول الفيض الإلهي. (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) أي حين حنت قلوبكم شوقا إلى لقاء ربها وحسبتم أنكم تبلغونه بكثرة الطاعات ، وضاقت عليكم أرض الوجود ثم أعرضتم عن الطلب إذ احتجبتم بحجب العجب مدبرين إلى عالم الطبيعة الحيوانية (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) هي واردات ترد على الأرواح والقلوب فتسكن إلى ربها على رسول الروح وعلى القلوب المؤمنة (وَأَنْزَلَ جُنُوداً) من المواهب الربانية وعذب النفوس المتمردة باستعمالها في أحكام الشريعة وآداب الطريقة (ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) أي علاج النفوس المتمردة ثم يتوب الله من بعد ذلك العلاج بجذبة (ارْجِعِي) ، (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ) النفوس العابدة للدنيا والشيطان والهوى

٤٥٠

(فَلا يَقْرَبُوا) القلب (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) وهو حالة البلوغ وجريان قلم التكليف على الإنسان ، نهى القلوب حينئذ عن اتباع النفوس وأمرها بقتالها ومنعها عن طوافها لئلا تنجس كعبة القلب بنجاسة شرك النفس وأوصافها الذميمة (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) حظوظا يستلذ بها عند اتباع النفس (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ) بعد انقطاع تصرفات النفس عن القلب بالواردات الربانية والكشوف الروحانية (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بمستحقي فضله (حَكِيمٌ) فيما دبر من قتال النفوس.

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧))

القراآت : (عُزَيْرٌ ابْنُ) بالتنوين مكسورة للساكنين : عاصم وعلي وسهل ويعقوب. الباقون : بغير تنوين. (يُضاهِؤُنَ) بالهمز. عاصم. الآخرون (يُضاهِؤُنَ) بحذف

٤٥١

الهمزة. (أَنْ يُطْفِؤُا) و (لِيُواطِؤُا) بحذف الهمزة فيهما. يزيد وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة (اثْنا عَشَرَ) بسكون العين : يزيد والخزاز (إِنَّمَا النَّسِيءُ) بالتشديد : ورش من طريق النجاري وحمزة في الوقف. الباقون : بباء بعدها همزة. (يُضَلُ) بضم الياء وفتح الضاد : علي وحمزة غير العجلي وحفص وخلف لنفسه. يضل بضم الياء وكسر الضاد : العجلي وأوقية ورويس. الباقون يضل بفتح الياء وكسر الضاد.

الوقوف : (صاغِرُونَ) ه (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) ط (بِأَفْواهِهِمْ) ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف (مِنْ قَبْلُ) ط (قاتَلَهُمُ اللهُ) ج (يُؤْفَكُونَ) ه (ابْنَ مَرْيَمَ) ج لاحتمال الجملة بعده أن تكون حالا واستئنافا. (واحِداً) ج لأن ما بعده يصلح ابتداء ووصفا (إِلَّا هُوَ) ط (يُشْرِكُونَ) ه (الْكافِرُونَ) ه (كُلِّهِ) لا لتعلق «لو» بما قبله (الْمُشْرِكُونَ) ه (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ط (فِي سَبِيلِ اللهِ) لا لتعلق الفاء (أَلِيمٍ) ه لا أي في يوم. (وَظُهُورُهُمْ) ط (تَكْنِزُونَ) ه (حُرُمٌ) ط (يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) ط (الْمُتَّقِينَ) ه (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) ط (أَعْمالِهِمْ) ط (الْكافِرِينَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه لما ذكر شبهات المشركين وأجاب عنها بأجوبة صحيحة أراد أن يبين أحكام أهل الكتاب والمقصود تميزهم من المشركين في الحكم لأن الواجب في المشركين القتال إلى الإسلام ، والواجب في أهل الكتاب القتال إلى الإسلام أو الجزية. واعلم أنه تعالى ذكر صفات أربع وأمر بقتال من اتصف بها ثم بين الموصوفين بها بقوله (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) فدل ذلك على أن أهل الكتاب متصفون بتلك الصفات ؛ فالصفة الأولى أنهم (لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) فأورد عليه أن القوم يقولون نحن نؤمن بالله ، وأجيب بأن إيمانهم بالله كلا أيمان لأنهم مشبهة وحلولية. واعترض ثانيا بأن كل من نازع في صفة من صفات الله وكان منكرا لله لزم أن يكون أكثر المتكلمين كذلك فالأشعري من أهل السنة أثبت البقاء صفة ، والقاضي أنكره ، وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة ، والباقون أنكروه ، والقاضي أثبت لله إدراك الطعوم وإدراك الروائح والحرارة والبرودة والأستاذ أبو إسحق أنكره ، والقاضي أثبت للصفات سبعة أحوال معللة بغير الصفات وغيره أنكره ، وعبد الله ابن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمرا ولا نهيا ولا خبرا ثم صار كذلك عند الإنزال ، والآخرون أنكروه ، وقوم من قدماء الأشاعرة أثبتوا لله خمس كلمات : الأمر والنهي والاستخبار والخبر والنداء. والمشهور أن كلام الله واحد. واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور لله؟. وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق فأكثر من أن تحصى هاهنا. وأجيب بأن المجسم خالف في الذات لأنه يقول إن الإله جسم والبرهان دل على

٤٥٢

أن إله العالم ليس بجسم ولا جسماني. وأما الخلاف في المسائل المذكورة فراجع إلى الصفة فظهر الفرق. نعم إنا نكفر الحلولية والحروفية القائلين بأن كلام الله تعالى حل في كل لسان وفي كل جسم كتب فيه القرآن كما نكفر النصارى القائلين بأن أقنوم الكلمة حلت في عيسى.

الصفة الثانية : أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر لأن اليهود والنصارى ينكرون المعاد الجسماني. والقرآن دل على أن أهل الجنة يأكلون ويشربون وباللذات يتمتعون ، وأما السعادات الروحانية فمتفق عليها. الصفة الثالثة : (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي لا يحرّمون ما حرم الله في القرآن ، والرسول في سنته كالخمر والخنزير ونحوهما. وقال أبو روق : أي لا يعملون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام توافق مشتهاهم. الصفة الرابعة : (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) أي لا يعتقدون صحة دين الإسلام الذي هو الحق. يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذ ذلك دينه ومعتقده. وقيل : الحق هو الله. ثم ذكر غاية القتال فقال (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) فعله من جزى يجزي إذا قضى ما عليه. قال الواحدي : هي ما يعطى المعاهد على عهده. وقال في الكشاف : سميت جزية لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه ، أو لأنهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل. ومعنى (عَنْ يَدٍ) إن أريد بها يد المعطي أي عن يد مؤاتية غير ممتنعة يقال : أعطى بيده إذا انقاد وأصحب ، أو المراد حتى يعطوها عن يد إلى نقدا غير نسيئة ولا مبعوثا على يد أحد ، وإن أريد بها يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية أي بسببها كقوله :

ينهون عن أكل وعن شرب

أي يتناهون في السمن بسببهما. أو المراد عن إنعام عليهم فإن قبول الجزية منهم بدلا عن أرواحهم نعمة عظيمة عليهم. قيل : إن من اليهود موحدة فما وجه إيجاب الجزية عليهم؟ والجواب أنه إذا ثبت وجوب الجزية على بعضهم لزم القول في حق الكل لعسر الامتياز ولوجود الصفات الباقية فيهم. أما مقدار الجزية فعن أنس : قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كل محتلم دينارا ، وقسم عمر على فقرائهم في المدينة اثني عشر درهما ، وعلى الأوساط أربعة وعشرين ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين. فذهب الشافعي إلى أن أقل الجزية دينار ولا يزاد على الدينار إلا بالتراضي. وذهب أبو حنيفة إلى قسم عمر. والمجوس سبيلهم سبيل أهل الكتاب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ويروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر وذلك أن لهم شبهة كتاب. ومعنى ذلك أن كتبهم وهي الصحف التي أنزلت على إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٤٥٣

قد رفعت إلى السماء لأحداث أحدثوها. وليس المقصود من أخذ الجزية تقرير الكفرة على كفرهم بدينار واحد حتى يصير موجبا للطعن ، وإنما الغرض حقن دمائهم وإمهالهم مدة لعلهم يتفكرون في كتابهم فيعرفون صدق محمد وما دعاهم إليه. وأيضا فيه حرمة أنبيائهم وحرمة كتابهم وحرمة آبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل. وأما قوله (وَهُمْ صاغِرُونَ) فمعناه أنه لا بد مع أخذ الجزية من إلحاق الذل والصغار بهم. والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عزّ الإسلام وذل الكفر ويسمع الدلائل فالظاهر أن مجموع ذلك يحمله على الانتقال إلى الإسلام. وفسروا الصغار في الآية بأخذ الجزية على سبيل الإهانة بأن يكون الذمي قائما والمسلم الذي يأخذ الجزية قاعدا ويأمره بأن يخرج يده من جيبه ويحني ظهره ويطأطىء رأسه فيصب ما معه في كفة الميزان ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمتيه. وهذه الهيئة مستحبة على الأصح لا واجبة. وقيل : الصغار هو نفس أخذ الجزية. والجزية تسقط بالإسلام عند أبي حنيفة دون الشافعي. وإنها تؤخذ عند أبي حنيفة في أوّل السنة وعند الشافعي في آخرها. ولا تؤخذ من فقير لا كسب له ولا من امرأة وخنثى ولا صبي ولا مجنون وعبد ولا من سيده بسببه ، وتضرب على الزمن والعسيف والشيخ الفاني والراهب والأعمى على الأصح من قولي الشافعي ، لأن الجزية بمنزلة الكراء يستوي فيه المعذورون وغيرهم. قال الشافعي في أحد قوليه. العاجز عن الكسب يعقد له الذمة بالجزية فإذا تم الحول أخذنا إن أيسر وإلا فهي في ذمته إلى أن يوسر وهكذا في كل حول. ولا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه الذي فوضه إليه لأنه من الأمور الكلية. وكيفية العقد أن يقول : أقررتكم وأذنت لكم في الإقامة في دار الإسلام على أن تبذلوا كذا وتنقادوا لأحكام الإسلام التي يراها الإمام. ولا يقرأ أهل الكتاب بالجزية في أرض الحجاز لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه وسلم قال : «أخرجوا اليهود من الحجاز» قال الشافعي : هو مكة والمدينة ومخالفيهما أي قراهما. وما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوصى بأن يخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب فمحمول على أنه أراد الحجاز جمعا بين الحديثين. وقد بقي في الآية نكتة ذكرها بعض العلماء في أن المسلم لا يقتل بالذمي قال : لأن قوله (قاتِلُوا) مشتمل على إباحة دمهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم فلما قال (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) علمنا أن المجموع انتفى عند إعطاء الجزية ، ولكن انتفاء المجموع يكفي فيه انتفاء أحد جزأيه وأحد الجزأين ـ وهو وجوب قتلهم ـ مرتفع بالاتفاق فيبقى الآخر وهو عدم وجوب القصاص بقتلهم بعد أداء الجزية كما كان. ولقائل أن يقول : لا نزاع في الاحتمال ولكن ما الدليل على عدم وجوب القصاص وأنت بصدد إثباته؟.

٤٥٤

ولما حكم في الآية المتقدمة أن أهل الكتاب لا يؤمنون بالله شرع في إثبات تلك الدعوى فقال (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) الآية. العلم مبتدأ والابن خبره ومن أسقط التنوين من عزير فلأنه اسم أعجمي زائد على ثلاثة أحرف فيمتنع من الصرف كعازر. وقيل : منصرف لكونه عربيا وكان الوجه كسر التنوين كقراءة عاصم ولكنه أسقط التنوين للساكنين على مذهب بعضهم. أو لأن الابن وقع وصفا والخبر محذوف وهو معبودنا. وطعن في هذا الوجه عبد القاهر باستلزامه احتمال توجه الذم إلى الخبر دون الوصف ، وحينئذ يحصل تسليم كونه ابنا لله ومعلوم أن ذلك كفر. وهذا قول ناس من اليهود بالمدينة وما هو بقول كلهم إلا أنه جاء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد. يقال : فلان يركب الخيول أو يجالس الملوك. ولعله لم يركب أو لم يجالس إلا واحدا. عن ابن عباس : جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا ذلك. وعنه أيضا أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فأنساهم الله التوراة ونسخها من صدورهم ، فتضرع عزير إلى الله تعالى وابتهل إليه فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه ، فلما جربوه وجدوه صادقا فيه فقالوا : هذا ابن الله. وقال عبيد بن عمير : إنما قال هذا القول رجل من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء. وقيل : لعل هذا المذهب كان فاشيا فيهم ثم انقطع ، ولا عبرة بإنكار اليهود قول الله أصدق. وقال في الكشاف : الدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب. وأما النصارى فلا شك أنهم يقولون ذلك وقد حكى الواحدي في سبب ذلك أن أتباع عيسى كانوا على الحق بعد رفع عيسى إلى السماء حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع ، يقال له بولس. قتل جمعا من أصحاب عيسى ثم قال لليهود : إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار وإني أحتال فأضلهم ، فعرقب فرسه وأظهر الندامة بما كان يصنع ووضع على رأسه التراب وقال : نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تنتصر وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة. ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلا اسمه نسطور وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة ، وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال : ما كان عيسى إنسانا ولا جسما ولكنه الله. وعلم رجلا آخر ـ يقال له يعقوب ـ ذلك ثم دعا رجلا ـ يقال له ملكا ـ فقال له : إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى. ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم : أنت خليفتي فادع الناس إلى نحلتك ، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وإني غدا أذبح نفسي لمرضاة عيسى ، ثم دخل المذبح فذبح نفسه. هذا هو

٤٥٥

السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى. والأقرب أن لفظ الابن قد وقع في الإنجيل على سبيل التشريف حيث قال : إنك أنت الابن الوحيد كما وقع لفظ الخليل في حق إبراهيم عليه‌السلام. وقال المسيح عليه‌السلام للحواريين : أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا على من يؤذيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء الذي أشرق شمسه على الصالحين والفجرة. ثم إن القوم لأجل عداوة اليهود ولأجل أن يقابلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطرف الآخر حملوا لفظ الابن على البنوة الحقيقية والله تعالى أعلم يحقيقة الحال. ثم قال سبحانه (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) وفائدة هذا التخصيص ـ وكل قول فإنما يقال بالفم ـ أنه قول لا يعضده برهان بل البرهان دال على نقيضه لاستحالة إثبات الولد لمن هو مبرأ عن الحاجة والشهوة والمضاجعة واتخاذ الصاحبة ، فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي لا تجاوز الحناجر ولا يؤثر معناها في القلب بل لا معنى لها حتى تؤثره ، نظيره قوله (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [النور : ١٥] أو نقول : إن الإنسان قد يختار مذهبا ولكن لا يصرح به ولا يذكره بلسانه ، أما إذا نطق به فذلك هو الغاية في اختياره وإذا ساعده عليه دليل كان نهاية في الحسن والتأثير. فالمراد بالقول المذهب وأنهم يصرحون به لا يخفونه البتة ، أو أنه مذهب لا يساعده دليل فلا تأثير له في القلوب. ويحتمل أن يراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت في الأفواه والألسنة يضاهنون من قرأ بغير همز فظاهر لأنه من ضاهى يضاهي منقوصا أي شاكل ، ومن قرأ بالهمز فلمجيء ضاهأت من قولهم امرأة ضهيأ على وزن «فعيل» وهي التي شاكلت الرجال في أنها لا تحيض ومن جعل ضهيأ على «فعلأ» بزيادة الهمزة كما في «غرقىء» لقشرة البيض السفلى لمجيء ضهياء ممدودا بمعناه فلا ثبت في هذا الثاني عنده. ولا بد من تقدير مضاف أي يضاهي قولهم قول الذين ، حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا لفقد الجار. والمعنى أن قول هؤلاء المعاصرين للنبي من أهل الكتاب يشبه قول قدمائهم أي إنه كفر قديم فيهم غير مستحدث ، أو يضاهي قول أهل الكتاب قول المشركين القائلين الملائكة بنات الله. وقيل : الضمير في (يُضاهِؤُنَ) للنصارى فقط أي يشاكل قول النصارى «المسيح ابن الله» قول اليهود «عزير ابن الله» لأن اليهود أقدم منهم. ثم قال على عادة محاورات العرب معجبا ومستفهما على سبيل الإنكار (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحق أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا تعجبا من شناعة قولهم كما يقال القوم ركبوا شنعاء : قاتلهم الله ما أعجب فعلهم ، ولمن ضل عن الطريق أين تذهب؟. ثم وصفهم

٤٥٦

بضرب آخر من الإشراك فقال (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ) قال أهل المعاني : الحبر العالم الذي يعبر عما يريد بأحسن بيان ، والراهب الذي ظهرت آثار الرهبة من قلبه على وجهه ولباسه ، ولكن في عرف الاستعمال اختص الأحبار بعلماء اليهود من ولد هارون ، والرهبان بعلماء النصارى من أصحاب الصوامع. واختلفوا في معنى اتخاذهم إياهم أربابا بعد الاتفاق على أنه ليس المراد أنهم جعلوهم آلهة العالم فقال أكثر المفسرين : المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم. نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانيا فانتهى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ سورة براءة ، فلما وصل إلى هذه الآية قال عدي : إنا لسنا نعبدهم فقال : أليس تحرّمون ما أحلّ الله وتحلون ما حرم الله؟ فقلت : بلى. فقال : فتلك عبادتهم. قال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف قول الأحبار والرهبان فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم الله. قال العلماء : إنما لم يلزم تكفير الفاسق بطاعة الشيطان خلاف ما عليه الخوارج لأن الفاسق وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه يلعنه ويستخف به بخلاف أولئك الأتباع المعظمين لمتبوعهم. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه‌الله تعالى : قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في مسائل كانت تلك الآيات مخالفة لمذهبهم فيها فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وكانوا ينظرون إليّ كالمتعجب يعني كيف الآيات مع أن الرواية عن سلفنا. وردت بخلافها ، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا ساريا في عرف الأكثرين. وقلت : ولعلهم توقفوا لحسن ظنهم بالسلف لأنهم ربما وقفوا من تلك الآي على ما لم يقف عليه الخلف. وقيل في تفسير هذه الربوبية : إن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم فقد يميل طبعهم إلى الحلول والاتحاد ، وقد يساعدهم الشيخ في ذلك إذا كان مزوّرا طالبا للدنيا وقد يرضى بسجودهم له تعظيما وإجلالا مع أن السجود عبادة لا تليق إلا بالله. وإذا كان هذا مشاهدا في هذه الأمة فكيف بالأمم السالفة؟! وأما المسيح فحين جعلوه ابنا لله فقد أهلوه للعبادة والإلهية ، ولعل السبب في إفراد المسيح بالذكر أن قولهم فيه أشنع من قولهم في الأحبار والرهبان ، أو لأن القول بإلهية المسيح مخصوص بأحد الفريقين. فلو قيل اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا لأوهم اشتراك الفريقين في اتخاذ المسيح ربا (وَما أُمِرُوا) الضمير للمتخذين. والذي أمرهم بذلك أدلة العقل والكتب السماوية ، وفي القرآن حكاية عن المسيح (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) [المائدة : ٧٢] ويجوز أن يكون الضمير للأحبار والرهبان أي وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلا بأن يكونوا مربوبين. ثم نزه نفسه عن مقالة

٤٥٧

الظالمين فقال (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ثم ذكر نوعا آخر من قبائح أفعال أهل الكتاب وهو سعيهم في إبطال أمر محمد وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة نبوّته فقال (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) أي دينه الثابت بالدليل المشبه بالنور لاشتراكهما في الاهتداء بهما. وذلك أن دين محمد مؤيد بالمعجزات الباهرة التي بمثلها ثبتت نبوّة موسى وعيسى ولا سيما بالقرآن ، وحاصل شرعه تعظيم الله وتنزيهه عما لا يليق به والانقياد لطاعته وصرف النفس عن الأمور الفانية والترغيب في السعادات الباقية ، ثم إنهم بكلماتهم الركيكة وشبهاتهم السخيفة أرادوا إبطال هذه الدلائل فكانوا كمن يريد إبطال نور الشمس الذي هو أشد الأنوار المحسوسة بسبب أن ينفخ فيه. ولا ريب أن ذلك سعي باطل وكيد زاهق ولهذا قال (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) أي لم يرد الله إلا ذلك إلا أن الإباء يفيد زيادة على عدم الإرادة وهي المنع والامتناع قال :

وإن أرادوا ظلمنا أبينا

امتدح بذلك ولا يجوز أن يمتدح بأنه يكره الظلم لأن ذلك يستوي فيه القوي والضعيف. وفيه وعد بمزيد النصرة والقوة وإعلاء الدرجة. ثم أكد ذلك المعنى بقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) أي بكثرة الدلائل والمعجزات (وَدِينِ الْحَقِ) لاشتماله على أمور تظهر لكل أحد كونه موصوفا بالصواب ومطابقا للحكمة ومؤديا إلى صلاح الدنيا والآخرة. ثم بيّن غاية أمره وتمام حكمه فقال (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليجعل الرسول أو دين الحق غالبا على أهل الأديان كلهم أو على كل دين. عن أبي هريرة أنه قال هذا وعد من الله بأن يجعل الإسلام ظاهرا على جميع الأديان ، وتمام هذا إنما يظهر عند خروج المهدي ونزول عيسى. وقال السدي : ذلك عند خروج المهدي عليه‌السلام لا يبقى أحد إلا دخل الإسلام وأدّى الخراج. قلت : قد دخل في عصرنا من الملوك الكفرة ومن أشياعهم في الإسلام ما لا يعدّ ولا يحصى ، وازدياد ذلك كل يوم دليل ظاهر على أن الكل سيدخلون في الإسلام. وقد جاء في الحديث : «زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتى ما زوي لي منها» (١) وقيل : ليظهر الإسلام على غيره في جزيرة العرب. وهذا تخصيص أوجبه ضيق العطن. وقيل : ليظهر الرسول على جميع شرائط الدين حتى لا يخفى عليه شيء من مدارك الأحكام. وقيل ليظهره بالحجة والبرهان لأن غلبة الكفار في

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٥ / ٢٧٨ ، ٢٨٤) (٤ / ١٢٣). مسلم في كتاب الفتن حديث ١٩. أبو داود في كتاب الفتن باب ١. الترمذي في كتاب الفتن باب ١٤. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٩.

٤٥٨

بعض الأقطار ظاهرة. ولقائل أن يقول : إن المسلمين في تلك البلاد وإن قلوا غالبون على الكفار وإن كثروا بدليل أنهم لا يمنعونهم من إظهار شعائر الإسلام والتزام أحكامه ، قوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ) فيه مدح منه تعالى لنفسه من جهة أنه هو القادر على إبداء مثل هذا الأمر العظيم ومن جهة أنه هو الغالب على إيصاله إلى حيث شاء وأراد من غير معاند ولا منازع ، ومن جهة أنه هو المعطي لمثل هذه النعمة التي لا يوازيها نعمة وهي نعمة الهدى والإسلام. وقوله (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) وفي الآية الثانية (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) إما متساويا الدلالة تنبيها على أن اليهود والنصارى أيضا مشركون ، وإما تخصيص بعد تعميم ، ولعله رغم لأنف مشركي قريش ثم لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق أراد أن يصفهم بالطمع والحرص فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ) الآية. وفيه تنبيه على أن مقصودهم من إظهار تلك الربوبية والتجبر حصيل حطام الدنيا. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه‌الله. ولعمري أن من تأمل في أحوال أهل الناقوس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وشرح أحوالهم ، فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه من الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك ويتحمل الذل والدناءة في تحصيله. وفي قوله (كَثِيراً) دلالة على أن هذه الطريقة طريقة بعضهم لا كلهم ، فإن العالم لا يخلو عن المحق وإطباق الكل على الباطل وإثبات ذلك كالممتنع ، وهذا يوهم أنه كما أن إجماع هذه الأمة على الباطل لا يحصل فكذلك في سائر الأمم. وعبر عن أخذهم أموال الناس بالأكل تسمية للشيء باسم ما هو أعظم مقاصده. وأيضا من أكل شيئا فقد ضمه إلى نفسه ومنعه عن الوصول إلى غيره كما لو أخذه ، ولهذا فإن من أخذ أموال الناس فإذا طولب بردها قال أكلتها وما بقيت فلا قدرة لي على ردّها. وفي تفسير الباطل وجوه : منها أنهم كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع وفي إخفاء نعت محمد وتأويل الدلائل الدالة على نبوّته. ومنها أنهم كانوا يدّعون عند عوامهم الحمقى أنه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم وبذل الأموال في مرضاتهم ، والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب. ومنها أنهم قالوا لا طريق إلى تقوية دينهم إلا إذا كان أولئك الفقهاء أقوياء عظماء أصحاب الجاه والحشمة والأموال كما يفعله المزوّرون في زماننا هذا. أما قوله (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فمعناه يبالغون في المنع من متابعة محمد كيلا يبطل جاههم وحشمتهم عند العوام لو أقروا بدينه.

٤٥٩

ثم قال سبحانه (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) الكنز هو المال المدفون وقد كنزه يكنزه. والتركيب يدل على الجمع ومنه ناقة كناز مكتنزة اللحم ، واكتنز الشيء اجتمع. قيل : المراد بقوله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) الأحبار والرهبان لما وصفهم بالحرص الشديد ، أراد أن يصفهم بالامتناع من إخراج الواجبات عن أموالهم. وقيل : المقصود مانعو الزكاة من المسلمين. ووجه النظم أنه لما كان حال من أمسك مال نفسه بالباطل كذلك فما ظنك بحال من سعى في أخذ مال غيره بالباطل والخديعة؟! عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر فقلت له : ما أنزلك هذه البلاد؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب. وقلت : نزلت فينا وفيهم فصار ذلك سببا للوحشة. فكتب إلي عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة ، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل ، فذكرت ذلك لعثمان فقال : إن شئت تنحيت فكنت قريبا. قلت : إني والله لا أدع ما كنت أقول. وعن الأحنف قال : لما قدمت المدينة رأيت أبا ذر يقول : بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه. فلما سمع القوم ذلك تركوه فاتبعته وقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. فقال : ما عسى يصنع بي قريش. واختلف علماء الصحابة في هذا الكنز المذموم فقال الأكثرون : هو المال الذي لم تؤدّ زكاته. عن عمر بن الخطاب : مال أديت زكاته فليس بكنز. وقال ابن عمر : كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكل مال لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض. وقال جابر : إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز. وعن ابن عباس : قوله (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) يريد الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم. قال القاضي : ويندرج فيه سائر الحقوق من الكفارات والديون ونفقة الحج والجهاد والإنفاق على الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات. وقال الأقلون : كل مال كثير فهو مذموم سواء أديت زكاته أو لم تؤد. وحجة الأولين قوله تعالى (لَها ما كَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) [محمد : ٣٦] وقوله عليه‌السلام : كل امرئ أحق بكسبه» (١) «نعم المال الصالح للرجل الصالح ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان باطنا ، وما بلغ أن يزكى ولم يزك فهو كنز وإن كان ظاهرا» (٢). وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع من الأغنياء كعثمان بن

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٤ / ١٩٧ ، ٢٠٢).

(٢) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب ٤. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ٣.

٤٦٠