تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

(وَتَذْهَبَ) بالجزم للجزاء عن هبيرة (وَإِذْ زَيَّنَ) وبابه مدغما : أبو عمرو وعلي وحمزة في رواية خلاد ابن سعدان وهشام (إِنِّي أَرى) ، (إِنِّي أَخافُ) بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. (تَراءَتِ الْفِئَتانِ) بالإمالة : نصير.

الوقوف : (وَابْنِ السَّبِيلِ) ط لتعلق حرف الشرط بمحذوف يدل عليه ما قبلها تقديره : واعلموا واعتقدوا هذه الأقسام إن كنتم. (الْجَمْعانِ) ط (قَدِيرٌ) ه (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) ط (فِي الْمِيعادِ) لا لعطف لكن (مَفْعُولاً) لا لتعلق اللام (مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) ط (عَلِيمٌ) لا لتعلق «إذ» (قَلِيلاً) ط (مِنْكُمْ) ط (الصُّدُورِ) ه (مَفْعُولاً) ط (الْأُمُورُ) ه (تُفْلِحُونَ) ه ج للآية وللعطف (وَاصْبِرُوا) ط (الصَّابِرِينَ) ه ج لما ذكر (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ط (مُحِيطٌ) ه (جارٌ لَكُمْ) ط (أَخافُ اللهَ) ط (الْعِقابِ) ه (دِينُهُمْ) ط (حَكِيمٌ) ه.

التفسير : لما أمر سبحانه بالقتال في قوله (وَقاتِلُوهُمْ) [الأنفال : ٣٩] والمقاتلة مظنة حصول الغنيمة أعاد حكم الغنيمة ببيان أوفى وأشفى فقال (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) أي الذي حزتم من أموال الكفرة قهرا. وقوله (مِنْ شَيْءٍ) بيان «ما» أي من كل ما يقع عليه اسم الشيء حتى المخيط والخيط. وقوله (فَأَنَّ لِلَّهِ) بالفتح مبتدأ محذوف الخبر. وروى الجعفي عن أبي عمرو فإن الله بالكسر. قال في الكشاف : والمشهورة آكد وأثبت للإيجاب كأنه قيل : فلا بد من ثبات الخمس فيه ولا سبيل إلى الإخلال به لأنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات كقولك : ثابت واجب حق لازم كان أقوى لإيجابه من النص على واحد. عن الكلبي أن الآية نزلت ببدر. وقال الواقدي : كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة. واعلم أن الآية تقتضي أخذ الخمس من الغنائم واختلفوا في كيفية قسمة ذلك الخمس على أقوال أشهرها : أن ذلك الخمس يخمس حتى يكون مجموع الغنيمة ومقسما بخمسة وعشرين قسما عشرون الغنائم بالاتفاق لأنهم كسبوها كالاحتطاب والاصطياد ، وأما الخمسة الباقية فواحد منها كان لرسول الله ويصرف الآن ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كسد الثغور وعمارة الحصون والقناطر والمساجد وأرزاق القضاة والأئمة الأهم فالأهم ، وواحد لذوي القربى يعني أقارب رسول الله من أولاد هاشم والمطلب ابني عبد مناف دون عبد شمس ونوفل وهما ابنا عبد مناف أيضا لما روي عن عثمان بن عفان وجبير بن مطعم ـ وكان عثمان من بني عبد شمس وجبير من بني نوفل ـ أنهما قالا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك

٤٠١

الله منهم ، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام ، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ـ وشبك بين أصابعه ـ يستوي في هذا السهم غنيهم وفقيرهم إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين. وثلاثة أخماس الخمس الباقية لليتامى والمساكين وابن السبيل. وهذا عند الإمامين أبي حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة قال : إن سهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساقط بموته وكذلك سهم ذوي القربى وإنما يعطون لفقرهم فهم أسوة سائر الفقراء. فعلى مذهب الإمامين. معنى قوله سبحانه (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [التوبة : ٦٢] فأن لرسول الله خمسة كقوله (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) وعن أبي العالية إيجاب سهم آخر لله وأنه يقسم الخمس على ستة أسهم. والذاهبون إلى هذا القول اختلفوا فقيل : إن ذلك السهم لبيت المال. وقيل : يصرف إلى مصالح الكعبة لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأخذ الخمس فيضرب بيده فبه فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة فهو سهم الله. وعن ابن عباس أنه كان يقسم على ستة لله وللرسول سهمان ، وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل ، وكذلك روي عن عمرو ومن بعده من الخلفاء. وروي أن أبا بكر منع بني هاشم الخمس وقال : إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم ، فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غني لا يعطى هو ولا يتيم موسر من الصدقة شيئا ، وروي عن زيد بن علي أنه قال : ليس لنا أن نبني منه قصورا ولا أن نركب منه البراذين. وقيل : الخمس كله للقرابة لما روي عن علي عليه‌السلام أنه قيل له : إن الله تعالى قال (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) فقال : أيتامنا ومساكيننا. وعن الحسن : في سهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لولي الأمر من بعده. وعند مالك بن أنس الأمر في الخمس مفوّض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين الأصناف الخمسة عند الشافعي وإن رأى أعطى بعضهم دون بعض ، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فذاك. فعند هذا يكون معنى قوله (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) أن من حق الخمس أن يكون متقربا به إلى الله لا غير. ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلا لها على غيرها كقوله (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) وحاصل الآية إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل على عبدنا فاعلموا علما يتضمن العمل والطاعة أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به فاقطعوا عنه أطماعكم واقنعوا بالأخماس الأربعة (يَوْمَ الْفُرْقانِ) يوم بدر لأنه فرق فيه بين أهل الحق وأهل الباطل. والجمعان فريقاهما والذي أنزل عليه يومئذ الآيات والملائكة والنصر والتأييد (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فبذلك نصر القليل على الكثير (إِذْ أَنْتُمْ) بدل

٤٠٢

من يوم الفرقان (بِالْعُدْوَةِ) بالكسر والضم شط الوادي أي جانبه وحافته. وقال أبو عمرو : هي المكان المرتفع و (الدُّنْيا) تأنيث الأدنى يعني الجانب الذي يلي المدينة وقلب الواو ياء فيه على القياس لأن «فعلى» من بنات الواو وتقلب ياء كالعليا ، وأما القصوى تأنيث الأقصى فإنه كالقود في مجيئه على الأصل وقد جاء القصيا أيضا قليلا والعدوة القصوى مما يلي مكة (وَالرَّكْبُ) يعني الأربعين الذين كانوا يقودون العير (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) بالساحل وهو نصب على الظرف مرفوع المحل خبرا للمبتدأ أي مكانا أسفل من مكانكم. والفائدة في ذكر مراكز الفرق الثلاث تصوير وقعة بدر وما دبر الله سبحانه من عجيب صنعه وكمال رأفته ونصره حتى كان ما كان. وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كانت في مكان فيه الماء وكانت أرضا لا بأس بها ، وأما العدوة الدنيا فهي رخوة تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وعبدتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحروب بعيالهم وأثقالهم ليبعثهم الذب عن الحرم على بذل مجهودهم حيث لم يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه. (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أنتم وأهل مكة على موضع تتلاقون فيه (لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من هيبة الرسول والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما تيسر بتوفيق الله وتسبيبه (وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ) أي ليظهر (أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) مقدرا وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك. وقوله (لِيَهْلِكَ) بدل من (لِيَقْضِيَ) بدل الخاص من العام واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام ، وذلك أن وقعة بدر كان فيها من الآيات والمعجزات ما يكون الكافر بعدها كالمكابر لنفسه فكفره صادر عن وضوح بينة أي لا شك في كفره وعناده كما أنه لم يبق شك للمسلمين في حقية دين الإسلام. وفي قوله (لِيَقْضِيَ) و (لِيَهْلِكَ) دلالة على أن أفعاله تعالى مستتبعة للحكم والمقاصد والغايات خلاف ما عليه ظاهر الأشاعرة. (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ) لدعائكم (عَلِيمٌ) بنياتكم (إِذْ يُرِيكَهُمُ) منصوب باذكر أو بدل آخر من يوم الفرقان أو متعلق بعليم أي يعلم تدابيركم إذ يريكهم (فِي مَنامِكَ) أي في رؤياك (قَلِيلاً) أراه وإياهم في رؤياه قليلا فأخبر بذلك أصحابه فكان تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوهم. وقيل : في منامك أي في عينك في اليقظة لأن العين موضع النوم وفيه تكلف. (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً) على ما هم عليه (لَفَشِلْتُمْ) والفشل الجبن والخور. (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أمر الحرب والإقدام (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) عصم من الفشل والتنازع (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يعلم ما سيحدث فيها من مواجب الإقدام والإحجام (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) يبصركم إياهم (إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) نصب على الحال لأن

٤٠٣

الرؤية رؤية العين لا القلب وقد استوفت الإراءة مفعولية فلن يتعدى إلى ثالث (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) الحكمة في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهرة مع أن في ذلك تصديقا لرؤيا النبي ، وأما تقليل المؤمنين في أعين الكفار فالحكمة في ذلك أن يجترىء الكفار عليهم قلة مبالاة بهم وأن يستعدّوا لهم كما ينبغي (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) فعل ما فعل من التقليل (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيه أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زادا للمعاد. ثم علم المؤمنين آداب اللقاء في الحروب فقال (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) لقتالهم ولا تفروا واللقاء اسم غلب في القتال فلهذا ترك وصف الفئة بالمحاربين ونحو ذلك ، والأمر بالثبات في القتال لا ينافي الرخصة في التحرف والتحيز فلعل الثبات في الحرب لا يحصل إلا بهما. (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) في مواطن الحرب (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تظفرون بمرادكم من النصر والمثوبة. وفيه إشعار بأن العبد لا يجوز له أن يفتر عن ذكر ربه في أي شغل وعمل كان ، ولو أن رجلا أقبل من المغرب إلى المشرق منفقا أمواله لله ، والآخر من المشرق إلى المغرب ضاربا بسيفه في سبيل الله كان الذاكر لله أعظم أجرا. وقيل : المراد من هذا الذكر أن يدعو على العدو : اللهم اخذلهم اللهم اقطع دابرهم ونحو ذلك والأولى حمله على العموم (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في سائر ما يأمر به لأن الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) منصوب بإضمار «أن» أو مجزوم لدخوله في حكم النهي ويظهر التقدير «أن» في قوله (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) على القراءتين. والريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها وتمشيته على وفق المشيئة بالريح وهبوبها. يقال : هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. وقيل : الريح حقيقة ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله. وفي الحديث : «نصرت بالصبا» (١) حذرهم التنازع واختلاف الرأي نحو ما وقع لهم بأحد بمخالفتهم رسول الله. احتج نفاة القياس بالآية لأن القول به يفضي غالبا إلى النزاع المنهي عنه. وكذا القائلون : بأن النص لا يجوز تخصيصه بالقياس.

قال أهل السير : إن أهل مكة حين نفروا لحماية العير أتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة أن ارجعوا فقد سلمت عيركم ، فأبى أبو جهل وقال : حتى نقدم بدرا نشرب بها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب. فوافوها فسقوا كؤوس

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الاستسقاء باب ٢٦ ، كتاب بدء الخلق باب ٥. مسلم في كتاب الاستسقاء حديث ١٧. أحمد في مسنده (١ / ٢٢٣ ، ٢٢٨ ، ٣٤١).

٤٠٤

المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان فنهى الله المؤمنين أن يكونوا مثلهم بطرين مرائين بأعمالهم كإطعام الطعام ونحوه فقال (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) الآية. وصفهم بأوصاف ثلاثة : أولها : البطر وهو الطغيان في النعمة ويقال أيضا شدّة المرح. والتحقيق إن النعم إذا كثرت من الله على العبد فإن صرفها في مرضاته وعرف حق الله فيها فذاك هو الشكر وإن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمكاثرة على أبناء الزمان فذاك هو البطر. وثانيها : رئاء الناس وهو القصد إلى إظهار الجميل مع قبح النية وفساد الطوية ، أو هو إظهار الجميل مع قبح النية وفساد الطوية ، أو هو إظهار الطاعة مع إبطان المعصية كما أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطال الكفر. وثالثها قوله (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون عن قبول دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الواحدي : معناه وصدا عن سبيل الله ليكون عطفا للاسم على الاسم ، أو يكون الكل أحوالا على تأويل بطرين مرائين صادّين أو يبطرون ويراءون ويصدّون. واعترض عليه في التفسير الكبير بأنه تارة يقيم الاسم مقام الفعل والأخرى بالعكس ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها ، وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبر عن الأولين بالمصدر وعن الثالث بالفعل. ثم ذكر السبب فقال : إن أبا جهل ورهطه كانوا مجبولين على البطر والرياء فذكرا بلفظ الاسم تنبيها على أصالتهم فيهما ، وأما الصدّ فإنما حصل في زمان ادعاء محمد النبوة فذكر بلفظ الفعل الدال على التجدد. قلت : لو جعلنا قوله (وَيَصُدُّونَ) عطفا على صلة «الذين» لم يحتج إلى هذه التكلفات التي اخترعها الإمامان. (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فيه زجر عن التصنع والافتخار ، ويعلم منه أن المعصية مع الانكسار أقرب إلى الخلاص من الطاعة مع الاستكبار. (وَإِذْ زَيَّنَ) معناه واذكر إذ زين أو هو معطوف على ما قبله من النعم وأقربها قوله (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) وفي هذا التزيين وجهان : أحدهما. أن الشيطان زين بوسوسته من غير أن يتمثل بصورة إنسان وهو قول الحسن والأصم. وفي الكشاف : زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها في معاداة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون ، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجرئهم. فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم أي بطل كيده حين نزلت جنود الله. وثانيهما : أنه ظهر في صورة إنسان وذلك أن المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر ذكروا الذي بينهم وبين بني كنانة من الحرب فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم ، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني وكان من أشرافهم في جند من الشياطين معه راية (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) أي لا غالب كائن لكم ولو كان لكم مفعولا بمعنى لا غالب إلا إياكم لانتصب كما يقال لا ضاربا زيدا. (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أي مجيركم من بني كنانة أو

٤٠٥

من كل عدوّ يعرض من البشر. ومعنى الجار هاهنا الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن الجار. (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أي التقى الجمعان بحيث رأت كل واحدة الأخرى (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) والنكوص الإحجام عن الشيء أي رجع. (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) قيل : كانت يده في يد الحرث بن هشام فلما نكص قال له الحرث إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحالة فقال (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) أي من نزول الملائكة ودفع في صدر الحرث وانطلق وانهزموا ، فلما بلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم ، فلما أسلموا علموا أنه الشيطان. وفي الحديث : «ما رؤي إبليس يوما أصغر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر» (١). وأما قوله (إِنِّي أَخافُ اللهَ) فقد قيل : إنه لما رأى جبريل خافه ، وقيل : لما رأى الملائكة ينزلون من السماء خافهم لأنه ظن أن الوقت الذي أنظر إليه قد حضر. قال قتادة : صدق في قوله (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) وكذب في قوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) وقوله (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) يجوز أن يكون من بقية حكاية كلام إبليس ، ويجوز أن يكون اعتراضا وظرفه (إِذْ يَقُولُ) أو لا ظرف له و (إِذْ يَقُولُ) ينتصب بذكر على أنه كلام مبتدأ منقطع عما قبله ولهذا فقد العاطف. و (الْمُنافِقُونَ) قوم من الأوس والخزرج بالمدينة (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يجوز أن يكون من صفة المنافقين وأن يراد قوم من قريش أسلموا وما قوي الإسلام في قلوبهم ولم يهاجروا. ثم إن قريشا لما خرجوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أولئك نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه ، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا ، وقال محمد بن إسحق : ثم قتلوا جميعا مع المشركين يوم بدر. (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) قال ابن عباس : معناه أنه خرج بثلاثمائة وثلاثة عشر إلى زهاء ألف وما ذلك إلا لأنهم اعتمدوا على دينهم. وقيل : المراد أن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت. ثم قال جوابا لهم (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) يكل أمره إليه ويثق بفضله (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب يسلط الضعيف القليل على القوي الكثير (حَكِيمٌ) يوصل العذاب إلى أعدائه والرحمة إلى أوليائه.

التأويل : (وَاعْلَمُوا) يا أهل الجهاد الأكبر (أَنَّما غَنِمْتُمْ) عند رفع الحجب من أنوار المشاهدات وأسرار المكاشفات فلكم أربعة أخماسه تعيشون بها مع الله وتكتمونها عن الأغيار وتنفقون خمسها في الله مخلصا وللرسول متابعا (وَلِذِي الْقُرْبى) يعني الإخوان في

__________________

(١) رواه مالك في الموطأ في كتاب الحج حديث ٢٤٥.

٤٠٦

الله مواصلا (وَالْيَتامى) يعني أهل الطلب من الذين غاب عنهم مشايخهم قبل بلوغهم إلى حد الكمال (وَالْمَساكِينِ) الذين تمسكوا بأيدي الإرادة بأذيال إرشادكم (وَابْنِ السَّبِيلِ) يعني الصادر والوارد من الصدق والإرادة مراعيا جانب كل طائفة على حسب صدقهم وإرادتهم واستعدادهم. إن كنتم وصلتم في متابعة الرسول إلى الإيمان بالله عيانا (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) في سفر (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] (يَوْمَ الْفُرْقانِ) الذي فيه الرحمن علم القرآن (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع الصفات الإنسانية وجمع الأخلاق الربانية فصار لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الله خلوة لا يتبعه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على أن يوصلكم في متابعة رسوله إلى هذا المقام وهو الفناء عن الوجود والبقاء بالمعبود (إِذْ أَنْتُمْ) أيها الصادقون في الطلب (بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) نازلة (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) أي الأرواح بأقصى عالم الملكوت بارزة (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) يعني الهياكل والقوالب في أسفل سافلي الطبيعة. (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أيها الأرواح والنفوس والأجساد (لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) لما بينكم من التباين والتضاد (وَلكِنْ) جمعكم الله بالقدرة والحكمة (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) وهو إيصال كل شخص إلى رتبته التي استعد لها (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) عن حجة ثابتة عليه (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) فالأشقياء يبقون في سجين الطبيعة ونار القطيعة ، وأما السعداء فأرواحهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، قال (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً) [الفجر : ٢٨] ونفوسهم مع الملائكة المقربين كما قال (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) [الفجر : ٢٩] وأبدانهم في جنات النعيم كما قال (وَادْخُلِي جَنَّتِي) [الفجر : ٣٠] (إِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ) لمن دعاه للوصول والوصال بالغدو والآصال (عَلِيمٌ) بمن يستحق الإذلال أو يستأهل الإجلال (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) مع كثرتهم في الصورة ليدل على قلتهم في المعنى (لَفَشِلْتُمْ) على عادة طبع الإنسان (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) من الخوف البشري (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) لأنهم نظروا إليكم بالأبصار الظاهرة فلم يدركوا كثرة معناكم ومددكم بالملائكة. و (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) هي النفس وهواها والشيطان وأعوانه والدنيا وزينتها (فَاثْبُتُوا) على ما أنتم عليه من اليقين والصدق والإخلاص والطلب (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا) من ديار أوصافهم وتركوا الدنيا وداروا البلاد وزاروا العباد ليتباهوا بذلك على الإخوان والأقران. (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) فظنوا أنهم بلغوا مبلغ الرجال وأنه لا يضرهم التصرف في الدنيا وارتكاب بعض المنهيات بل ينفعهم في نفي الرياء والعجب إذ هو طريق أهل الملامة. (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) فئة الأرواح والقلوب وفئة النفوس وصفاتها وأمد الله تعالى فئة

٤٠٧

الأرواح والقلوب بالأوصاف الملكية والواردات الربانية حتى انقادت النفوس لها (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) زهق باطله وصار مخالفا للنفس كما قال (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) ، (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) لأنه يرى بنظر الروحانية تجلي الأنوار الربانية من القلوب ، ولو وقع على الشيطان من ذلك تلألؤ لأحرقه ولهذا قال (إِنِّي أَخافُ اللهَ) وفيه إشارة إلى أنه غير منقطع الرجاء من رحمة الله إنه أرحم الراحمين.

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦))

القراآت : تتوفى بتاء التأنيث : شامي. الباقون : بالتذكير (وَلا يَحْسَبَنَ) بياء الغيبة : ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص والمفضل. الآخرون : بتاء الخطاب. (إِنَّهُمْ) بالفتح : ابن عامر (لِلسَّلْمِ) بكسر السين : أبو بكر وحماد (تُرْهِبُونَ) بالتشديد : رويس.

٤٠٨

الباقون : بالتخفيف من الإرهاب (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ) بالياء التحتانية : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون : بالتاء الفوقانية (وَعَلِمَ) مبنيا للمفعول ضعفاء بالمد جمعا : يزيد وقرأ حمزة وعاصم غير المفضل وخلف لنفسه (ضَعْفاً) بفتح الضاد. الآخرون بالضم. فإن لم يكن منكم مائة بالتحتانية : عاصم وحمزة وعلي وخلف.

الوقوف : (كَفَرُوا) لا لأن فاعل (يَتَوَفَّى) الملائكة. وما قيل إن المتوفي هنا الله غير صحيح لاختلال النظم وفساد المعنى لأن الكفار لا يستحقون أن يتوفاهم الله بلا واسطة. (وَأَدْبارَهُمْ) ج لحق الإضمار أي يقولون ذوقوا (الْحَرِيقِ) ه (لِلْعَبِيدِ) ه لا لتعلق الكاف (فِرْعَوْنَ) لا للعطف. (مِنْ قَبْلِهِمْ) ط (بِذُنُوبِهِمْ) ط (الْعِقابِ) ه (بِأَنْفُسِهِمْ) لا لعطف «أنّ» على «أنّ» (عَلِيمٌ) ه لا للكاف (مِنْ قَبْلِهِمْ) ط (بِآياتِ رَبِّهِمْ) ج لاختلاف الجملتين من الفاء (آلِ فِرْعَوْنَ) ج لأن الواو تصلح للاستئناف والحال (ظالِمِينَ) ه (لا يُؤْمِنُونَ) ه ج لاحتمال الوصف واحتمال النصب والرفع على الذم (لا يَتَّقُونَ) ه (يَذَّكَّرُونَ) ه (عَلى سَواءٍ) ط (الْخائِنِينَ) ه (سَبَقُوا) ط لمن قرأ (إِنَّهُمْ) بالكسر (لا يُعْجِزُونَ) ه (مِنْ دُونِهِمْ) ج لاحتمال الجملة بعده الوصف والاستئناف (لا تَعْلَمُونَهُمُ) ج لذلك (يَعْلَمُهُمْ) ط (لا تُظْلَمُونَ) ه (عَلَى اللهِ) ط (الْعَلِيمُ) ه (حَسْبَكَ اللهُ) ط (بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) الأول ط (بَيْنَهُمْ) ط (حَكِيمٌ) ه (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ه (عَلَى الْقِتالِ) ط (مِائَتَيْنِ) ج لابتداء الشرط مع العطف (لا يَفْقَهُونَ) ه (ضَعْفاً) ج (مِائَتَيْنِ) ج (بِإِذْنِ اللهِ) ط (الصَّابِرِينَ) ه.

التفسير : لما شرح أحوال هؤلاء الكفار في حياتهم شرح أحوالهم حين وفاتهم. وجواب «لو» محذوف ، وترى في معنى الماضي الخاصية «لو» ، وكذا (يَتَوَفَّى) لخاصية «إذ» وإذ نصب على الظرف قاله في الكشاف. ويمكن أن يكون مفعولا به والمعنى لو رأيت أو عاينت أو شاهدت وقت قبض الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمرا فظيعا. (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) قال مجاهد : يريد بالأدبار الأستاه ولكن الله كريم يكني. وفي تخصيص العضوين بالضرب نوع من الخزي والنكال. وعن ابن عباس : المراد ما أقبل منهم وما أدبر. وذلك أن المشركين كانوا إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف ، وإذا ولّوا ضربوا أدبارهم فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت خروج أرواحهم. ومعنى (عَذابَ الْحَرِيقِ) مقدمة عذاب النار أو عذاب النار نفسها في الآخرة تبشيرا لهم بذلك. وعن ابن عباس أن معهم مقامع من حديد كلما ضربوا بها التهبت النار.

٤٠٩

قوله (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) الآية قد مر تفسيرها في آخر آل عمران ، ويحتمل أن تكون هنا حكاية كلام الملائكة. ولما بين سبحانه ما أنزله بأهل بدر من الكفار عاجلا أم آجلا ذكر أن هذه سنة في فرق الكفرة كلهم فقال (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) يريد أن عادتهم وعملهم الذي داموا عليه كعادة آل فرعون فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي أولئك بالإهلاك والإغراق. ثم ذكر ما يجري مجرى العلة في العقاب الذي أنزله بهم فقال (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ) حذف النون لكثرة الاستعمال. ومعنى الآية أن ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله لم يستقم في حكمته وتدبيره أن يغير (نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما) بهم من الأحوال والأخلاق. والغرض أن آل فرعون ومشركي مكة قد فتح الله عليهم أبواب الخيرات وأزال الموانع وسهل السبل ومنّ عليهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل ، ثم إنهم قابلوا هذه النعم بالكفر والفسوق والعصيان فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) للأقوال (عَلِيمٌ) بالأحوال فيجزي كل فريق بما يستأهله. ثم ذكر مرة أخرى قوله (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) وفي التكرير بعد التأكيد فوائد استنبطها العلماء منها أن الثاني كالتفصيل للأول لأن الإغراق كالبيان للأخذ بالذنوب. ومنها أن الأول لعله في حال الموت والثاني لما بعد الموت. قلت : ويشبه أن يكون بالعكس لأن الإهلاك والإغراق بحال الموت أنسب. ومنها أن الأول إخبار عن عذاب لم يمكن الله أحدا من فعله وهو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند نزع أرواحهم. والثاني إخبار عن عذاب مكن الناس من فعل مثله وهو الإهلاك والإغراق. ومنها أن المراد في الأول (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) فيما فعلوا وفي الثاني (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) فيما فعل بهم فهم فاعلون في الأول ومفعولون في الثاني. ومنها أن المراد بالأول كفرهم بالله ، وبالثاني تكذيبهم الأنبياء لأن التقدير : كذبوا الرسل برد آيات ربهم. ومنها أن يجعل الضمير في (كَفَرُوا) و (كَذَّبُوا) لكفار قريش أي كفروا بآيات الله كدأب آل فرعون ، وكذبوا بآيات ربهم كدأب آل فرعون. ومنها أن الأول إشارة إلى أنهم أنكروا دلائل الإلهية فكان لازمه الأخذ ، والثاني إشارة إلى أنهم أنكروا دلائل التربية والإحسان فكان لازمه الإهلاك والإغراق. ثم ختم الآية بقوله (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أي وكل واحد من غرقى القبط وقتلى قريش وممن قبلهم من الكفرة كانوا ظالمي أنفسهم بالكفر والمعاصي ، وظالمي غيرهم بالإيذاء والإيحاش ، فلا جرم دمرهم الله بسبب ظلمهم.

ثم خص من الظلمة سرهم فقال (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) الآية. جعلهم شر الدواب لأن شر الناس الكفار وشر الكفار المصرون منهم وأشار إلى هذا بقوله (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وشر

٤١٠

المصرين الناكثون للعهود وأشار إليهم بقوله (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) و «من» للتبعيض ومفعول (عاهَدْتَ) محذوف أي الذين عاهدتهم وهم بعض أولئك الكفرة يعني الأشراف الذين معهم تليق المعاهدة (ثُمَّ يَنْقُضُونَ) عطف المستقبل على الماضي لفائدة الاستمرار وأن من شأنهم نقض العهد (فِي كُلِّ مَرَّةٍ) من مرات المعاهدة. ومعنى «ثم» تبعيد النقض عن المعاهدة. قال ابن عباس : هم بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعانوا عليه المشركين بالسلاح يوم بدر وقالوا : قد نسينا وأخطأنا ثم عاهدهم فنكثوا وأعانوا عليه يوم الخندق (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) عاقبة الغدر وما فيه من العار والنار. ثم أمر رسوله بالمخاشنة معهم والغلظة عليهم جزاء على قبح فعلهم وسوء عقيدتهم فقال (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) تصادفنهم وتظفرن بهم في الحرب (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) والتشريد التفريق مع الاضطراب أي ففرق عن محاربتك من وراءهم. وقال عطاء : معناه أكثر فيهم القتل حتى يخافك غيرهم. والضمير في (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) لمن خلفهم لأنه إذا نكل بالناكثين وقتلهم شر قتلة لن يجسر عليه أحد بعدهم اتعاظا بحالهم (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ) معاهدين (خِيانَةً) ونكثا بأمارات تلوح لك (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) فاطرح إليهم العهد (عَلى سَواءٍ) على طريق مستو قصد أي أخبرهم أخبارا مكشوفا بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك. وقيل : على استواء في العلم بنقض العهد. وقيل : على استواء في العداوة. قال في الكشاف : الجار والمجرور في موضع الحال كأنه قيل : فانبذ إليهم ثابتا على طريق قصد سوي ، أو حاصلين على استواء في العلم ، أو العداوة على أنها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معا. قلت : ويحتمل أن يكون حالا من المنبوذ أي حال كون المنبوذ وهو العهد واقعا على طريق واضح فيكون كناية عن تحقير شأن العهد إذ ذاك ، أو عن انكشاف حاله في النبذ. قال أهل العلم : إن آثار نقض العهد إذا ظهرت فإما أن تظهر ظهورا محتملا أو ظهورا مقطوعا به. فإن كان الأول وجب الإعلام به كما هو مذكور في الآية. وذلك أن قريظة عاهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خوف الغدر منهم به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء ويؤذنهم بالحرب ، أما إذا ظهر نقض العهد ظهورا قطعيا فلا حاجة إلى نبذ العهد إليهم كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد. ثم بيّن حال من فاته في يوم بدر ولم يتمكن من التشفي منه والانتقام كيلا يبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذيته مبلغا عظيما فقال (وَلا يَحْسَبَنَ) من قرأ بتاء الخطاب فمفعوله

٤١١

الأول (الَّذِينَ كَفَرُوا) وثانيه (سَبَقُوا) أي فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) كل من المكسورة والمفتوحة تعليل له إلا أن المكسورة على طريقة الاستئناف كأن سائلا سأل ما لهم لا يحسبون سابقين؟ فأجيب بما أجيب. والمفتوحة تعليل صريح والجار محذوف أي لأنهم يعجزون الله من الانتقام منهم ولا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم. أو عجزت فلانا وعجزته جعلته أو وجدته عاجزا. والمراد لا تحسبنهم أنهم لما تخلصوا من الأسر والقتل يوم بدر فقد تخلصوا من العقاب عاجلا أم آجلا. ومن قرأ بالياء التحتانية تذكر فيه وجوها منها «أن» فاعله (الَّذِينَ كَفَرُوا) ومفعولاه (سَبَقُوا) على أن الأصل أن سبقوا فحذفت «أن» كقوله (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) ويؤيده قراءة ابن مسعود أنهم سبقوا. ومنها أن الفعل وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة وسبقوا في موضع الحال. ومنها أن المفعول الأول محذوف للعلم به والتقدير لا يحسبنهم أو لا يحسبن أنفسهم الذين كفروا وسبقوا. ومنها أن فاعله محذوف أي لا يحسبن قبيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا. ثم إنه لما أنفق لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا آلة وعدة ، أمرهم الله أن لا يعودوا لمثله ويتأهبوا لقتال الأعداء فقال (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) عن عكرمة : هي الحصون. وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال : إلا إن القوة الرمي قالها ثلاثا ومات عقبة عن سبعين قوسا في سبيل الله والأصح أنها عامة في كل ما يتقوى به في الحرب من آلة وعدّة. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القوة الرمي» (١) كقوله : «الحج عرفة» (٢) وفيه تنبيه على أن المذكور جزء شريف في جملة المقصود (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) هو اسم للخيل التي تربط في سبيل الله الخمس فما فوقها. ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصال وفصيل ، والظاهر أنه بمعنى المرابطة. ويجوز أن يكون قوله (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) تخصيصا للخيل من بين ما يتقوّى به كقوله (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) فلا ريب أن ربط الخيل من أقوى آلات الجهاد. روي عن ابن سيرين أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون فقال : يشتري به الخيل فتربط في سبيل الله ويغزي عليها. فقيل له : إنما أوصى في الحصون. فقال : ألم تسمع قول الشاعر :

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث ١٦٧. أبو داود في كتاب الجهاد باب ٢٣. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٨ باب ٥. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب ١٩. الدارمي في كتاب الجهاد باب ١٤. أحمد في مسنده (٤ / ١٥٧).

(٢) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة البقرة باب ٢٢. أبو داود في كتاب المناسك باب ٦٨. ابن ماجة في كتاب المناسك باب ٥٧. الدارمي في كتاب المناسك باب ٥٤.

٤١٢

ولقد علمت على توقّي الردى

أن الحصون الخيل لا مدر القرى

وعن عكرمة أن الخيل هاهنا الإناث لأنها أولى بالربط لتفيد النسل. وقيل : هي الفحول لأنها أقوى على الكر والفر. والظاهر العموم. ثم ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال (تُرْهِبُونَ بِهِ) أي بما استطعتم (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) لأن الكفار إذا علموا تأهب المسلمين للقتال لم يجسروا عليهم وخافوهم وربما يدعوهم ذلك إلى الانقياد والطاعة (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) يريد بالأوّلين أهل مكة وبالآخرين اليهود على قول ولكنه لا يجاريه قوله (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) والمنافقين على قول. واعترض عليه بأنهم لا يرهبون لانخراطهم في سلك المسلمين ظاهرا. وأجيب بأن الخائن خائف فكلما اشتدت شوكة المسلمين ازداد المنافقون في أنفسهم خوفا ورعبا فربما يدعوهم ذلك إلى الإخلاص. وعن السدي : هم أهل فارس. وروي ابن جريج عن سليمان بن موسى أنهم كفرة الجن وجاء في الحديث إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا دارا فيها فرس عتيق وروي أن صهيل الخيل يرهب الجن. وقيل : المراد بالآخرين أعداء المرء من دينه فإن المسلم قد يعاديه مسلم آخر. ثم رغبهم في الإنفاق في باب الجهاد فقال (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي ثوابه (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا. ثم رخص في المصالحة إن مال الأعداء إليها فقال (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) الآية جنح له وإليه جنوحا إذا مال. وإنما قيل (فَاجْنَحْ لَها) لأن السلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب ، أو بتأويل الخصلة أو الفعلة. عن ابن عباس ومجاهد أن الآية منسوخة بقوله (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [التوبة : ٢٩] وبقوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] والأولى أن يقال : إنها ثابتة فليس بحتم أن يقاتل المشركون أبدا ، أو يجابوا إلى الهدنة أبدا ، وإنما الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وذويه ، فإذا رأى الصلاح في الصلح فذاك. والمصلحة قد تظهر عند ضعف المسلمين إما لقلة العدد أو لقلة المال وبعد العدوّ وقد تكون مع القوة للطمع في إسلامهم أو قبولهم الجزية إذا خالطوا المسلمين أو بأن يعينوه على قتال غيرهم. وأما مدة المهادنة فإذا لم يكن بالمسلمين ضعف ورأى الإمام الصلاح في المهادنة فقد قال الشافعي يهادون أربعة أشهر فما دونها لقوله تعالى (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [التوبة : ٢] وذلك كان في أقوى ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منصرفه من تبوك. وإن كان بالمسلمين ضعف جازت الزيادة بحسب الحاجة إلى عشر سنين اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين صالح أهل مكة بالحديبية على وضع القتال عشر سنين. إلا أنهم

٤١٣

نقضوا العهد قبل كمال المدة وإن نقضت المدة والحاجة باقية استأنف العقد. ثم قال (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي فوض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عونا لك على السلامة وينصرك عليهم. إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء كما كان من شأن قريظة والنضير. وعن مجاهد نزلت فيهم (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) للأقوال (الْعَلِيمُ) بالأحوال. وفيه زجر عن نقض الصلح ما أمكن. ثم ذكر حكما من أحكام المهادنة فقال (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ) محسبك وكافيك (اللهُ) والمعنى أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة وجب قبول ذلك الصلح لأن الحكم فيه يبنى على الظاهر كما أن أصل الإيمان مبني على الظاهر. ولا تنافي بين هذه الآية وبين ما تقدم من قوله (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) [الأنفال : ٥٨] لأن هذه المخادعة محمولة على أمور خفية تدل على الغل والنفاق ، وذلك الخوف محمول على أمارة قوية يدل على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة. ثم أكد كون الله تعالى كافيا له بقوله (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) أي من غير واسطة أسباب معتادة. (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي بوساطة الأنصار. ثم بين أنه كيف أيده بالمؤمنين فقال (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) قال جمع من المفسرين : هم الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك أشرافهم ودق جماجمهم ، فرفع الله تعالى ذلك بلطيف صنعه ، والأولى حمله على العموم والتأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الآيات الباهرة لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغائن في الأمور المستحقرة لم تكد تأتلف أهواؤهم وينتظم شملهم ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله حتى بذلوا دونه المهج والأرواح والأموال فليس ذلك الأمن مقلب القلوب والأحوال. والتحقيق في الباب أن المحبة لا تحصل إلا عند تصور حصول خير من المحبوب. ثم إن كان سبب انعقاد المحبة أمرا سريع التغير كالمال أو الجاه أو اللذة الجسمانية كانت تلك المحبة بصدد الزوال والاضمحلال ، فالمعشوق يريد العاشق لماله ، والعاشق يحب المعشوق لاستيفاء لذة بهيمية ، فمهما حصل مرادهما كانا متحابين ومتى لم يحصل عادا متباغضين وإن كان سبب انعقاد المودة كمالا حقيقيا روحانيا دائما لم يتصور لها تغير وزوال. ثم إن العرب كانوا قبل مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقبلين على المفاخرة والتسابق في المال والجاه والتعصب والتفرق ، فلا جرم كانوا متحابين تارة ومتباغضين أخرى ، فلما جاءهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعاهم إلى عبادة الله تعالى والإعراض عن الدنيا والإقبال على تحصيل السعادة الأبدية الروحانية توحد مطلبهم وصاروا إخوانا متراحمين متحابين في الله ولله. (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي قادر قاهر على تقليب القلوب والدواعي فاعل لكل ما يفعل على وجه الإحكام والإتقان أو على حسب المصالح على اختلاف القولين في مسألة الجبر

٤١٤

والقدر. قال القاضي : لو لا ألطاف الله تعالى ساعة فساعة لما حصلت هذه الأحوال. ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته ، وأجيب بأنه عدول عن الظاهر والآية صريحة في أن العقائد والإرادات والكراهات كلها بخلق الله تعالى وإيجاده ، اللهم يا مصرف القلوب ومقلبها ثبت قلبي على دينك ووفقني لمتابعة نبيك إنك قادر على ما تشاء ولا يكون إلا ما تشاء.

ثم إنه سبحانه لما وعد نبيه النصر والكفاية عند مخادعة الأعداء وعده النصر والكفاية على الإطلاق فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) ومحل (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) منصوب بمنزلة «زيدا» في قولك «حسبك وزيدا درهم» قال الفراء : وليس بكثير في كلامهم أن يقولوا حسبك وأخيك بل المستعمل أن يقال : حسبك وحسب أخيك بإعادة الجار. فلو كان قوله (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) مجرورا لقيل حسبك وحسب من اتبعك. ومعنى الآية كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصرا. وجوّز أن يكون محل الرفع أي كفاك الله وكفاك المؤمنون فيكون كقوله (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) ويؤكده ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أسلم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر فصاروا أربعين فأنزل الله تعالى الآية. ثم بيّن سبحانه أن كفايته مشروطة بالجد والاجتهاد في الجهاد فقال (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) والتحريض في اللغة كالتحضيض وهو الحث على الشيء. وذكروا في اشتقاقه أنه من الحرض وهو الإشراف على الهلاك من شدّة الضنى كأنه ينسبه إلى الهلاك لو تخلف عن المأمور ، أو كأنه يأمره أن يبالغ فيه وفي تحصيله حتى يدنو من التلف. وفي قوله (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ) عدّة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم بعون الله وتأييده. واعترض عليه بأنه يلزم منه أن لا يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين ، ويمكن أن يجاب بعد تسليم وقوع مثل ذلك أن الخلل لعله يكون من فقدان الشرط وهو الصبر. قال بعض العلماء : هذا خبر في معنى الأمر كقوله (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ) [البقرة : ٢٣٣] (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة : ٢٢٨] بدليل قوله (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) والنسخ أبدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر ، أو من جهة تعريف الخبر وإقحام الفصل. قال الفراء : قد جمع بين «إما» و «أن» في هذه الآية بخلاف قوله و (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) لأن الفعل هاهنا في موضع أمر بالاختيار أعني في موضع نصب كقول القائل : اختر ذا أو ذا. كأنهم قالوا : اختر أن تلقى بخلاف تلك الآية فإن الأمر لا يصلح هناك. قال موسى

٤١٥

للسحرة ألقوا ما ترغبون فيه ازدراء بشأنهم وقلة مبالاة وثقة بأن الأمر الإلهي يغلب ولن بالكفر كفر. فالجواب من وجوه : أحدها : أنه إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقا فإذا لم يكن كذلك فلا أمر البتة كقول القائل : اسقني الماء من الجرة. فهذا إنما يكون أمرا بشرط حصول الماء من الجرة. والثاني : أن موسى علم أنهم جاءوا لذلك فلا بد أن يفعلوه ودفع النزاع في التقديم والتأخير. الثالث : أنه أذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليتمكن من الإقدام على إبطاله كمن يريد سماع شبهة ملحد ليبحث عنها ويكشف عن ضعفها يقول له : هات وقل ومراده أن يجيب عنها ويبين لكل أحد ضعفها وسقوطها (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) [الأعراف : ١١٦] قال القاضي : لو كان السحر حقا لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم فثبت أنهم خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه. وقال الواحدي : بل المراد أنهم قلبوا الأعين عن صحة إدراكها بسبب تلك التمويهات. وروي أنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق دواخل العصي فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض فخيل إلى الناس أنها تسعى (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) [الأعراف : ١١٦] أي أرهبوهم والسين زائدة كأنهم استدعوا رهبتهم. وقال الزجاج : اشتدت رهبة الناس فبعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك أيها الناس احذروا فهذا هو الاسترهاب (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف : ١١٦] كما زعموا أن ذلك سحر لا يطيقه سحرة أهل الأرض. عن ابن عباس أنه خيل إلى موسى عليه‌السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى فأوحى الله عزوجل إليه أن الق عصاك. وفي رواية الواحدي عنه أن المراد بالوحي هاهنا الإلهام وهاهنا إضمار والتقدير : فألقاها فإذا هي تلقف. قال الجوهري : لقفت الشيء بالكسر ألقفه وتلقفته أيضا تناولته بسرعة و «ما» في ما يأفكون موصولة أو مصدرية بمعنى ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزوّرونه ، أو أفكهم نحوه ودنوت منه وجدت القشعريرة فقال لي : من الرجل؟ قلت له : من العرب سمعت بك وبجمعك ومشيت معه حتى إذا تمكنت منه قتلته بالسيف وأسرعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكرت أني قتلته فأعطاني عصاه وقال : أمسكها فإنها آية بيني وبينك يوم القيامة. وقال عكرمة : إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين فلما كثروا خفف الله عنهم ولهذا قال ابن عباس : أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ، فإن فر من اثنين فقد فر. والحاصل أن الجمهور ادّعوا أن قوله (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) ناسخ لحكم الآية المتقدمة وأنكر ذلك أبو مسلم الأصفهاني قال : لأن لفظ الآية ورد على الخبر. سلمنا أنه بمعنى الأمر لكن لم قلتم إن التقدير ليكن العشرون

٤١٦

يغلب فإن قيل : إن إلقاءهم الحبال والعصي معارضة المعجز بالسحر وذلك كفر والأمر صابرين في مقابلة المائتين ، ولم لا يجوز أن يكون المراد إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين فليشتغلوا بجهادهم ، وإذا كان الشرط غير حاصل في حق هؤلاء لقوله (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم فلا يتصور النسخ. ولفظ التخفيف لا يقتضي ورود التثقيل قبله لأن مثل هذا الكلام قد تقوله العرب ابتداء. ومما يدل على عدم النسخ تقارن الآيتين ، والناسخ يجب أن يكون بعد المنسوخ بزمان. وهذا حاصل قول أبي مسلم وهو إنما يستحق الجواب لو لم يحصل قبله إطباق على حصول هذا النسخ والله تعالى أعلم. ومعنى قوله (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) ظهر معلومه فلا يبقى لهشام حجة في مذهبه أنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا بعد وقوعها. والمراد بالضعف قبل الضعف في البدن وقيل في البصيرة والاستقامة في الدين وكانوا متفاوتين في ذلك. والظاهر أن المراد الضعف الإنساني المذكور في قوله (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨].

التأويل : (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) لأن الكافر ذاهب عن الدنيا مع تعلقه بها فيحصل له ألم من جهة الخلف ويقبل على الآخرة ولا نور له يبصر به ما أمامه فيحصل له تألم من قدام و (لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً) مبدلا حسن تقديم واستعداد أعطاهم الله بضده (حَتَّى يُغَيِّرُوا) بالكفر والتكذيب (ما بِأَنْفُسِهِمْ) من نعم الاستعداد الفطري (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) يا روح في الأزل لأن نورك وصفتك غلب على ظلمة النفس وصفاتها (فَشَرِّدْ) يا روح (بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي بالغ في تبديل صفات النفس وفي تزكيتها بحيث يؤثر نور تبدلها في الصفات التي وراءها (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي أظهر عداوتك معهم (وَجاهِدْهُمْ) أنهم لا يعجزون أي النفوس الكافرة تحت تصرفي فلا تقنطوا من رحمتي في إصلاح حالهم من قوة الروح وغلبات صفاتها وإعداده بمداومة الذكر وقطع التعلق (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) ومن ربط القلب بطريق المراقبة لئلا يلتفت إلى الدنيا وزينتها (تُرْهِبُونَ) بالذكر والمراقبة (عَدُوَّ اللهِ) الشيطان (وَعَدُوَّكُمْ) النفس والهوى (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) من نفوس شياطين الإنس (لا تَعْلَمُونَهُمُ) أنهم عدوّكم من الأحباب والأصدقاء والأقرباء (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) أنهم عدوّ لكم كقوله (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ) [التغابن : ١٤] (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) من شهوات النفس ولذاتها وزينتها بطريق الذكر والمراقبة (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) فوائد من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) بين الروح والقلب والسر وبين النفس وصفاتها. (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ) وجودك من السعي والجد والاجتهاد لما بين الروح النوراني والنفس الظلماني من التضاد (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ) بين الروح والنفس وبين القلب والقالب ليكون الشخص الإنساني طلسما على كنز وجوده لم يكسر الطلسم

٤١٧

للوصول إلى الكنز والله أعلم.

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))

القراآت : أن تكون بالتاء الفوقانية : أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد أسارى يزيد والمفضل. الآخرون (أَسْرى) من الأسارى. يزيد أبو عمرو والمفضل. الباقون من الأسرى. (مِنْ وَلايَتِهِمْ) بكسر الواو حمزة. والباقون : بفتحها.

الوقوف : (فِي الْأَرْضِ) ط لتقدير الاستفهام أي أتريدون (الْآخِرَةَ) ط (حَكِيمٌ) ه (عَظِيمٌ) ه (وَاتَّقُوا اللهَ) ط (رَحِيمٌ) ه (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ط (رَحِيمٌ) ه (مِنْهُمْ) ط (حَكِيمٌ) ه (أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ط (حَتَّى يُهاجِرُوا) ج (مِيثاقٌ) ط (بَصِيرٌ) ه (أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ط (كَبِيرٌ) ه (حَقًّا) ط (كَرِيمٌ) ه (مِنْكُمْ) ط (فِي كِتابِ اللهِ) ط (عَلِيمٌ) ه.

التفسير : هذا حكم آخر من أحكام الجهاد ومعنى ما كان ما صح وما استقام والإثخان كثرة القتل وإشاعته من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة والمعنى فيه تذليل الكفر وإضعافه وإعزاز الإسلام وإظهاره بإشاعة القتل في الكفرة. روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بسبعين أسيرا ـ فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب ـ فاستشار أبا بكر. فيهم فقال : قومك وأهلك فاستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك. وقال عمر : كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء ، مكن عليا من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان لنسيب

٤١٨

له فلنضرب أعناقهم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله ليليّن قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم : ٣٦] ومثلك يا عمر مثل نوح قال (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] ثم قال لأصحابه : أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق. وروي إنه قال لهم : إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم. فقالوا : بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية. وعن محمد بن سيرين كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهما. وروي أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية فدخل عمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال : أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه. وروي أنه قال : لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر. وسعد بن معاذ لقوله : كان الإثخان في القتل أحب إليّ. واعلم أن الطاعنين في عصمة الأنبياء عليهم‌السلام تمسكوا في هذا المقام بوجوه : الأول : (وَما كانَ لِنَبِيٍ) صريح في النهي وقد حصل الأسر بدليل (قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى). الثاني : أنهم أمروا بالقتل يوم بدر في قوله (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) فكان الأسر معصية. وأجيب بأن قوله (حَتَّى يُثْخِنَ) يدل على أن الأسر كان مشروعا ولكن بشرط الإثخان ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقا عظيما فلعل العتاب إنما ترتب لأن الإثخان أمر غير مضبوط فظنوا أن ذلك القدر من القتل بلغ حد الإثخان فأخطأوا في الاجتهاد وكان قوله (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) تكليفا مختصا بحالة الحرب فلم يتناول الأسر بعد انهزام الكفار. الثالث : قالوا : الحكم بأخذ الفداء معصية وإلا لم يتوجه الذم في قوله (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) أي حطامها سمي بذلك لأنه سريع الزوال كالعرض قسيم الجوهر (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي ثوابها أو ما هو سبب الجنة وهو إعزاز الإسلام بإشاعة القتل في أعدائه. وقرىء بجر الآخرة أي عرض الآخرة على التقابل. (وَاللهُ عَزِيزٌ) يغلب أولياؤه على أعدائه ويقهرونهم ويلجئونهم إلى القتل والفداء بعد الأسر ولكنه (حَكِيمٌ) لا يرخص في أخذ الفداء إلا بعد إفشاء القتل في الأعداء. والجواب أن كل ذلك محمول على ترك الأولى وكذا الكلام في قوله (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) أي لو لا حكم من الله سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحدا يخطىء في الاجتهاد لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم وحصول أولاد

٤١٩

منهم مسلمين ، وإن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله ، وخفي عليهم أن قتلهم أعزّ للإسلام وأهيب لمن وراءهم. قال ابن عباس : هذا الحكم إنما كان يوم بدر لأن المسلمين كانوا قليلين فلما كثروا وقوي إسلامهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : ٤] قال بعض العلماء : هذا الكلام يوهم أن مقتضى الآيتين مختلف وليس كذلك فإن كلتاهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان على الداء. وعن سعيد بن جبير (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) بأنه سيحل لكم الفدية وكأن قرب الوقت من التحليل يوجب تخفيف العقاب. وقال محمد بن إسحق (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) أنه لا يعذب أحدا إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي. وحاصل هذا القول يرجع إلى ترك الأولى ذلك أن الأولى وغير الأولى يشتركان في كونهما مباحين وإنما يعاتب على ترك الأولى لا على سبيل العقوبة بل على سبيل الحث على فعل الأولى. وعن بعضهم المراد حكم الله بأنه لا يعذب من شهد بدرا. واعترض بأنه يلزم أن لا يكونوا مكلفين. والجواب أن عدم العقاب على الذنب لا يوجب عدم التكليف فلعل التكليف لأجل زيادة الثواب. وقيل : لو لا كتاب سبق بالعفو عن هذه الواقعة لكان استحقاق مس العذاب حاصلا. روي أنهم أمسكوا عن الغنائم أو عن أخذ الفداء لأنه من جملة الغنائم فنزلت (فَكُلُوا) والفاء للتسبيب ومعنى الآية قد أبحت لكم الغنائم فكلوا و (حَلالاً) نصب على الحال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلا حلالا (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما يستقبل فلا تقدموا على شيء لم تؤمروا به (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما فرط منكم من ترك الأولى (رَحِيمٌ) فبذلك رخص لكم فيما رخص من أخذ الفداء ثم قال لاستمالة قلوب الأسارى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ) إن يظهر معلومه أن (فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) وهو الإيمان والعزم على طاعة الله وطاعة رسوله في جميع التكاليف والتوبة عن الكفر وعن جميع المعاصي ويدخل فيه العزم على نصرة الرسول والتوبة عن محاربته (يُؤْتِكُمْ) في الدنيا (خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من المنافع العاجلة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) في الآخرة ، أو المراد بالخير إيصال الثواب وبالمغفرة إزالة العقاب. ثم إنا قد نعلم أن كل من خلص من الأسر وآمن فقد آتاه الله في الدنيا خيرا لدلالة الآية على ذلك إجمالا ، وذلك الخير إن كان دينيا فلا شك أن كلهم قد وجدوا ذلك لأن قليل الدنيا مع الإيمان أعظم من كثير الدنيا مع الكفر ، وإن كان دنيويا فتفضيل ذلك غير معلوم إلا ما روي عن بعضهم كالعباس روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا ، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو

٤٢٠