تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

اهتز ونغض لها رأسه. (خُذُوا) على إرادة القول أي قلنا لهم أو قائلين خذوا (ما آتَيْناكُمْ) من الكتاب (بِقُوَّةٍ) بجد وعزيمة على احتمال مشاقه وتكاليفه (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) من الأوامر والنواهي ، أو من التعريض للثواب ، أو المراد خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوة إن كنتم تطيقونه كقوله (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) [الرحمن : ٣٣] واذكروا ما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ما أنتم عليه من الإباء.

التأويل : (الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) هي قرية الجسد الحيواني على شاطىء بحر البشرية ، وأهل قرية الجسد الصفات الإنسانية صنف روحاني كصفات الروح ، وصنف قلبي كصفات القلب ، وصنف نفساني كصفات النفس الأمارة بالسوء ، وكل قد نهوا عن صيد حيتان الدواعي البشرية في سبت محارم الله ، فلم تنتهك الحرمة إلا الصفات النفسانية (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) لأن الإنسان حريص على ما منع فتهيج الدواعي في المحرمات دون المحللات (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بما كان من طبيعة النفس وصفاتها من الخروج عن أمر الله لأنها أمارة بالسوء (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ) هي صفات القلب قالوا لصفات الروح (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) بالمخالفات عند استيفاء اللذات والشهوات (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) وهو المسخ بتبديل الصفات الإنسانية إلى الصفات الحيوانية (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) لأنه خلقنا هكذا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر فنقضي ما علينا ليعلم أنّا ما تغيرنا عن أوصافنا الروحانية والملكية ، ولعل النفس وصفاتها (يَتَّقُونَ) فتتصف بالمأمورية والاطمئنان فإنها قابلة لذلك (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) وهو إبطال استعداد قبول الفيض الإلهي (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) على الأرواح والقلوب الذين يتبعون النفس وصفاتها (مَنْ يَسُومُهُمْ) وهو الشيطان المنظر إلى يوم القيامة (سُوءَ الْعَذابِ) عذاب البعد عن الله وعذاب ذلة الخدمة للنفس والشيطان (وَقَطَّعْناهُمْ) فرقنا الأرواح والقلوب في أرض الأجساد (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) قابلون لفيض نور الله (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) في القبول (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ) وهي الطاعات (وَالسَّيِّئاتِ) وهي المعاصي (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى الحق. وذلك أن السير إلى الله يتم بقدم الطاعة وبقدم ترك المعصية ومن هنا قيل خطوتان وقد وصلت. أو بلوناهم بالحسنات ليرجعوا إلينا بقدم الشكر ، والسيئات ليرجعوا بقدم الصبر أو بلوناهم بكثرة الطاعات والعجب بها كما كان حال إبليس وبكثرة المعاصي والندامة عليها كما كان حال آدم (فَخَلَفَ) من بعد الأرواح والقلوب لما سلكوا طريق الحق ووصلوا إلى مقعد صدق خلفهم النفوس الأمارة بالسوء (وَرِثُوا الْكِتابَ) وهو ما ألهم الله تعالى الأرواح والقلوب من المواعظ والحكم والمعاني والأسرار وورثتها النفوس

٣٤١

وجعلوها ذريعة للعروض الدنياوية وتحصيل المال والجاه واستيفاء اللذات (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا) مثل هذه الزلات لأنا واصلون كاملون كما هو مذهب أهل الإباحة ، أو سيغفر لنا إذا استغفرنا وهم يستغفرون باللسان لا بالقلب (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) فيه أن الإنسان لو وكل إلى طبعه ونفسه لا يقبل شيئا من الأمور الدينية وإنما يعان على القبول بأمر ظاهر أو باطن. وفيه أن على رؤوس أهل الطلب جبل أمر الحق وهو أمر التحويل فيحولهم بالقدرة إلى أن يأخذوا ما آتاهم الله تعالى بقوة منه لا بقوتهم وإرادتهم.

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣))

القراآت : (ذُرِّيَّتَهُمْ) على التوحيد : حمزة وعلي وخلف وابن كثير وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون : على الجمع يقولوا بياء الغيبة في الحرفين : أبو عمرو (يَلْهَثْ ذلِكَ) بالإظهار : حفص والأصفهاني عن ورش ، والحلواني عن قالون والنقاش عن أبي ربيعة عن قنبل (يُلْحِدُونَ) بفتح الياء والحاء : حمزة. الباقون : بضم الياء وكسر الحاء من الإلحاد (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) مظهرا : أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ورش وعاصم غير الأعشى (ذَرَأْنا) بغير همزة : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف. الباقون : بالهمز.

الوقوف : (أَنْفُسِهِمْ) ج لأن التقدير وقال ألست بربكم مع اتحاد الكلام. (بِرَبِّكُمْ) ط فصلا بين السؤال والجواب. (بَلى) ج لأن (شَهِدْنا) يصلح أن يكون من قولهم

٣٤٢

فيوقف على (شَهِدْنا) ويعلق أن بمحذوف أي فعلنا ذلك لئلا تقولوا ، ويصلح أن يكون (شَهِدْنا) من قول الملائكة أي قيل للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا فيكون منفصلا من جملة بلى متصلا بأن تقولوا. (غافِلِينَ) ه لا للعطف (مِنْ بَعْدِهِمْ) ج لابتداء الاستفهام واتحاد القائل. (الْمُبْطِلُونَ) ه (يَرْجِعُونَ) ه (الْغاوِينَ) ه (هَواهُ) ج لأن قوله (فَمَثَلُهُ) مبتدأ ولدخول الفاء فيه (كَمَثَلِ الْكَلْبِ) ج لابتداء الشرط من أن الجملة تفسير للمثل (أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) ط (بِآياتِنا) ط (يَتَفَكَّرُونَ) ه (يَظْلِمُونَ) ه (الْمُهْتَدِي) ج للعطف ولأن التفصيل بين الجملتين أبلغ في التنبيه (الْخاسِرُونَ) ه (وَالْإِنْسِ) ط والوصل أولى لأن الجملة بعده صفه لـ (كَثِيراً) ، (لا يَفْقَهُونَ بِها) ج لأن العطف صحيح ولكن الوقف لإمهال فرصة الاعتبار وكذا الثانية ولهذا كرر لفظة (لَهُمْ) في أول كل جملة (لا يَسْمَعُونَ بِها) ط (أَضَلُ) ط (الْغافِلُونَ) ه (فَادْعُوهُ بِها) ص لعطف المتفقتين (فِي أَسْمائِهِ) ط (يَعْمَلُونَ) ه (يَعْدِلُونَ) ه (لا يَعْلَمُونَ) وج وعطف (وَأُمْلِي) على (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أحسن من جعله مستأنفا فيوقف على (أُمْلِي) ، (لَهُمْ) ، (مَتِينٌ) ه.

التفسير : لما شرح قصة موسى على أقصى الوجوه ذكر ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين. وفي الآية للمفسرين قولان : أحدهما ما روى مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب قال : سئل عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تبارك خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. قال رجل : يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت في عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار» وهذا القول ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك وعكرمة والكلبي وابن عباس. وأما المعتزلة وأصحاب النظر والمعقولات فإنهم فسروا الآية بأنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم ، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى إلى أرحام الأمهات وجعلها علقة ثم مضغة ثم جعلهم بشرا سويا وخلقا كاملا ، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب في عقولهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقته وغرائب صنعته وكأنه قررهم وقال (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وكأنهم (قالُوا بَلى) أنت ربنا (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل باب واسع في كلام الله ورسوله وفي كلام العرب نظيره (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] وقال الشاعر :

٣٤٣

امتلأ الحوض وقال قطني

وهذا القول الثاني غير مناف للقول الأول ولا هو مطعون في نفسه إنما الكلام في صحة القول الأول. والمنكرون طعنوا فيه بوجوه : منها أن قوله (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل (مِنْ بَنِي آدَمَ) بدل البعض من الكل. فالمعنى وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم. وعلى هذا فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر بني آدم شيئا. ويمكن أن يجاب بأنه تعالى يعلم أن الشخص الفلاني يتولد من آدم ومن فلان فلان آخر فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم ويميز بعضهم من بعض فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم بالقرآن ، وثبت إخراج الذرية من ظهر آدم بالخير ، فوجب المصير إليهما معا صونا للآية والخبر عن الطعن. ومنها أن أولئك الذر إن لم يكونوا عقلاء لم يمكن أخذ الميثاق منهم وإن كانوا عقلاء وجب أن يتذكروا تلك الحالة في هذا الوقت ، وبهذا الدليل بعينه يبطل التناسخ. ويحتمل أن يجاب بالفرق وذلك أنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين ودهورا امتنع في مجرى العادة نسيانها ، وأما أخذ هذا الميثاق فإنما حصل في أسرع زمان فلم يبعد حصول النسيان فيه. ومنها أن جميع الخلق من أولاد آدم جمع عظيم وجم غفير ، وصلب آدم على صغره لن يتسع لذلك المجموع على أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم فكل واحدة من أولئك الذر لها بنية وإن كانت صغيرة والمجموع يبلغ مبلغا عظيما في الحجمية والمقدار ، وأجيب بأن البنية عندنا ليست شرطا في الحياة والعقل. فمن الجائز أن يكون كل من الذر جوهرا فردا. ومنها أن فائدة أخذ الميثاق أن يكون حجة عليهم في ذلك الوقت أو في الدنيا ، والإجماع منعقد على أنهم بسبب ذلك لا التكليف على الطفل فكيف يتوجه على الذر؟ وأجيب بأنه لا يسأل عما يفعل. وإن المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الأعمال وإنطاق الجوارح قالوا لا يبعد أن يكون لبعض المكلفين في إسماع هذه الأشياء نطق فكذا هاهنا ، ولا يبعد أن يكون لبعض الملائكة في تمييز السعداء من الأشقياء في وقت أخذ الميثاق نطق. وقيل : إن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم القيامة. ومنها أنه سبحانه قال (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] وقال (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٥ ، ٦] وكون أولئك الذر أناسا ينافي كون الإنسان مخلوقا من الماء والطين. والجواب لا يجوز أن يخرج الله تعالى من صلب آدم ذرة من الماء ثم منها ذرة أخرى وهلم جرا إلى آخر نسلها ثم يعدم الكل أو يميتها فتحصل الحياة للإنسان أربع مرات : أولها؟ وقت الميثاق ، وثانيها : في الدنيا ، وثالثها : في القبر ، ورابعها في القيامة ، ويحصل له الموت ثلاث مرات بين كل حياتين واحد. ولا ينافي هذا حكاية قول الكفرة (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)

٣٤٤

[غافر : ١١] لأنهم قالوا ذلك بناء على حسب ظنونهم. أما قوله (أَنْ تَقُولُوا) فالتقدير : وأشهدهم على أنفسهم بكذا لئلا يقولوا أو كراهة أن يقولوا (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا) المشهود له (غافِلِينَ) من قرأ بياء الغيبة فلأن الكلام على الغيبة وهو قوله (مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) لئلا يقولوا. ومن قرأ على الخطاب فلأنه قد جرى في الكلام خطاب وهو قوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وكلا الوجهين حسن لأن الغائبين هم المخاطبون في المعنى. (أَوْ تَقُولُوا) يعني الكفار إنما أشركنا لأن آباءنا أشركوا فقلدناهم في ذلك الشرك فكان الذنب لأسلافنا فكيف تعذبنا على هذا الشرك وهو معنى قوله (أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) والحاصل أن الله تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع منهم التمسك بهذا العذر. وعند المعتزلة معناه أشهدنا عليهم كراهة أن يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم فلا عذر معهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء. وقال في الكشاف : المراد ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله ، وبذرياتهم الذين كانوا في عهد رسول الله من أخلافهم المقتدين بآبائهم لأن الآيات السابقة في شأن اليهود. وكذلك قوله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي على اليهود (نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) أما قوله (وَكَذلِكَ) أي ومثل ذلك التفصيل البليغ (نُفَصِّلُ الْآياتِ) لهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وإرادة أن يرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل نفصلها أو يرجعوا إلى ما أخذ الله عليهم من الميثاق في التوحيد. ولبعض العلماء في الآية قول ثالث وهو أن الأرواح البشرية موجودة قبل الأبدان والإقرار بوجود الإله من لوازم ذواتها وحقائقها ، وهذا العلم ليس مما يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب وهو المراد بأخذ الميثاق عليهم ، لكنها بعد التعلق بالأبدان يشغلها التعلق عن معلومها فربما تتذكر بالتذكير والتنبيه وربما لا تتذكر (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) على بني آدم أو اليهود خاصة. قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد : نزلت في بلعم بن باعوراء ؛ وذلك أن موسى عليه‌السلام قصد بلده الذي هو فيه وغزا أهله وكانوا كفارا فطلبوا أن يدعو على موسى وقومه. وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم. فامتنع منه فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليهم فاستجيب له ووقع موسى عليه‌السلام وبنو إسرائيل بدعائه في التيه. فقال موسى : يا رب بأيّ ذنب وقعنا في التيه؟ فقال : بدعاء بلعم. فقال : كما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه. ثم دعا موسى عليه‌السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فسلخه الله تعالى مما كان عليه ونزع عنه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فهذه قصته. ويقال أيضا أنه كان نبيا من أنبياء الله تعالى فلما دعا عليه موسى عليه‌السلام انتزع الله تعالى منه الإيمان فكان

٣٤٥

كافرا وهذا بعيد لأنه سبحانه قال الله أعلم حيث يجعل رسالاته [الأنعام : ١٢٤] وفيه أنه تعالى لا يشرف عبدا من عبيده بالرسالة إلا إذا علم امتيازه عن سائر عبيده بمزيد الشرف والفضل ، ومن كان هذا حاله فكيف يليق به الكفر؟ وقال عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبو روق : نزلت في أمية بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى يرسل رسولا في ذلك الوقت فرجا أن يكون هو فلما أرسل الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حسده ثم مات كافرا ولم يؤمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الذي قال فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد كاد يسلم. وذلك أنه يوحد الله تعالى في شعره ويذكر دلائل توحيده من خلق السماء والأرض وأحوال الآخرة والجنة والنار. وقيل : نزلت في أبي عامر الراهب الذي سماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفاسق وكان يتزهد في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فمات هناك طريدا وحيدا وهو قول سعيد ابن المسيب. وقيل : نزلت في منافقي أهل الكتاب وكانوا يعرفون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي الحق عن الحسن والأصم. وروى عكرمة عن ابن عباس قال : هو رجل أعطى ثلاث دعوات يستجاب له فيها ، وكانت له امرأة يقال لها البسوس وكان له منها ولد وكان يحبها فقالت : اجعل لي منها دعوة. قال : لك منها واحدة فماذا تأمرين؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل. فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا الله عليها أن يجعلها كلبة نباحة فذهب فيها دعوتان ، وجاء بنوها فقالوا : ليس لنا على هذا إقرار قد صارت أمنا كلبة نباحة يعيرنا بها الناس فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها ، فدعا الله فعادت كما كانت وذهبت الدعوات الثلاث وبها يضرب المثل فيقال : «أشأم من البسوس». وقيل : هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه وهو قول قتادة وعكرمة وأبي مسلم. ومعنى قوله (آتَيْناهُ آياتِنا) عند الأكثرين علمناه حجج التوحيد وفهمناه أدلته حتى صار عارفا بها (فَانْسَلَخَ مِنْها) فخرج من محبة الله تعالى إلى معصيته ومن رحمته إلى سخطه. يقال لكل من فارق شيئا بالكلية إنه انسلخ منه. وقال أبو مسلم (آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) أي بيناها فلم يقبل وعري منها وتباعد كما هو شأن كل كافر لم يؤمن بالأدلة وأقام على الكفر. والقول الأول أولى لأن الانسلاخ يدل على أن الشيء كان موجودا فيه ثم خرج منه لا على إنه لم يوجد فيه أصلا. وأيضا ثبت بالأخبار أن الآية نزلت في إنسان كان عارفا بدين الله ثم خرج من المعرفة إلى الكفر والغواية وذلك قوله (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) أي أدركه ولحقه وصار قرينا له ، أو أتبعه الشيطان خطواته أو كفار الإنس وغواتهم أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعا له (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) في علم الله تعالى أو فصار

٣٤٦

منهم (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ) إلى منازل الأبرار (بِها) أي بتلك الآيات (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) أصل الإخلاد اللزوم على الدوام فكأنه قيل : لزم الميل إلى الأرض ومنه أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به. قال ابن عباس : معناه مال إلى الدنيا. وقاتل مقاتل : رضي بالدنيا. وقال الزجاج : سكن إلى الدنيا. وقال الواحدي : فهؤلاء فسروا الأرض بالدنيا لأن ما في الدنيا من الضياع والعقار كلها أرض وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان يستخرج من الأرض وبها يكمل ويقوى ، ومعنى قوله (وَاتَّبَعَ هَواهُ) أنه أعرض عن التمسك بما آتاه من الآيات ، ثم إنه لو جاء الكلام على ظاهره لقيل : ولو شئنا لرفعنا بها ولكنا لم نشأ إلا أن قوله (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) لما دل على هذا المعنى لا جرم أقيم مقامه. قالت الأشاعرة : لفظة «لو» تدل على أن الله تعالى قد لا يريد الإيمان ويريد الكفر. وقال الجبائيّ : معناه ولو شئنا لرفعناه بأعماله بأن يحترمه ونزيل التكليف عنه قبل ذلك الكفر حتى تسلم له الرفعة لكنا عرضناه بزيادة التكليف لمنزلة زائدة فأبى أن يستمر على الإيمان ، أو المراد لو شئنا لرفعناه بأن نحول بينه وبين الكفر قهرا أو جبرا إلا أن ذلك ينافي التكليف فلا جرم تركناه مع اختياره. وقال صاحب الكشاف : ومعناه لو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها ، وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكرت المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل : ولو لزمها لرفعناه بها ألا ترى إلى قوله (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون (وَلَوْ شِئْنا) في معنى ما هو فعله. ثم وضع قوله (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) موضع فحططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في هذا المعنى ومحل قوله (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ) النصب على الحال كأنه قيل : كمثل الكلب ذليلا دائم الذلة لاهثا في الحالين ، ويجوز أن يكون تفسيرا للمثل كما مر. قال الليث : اللهث هو أن الكلب ونحوه إذا ناله الإعياء عند شدّة العدو وعند شدّة الحر فإنه يدلع لسانه من العطش ، وكل شيء يلهث فإنه يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في جميع أحواله لا لحاجة وضرورة بل لطبيعته الخسيسة. فمعنى الآية أن هذا الكلب إن شدّ عليه وهيج لهث ، وإن ترك لهث أيضا لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له. عن ابن عباس : الكلب منقطع الفؤاد يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه. قيل : لما دعا بلعم على موسى خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب فيكون هذا وجه التمثيل. واعلم أن التمثيل ما وقع بجميع الكلاب وإنما وقع بالكلب اللاهث وأخس الحيوانات هو الكلب وأخس الكلاب هو اللاهث ، وإن الرجل إذا توسل بعلمه إلى طلب الدنيا فذلك إنما يكون لأجل أن يورد عليهم أنواع علومه ويظهر عندهم فضائل نفسه

٣٤٧

ومناقبها ، ولا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات يدلع لسانه ويخرجه لأجل ما تمكن من قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا فكانت حاله شبيهة بحال ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبدا من غير حاجة ولا ضرورة بل لمجرد الطبيعة الجسدية. وأيضا هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال والخسار عادة أصيلة وطبيعة ذاتية له كما أن ذلك الكلب إن شدّ عليه لهث وإن ترك لهث. ثم عمم بالتمثيل جميع المكذبين الضالين فقال (ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وقال ابن عباس : يريد أهل مكة كانوا يتمنون هاديا يهديهم وداعيا يدعوهم إلى طاعة الله ، ثم لما جاءهم من لا يشكون في صدقه وديانته كذبوه. وقيل : هم اليهود قرأوا نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به. (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) يريد قصص المكذبين أو قصص بلعم الذي هو نحو قصص المكذبين (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيحذرون مثل عاقبته إذ ساروا نحو سيرته. ثم ذكر تأكيدا آخر في باب التحذير فقال (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) ولا بد من تقدير مضاف ليناسب التمييز المخصوص بالذم فيصير التقدير : ساء مثلا القوم ، أو ساء أصحاب مثل القوم. وفي (ساءَ) ضمير مبهم يفسره المنصوب بعده. وظاهر الآية يقتضي كون المثل مذموما فقيل : كيف يتصور ذلك مع أن الله تعالى ذكره؟ والجواب أن الذم إنما يتوجه إلى ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها حتى صاروا في ذلك بمنزلة الكلب اللاهث. أما قوله (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) فإما أن يكون معطوفا على كذبوا فيدخل في حيز الصلة بمعنى الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم ، وإما أن يكون كلاما منقطعا بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب ، وتقديم المفعول للاختصاص كأنه قيل : وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدها إلى غيرها. ثم بين أن الهداية والضلال بتقديره فقال (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) وهو محمول على اللفظ من حيث إن «من» مفرد اللفظ ومن حيث إن اهتدى مطاوع هدى (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) محمول على المعنى لأن من معناه هاهنا الجمع ولأن الخسار ليس مطاوع والإضلال بل الإضلال. مطاوع له والخسار لازم اللازم. ولا يخفى أن ظاهر الآية موافق لمعتقد الأشاعرة أن الهداية والضلال بل جميع الأفعال بخلق الله تعالى ، والمعتزلة أولوها بأن المراد من يهد الله إلى الجنة والثواب فهو المهتدي في الدنيا ، ومن يضلله عن الجنة والثواب يضلله عن طريق الجنة. وقال بعضهم : التقدير من يهد الله فقبل هداه فهو المهتدي ، ومن يضل بأن لم يقبل فهو الخاسر. وقيل : من يهده الله بالألطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي ، ومن يضلله عن ذلك بما تقدم منه

٣٤٨

بسوء اختياره فأخرج لهذا السبب تلك الألطاف من أن تؤثر فيه فهو الخاسر ، وزيف بالعلم والداعي وبأن الأصل عدم الإضمار وبأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف فقد فعله عند المعتزلة في حق جميع الكفار وبالآية بعدها وهي قوله (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) إلى آخره. وذلك أنه بين أنه خلق كثيرا من الجن والإنس لجهنم وقد علم ذلك في الأزل وخلاف مقدوره ومعلومه محال. وأيضا العاقل لا يريد الكفر والجهل. الموجبين لدخول النار ، فحصول ذلك على خلاف قصده واجتهاده لا يكون إلا من قبل غيره ، ولا يتسلسل بل ينتهي إلى مسبب الأسباب لا محالة. لا يقال العبد إنما يسعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الباطل لأنه اشتبه لأمر عليه وظنه اعتقادا صحيحا لأنا نقول على هذا التقدير إنما وقع في هذا الجهل لأجل جهل متقدم ، ولا يتسلسل بل ينتهي إلى جهل حصل ابتداء فيتوجه الإلزام. قالت المعتزلة : الآيات الدالة على أنه سبحانه أراد من العبد الطاعة العبادة والخير فقط كثيره كقوله (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] وأيضا أنه قال في معرض الذم (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) إلى آخره. ولو كانوا مخلوقين للنار غير قادرين على الإيمان لم يحسن ذمهم. وأيضا لو خلقهم للنار لما كان له نعمة على الكفار أصلا لأن منافع الدنيا بأسرها لا اعتداد بها في جنب العذاب الدائم لكن القرآن مملوء من أنه تعالى منعم على جميع الخلائق. وأيضا مذهبكم يوجب أن لا يكون للمدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب فائدة ، ولو خلقهم للنار لوجب أن يخلقهم في النار ابتداء لأنه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم. وأيضا الآية متروكة الظاهر لأن لام الاختصاص لا تفيد فيها إلا إذا قدر «ولقد ذرأناهم» لكي يكفروا فيصيروا إلى جهنم فيجب بناؤها على قوله (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] لأن ظاهره يصح من غير حذف. وعلى هذا أوجب أن تؤول الآية بأن اللام فيها لام العاقبة كقوله (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) [القصص : ٨] أو يقال إنه جعلهم لإغراقهم في الكفر وشدّة شكائمهم فيه كأنهم مخلوقون للنار كقولهم ما خلق فلان إلا لكذا إذا كان غريقا في بعض الأمور. وأجيب إجمالا بأنه لا يسأل عما يفعل ، وتفصيلا بأن النعمة وإن قلت فهي في نفسها نعمة ، وبأن الوسائط معتبرة ، وبأن حمل اللام على العاقبة تجوّز لا يصار إليه إلا لضرورة تصحيح المعنى ، وهاهنا لا ضرورة فقد تعاضدت الدلائل العقلية كالعلم والداعي والنقلية كآيات كثيرة على أن الكل من الله فوجب المصير إلى طرف الجبر ولا سيما فإن ما قبل هذه الآية وهو قوله (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) وما بعدها وهو قوله (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) يدل على ما قلنا. وأيضا لا ريب أن أولئك الكفار

٣٤٩

كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالح الدنيا ، وكذا أعين مبصرة وآذان سامعة ، فالمراد أنهم كانوا يفقهون ويبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين. ثم إنه تعالى كلفهم تحصيل الدين مع عدم القابلية كيف وإن الكفار بلغوا في عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي شدة النفرة عن قبول دينه مبلغا لا يكتنه كنهه. والعلم الضروري حاصل بأن حصول الحب والبغض في القلب ليس باختيار الإنسان بل هو حالة حاصلة في القلب كره الإنسان أو أراد ، حينئذ يثبت القول بالجبر. وروى الشيخ أحمد البيهقي في كتاب مناقب الشافعي أن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام خطب الناس فقال : وأعجب ما في الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضدادها ، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن سعد بالرضا شقي بالسخط ، وإن ناله الخوف شغله الحزن ، وإن أصابته المصيبة قتله الجزع ، وإن وجد مالا أطغاه الغنى ، وإن عضته فاقة شغله البلاء ، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف ، فكل تقصير به مضر ، وكل إفراط له مفسد. وهذا الفصل كالمطلع على سر مسألة القضاء والقدر لأن أعمال الجوارح مربوطة بأحوال القلوب ، وكل حالة من أحوال القلب فإنها مستندة إلى حالة أخرى حصلت قبلها. وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر. وذكر الإمام الغزالي في الإحياء فصلا ثم قال : فإن قلت أني أجد من نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلا بي لا بغيري. أجبنا وقلنا : هب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول : وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئا شئت ، وإن شئت أن لا تشاءه لم تشأ ، ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له ، فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار. والله تعالى أعلم. قال بعض العلماء أنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم ، وفيه دليل على أن محل الفقه هو القلب. وأقول : ليس المراد بالقلب هاهنا اللحم الصنوبري بل اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنسانا وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة وبالروح. أما قوله (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) فتقريره أن الإنسان يشاركه سائر الحيوان في القوى الطبيعية الغاذية والنامية والمولدة ، وفي منافع الحواس الخمس الظاهرة ، وفي أحوال التخيل والتفكر. وإنما يحصل الامتياز بالقوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فإذا لم تحصل هذه الغاية للإنسان صار في درجة الأنعام بل أضل وأدون لأن الذي أعرض عن اكتساب الفضائل مع القدرة على تحصيلها من حيث النوع كان أخس

٣٥٠

حالا ممن لم يكتسبها مع العجز عنها. وقيل : وجه الأضلية أن الأنعام مطيعة لله والكافر غير مطيع. وقال مقاتل : الأنعام تعرف ربها وتبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيلها ودفعها ، وهؤلاء الكفار أكثرهم معاندون مصرون وقيل : إنها تفر أبدا إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها ، والكافر يهرب عن ربه إلى الأصنام. وقيل : إنها لا تضل إذا كان معها مرشد والكافر يضل بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) الكاملون في الغفلة. وقال عطاء : إنهم الغافلون عما أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب. ثم نبه بقوله (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكره سبحانه ، والمخلص من عذاب جهنم هو ذكره ، وكل من له ذوق وجد من نفسه أن الأمر كذلك فإن القلب إذا غفل عن الذكر وأقبل على الدنيا وقع في نار الحرص وزمهرير الحرمان ولا يزال ينتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ومن ظلمة إلى ظلمة فإذا فتح على قلبه الذكر خلص من نيران الآفات وخسران الحسرات إلى معرفة رب الأرض والسموات. وهذا اللفظ مذكور في ثلاثة مواضع أخر : في آخر بني إسرائيل وفي أوّل طه وفي آخر الحشر. ومعنى حسن الأسماء حسن معانيها ومفهوماتها لأنها أسماء دالة على معاني الكمال ونعوت الجلال وهي محصورة في نوعين : عدم افتقاره تعالى إلى غيره وثبوت افتقار غيره إليه. وقد عرفت في تفسير البسملة أن أسماء الله تعالى لا تكاد تنحصر بحسب السلوب والإضافات ، فكل من كان وقوفه على أسرار حكمه في مخلوقاته أكثر كان علمه بأسماء الله الحسنى أكثر. والآن نقول : إن من تقسيمات أسماء الله ما يقوله المتكلمون من أن صفات الله أنواع ما يجب وما يجوز وما يستحيل عليه تعالى. ومنها أن يقال إن أسماء الله إما أن يجوز إطلاقها على غيره كالرحيم والكريم وإن كان معناها في حق الله مغايرا لمعناها في حق غيره ، وإما أن لا يجوز نحو «الله» و «الرحمن». وقد يقيد القسم الأوّل بقيود مثل «يا أرحم الراحمين» و «يا أكرم الأكرمين» و «يا خالق السموات والأرضين». ومنها أن يقال من الأسماء ما يمكن ذكره وحده كقولنا «يا الله يا رحمن يا حي يا حكيم». ومنها ما لا يكون كذلك كقولنا «مميت» و «ضارّ» فإنه لا يجوز إفراده بالذكر بل يجب أن يقال «يا محيي يا مميت يا ضار يا نافع». ومنها أن يقال أوّل ما يعلم من صفات الله تعالى كونه محدثا للأشياء مرجحا لوجودها على عدمها ، وذلك إنما يعلم بواسطة الاستدلال بوجود الممكنات عليه ، وذلك المرجح إما أن يرجح على سبيل الوجوب أو على سبيل الصحة ، والأوّل باطل وإلا لزم دوام العالم بدوامه ، والثاني هو المعنيّ بكونه قادرا. ثم إنا بعد هذا نستدل بكون أفعاله محكمة متقنة على كونه عالما ثم

٣٥١

نقول : إن القادر العالم يمتنع أن لا يكون حيا فظهر أن العلم بصفاته وبأسمائه ليس واقعا في درجة واحدة بل العلم بها علوم مترتبة يستفاد بعضها من بعض ، ومن البين أن الأسماء الحسنى لا تكون إلا لله تعالى لأن كل الشرف والجلالة يستلزم وجوب الوجود ، وكل نقص وخساسة فإنه يعقب الإمكان وكل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله تعالى. ومن هنا اختلف في أنه هل يطلق عليه اسم الشيء أم لا؟ وقد مر تحقيق ذلك في تفسير البسملة وفي الأنعام في قوله (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [الأنعام : ١٩] أما قوله (فَادْعُوهُ بِها) ففيه دليل على أن الإنسان لا يجوز أن يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى بعد أن عرف معانيها ويكون مستحضرا الأمرين : عزة الربوبية وذلة العبودية ، كما أنه في قوله عند التحريم «الله أكبر» يشير إلى أنه لا نسبة لكبريائه وعظمته إلى ما سواه من الروحانيات والجسمانيات والعلويات والسفليات وإنما هو أكبر من هذه الأشياء وأكبر من أن يقال له أكبر من هذه الأشياء (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) قال ابن السكيت : الملحد العادل عن الحق والمدخل فيه ما ليس منه. يقال قد ألحد في الدين ولحد. وقال غيره من أهل اللغة : الإلحاد العدول عن الاستقامة والانحراف عنها ومنه للحد الذي يحفر إلى جانب القبر. قال الواحدي : الأجود قراءة العامة ولا يكاد يسمع من العرب لأحد بمعنى ملحد. والإلحاد في أسماء الله تعالى يقع على ثلاثة أوجه : الأوّل : إطلاق أسمائه المقدسة على الأصنام كاشتقاقهم اللات من الله والعزى من العزيز ، ومناة من المنان ، وكان مسيلمة الكذاب يسمى نفسه الرحمن. والثاني أن يسموه بما لا يجوز عليه كما سمع عن البدو وإن قالوا بجهلهم «يا أبا المكارم ، يا أبيض الوجه ، يا نخيّ» بناء على أن النخوة مدح. الثالث : أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى كالرحمن مثلا. قال بعض العلماء : إن ورود الإذن في بعض الأسماء لا يجوز إطلاق سائر الألفاظ المشتقة منه عليه ، فلا يجوز أن يقال «يا معلم» وإن ورد (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) [البقرة : ٣١] وكذا في حق الأنبياء لا يجوز أن يقال إن آدم عاص أو غاو وإن ورد (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١] ثم أوعد الملحدين في أسمائه بقوله (سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ثم لما أخبر أن كثيرا من الثقلين مخلوقون للنار حكى أن بعضا منهم مخلوقون للجنة فقال (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) وقد مر مثل هذه الآية في قصة موسى فعن قتادة وابن جريج وابن عباس أن المراد في الآية أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وروى الربيع أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «إذا قرأها هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها». وعن الربيع بن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية فقال : إن من أمتي قوما على الحق

٣٥٢

حتى ينزل عيسى. وعن الكلبي : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب. وقال الجبائي : هم العلماء والدعاة إلى الدين في كل حين ثم أعاد ذكر المكذبين وما عليهم من الوعيد فقال (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) قال ابن عباس : يريد أهل مكة والظاهر أنه عام. والاستدراج استفعال من الدرجة ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه ، وأدرج الكتاب إذا طواه شيئا بعد شيء. ومعنى الآية سنقربهم إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ما يراد بهم. وذلك أنهم كلما أقدموا على ذنب فتح الله عليهم بابا من أبواب الخير فيزدادون بطرا وانهماكا في الغي والفساد ، ثم يأخذهم أغفل ما يكونون (وَأُمْلِي لَهُمْ) أطيل لهم مدة عمرهم (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) عن ابن عباس : يريد أن مكري شديد والمتين من كل شيء هو القوي. يقال متن متانة. واحتجت الأشاعرة بألفاظ الاستدراج والإملاء والكيد في مسألة القضاء والقدر حتى قال بعض المجبرة : المراد سنستدرجهم إلى الكفر مع أنه فاسد لأن جزاء الكفر لا يكون كفرا آخر. وحملها المعتزلة على أن المراد سنستدرجهم إلى العقوبات إما في الدنيا وفي الآخرة ، وزيف بأن هذا الاستدراج والإمهال مما يزيد الكافر به كفرا وعتوا واستحقاقا للعقاب ، فلو أراد به الخير لأماته قبل أن يصير مستوجبا لتلك الزيادات من العقوبة بل كان يجب في حكمته ورعايته للأصلح أن لا يخلقه ابتداء ، أو يميته قبل التكليف فلما خلقه وألقاه في ورطة التكليف وأمهله ومكنه من المعاصي مع علمه بأن كل ذلك لا يفيده إلا مزيد استحقاق العقاب علمنا أنه ما خلقه إلا للنار كما قال (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) الآية.

التأويل : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) لم يقل «ربكم» ليعلم أن في الآية غموضا لا يطلع عليه غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغير من أنعم الله به عليه من خواص متابعيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه تعالى لم يكلم أحدا وهو يجيبه في العدم إلا بني آدم كلمهم وهم غير موجودين وأجابوه وهم معدومون فجرى بالجود ما جرى لا بالوجود ، فهذا بدايتهم وإلى أن تنتهي نهايتهم بأن يكون الله تعالى سمعهم وأبصارهم وألسنتهم (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا) بأن رضوا بالأثنينية وما جعلوا إلى الوحدة بالفناء في الله (بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) الذين أبطلوا استعداد الرجوع إلى الوحدة لله (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) بهذه الدلالات من البداية إلى النهاية وهو مقام الوحدة (فَانْسَلَخَ مِنْها) أي وقع فرخ همته العلية عن ذكر طلب الحق ومحبته فأدركته هزة الشيطان وجعلته من الهالكين ليعلم أن المعصوم من عصمة الله وأن السلك الواصل يجب أن لا يأمن مكر الله فلا يفتح على نفسه أبواب التنعم والترفه ، ولا يميل إلى حب المال والجاه (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً) وهم مظاهر القهر (فَادْعُوهُ بِها) بأن تتصفوا بصفاته بالنيات الصالحات وبالأعمال الزاكيات ثم تتخلقوا بها بالأحوال بتصفية مرآة القلب ومراقبته عن التعلق بما سوى الله

٣٥٣

تعالى. (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بأن لم توافق أقوالهم أفعالهم (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) فينحطون عن مراتبهم بالتدريج والله أعلم.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨))

القراآت : (فَبِأَيِ) بتليين الهمزة حيث كان : الأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف (وَيَذَرُهُمْ) بالياء مرفوعا : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم غير عياش والمفضل (وَيَذَرُهُمْ) بالياء مجزوما : عياش وحمزة وعلي وخلف. الباقون : بالنون مرفوعا (إِنْ أَنَا إِلَّا) بالمد : أبو نشيط شركا بكسر الشين وسكون الراء : أبو جعفر ونافع وأبو بكر وحماد. الآخرون : (شُرَكاءَ) على الجميع (يَتَّبِعُوكُمْ) مخففا : نافع. الباقون : بالتشديد. (يَبْطِشُونَ) بضم الطاء يزيد (قُلِ ادْعُوا) بكسر اللام للساكنين وكذا بابه : حمزة وعاصم وسهل ويعقوب وعياش. الآخرون : بالضم للإتباع كيدوني بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل ، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل والحلواني عن هشام في

٣٥٤

الوصل ينظرون بالياء في الحالين : يعقوب وافق سهل وعياش في الوصل. إن وليّ الله بياء واحدة مشددة : أبو زيد عن المفضل وشجاع وعياش إذا قرأ الإدغام الكبير (وَلِيِّيَ) بثلاث ياءات : رويس والبرجمي. الباقون : بياءين أولاهما مشددة مكسورة والثانية مفتوحة.

الوقوف : (مِنْ جِنَّةٍ) ط (مُبِينٌ) ه (مِنْ شَيْءٍ) لا لأن التقدير وفي أن عسى (أَجَلُهُمْ) ط لابتداء الاستفهام مع الفاء (يُؤْمِنُونَ) ه (هادِيَ لَهُ) ط لمن قرأ (وَيَذَرُهُمْ) ، بالرفع على الاستئناف ، ومن جزم فلا وقف لأنه معطوف على موضع (فَلا هادِيَ لَهُ) ، (يَعْمَهُونَ) ه (مُرْساها) ط (عِنْدَ رَبِّي) ج لاختلاف الجملتين (إِلَّا هُوَ) ط (وَالْأَرْضِ) ط (بَغْتَةً) ط (عَنْها) ط (لا يَعْلَمُونَ) ه (ما شاءَ اللهُ) ط (مِنَ الْخَيْرِ) ج لاحتمال أن يفسر السوء بالجوع فيكون معطوفا على جواب «لو». واحتمال أن يفسر بالجنون الذي نسبوه إليه فيكون ابتداء نفي (يُؤْمِنُونَ) ه (إِلَيْها) ج لأجل الفاء (فَمَرَّتْ بِهِ) ج لذلك (الشَّاكِرِينَ) ه (فِيما آتاهُما) ج لابتداء التنزيه ووجه الوصل تعجيل التنزيه (يُشْرِكُونَ) ه (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ه والوصل أولى للعطف (يَنْصُرُونَ) ه (لا يَتَّبِعُوكُمْ) ط صامتين ه (صادِقِينَ) ه (يَمْشُونَ بِها) ز لأن «أم» عاطفة مع أنها في معنى ابتداء استفهام للإنكار والثانية والثالثة كذلك (يَسْمَعُونَ بِها) ط ينظرون ه (الْكِتابَ) ط والوصل أولى لتكون الواو عاطفة (الصَّالِحِينَ) ه و (يَنْصُرُونَ) ه (لا يَسْمَعُوا) ط (لا يُبْصِرُونَ) ه.

التفسير : إنه تعالى لما بالغ في تهديد الملحدين المعرضين عن آياته الغافلين عن التأمل في بيناته عاد إلى الجواب عن شبهاتهم فقال (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) وإذا علم أن الرؤية بالبصر حالة مخصوصة بالانكشاف والجلاء ولها مقدمة هي تقليب الحدقة إلى جهة المرئي ، كذلك رؤية البصيرة وهي المسماة بالعلم واليقين حال متعينة بالوضوح والإنارة ولها مقدمة هي تقليب حدقة القلب إلى الجوانب طلبا لذلك ، وهذه الحالة تسمى بنظر العقل وفكرته. وفي اللفظ محذوف والتقدير : أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة وهي حالة من الجنون كالجلسة. كان جهال أهل مكة ينسبونه إلى الجنون لوجهين : أحدهما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يغشاه حالة عجيبة عند الوحي شبيهة بالغشي يتربد وجهه ويتغير لونه ، والثاني أن فعله وهو الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والدعاء إلى الله تعالى كان مخالفا لفعلهم. وعن الحسن وقتادة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام ليلا على الصفا يدعو فخذا فخذا من قريش : يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله وعقابه. فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون واظب على الصياح إلى الصباح. فأمرهم الله تعالى بالتفكر والتدبر في أمره وذلك

٣٥٥

أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعوهم إلى عبادة الله وحده ويقيم عليهم الدلائل القاطعة بألفاظ فصيحة عجز الأولون والآخرون عن معارضتها ، وكان حسن الأخلاق طيب العشرة مرضي السيرة مواظبا على أعمال حسنة ، صار بسببها قدوة لعقلاء العالمين ، ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون وإنما هو نذير مبين أرسله رب العالمين لترهيب الكافرين وترغيب المؤمنين. ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعا على دلائل التوحيد قال (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي في مدلولاتهما. والملكوت الملك العظيم ، وفي إنكار عدم النظر دلالة على وجوب الاستدلال فيما للعقل إليه سبيل وقد مر في هذا الكتاب كيفية دلالة السموات والأرض على وجود الصانع ولا سيما في سورة البقرة عند قوله (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١٦٤] ثم قال (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس غير محصورة. والغرض التنبيه على أن الدلالة على التوحيد ليست مقصورة على السموات والأرض ، بل كل ذرة من ذرات هذا العالم فيها برهان باهر ودليل ظاهر على الوحدانية لأنها مختصة بحيز معين من الأحياز غير المتناهية ، وبقدر معين من الأقدار ، وبوضع معين من الأوضاع وكذا الكلام في لونها وشكلها وطبعها وطعمها وسائر صفاتها ، وكل واحد من هذه الاختصاصات لا بد له من مخصص ولا بد من الانتهاء إلى واجب واحد في ذاته وفي جميع اعتباراته (وَأَنْ عَسى) هي مخففة من الثقيلة والأصل «وأنه عسى» على أن الضمير للشأن وفي أن يكون ضمير الشأن أيضا والمعنى : أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى (أَنْ يَكُونَ) الشأن (قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) الموت أو القيامة. وإذا كان أحد هذين الاحتمالين قائما وجب على العاقل المسارعة إلى هذا الفكر والنظر سعيا في تخليص النفس من هذا الخوف الشديد والخطر العظيم. أما قوله (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) فمتعلق بقوله (عَسى أَنْ يَكُونَ) كأنه قيل : لعل أجلهم قد أقترب فما لهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن قبل الفوت ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا. ودلالة في إطلاق لفظ الحديث على القرآن على أنه ليس بقديم لأن المراد بالحديث ما يرادف الكلام ، ولو سلم فإنه محمول على الألفاظ والكلمات ولا نزاع في حدوثها ، قوله (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) قد سبق تفسير مثله. ثم لما تكلم في النبوة والتوحيد والقضاء والقدر أتبعه الكلام في المعاد فقال (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) وأيضا لما ذكر اقتراب الأجل بين أن وقت الساعة مكتوم عن الأفهام ليصير ذلك حاملا للمكلفين على المسارعة إلى التوبة وأداء الفرائض. ومن السائل؟ عن ابن عباس أنهم اليهود قالوا : يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا فإنا نعلم متى هي. وعن قتادة :

٣٥٦

إنهم قريش قالوا : يا محمد إن بيننا وبينك قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة. قال في الكشاف : الساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا ، سميت القيامة ساعة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها أو على العكس لطولها كما يقال للحبشي أبو البيضاء ، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق و (أَيَّانَ) استفهام عن الزمان ويختص بالأمور العظام نحو (أَيَّانَ مُرْساها) [النازعات : ٤٢] و (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) [الذاريات : ١٢] ولا يقال أيان نمت. وكسر همزته لغة بني سليم. وعن ابن جني أن اشتقاقه من أيّ «فعلان» منه وأيّ فعل من أويت إليه لأن البعض يأوي إلى الكل ، وأنكر أن يكون اشتقاقه من «أين» لأنه للزمان و «أين» للمكان ولقلة «فعال» في الأسماء وكثرة «فعلان» فيها. وقال الأندلسي : أصله «أي أو أن» حذفت الهمزة مع الياء الأخيرة فبقي «أيوان» فأدغم بعد القلب. وقيل : أصله «أي آن» بمعنى «أيّ حين» فخفف بحذف الهمزة فاتصلت الألف والنون بأي. ورد بأن «آنا» لا يستعمل إلا بلام التعريف. والمرسى بمعنى الإرساء والإثبات ، والرسوّ الثبات والاستقرار ولعله لا يطلق إلا على ما فيه ثقل ومنه رسا الجبل وأرست السفينة ولا أثقل من الساعة على الخلائق (قُلْ إِنَّما عِلْمُها) أي علم وقت إرسائها وإثباتها وإقرارها (عِنْدَ رَبِّي) قد استأثر به لم يخبر به أحدا من ملك مقرب ولا نبي مرسل يكاد يخفيها من نفسه ليكون أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى وقت الموت لذلك (لا يُجَلِّيها) لا يظهرها (لِوَقْتِها) أي للخبر عن وقتها قبل مجيئها أحد (إِلَّا هُوَ) والحاصل أنه لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإخبار والإعلام إلا هو (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال الحسن : أي ثقل مجيئها على أهل السموات لانشقاق السماء وتكوير الشمس وانتثار النجوم ، وعلى أهل الأرض لأن في ذلك اليوم فناءهم وهلاكهم. أو ثقل هذا اليوم على الخلائق بما فيه من الشدائد والأهوال ، أو ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين عليهم أي أشكل واستبهم حتى صار ثقيلا على الأفهام (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) إلا فجأة على حين غفلة منكم. وهذه الجمل مؤكدات ومبينات لما تقدمها ولهذا فقد العاطف. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه» (١) وروى الحسن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «والذي نفس محمد بيده لتقومن الساعة وإن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه وبين

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب ٤٠. مسلم في كتاب الفتن حديث ١١٦. أحمد في مسنده (٢ / ١٦٦) ، (٣ / ٤٢١).

٣٥٧

ذلك» (١). ثم كرر (يَسْئَلُونَكَ) للتأكيد ولما نيط به من زيادة قوله (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) فكان السؤال الأول عن وقت قيام الساعة ، والسؤال الثاني عن كنه ثقل الساعة شدتها ومهابتها ولهذا خص باسم الله في قوله (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) لأن أعظم أسماء الله مهابة هو الله ، وأما الرب فيدل على التربية والرحمة دون الهيبة والعزة ، وفي الحفي وجوه : فقيل إنه البار اللطيف و «عن» بمعنى «الباء» أي كأنك بارّ بهم لطيف العشرة معهم وهذا قول الحسن وقتادة والسدي ، والضمير عائد إلى قريش التي ادعت القرابة وجعلوها وسيلة إلى أن يخبرهم بالساعة. والمعنى أنك لا تكون حفيا بهم ما داموا على كفرهم ولو أخبرت بوقتها وأمرت بالإخبار عنها لكنت مبلغه القريب والبعيد من غير تخصيص كسائر ما أوحي إليك. وعلى هذا القول جاز أن يكون (عَنْها) متعلقا بـ (يَسْئَلُونَكَ) أي يسألونك عنها كأنك حفي أي عالم بها فحذف قوله «بها» لطول الكلام أو لأنه معلوم. وقيل : (عَنْها) متعلق بمحذوف. وحفي «فعيل» من حفي فلان بالمسألة أي استقصى ، والمعنى كأنك بليغ في السؤال عنها لأن من أكثر السؤال علم. وهذا التركيب يفيد المبالغة ومنه إحفاء الشارب ، وأحفى في المسألة إذا ألحف. وقيل : المراد كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه وتؤثره يعني أنك تكره السؤال عنها لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنه مختص بذلك العلم أو لا يعلمون أن القيامة حق وإنما يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا ، أو لا يعلمون السبب الذي لأجله خفيت معرفة وقتها المعين عن الخلق. ثم أمر نبيه بإظهار ذلة العبودية حتى لا ينسب إليه نقص ولا يعاب من قبل عدم العلم بالغيب فقال (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) وفيه أن قدرته قاصرة وعلمه قليل ، وكل من كان عبدا كان كذلك ، والقدرة الكاملة والعلم المحيط ليس إلا لله تعالى. واحتجت الأشاعرة بالآية في مسألة خلق الأعمال قالوا : الإيمان نفع والكفر ضر فوجب أن لا يحصلا إلا بمشيئة الله تعالى. وأجابت المعتزلة بأن المراد لا أملك لنفسي من النفع والضر إلا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني منه. وظاهر الآية وإن كان عاما إلا أنها مخصوصة بصورة النزول. قال الكلبي : إن أهل مكة قالوا : يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري فتربح ، وبالأرض التي يريد أن تجدب فترتحل عنها إلى ما قد أخصب ، فأنزل الله هذه الآية. فالمراد بالخير في قوله (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) هو جلب منافع الدنيا وخيراتها من الخصب والأرباح والأكساب.

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٣٦٩).

٣٥٨

وقيل : المراد ما يتصل بأمر الدين يعني لو كنت أعلم بالغيب لكنت أعلم أن الدعوة إلى الدين الحق تؤثر في هذا ولا تؤثر في ذلك فكنت أشتغل بدعوة هذا دون ذاك. وقال بعضهم : لما رجع صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة بني المصطلق جاء في الطريق ريح نفرت ناقته. منها فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموت رفاعة وكان فيه غيظ للمنافقين وقال : «انظروا أين ناقتي». فقال عبد الله بن أبيّ لقومه : ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إن ناسا من المنافقين قالوا كيت وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة» فوجدوها على ما قال فنزلت. أما قوله (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) فمعناه لكان حالي على خلاف ما هي عليه من المغلوبية في بعض الحروب والخسران في بعض التجارات والأخطاء في بعض التدبير (إِنْ أَنَا) إلا عبد مرسل للنذارة والبشارة وما من شأني أن أعلم الغيب. وقوله (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إما أن يتعلق بالبشير وحده ويكون المتعلق بالنذير وهو للكافرين محذوفا للعلم به كقوله (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أو يتعلق بالوصفين جميعا إلا أن المؤمنين لما كانوا هم المنتفعين بها خصوا بالذكر كقوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] واعلم أن أكثر ما جاء في القرآن من لفظي الضر والنفع معا جاءا بتقديم لفظ الضر على النفع وهو الأصل لأن العابد يعبد معبوده خوفا من عقابه أولا ثم طمعا في ثوابه ثانيا يؤيده قوله (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة : ١٦] وحيثما تقدم النفع على الضر فذلك لسابقة لفظ تضمن معنى نفع كما في هذه السورة تقدم لفظ الهداية على الضلال في قوله (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ) [الكهف : ١٧] وتقدم الخير على السوء في قوله (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) وفي الرعد تقدم ذكر الركوع في قوله (طَوْعاً وَكَرْهاً) [آل عمران : ٨٣] والطوع نفع. وفي الفرقان تقدم قوله (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) [الفرقان : ٥٣] وهو نفع وفي سبأ تقدم البسط في قوله (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الرعد : ٢٦] وقس على هذا. ثم رجع إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك فقال (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) والمروي عن ابن عباس أنها نفس آدم وقد تقدم مثل ذلك في أول سورة النساء. قال مجاهد : كان لا يعيش لآدم وامرأته ولد فقال لهما الشيطان : إذا ولد لكما ولد فسمياه عبد الحرث وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث وذلك قوله (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) ولدا سويا (جَعَلا) يعني آدم وحوّاء (لَهُ شُرَكاءَ) والمراد تسميته بعبد الحرث وهذا تمام القصة وقد زيفها النقاد بوجوه منها : أنه تعالى قال (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) بلفظ الجمع لا التثنية ومنها قوله (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً) إلى آخر الآيات وفي ذلك تصريح بأن المراد الأصنام ولو كان المراد إبليس

٣٥٩

لكان «أيشركون ما لا يخلق شيئا وهو يخلق»؟. ومنها أن آدم عليه‌السلام كان عالما بجميع الأسماء فكيف ضاقت عليه الأسماء ، أم كيف لم يعرف أن اسم إبليس كان حارثا ، أم كيف لم يتنبه لغدر إبليس بعد أن جرى عليه منه ما جرى؟ ومنها أنه أراد بذلك اسم علم أو اسم صفة والأوّل لا يستلزم محذورا إلا أن أسماء الأعلام لا تفيد في المسميات فائدة فلا يلزم الإشراك ، والثاني يوجب الكفر الصريح ولا قائل بإمكان نسبته إلى آدم فعند ذلك ذكر العلماء في تأويله وجوها : أحدها أن هذا مثل فكأنه تعالى يقول هو الذي خلقكم أي كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية يسكن أي تلك النفس ، فذكر بعد ما أنث حملا على المعنى ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويطمئن إليها فكان التذكير أحسن طباقا للمعنى (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي جامعها لأنه إذا علاها صار كالغاشية لها (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) قالوا : يريد النطفة. والحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس الجرة ، وبكسر الحاء ما حمل على الظهر أو على الدابة (فَمَرَّتْ بِهِ) أي استمرت وقضت على ذلك الحمل من غير إذلاق. وقيل : فقامت وقعدت به من غير ما ثقل. وقيل : المراد بالخفة أنها لم تلق ما تلقاه بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) كان وقت ثقل حملها ولادتها (دَعَوَا) أي الزوج والزوجة (اللهَ رَبَّهُما) ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يدعى ويلتجأ إليه فقالا (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) ولدا قد صلح بدنه أو ولد ذكرا لأن الذكورة من الصلاح والجودة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لنعمائك (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) كما طلبا (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) ومن قرأ شركا فعلى حذف المضاف أي ذوي شرك وهم الشركاء أيضا. أو المراد أحدث لله إشراكا في الولد لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع ، وتارة إلى الكواكب ، وتارة إلى الأوثان والأصنام ، وثانيها أن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم آل قصيّ والمعنى : هو الذي خلقكم من نفس قصي وجعل من جنسها زوجة عربية قرشية ، فلما أتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد الدار. والضمير في (يُشْرِكُونَ) لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك ، وثالثها سلمنا أن الآية وردت في قصة آدم إلا أنه لا يجوز أن يكون قوله (جَعَلا) واردا بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد؟. ثم قال (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون إن آدم عليه‌السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الإنعام ثم يقول لذلك المنعم إن ذلك المنعم عليه يقصد إيذاءك وإيصال الشر إليك فيقول ذلك المنعم : فعلت في حق فلان كذا

٣٦٠