تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

الكامل في علم التوحيد والشريعة والحكمة. وفي قوله (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) دليل على أن ملقيا ألقاهم وما ذاك إلا الله سبحانه الموجد للدواعي والقدر. وقال الأخفش. من سرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقاهم غيرهم لأنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين. قال بعض العلماء : الإيمان مقدم على السجود فكيف نقل عنهم أنهم سجدوا ثم قالوا آمنا برب العالمين؟ وأجيب بأنه لا يبعد أنهم عند الذهاب إلى السجود قالوا ذلك ، أو أنهم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله في الحال شكرا على الفوز بذلك وإظهارا للخشوع والتذلل وإقرارا باللسان بعد التصديق بالجنان. قال المفسرون : لما قالوا آمنا برب العالمين قال فرعون : إياي يعنون. فلما قالوا (رَبِّ مُوسى) قال : إياي يعنون لأني أنا الذي ربيته فلما زادوا (هارُونَ) زالت الشبهة وعرف الكل أنهم آمنوا بإله السماء وكفروا بفرعون. وقيل : أفردا بالذكر من جملة العالمين ليعلم أن الداعي إلى إيمانهم هو موسى. وقيل : خصا بالذكر تعظيما وتشريفا. ثم إن فرعون لما رأى أن أعلم الناس بالسحر أقر بنبوّة موسى بمحضر جمع عظيم خاف أن يصير ذلك حجة عليه عند قومه فألقى في الحال شبهة في البين بعد ما أنكر عليهم إيمانهم. أما الإنكار فذلك قوله آمنتم له من لم يزد حرف الاستفهام فعلى أنه إخبار توبيخا أي فعلتم هذا الفعل الشنيع ، ومن قرأ بحرف الاستفهام فمعناه الاستبعاد والإنكار. وفي قوله قبل (أَنْ آذَنَ لَكُمْ) دلالة على مناقضة فرعون في ادعائه الإلهية لأنه لو كان إلها لما جاز أن يأذن لهم في أن يؤمنوا بغيره وهذا من جملة الخذلان والدحوض الذي يظهر على المبطلين. وأما الشبهة فقوله (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) أي هذه حيلة احتلتموها أنتم وموسى أو تواطأتم عليها لغرض لكم وهو أن تخرجوا القبط وتسكنوا بني إسرائيل. وروى محمد ابن جرير عن السدي في حديث عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي‌الله‌عنهم أن موسى وأمير السحرة التقيا فقال له موسى : أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق؟ فقال الساحر : لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر وإن غلبتني لأومنن بك ، وفرعون ينظر إليهما ويسمع فلذلك زعم التواطؤ (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وعيد إجمالي وتفصيله (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي كل من شق طرفا (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) واختلف المفسرون هل وقع ذلك منه أم لا. فمن قائل إنه لم يقع لأنهم سألوا ربهم أن يتوفاهم من جهته لا بهذا القتل والقطع ، ومن قائل وقع وهو الأظهر وعليه الأكثر ومنهم ابن عباس لأنه حكى عن الملأ أنهم قالوا لفرعون (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) [الأعراف : ١٢٧] ولو أنه ترك أولئك السحرة لذكروهم أيضا وحذروه إياهم ،

٣٠١

لأنهم قالوا (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) والصبر لا يطلب إلا عند نزول البلاء وقد يجاب عن الأول بأنهم داخلون تحت قوله (وَقَوْمَهُ) وعن الثاني بأنهم طلبوا الصبر على الإيمان والثبات عليه وعدم الالتفات إلى وعيده. وعن قتادة : كانوا أوّل النهار كفارا سحرة وفي آخره شهداء بررة ، ثم حكى عن القوم أنهم قالوا عند الوعيد (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي نحن لا نبالي بالموت لأنا ننقلب إلى لقاء ربنا ونخلص منك ، أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد القطع والصلب أو إنا جميعا يعنون أنفسهم وفرعون يرجع إلى الله فيحكم بيننا ، أو إنا لا محالة ميتون فما تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه (وَما تَنْقِمُ مِنَّا) قال ابن عباس : ما أتينا بذنب تعذبنا عليه وما تعب منا (إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) وهي المعجزات الظاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى وهذا من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

ثم لما لجأوا إلى الدعاء كما هو دأب الصديقين عند نزول البلاء فقالوا (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) أفض علينا سجال الثبات على متابعة الدين أو على ما توعدنا به فرعون (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) ثابتين على الدين الذي جاء به موسى وأخبروا عن إيمانهم أوّلا وسألوا التوفي على الإسلام ثانيا. فيمكن أن يستدل بالآية على أن الإيمان والإسلام واحد ، واحتجت الأشاعرة بالآية على أن الإيمان والإسلام بخلق الله تعالى وإلا لم يطلبوا ذلك منه ، والمعتزلة يحملون أمثال ذلك على منح الألطاف. واعلم أن مبني القصة في هذه السورة على الاختصار وفي الشعراء على التطويل فلهذا قيل هناك (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) ، (وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ، (قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) ، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وفي كل ذلك زيادة وأما قوله هاهنا (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ) وهناك (وَابْعَثْ) فلأن الإرسال يفيد معنى البعث مع العلو فخص هذه السورة بذلك ليعلم أنّ المخاطب به فرعون دون غيره. وإنما قال هاهنا (آمَنْتُمْ بِهِ) وفي طه والشعراء (آمَنْتُمْ لَهُ) باللام لأن ضمير (بِهِ) في هذه يعود إلى رب العالمين ، وفي السورتين إلى موسى ، وقيل آمنت به وآمنت له واحد. وقال هاهنا (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ) وفي السورتين (لَأُصَلِّبَنَّكُمْ) لأنه لما أفاد الترتيب كان العطف المطلق كافيا وكثير من متشابهات هذه السور الثلاث يعود إلى رعاية الفواصل فتنبه.

التأويل : (فَظَلَمُوا بِها) بأن جعلوها سحرا فوضعوها في غير موضعها (عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) الذين أفسدوا الاستعداد الفطري بالركون إلى الدنيا ولذاتها (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا

٣٠٢

أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) لأني قائم بحقائق الجمع فان على الخلق وآثار التفرقة (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ) لأنه أضاف العصا إلى نفسه في قوله (هِيَ عَصايَ) [طه : ١٨] ويعلم منه أن كل شيء أضفته إلى نفسك وجعلته محل حاجاتك فإنه ثعبان يبتلعك ولهذا قيل (أَلْقِها يا مُوسى) [طه : ١٩] (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ) فيه أن الأيدي قبل تعلقها بالأشياء كانت بيضاء نقية نورانية روحانية وأن اليد لموسى كانت روحانية في جميع الأوقات ولكن ما كانت نورانيتها منظورة للناظرين إلا بإظهار الله تعالى في بعض الأوقات خرقا للعادات على يده الجسمانية (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ) لا شك أن موسى أراد أن يخرجهم من أرضهم ولكن من أرض بشريتهم إلى نور الروحانية. (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) توهموا أن التأخير وحسن التدبير يغير شيئا من التقدير ، ولم يعلموا أن عند حلول الحكم لا سلطان للعلم والفهم. أإن لنا لأجرا لم يعلموا أن أجرهم في المغلوبية لا في الغالبية (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أجرى الله تعالى هذا على لسان فرعون حقا وصدقا فصاروا مقربين عند الله (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) أكرموا موسى بالتقديم والاستئذان فأكرمهم الله تعالى بالسجود والإيمان (بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) أي عظيم في الإثم كما قال (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) وعظمة إثم السحر لمعارضة المعجزة (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) فيه أن عصا الذكر إذا ألقيتها عند إلقاء سحر سحرة صفات النفس تبتلع بفم لا النفي جميع ما سحروا به أعين الناس (فَوَقَعَ الْحَقُ) بإثبات لا إله إلا الله (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من تزيين زخارف الدنيا في العيون (فَغُلِبُوا) أي سحرة صفات النفس إذ تنوّرت بنور الذكر (وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) ذليلين تحت أوامر الشرع ونواهيه (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي صارت صفات النفس بعد التمرد منقادة للعبودية. (رَبِّ مُوسى) الروح (وَهارُونَ) القلب. واعلم أن صفات النفس إذا تنوّرت بنور الذكر يتبدل كفرها بالإيمان ولكن النفس بذاتها لا تؤمن ولا تتبدل اللهم إلا عند غرقها في بحر الواردات والمواهب الربانية كحال فرعون وإيمانه عند الغرق. وفي القصة دلالة على أنه تعالى قد يبرز العدوّ في صورة الولي مثل بلعام وبالعكس كالسحرة (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) هذا من جملة جهل فرعون ، ظن أن الإيمان بإذنه ولم يعلم أن الإيمان بإذن الله (لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ) في موافقة موسى الروح في مدينة القالب (لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) هو اللذات والشهوات البدنية (لَأُقَطِّعَنَ) بسكين التسويل عن الأعمال الصالحة (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ) تعلقات الدنيا وزخارفها والله أعلم.

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ

٣٠٣

تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١))

القراآت : (سَنُقَتِّلُ) بالتخفيف : ابن كثير وأبو جعفر ونافع (يُورِثُها) بالتشديد : الخزاز عن هبيرة كلمات ربك على الجمع : يزيد في رواية (يَعْرِشُونَ) بضم الراء حيث كان : ابن عامر وأبو بكر وحماد. الباقون : بالكسر (يَعْكُفُونَ) بكسر الكاف : حمزة وخلف. الباقون : بالضم (أَنْجاكُمْ) ابن عامر. الآخرون (أَنْجَيْناكُمْ) على الحكاية (يُقَتِّلُونَ) بالتخفيف : نافع.

الوقوف : (وَآلِهَتَكَ) ط (نِساءَهُمْ) ج للابتداء والعطف واتحاد القائل (قاهِرُونَ) ه و (اصْبِرُوا) ج لما قلنا (مِنْ عِبادِهِ) ط (لِلْمُتَّقِينَ) ه (ما جِئْتَنا) ط (تَعْمَلُونَ) ه (يَذَّكَّرُونَ) ه (لَنا هذِهِ) ج لبيان تباين الإضافتين على التناقض (وَمَنْ مَعَهُ) ج (لا يَعْلَمُونَ) ه (فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) ه (مُجْرِمِينَ) ه (بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) ج لأن جواب «لئن» منتظر مع اتحاد القائل (بَنِي إِسْرائِيلَ) ج لأن جواب «لما» منتظر مع دخول الفاء فيه (يَنْكُثُونَ) ه (غافِلِينَ) ه (بارَكْنا فِيها) ط للعدول عن الحكاية وكذلك (بِما صَبَرُوا) ط لعكسه. (يَعْرِشُونَ) ه (يَعْكُفُونَ) ه (أَصْنامٍ لَهُمْ) ج لاتحاد القائل بلا عطف (آلِهَةٌ) ط

٣٠٤

(تَجْهَلُونَ) ه (يَعْمَلُونَ) ه (الْعالَمِينَ) ه (سُوءَ الْعَذابِ) ج لاحتمال كون ما بعده مستأنفا أو حالا (نِساءَكُمْ) ط (عَظِيمٌ) ه والله أعلم.

التفسير : ثم أن فرعون بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض لموسى ولا أخذه ولا حبسه لأنه كان كلما يرى موسى يخافه أشدّ الخوف إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك فحملوه على أخذه وحبسه فقالوا (أَتَذَرُ مُوسى) أتتركه (وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أي يغيروا على الناس دينهم الذي كانوا عليه فيتوسلوا بذلك إلى أخذ الملك. وقوله (وَيَذَرَكَ) عطف على (لِيُفْسِدُوا) ، وقوله (وَآلِهَتَكَ) مفعول معه. والمراد أنه إذا تركهم ولم يمنعهم كان ذلك مؤديا إلى تركه مع آلهته فقط ، ويحتمل أن يكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام والمعنى : أيكون منك أن تذر موسى ويكون من موسى أن يذرك وآلهتك. قال كثير من المفسرين : إن فرعون كان قد وضع لقومه أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها وسمى نفسه الرب الأعلى. وقال الحسن : كان فرعون يعبد الأصنام ووجه بأنه لعله كان اتخذ أصناما على صور الكواكب على أن الكواكب مدبرات العالم السفلي. وأما المجدي في هذا العالم للخلق والمربي لهم فهو نفسه ولذلك قال أنا ربكم الأعلى أي أنا مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم ، وكل ذلك بناء على أنه كان دهريا ينكر وجود الصانع. ثم إن فرعون أوهم قومه أنه إنما لم يحبسه ولم يمنعه لعدم التفاته إليه لا للخوف منه فقال (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) فكأنه قال : إن موسى إنما يمكنه الإفساد بواسطة الرهط والشيعة فنحن نسعى في تقليل رهطه وشيعته (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) أي سنعيد عليهم ما كنا محناهم به قبل من قتل الأبناء ليعلموا أما على ما كنا عليه من الغلبة ، ولئلا يتوهم العامة أنه المولود الموعود من قبل الكهنة ولكنه منتظر بعده (قالَ مُوسى) لما وصله ما جرى بين فرعون وملته (لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) ولا ريب أن الصبر نتيجة الاستعانة بالله فإن من علم أنه لا مدبر للعالم إلا الله تعالى انشرح قلبه بنور المعرفة وعلم أن الكل بقضاء الله وقدره فيسهل عليه ما يصل إليه ، ثم لما أمرهم بشيئين بشرهم بآخرين فقال (إِنَّ الْأَرْضَ) يعني أرض مصر أو جنس الأرض فيتناول مصر بالتبعية (لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ويعني بالتوريث جعل الشيء للخلف بعد السلف (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) والخاتمة الحميدة لمن هو بصدد التقوى منكم ومن القبط. وهذا من كلام المنصف وإلا فمعلوم أن القبط لا تقوى لهم ، أو المراد أن كل من اتقى الله تعالى وخافه فالله الغني الكريم يعينه في الدنيا والآخرة. ثم إنهم خافوا وفزعوا من تهديد فرعون فشكوا إلى موسى مستعجلين النصر و (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) يعنون قتل أبنائهم

٣٠٥

قبل مولده إلى حين نبوته ثم إعادة ذلك عليهم في قوله (سَنُقَتِّلُ) إلى غير ذلك من أنواع المحن والمهن. فعند ذلك قال لهم موسى مصرحا بما رمز إليهم من البشارة قبل (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أرض مصر ولا ريب أن في (عَسى) طمعا وإشفاقا ومثل هذا الكلام إذا صدر عن النبي المؤيد بالمعجزات القاهرة الناظر بنور الحق أفاد قوة اليقين وأزال ما خامره من الضعف. ثم قال (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) قال الزجاج : أي يرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبحه شكره وكفره لوقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم قديما وإنما يجازيهم على ما يقع منهم حديثا فتتعلق الرؤية الأزلية به. عن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة. وعلى مائدته رغيف أو رغيفان. فطلب زيادة لعمرو فلم يكن فقرأ عمرو هذه الاية ، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال قد بقي (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ). و (كَيْفَ) نصب بـ (تَعْمَلُونَ) لا بـ (فَيَنْظُرَ) لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما يتقدمه. ثم حكى سبحانه ما نزل بفرعون وآله من المحن والبلايا بشؤم التكذيب والتمرد فقال (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) أي بسني القحط. فالسنة من الأسماء الغالبة غلبت على القحط كالدابة والنجم ، وقد يراد بها في غير هذا الموضع الحول والعام. قال أبو زيد والفراء : بعض العرب يقول هذه سنين ورأيت سنينا فيعرب النون ومنه قول الشاعر :

دعاني من نجد فإن سنينه

لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا.

والسنون من الجموع المصححة الشاذة. عن ابن عباس : السنون لأهل البوادي وأصحاب المواشي (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) لأهل الأمصار. وفائدة توسيط من أن يعلم أن كل الثمرات لم تنقص وإنما نقص بعضها (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) فيتنبهوا ويرجعوا إلى الانقياد والطاعة فإن مس الضر مما يلين الأعطاف ويرق القلوب. قيل : عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروها في ثلاثمائة وعشرين سنة وأصابه في تلك المدة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية. قال القاضي : في الآية دلالة على أنه تعالى أراد منهم أن يتذكروا لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر. وأجيب بأنه يعاملهم معاملة المختبر ولا اختبار في الحقيقة ولا يرعوي عن الكفر والطغيان إلا من شاء وأراد (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) فلهذا حكى عن فرعون وقومه (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) قال ابن عباس : أي العشب والخصب والمواشي والثمار وسعة الرزق والعافية والسلامة (قالُوا لَنا هذِهِ) أي نحن مخصوصون بذلك ولم نزل في الرفاهية والنعمة وهكذا عادة الزمان فينا ولم يعلموا أنها من الله فيشكروه عليها ويقوموا بحق نعمته (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أضداد ما ذكرنا

٣٠٦

(يَطَّيَّرُوا) يتشاءموا بموسى ومن معه. وأصله يتطيروا فأدغم التاء في الطاء لقرب مخرجهما وإنما عرفت الحسنة وخصت بـ (إِذا) ونكرت السيئة وقرنت بـ (إِنْ) لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته وشموله وأما السيئة فوقوعها نادر مشكوك فيه ولهذا قيل لقد عددت أيام البلاء فهل عددت أيام الرخاء؟ (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) قال الأزهري : يقال للشؤم طائر وطيرة. وعن ابن عباس : طائرهم ما قضى عليهم وقدر لهم ومنه قول العرب طار له سهم كذا أي حصل ووقع ذلك في حظه. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتفاءل ولا يتطير لأن الفأل الكلمة الحسنة والتطير عيافة الطير. قال الإمام فخر الدين الرازي : وذلك لأن الأرواح الإنسانية أقوى وأصفى من الأرواح البهيمية فيمكن الاستدلال بالأول على بعض الخفيات بخلاف الثاني. ومعنى الآية أن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله وبتقديره (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الكل رهين بمشيئته وتقديره فيقولون هذا بيمن فلان أو بشؤمه. وقد تشاءمت اليهود بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله في المدينة فقالوا : غلت أسعارنا وقلت أمطارنا مذ أتانا. قال في الكشاف : ويجوز أن يكون معناه ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوءهم لأجله ويعاقبون له بعد موتهم ، وكما حكي عنهم أنهم لجهلهم أسندوا حوادث هذا العالم لا إلى قضاء الله وقدره كذلك حكى عنهم أنهم لجهلهم وسفههم لم يميزوا بين المعجزة والسحر (قالُوا) لنبيهم (مَهْما تَأْتِنا بِهِ) الآية وفي «مهما» قولان : فعن البصريين أن أصلها ما الشرطية زيدت عليها «ما» المؤكدة الإبهامية ثم كرهوا التكرار فجعلوا الألف من الأولى هاء. وعن الكسائي أن «مه» بمعنى «اكفف» و «ما» للشرط كأنه قيل : كف ما تأتنا به. ومحل «مهما» الرفع بمعنى أيما شيء تأتنا به أو النصب بمعنى أي شيء تحضرنا تأتنا به. و (مِنْ آيَةٍ) بيان لمهما والضمير في «به» وكذا في «بها» يعود إلى «مهما» لأن البيان كالزيادة فلا يعود إليه شيء ما أمكن العود إلى المبين إلا أن الضمير ذكّر تارة حملا على اللفظ وأنّث أخرى حملا على المعنى. وسموها آية تهكما إذ لو قالوا ذلك اعتقادا لم يردفوها بقولهم (لِتَسْحَرَنا بِها) وبقولهم (فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) قال ابن عباس : إن القوم لما قالوا ما قالوا وكان موسى رجلا حديدا دعا عليهم فأرسل الله عليهم الطوفان. قيل : هو الجدري وهو أوّل عذاب وقع فيهم فبقي في الأرض. وقيل : هو الموتان. وقيل : الطاعون. والأصح أنه المطر وأصله ما طاف وغلب من مطر أو سيل ، أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا يهلكون وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك. فدعا فرفع عنهم فما آمنوا فنبت لهم تلك السنة

٣٠٧

من الكلأ والزرع ما لم يعهد بمثله وزعموا أن هذا الذي جزعوا منه هو خير لهم ولم يشعروا به فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب والسقوف والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة فأرسل الله تعالى ريحا فاحتملت الجراد فألقته في البحر. وقيل : خرج موسى إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها فقالوا : ما نحن بتاركي ديننا. فأقاموا شهرا فسلط الله عليهم القمل وهو الحمنان كبار القردان. وعن أبي عبيدة وقيل : الدبى وهو أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها. وقيل : البراغيث. وقرأ الحسن العمل بعم وسكون الميم يريد القمل المعروف. وعن سعيد بن جبير هو السوس فأكل كل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه وكان يأكل أحدهم طعاما ممتلئا قملا. وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه بعصاه فصار قملا فأخذ في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فأخذ عليهم العهود فرفع عنهم فقالوا : قد تحققنا الآن أنك ساحر ، وعزة فرعون لا نصدقك أبدا. فأرسل الله عليهم الضفادع بعد شهر فدخلت بيوتهم وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم ، وكان أحدهم إذا أراد أن يتكلم وثبت الضفدع إلى فيه وكان يمتلىء منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرقاد ، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي. فشكوا إلى موسى فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم ، ثم نقضوا العهد فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دما ، وكان يجتمع القبطي

والإسرائيلي على إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما. وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك وكان يمص الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحا أجاجا. وقيل : الدم الرعاف سلطه الله عليهم. وقوله (آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) نصب على الحال من المذكورات ومعناها ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها معجزات أو فصل بين بعضها وبعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم وينظر أيوفون بالعهد أم ينكثون كما روي أن موسى عليه‌السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات. ولا شك أن كل واحدة من هذه معجزة في نفسها واختصاصها بالقبطي دون الإسرائيلي معجزة أخرى واستكبروا عن العبادة والطاعة (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) مصرين على الذنب والجرم.

ثم فصل استكبارهم وإجرامهم فقال (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) أي الأنواع الخمسة المذكورة من العذاب. وعن سعيد بن جبير أنه الطاعون وهو العذاب السادس الذي كان

٣٠٨

أصابهم فمات من القبط سبعون ألف إنسان في يوم واحد فتركوا غير مدفونين (قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بعهده عندك وهو النبوة فـ (بِما) مصدرية والباء يتعلق بـ (ادْعُ) تعلق القلم بالكتبة في قولك : كتبت بالقلم أي ادع الله لنا متوسلا إليه بعهده عندك. أو تعلق المقسم عليه بالفعل فتكون باء الاستعطاف أي أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة. ووجه آخر وهو أن يكون قسما مجابا بـ (لَنُؤْمِنَنَ) فيكون متعلقا بالأقسام أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل أي نخيلهم وشأنهم فتذهب بهم حيث شئت (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ) العذاب لا مطلقا ولا في جميع الوقائع بل (إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) لا محالة ومعذبون فيه (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) جواب «لما» أي لما كشفنا عنهم فاجأوا النكث وبادروه فانتقمنا منهم سلبنا النعمة عنهم بالعذاب (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) وهو البحر الذي لا يدرك قعره. وقيل : هو لجة البحر ومعظم مائه سمي باليم لأن المنتفعين به يتيممونه أن يقصدونه (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي كان إغراقهم بسبب التكذيب (وَ) بأنهم (كانُوا عَنْها) أي عن الآيات وقيل عن النقمة بدلالة انتقمنا أي وكانوا عن النقمة قبل حلولها (غافِلِينَ) أي معرضين غير متفكرين فإن نفس الغفلة ليس باختيار الإنسان حتى يترتب الوعيد عليها. ثم بين ما فعله بالمحقين بعد إهلاك المبطلين فقال (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) بقتل الأبناء واستحياء النساء والاستخدام في الأعمال الشاقة (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) يعني أرض مصر والشام لأنها هي التي كانت تحت تصرف فرعون. وقوله (الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشام. وقيل : المراد جملة الأرض لأنه خرج من بني إسرائيل من ملك جملتها كداود وسليمان (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) تأنيث الأحسن صفة للكلمة. قيل : يريد بالكلمة قوله في سورة القصص (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) [القصص : ٥] إلى تمام الآيتين. ومعنى (تَمَّتْ) مضت واستمرت من قولك تم على الأمر إذا مضى عليه. وقيل : معنى تمام الكلمة الحسنى إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوّهم واستخلافهم في الأرض ، لأن الوعد بالشيء جعله كالمعلق فإذا حصل الموعود صار تاما كاملا (بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم. وفيه أن الصبر عنوان الظفر وضمين بالنصر والفرج (وَدَمَّرْنا) أي أهلكنا والدمار والهلاك (ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) قال ابن عباس : يريد المصانع. وقال غيره : يعني العمارات وبناء القصور. ولعله على العموم فيتناول المعاني والأعيان وما كانوا يعرشون من الجنات كقوله (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) [الأنعام : ١٤١] وقيل : وما كانوا يرفعون من

٣٠٩

الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وغيره ، وهاهنا تمت قصة فرعون والقبط. ثم ذكر ما جرى على بني إسرائيل بعد ذلك فقال (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) روي أنه عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعد ما أهلك الله فرعون وقومه فصاموه شكرا لله (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ) أي فمروا بقوم (يَعْكُفُونَ) يواظبون (عَلى) عبادة (أَصْنامٍ لَهُمْ) قال ابن جريج : كانت تماثيل بقر وذلك أوّل شأن العجل. وقيل : كانوا قوما من لخم نزلوا بالرقة عن قتادة. وقيل : كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم (قالُوا : يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) ما كافة للكاف عن العمل ولهذا دخلت على الجملة. وكأنهم طلبوا من موسى أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعباداتها إلى الله تعالى كقول الكفرة (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣]. فتوجه الذم عليهم لأن العبادة نهاية التعظيم سواء اعتقد في المعبود أنه إله واعتقد أنه مقرب من الله ، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام وكأن هذا القول لم يصدر من مشاهير بني إسرائيل وعظمائهم كالسبعين المختارين ، ولكنه صدر عن عوامهم وجهلتهم ولهذا (قالَ) لهم موسى (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآيات العظمى فوصفهم بالجهل المطلق المؤكد. وعن علي رضي‌الله‌عنه أن يهوديا قال له : اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه ، فقال علي : اختلفنا عنه لا فيه. ثم قال : قلتم اجعل لنا إلها ولما تجف أقدامكم (إِنَّ هؤُلاءِ) يعني عبدة تلك التماثيل (مُتَبَّرٌ) أي مكسر مهلك (ما هُمْ فِيهِ) من قولهم إناء متبر إذا كان فضاضا والتبار الهلاك. (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي يتبر الله أصنامهم ويهدم دينهم الذي هم عليه على يدي فيصير إلى الزوال والاضمحلال. وفي إيقاع (هؤُلاءِ) اسما لـ (إِنَ) وفي تقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا لأن إشارة إلى أن عبدة الأصنام ليسوا على شيء البتة وأن مصيرهم إلى النار لا محالة. (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً) انتصب «غير» على الحال المقدمة التي لو تأخرت كانت صفة كما تقول : أبغيكم إلها غير الله. وانتصب (إِلهاً) على المفعول به. قال الواحدي : يقال بغيت فلانا شيئا وبغيته له قال تعالى (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) [التوبة : ٤٧] والمعنى أغير المستحق للعبادة أطلب معبودا (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) خصكم بالنعم الجسام دون أبناء زمانكم. ومعنى الهمزة الإنكار والتعجب مما اقترحوه مع كونهم مغمورين في نعم الله ، فإن الإله ليس شيئا يطلب ويجعل بل الإله هو الموجود بنفسه القادر على الإيجاد والإعدام والإكرام والإنعام. والآية الباقية قد مر تفسيرها في البقرة ، والفائدة في إعادتها هاهنا التعجب والتعجيب ممن اشتغل بعبادة غير هذا المنعم. وإنما قيل هاهنا تقتلون دون (يُذَبِّحُونَ) لتناسب قوله (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) والله أعلم.

٣١٠

التأويل : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) من الهوى والغضب والكبر لفرعون النفس (أَتَذَرُ مُوسى) الروح (وَقَوْمَهُ) من القلب والسر والعقل (لِيُفْسِدُوا) في أرض البشرية (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) من الدنيا والشيطان والطبع (قالَ) فرعون النفس (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) يعني أعمالهم الصالحة نبطلها بالرياء والعجب (وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي الصفات التي عنها يتولد الأعمال (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) بالمكر والخديعة والحيلة (قالَ مُوسى) الروح (لِقَوْمِهِ) هم القلب والعقل والسر (اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) على جهاد النفس ومخالفتها ومتابعة الحق (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) أي أرض البشرية (يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يورث أرض بشرية السعداء الروح وصفاته فتتصف بصفاته ، ويورث أرض بشرية الأشقياء النفس وصفاتها فتتصف بصفاتها (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) يعني عاقبة الخير والسعادة للأتقياء السعداء بصفاتها. (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) بالواردات الروحانية قبل البلوغ ، كنا نتأذى من أوصاف البشرية ومعاملاتها (مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) بالواردات والإلهامات الروحانية بعد البلوغ نتأذى من دواعي البشرية (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) النفس وصفاتها وفيه إشارة إلى أن الواردات الروحانية لا تكفي لإفناء النفس وصفاتها ولا بد في ذلك من تجلي صفات الربوبية (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) الكفور لا يرى فضل المنعم.

وكذا الملول إذا أراد قطيعة

مل الوصال وقال كان وكانا.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لأن بصائرهم مسدودة وعقولهم عن شهود الحق مصدودة (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) العلم الكثير (وَالْجَرادَ) الواردات (وَالْقُمَّلَ) الإلهامات (وَالضَّفادِعَ) الخواطر (وَالدَّمَ) أصناف المجاهدات والرياضات (مُفَصَّلاتٍ) وقتا بعد وقت وحينا غب حين (فَاسْتَكْبَرُوا) عن قبولها والعمل بها (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) في الأزل ، فلهذا لم تفدهم الوسائط والأسباب (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) وهو عذاب القطيعة (فَأَغْرَقْناهُمْ) في يم الدنيا وشهواتها (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) أي يرفعون بالتجبر والتكبر أنفسهم. يقال عرش الطائر إذا ارتفع بجناحيه على من تحته (وَجاوَزْنا) بصفات القلب من بحر الدنيا وخلصناهم من فرعون النفس فوصلوا إلى صفات الروح. (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) من المعاني المعقولة والمعارف الروحانية فاستحسنوها وأرادوا العكوف على عتبة عالم الأرواح (قالَ) لهم موسى الوارد الرباني عند ركونهم إلى الروحانيات (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) يعني صفات الروح (مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) من الركون والعكوف على استحلاء المعاني المعقولة (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) في غير طلب الحق والوصول إلى المعارف الربانية (وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) من الحيوان والجن والملك بفضيلة العبور من الجسمانيات والروحانيات إلى الوصول إلى المعارف والحقائق الإلهية.

٣١١

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤))

القراآت : (أَرِنِي أَنْظُرْ) بسكون الراء وفتح الياء : ابن الفليح وزمعة والخزاعي عن البزي. الباقون : بكسر الراء وسكون الياء. (دَكَّاءَ) بالمد : حمزة وعلي وخلف. (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) بفتح ياء المتكلم : ابن كثير وأبو عمرو برسالتي على التوحيد : أبو جعفر ونافع وابن كثير. الباقون : (بِرِسالاتِي آياتِيَ الَّذِينَ) مرسلة الياء : ابن عامر وحمزة. (الرُّشْدِ) بفتحتين : حمزة وعلي وخلف. الباقون : بضم الراء وسكون الشين. (مِنْ

٣١٢

حُلِيِّهِمْ) بفتح الحاء وسكون اللام : يعقوب (حُلِيِّهِمْ) بالكسرات وتشديد الياء : حمزة وعلي. الباقون : مثله ولكن بضم الحاء. ترحمنا وتغفر لنا بالخطاب والنداء : حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون : على الغيبة ورفع (رَبُّنا) على الفاعلية (بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ) بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. (قالَ ابْنَ أُمَ) بكسر الميم : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل. الباقون : بفتحها ومثله (يَا بْنَ أُمَ) [الآية : ٩٤] في طه.

الوقوف : (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) ج للعطف مع اختلاف القائل (الْمُفْسِدِينَ) ه (رَبِّهِ) لا لأن ما بعده جواب (إِلَيْكَ) ط (فَسَوْفَ تَرانِي) ج (صَعِقاً) ط (الْمُؤْمِنِينَ) ه (الشَّاكِرِينَ) ه (الشَّاكِرِينَ) ه (لِكُلِّ شَيْءٍ) ج للعدول مع فاء التعقيب (بِأَحْسَنِها) ج (الْفاسِقِينَ) ه (بِغَيْرِ الْحَقِ) ج (بِها) ج لابتداء شرط آخر ولبيان تعارض الأحوال مع العطف (سَبِيلاً) ج ذلك سبيلا ه (غافِلِينَ) ه (أَعْمالُهُمْ) ط (يَعْمَلُونَ) ه (خُوارٌ) ط (سَبِيلاً) ه لئلا تصير الجملة صفة السبيل فإن الهاء ضمير العجل (ظالِمِينَ) ه (ضَلُّوا) ج لأن ما بعده جواب. (الْخاسِرِينَ) ه (أَسِفاً) ج لما (بَعْدِي) ج للابتداء بالاستفهام مع اتحاد القائل (أَمْرَ رَبِّكُمْ) ج لأن قوله (وَأَلْقَى) معطوف على قوله (قالَ بِئْسَما) وقد اعترض بينهما استفهام (إِلَيْهِ) ط (يَقْتُلُونَنِي) ط ز صلى والوصل أولى لأن الفاء للجواب أي إذا هم هموا بقتلي فلا تشمتهم بضربي. (الظَّالِمِينَ) ه (فِي رَحْمَتِكَ) ز صلى الأولى أن يوصل لأن الواو للحال تحسينا للدعاء بالثناء (الرَّاحِمِينَ) ه (الدُّنْيا) ط (الْمُفْتَرِينَ) ه (وَآمَنُوا) ج لظاهر إن والوجه الوصل لأن ما بعده خبر والعائد محذوف والتقدير : إن ربك من بعد توبتهم لغفور لهم. (رَحِيمٌ) ه (الْأَلْواحَ) ج صلى لاحتمال ما بعده الحال (يَرْهَبُونَ) ه.

التفسير : لما أهلك الله سبحانه أعداء بني إسرائيل سأل موسى ربه أن يؤتيه الكتاب الذي وعده فأمره بصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة ، فلما أتم الثلاثين أنكر من نفسه خلوف الفم فتسوّك فقالت الملائكة : كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدتها بالسواك ، فأوحى الله تعالى إليه : أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك؟ فأمره الله أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لهذا السبب. وقيل : فائدة التفصيل أنه تعالى أمره بصوم ثلاثين وأن يعمل فيها ما يقربه من الله ، ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها. وقال أبو مسلم الأصفهاني : من الجائز أن يكون موسى عند تمام الثلاثين بادر إلى ميقات ربه قبل قومه بدليل قوله في طه (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) [طه : ٨٣] فلما أعلمه الله تعالى خبر قومه مع السامري رجع إلى قومه ، ثم عاد إلى الميقات في عشرة أخرى فتم أربعون ليلة. وقيل : لا يمتنع أن يكون الوعد الأوّل لحضرة موسى وحده والوعد الثاني لحضرة

٣١٣

المختارين معه ليسمعوا الكلام. ومن فوائد الفذلكة في قوله (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) إزالة وهم من يتوهم أن الميقات كان عشرين ثم أتمه بعشر فصار ثلاثين. والفرق بين الميقات والوقت أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت الشيء قدره مقدرا أم لا. وانتصب (أَرْبَعِينَ) على الحال أي تم بالغا هذا العدد. و (هارُونَ) عطف بيان (لِأَخِيهِ) وقرىء بالضم على النداء (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) كن خليفتي فيهم (وَأَصْلِحْ) كن مصلحا أو أصلح ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل ومن دعاك إلى الإفساد فلا تتبعه. وإنما جعله خليفة مع أنه شريكه في النبوّة بدليل (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه : ٣٢] والشريك أعلى حالا من الخليفة لأن نبوّة موسى كانت بالأصالة ونبوّة هارون بتبعيته فكأنه خليفته ووزيره. وإنما وصاه بالإصلاح تأكيدا واطمئنانا وإلا فالنبي لا يفعل إلا الإصلاح. (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) اللام بمعنى الاختصاص كأنه قيل : اختص مجيئه بوقتنا الذي حددنا له كما يقال : أتيته لعشر خلون من شهر كذا (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) للناس في كلام الله مذاهب فقيل : هو عبارة عن هذه الحروف المؤلفة المنتظمة. وقيل : صفة حقيقية مخالفة للحروف والأصوات وعلى الأول فمحل تلك الحروف والأصوات هو ذات الله تعالى وهو قول الكرامية ، أو جسم مغاير كالشجرة ونحوها وهو قول المعتزلة. وعلى التالي فالأشعرية قالوا إن موسى عليه‌السلام سمع تلك الصفة الأزلية لأنه كما لا يتعذر رؤيته عندنا مع أنه ليس بجسم ولا عرض فكذا لا يمتنع سماع كلامه مع أنه ليس بحرف ولا صوت. وقال أبو منصور الماتريدي : الذي سمعه موسى عليه‌السلام أصوات مقطعة وحروف مؤلفة قائمة بالشجرة (١). واختلف العلماء أيضا في أن الله تعالى كلم موسى وحده لظاهر الآية أو مع السبعين المختارين وهو قول القاضي لأن تكليم الله موسى معجز وقد تقدمت نبوّة موسى فلا بد من ظهور هذا المعنى لغيره (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أي أرني نفسك واجعلني متمكنا من رؤيتك فانظر إليك وأراك. عن ابن عباس : أن موسى عليه‌السلام جاء ومعه السبعون وصعد الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل وكلم الله موسى وكتب له في الألواح كتابا وقربه نجيا. فلما سمع صرير القلم عظم شوقه فقال رب أرني انظر إليك. قالت الأشاعرة إن موسى سأل الرؤية وأنه عارف بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى. فلو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها. قال القاضي : للمحصلين من العلماء في هذا المقام أقوال : أحدها قول الحسن وغيره أن موسى ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى وهذا لا يقدح سبحانك في معرفته لأن العلم بامتناع الرؤية وجوازها لا يبعد أن يكون موقوفا على السمع ، وزيف بأنه يلزم أن يكون موسى أدون حالا من علماء المعتزلة العالمين بامتناع الرؤية على الله

__________________

(١) لم يتم كلام الماتريدي وانظره في الفخر ليتم لك الفرق بينه وبين المعتزلة كتبه مصححة.

٣١٤

تعالى ، وبأنهم يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئيا فإنه يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل ، فلو لم يكن هذا العلم حاصلا لموسى كان ناقص العقل وهو محال ، وإن كان حاصلا وجوّز موسى عليه المقابلة كان كفرا وهو أيضا محال. وثانيها طريقة أبي علي وأبي هاشم أن موسى عليه‌السلام سأل الرؤية عن لسان قومه فقد كانوا يكررون المسألة عليه بقولهم (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] وزيف بأنه لو كان كذلك لقال موسى أرهم ينظروا إليك ، ولقال الله لن يروني ، وبأنه لو كان محالا لمنعهم كما منعهم لما قالوا اجعل لنا إلها ، وبأن ذكر الدليل القاطع في هذا المقام فرض مضيق فلم يمكن تأخيره مع أنهم كانوا مقرين بنبوّة موسى كفاهم في الامتناع عن السؤال قول موسى وإلا فلا انتفاع لهم بهذا الجواب فإن لهم أن يقولوا لا نسلم أن هذا المنع من الله بل هذا مما افتريته على الله. وثالثها وهو اختيار أبي القاسم الكعبي أن موسى سأل ربه المعرفة الضرورية بحيث تزول عندها الخواطر والوساوس كما في معرفة أهل الآخرة. وردّ بأنه تعالى أراه من الآيات كالعصا واليد وغيرها ما لا غاية بعدها فكيف يليق به أن يقول أظهر لي آية تدل على أنك موجود؟ ولو فرض أنه لائق بحال موسى فلم منعه الله تعالى عن ذلك؟ ولقائل أن يقول : منعه في الدنيا لحكمة علمها الله تعالى ولا يلزم منه المنع في الآخرة. ورابعها وهو قول أبي بكر الأصم أن موسى أراد تأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي ، وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء. وضعف بأنه كان الواجب عليه حينئذ أن يقول : أريد يا إلهي أن يقوى امتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في عقلي. ولقائل أن يقول : هذا تعيين الطريق. وفي الآية سؤال وهو أنه تعالى لم قال (لَنْ تَرانِي) دون لن تنظر إليّ ليناسب قوله (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) والجواب لأن موسى لم يطلب النظر المطلق وإنما طلب النظر الذي معه الإدراك بدليل (أَرِنِي) ومن حجج الأشاعرة أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز هو استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز. وردّ بأنه علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته بدليل قوله (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) أي في وقت النظر وعقيبه واستقرار الجبل حال حركته محال. ومنها قوله (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ) أي ظهر وبان ومنه جلوت العروس إذا أبرزتها ، أو ظهر للجبل اقتداره وتصدى له أمره وإرادته (جَعَلَهُ دَكًّا) أي مدكوكا كالمصدر بمعنى «مفعول». والدك والدق أخوان. ومن قرأ بالمد أراد أرضا دكاء مستوية ومنه ناقة دكاء متواضعة السنام. والدكاء أيضا اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكة. والغرض من الجميع تعظيم شأن الرؤية وأن أحدا لا يقوى على ذلك إلا بتقوية الله وتأييده. وقالت المعتزلة : الرؤية أمر محال لقوله (لَنْ تَرانِي) وكلمة «لن» إن لم تفد التأبيد فلا أقل من التأكيد. وأيضا الاستدراك في قوله (وَلكِنِ انْظُرْ) معناه أن النظر إليّ محال فلا تطلبه ولكن عليك

٣١٥

بنظر آخر إلى الجبل لتشاهد تدكك أجزائه وتفرق أبعاضه من عظمة التجلي ، وإذا لم يطق الجماد ذلك فكيف الإنسان؟ قالت الأشاعرة هاهنا : لم يبعد أن يخلق الله تعالى حينئذ في الجبل حياة وعقلا وفهما ورؤية. وأيضا قوله (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) أي مغشيا عليه غشية كالموت دليل استحالة الرؤية على الأنبياء فضلا عن غيرهم. روي أن الملائكة مرت عليه وهو مغشى عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم يقولون : يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزّة. وأيضا قوله بعد الافاقة من الصعقة (سُبْحانَكَ) أنزهك عما لا يليق بك من جواز الرؤية عليك (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) من طلب الرؤية بغير إذن منك وإن كان لغرض صحيح هو تنبيه القوم على استحالة ذلك بنص من عندك (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بأنك لست بمرئي ولا مدرك بشيء من الحواس. وقالت الأشاعرة : وأنا أوّل المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا أو بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك. ثم لما سأل الرؤية ومنعه الله إياها أخذ في تعداد سائر نعمه عليه وأمره أن يشتغل بشكرها فـ (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ) الآية. والمقصود تسلية موسى عن منع الرؤية. قيل : وفي هذا دليل على جواز الرؤية في نفسها وإلا لم يكن إلى هذا العذر حاجة. وإنما قال (اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ) ولم يقل «على الخلق» لأن الملائكة قد تسمع كلام الله تعالى من غير واسطة كما سمعه موسى. والغرض أنه تعالى خصه من دون الناس بمجموع أمرين الرسالة والكلام وسائر الرسل لهم الرسالة فقط. وإنما كان الكلام بلا وسط سببا للشرف بناء على العرف الظاهر وقد جاء في الخبر أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه ليلة المعراج بعين الرأس. وفي ذلك دليل على أفضليته على موسى شتان بين من اتخذه الملك لنفسه حبيبا وقرّبه إليه بلطفه تقريبا وبين من قرب له الحجاب وحال بينه وبين المقصود بواب ونواب. والمزاد بالرسالات هاهنا أسفار التوراة (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) من شرف الرسالة والكلام (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لله على ذلك بأن تشتغل بلوازمها علما وعملا. ثم فصل تلك الرسالة فقال (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ) قيل : خر موسى صعقا يوم عرفة وأعطاه الله التوراة يوم النحر. وذكروا في عدد الألواح وفيو جوهرها وطولها أنها كانت عشرة ألواح ، وقيل سبعة ، وقيل لوحين ، وأنها كانت من زمرد جاء بها جبرائيل ، وقيل من زبرجدة خضراء أو ياقوتة حمراء ، وقيل كانت من خشب نزلت من السماء. وعن وهب أنها كانت من صخرة صماء لينها الله تعالى لموسى قطعها بيده وشققها بأصابعه. وقيل : طولها كان عشرة أذرع. والتحقيق أن أمثال هذه يحتاج إلى النقل الصحيح وإلا وجب السكوت عنه إذ ليس في الآية ما يدل على ذلك. وأما كيفية تلك الكتابة فقال ابن جريج : كتبها جبرائيل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور وحكم هذا النقل أيضا كما قلنا (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مفعول (كَتَبْنا) و «من» للتبعيض نحو أخذت من الدراهم

٣١٦

(مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً) بدل منه فيدخل في الموعظة كل ما يوجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية وذلك بذكر الوعد والوعيد. وأراد بالتفصيل تبيين كل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل من أقسام الأحكام ، ويجوز أن يكون (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً) مفعولين لـ (كَتَبْنا) والتقدير : وكتبنا له في الألواح موعظة من كل شيء وتفصيلا لكل شيء. قيل : أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منها في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر : موسى ويوشع وعزير وعيسى. وعن مقاتل : كتب في الألواح أني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئا ولا تقطعوا السبيل ولا تحلفوا باسمي كذبا فإن من حلف باسمي كاذبا فلا أزكيه ، ولا تزنوا ولا تقتلوا ولا تعقوا الوالدين. (فَخُذْها) على إرادة القول أي وكتبنا فقلنا له خذها أو بدل من قوله (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) والضمير للألواح أو لكل شيء لأنه في معنى الأشياء ، أو للرسالات أو للتوراة (بِقُوَّةٍ) بجد وعزيمة فعل أولى بالعزم من الرسل (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) سئل هاهنا أنه لما تعبد بكل ما في التوراة وجب كون الكل مأمورا به ، فظاهر قوله (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) يقتضي أن فيه ما ليس بأحسن وأنه لا يجوز الأخذ به. وأجاب العلماء بوجوه منها ، أن تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر ، فمرهم أن يأخذوا بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب فيكون كقوله (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الزمر : ٥٥] وكقوله (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر : ١٨] قال قطرب : الأحسن بمعنى الحسن وكلها حسن. وقيل : الحسن يشمل الواجب والمندوب والمباح والأحسن الواجب والمندوب. وقال في الكشاف : يجوز أن يراد يأخذوا بما أمروا به دون ما نهوا عنه كقولهم الصيف أحر من الشتاء. ثم ختم الآية بالوعيد والتهديد فقال (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) قال ابن عباس والحسن ومجاهد يعني جهنم أي ليكن ذكر جهنم حاضرا في أذهانكم لتحذروا أن تكونوا منهم. وعن قتادة : يريد مواطن الجبابرة والفراعنة الخاوية بالشأم ومصر ليعتبروا بذلك فلا يفسقوا مثل فسقهم فيصيبهم مثل ما أصابهم. وقال الكلبي : هي منازل عاد وثمود وأقرانهم يمرون عليها في أسفارهم. وقيل : المراد الوعد والبشارة بأن الله تعالى سيرزقهم أرض أعدائهم ويؤيده ما قرىء سأورثكم. وقوله (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) [الأعراف : ١٣٧].

ثم ذكر ما به يعامل الفاسقين المتكبرين فقال (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) الآية. فاحتجت الأشاعرة بها على أنه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصرف عنه. وقال الجبائي : قوله (سَأَصْرِفُ) للاستقبال والمصروفون موصوفون بالتكبر والانحراف عن الطريق المستقيم في الزمان الماضي ، فعلم أن المراد من هذا الصرف ليس هو الكفر. وأيضا الصرف مذكور

٣١٧

على وجه العقوبة على التكبر والاعتساف ولا تكون العقوبة عين المعاقب عليه فوجب تأويل الآية. وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني : إن هذا الكلام تمام لما وعد الله به موسى من النصرة والعصمة أي أصرفهم عن آياتي فلا يقدرون على منعك من تبليغها كما قال في حق نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) إلى قوله (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] وقيل : سأصرف هؤلاء المتكبرين عن نيل ما في آياتي من العز والكرامة المعدّة للأنبياء والمؤمنين ، فيكون ذلك الصرف المستلزم للإذلال والإهانة جاريا مجرى العقوبة على كفرهم وتكبرهم على الله تعالى. وقيل : إن من الآيات آيات لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد سبق الإيمان فإذا كفروا فقد صيروا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بما بعد ذلك فحينئذ يصرفهم الله تعالى عنها. وبوجه آخر إن الله تعالى إذا علم من حال بعضهم أنه إذا شاهد تلك الآيات فإنه لا يستدل بها بل يستخف بها ولا يقوم بحقها ، فإذا علم الله تعالى ذلك صح أن يصرفهم عنها ، أو عن الحسن : إن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه وهي بالطبع والخذلان ، فالمراد بالمصروفين هؤلاء. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا عظمت أمتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي» قوله (بِغَيْرِ الْحَقِ) أما أن يكون حالا بمعنى يتكبرون غير محقين لأن التكبير بالحق لله وحده ، إذ لا كمال فوق كماله فله إظهار العظمة والكبرياء على كل من سواه ، وإما أن يكون صلة للفعل أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الذي لا أصل له ، ومنه يعلم أن للمحق أن يتكبر على المبطل كما قيل : التكبر على المتكبر صدقة. والرشد طريق الهدى والحق والصواب كلاهما واحد قاله الكسائي ، وفرق أبو عمرو فقال : الرشد بضم الراء الصلاح لقوله (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء : ٦] وبفتحتين الاستقامة في الدين قوله تعالى (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) [الكهف : ٦٦] وسبيل الغي ضد ما ذكرنا. ثم بين أن ذلك الصرف وتعكيس القضية إنما كان الأمرين : كونهم مكذبين بآيات الله ، وكونهم غافلين عنها ، ومحل ذلك الرفع على الابتداء أو النصب على معنى صرفهم الله ذلك الصرف بسبب أنهم كذا وكذا. ثم بيّن أن أولئك المتكبرين مجزيون شر الجزاء وإن صدر عنهم صورة الإحسان والخير فقال (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي جحدوا المعاد حبطت أعمالهم. ثم قال (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) احتجت الأشاعرة بها على فساد قول أبي هاشم إن تارك الواجب يستحق العقاب بمجرد ترك الواجب وإن لم يصدر عنه فعل ذلك. قالوا : لأنها دلت على أنه لا جزاء إلا على عمل وترك الواجب ليس بعمل. أجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء. ورد

٣١٨

بأن الجزأ ما يجزىء ، أي يكفي عن المنع عن النهي أو في الحث على المأمور ، لكن العقاب على ترك الواجب كاف في الزجر عن ذلك فكان جزاء. قيل : إن بني إسرائيل كان لهم عيد يتزينون فيه يستعيرون من القبط الحلي فاستعاروها مرة فأغرق الله القبط فبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل ، فلهذا أضيفت إليهم على أن مجرد ملابسة الاستعارة أيضا تحقق الإضافة وتصححها. والحليّ جمع حلي كثدي وثديّ. ومن كسر الحاء فللإتباع. فجمع السامري تلك الحليّ وكان رجلا مطاعا فيهم ذا قدر وكانوا قد سألوا موسى أن يجعل لهم إلها يعبدونه فصاغ السامري لهم عجلا. واختلف المفسرون بعد ذلك فقال قوم : كان قد أخذ تراب حافر فرس جبرائيل فألقاه في جوف ذلك العجل فانقلب لحما ودما وظهر منه الخوار مرة واحدة فقال السامري هذا إلهكم وإله موسى. قال أكثر المفسرين من المعتزلة : إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوّفا ووضع في جوفه أنابيب على وجه مخصوص ، ثم وضع التمثال على مهب الرياح فظهر منه صوت شديد يشبه خوار العجل. وقال آخرون : إنه صير ذلك التمثال أجوف وخبأ تحته من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس. وإنما قال سبحانه (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى) من أن المتخذ هو السامريّ وحده لأن القوم رضوا بذلك واجتمعوا عليه فكأنهم شاركوه ، أو لأن المراد باتخاذ العجل هو عبادته كقوله (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) [البقرة : ٥١] أي من بعد مضيه إلى الطور. قال الحسن : كلهم عبدوا العجل غير هارون لعموم الآية ولقول موسى في الدعاء (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) ولو كان غيرهما أهلا للدعاء لأشركهم في ذلك. وقال آخرون : بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه لقوله سبحانه (مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف : ١٨١] وهل انقلب ذلك التمثال لحما ودما أو بقي ذهبا كما كان مال بعضهم إلى الأوّل لأنه تعالى قال (عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) والجسد اسم للجسم ذي اللحم والدّم والخوار إنما يكون للبقرة لا للصورة. واستبعده بعضهم وناقش في أن الجسد مختص بذي الروح. ثم قال : إن ذلك الصوت لما أشبه الخوار لم يبعد إطلاق لفظ الخوار عليه. وقرأ على كرم الله وجهه جؤار بالجيم والهمزة من جأر إذا صاح و (جَسَداً) بدلا من (عِجْلاً) ثم إنه سبحانه احتج على فساد كون ذلك العجل إلها بقوله (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) ومن حق الإله أن يكون متكلما هاديا إلى سبيل الحق ومناهجه بما ركز في العقول من الأدلة وبما أنزل من الكتب. قالت المعتزلة : هاهنا سؤال فمن كان مضلا عن الدين لا يصلح أن يكون إلها. قالت الأشاعرة : لو صح أن الإله يلزم أن يكون متكلما هاديا لزم أن يكون كل متكلم هاد إلها. والحق أن الملازمة

٣١٩

ممنوعة فإن الدعوى ليست إلا أن كل إله يجب أن يكون متكلما هاديا والموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها على أنه يمكن أن يقال لا متكلم ولا هادي في الحقيقة إلا الله تعالى. ثم ختم الآية بقوله (اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) وهذا كما قال في البقرة (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) [البقرة : ٥١] ثم أخبر عن عقبى حالهم بقوله (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) معناه ولما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل. واختلفوا في وجه هذه الاستعارة فقال الزجاج : أريد بالأيدي القلوب والأنفس كما يقال حصل في يده مكروه وإن كان من المحال حصول المكروه في اليد تشبيها لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين. وقال في الكشاف : إن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده فتصير يده مسقوطا فيها لأن فاه وقع فيها ، فأصل الكلام سقط فوه في يده فحذف الفاعل وبني الفعل للمفعول فيه كما يحذف الفعل ويبنى للمفعول فيه في قولهم «مرّ بزيد» وهذا من باب الكناية لأن عض اليد من لوازم الحسرة والندم. وقيل : كل عمل يقدم المرء عليه فذلك لاعتقاد أن ذلك العمل خير وصواب وأنه يورثه رفعة ورتبة ، فإذا بان أن ذلك العمل باطل فكأنه انحط وسقط من علو إلى أسفل ومنه قولهم للرجل إذا أخطأ «ذلك منه سقطة» ثم إن اليد آلة البطش والأخذ والنادم كأنه تدارك الحالة التي لأجلها حصل له الندم وكأنه قد سقط في يد نفسه من حيث أنه بعد حصول ذلك الندم يشتغل بالتدارك والتلافي. وحكى الواحدي أنه من السقط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج فمن وقع في يده السقط لم يحصل منه على شيء قط لأنه يذوب بأدنى حرارة ، فهذا مثل من خسر في عاقبته ولم يحصل على طائل من سعة. وقال بعضهم : الآلة الأصلية في أكثر الأعمال اليد والعاجز فى حكم الساقط فسقاط اليد هو العجز التام كما يقال في العرف ضل يده ورجله لمن لا يهتدي إلى صلاحه. وقيل : إن «في» بمعنى «على» أي سقط على أيديهم فإن من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضعه على يده تحت ذقنه. ثم قال الله تعالى (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) أي قد تبينوا ضلالهم كأنهم أبصروه بعيونهم. قال القاضي : الكلام على التقديم والتأخير لأن الندم والتحسر بعد تعرف الحال وتبين الخطأ والترتيب الأصلي : ولما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم. ويمكن أن يقال : الواو لا تفيد الترتيب ، أو يقال : الإقدام على ما لا يعلم كونه صوابا أو خطأ فاسد موجب للندم وقد يتكامل العلم فيظهر أنه خطأ جزما. ثم إنهم اعترفوا بذنوبهم وانقطعوا إلى ربهم وذكروا مثل ما ذكر أبونا آدم وأمنا حواء إن لم ترحمنا ربنا الآية. (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) قال بعضهم إن موسى قد عرف خبر القوم بعد رجوعه إليهم. وقال الأكثرون وهو قول أبي مسلم : إنه كان عارفا بذلك

٣٢٠