تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

أقواما واستفاد هذه العلوم منهم ثم نظمها قرآنا وادّعى أنه نزل عليه من الله أتبعه قوله (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) لئلا يصير ذلك القول سببا لفتوره في تبليغ الدعوة والرسالة والمقصود تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي يعتريه بسماع تلك الشبهة ، ونبه بالجملة المعترضة أو الحال المؤكدة وهي قوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) على أنه سبحانه لما كان واحدا في الإلهية فإنه يجب طاعته ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين. ثم ختم الآية بقوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) وحمله بعضهم على أنها منسوخة بآية القتال. وضعف بأن المراد واترك مقابلتهم فيما يأتونه من سفه ، وأن يعدل صلوات الله عليه إلى الطريق الذي يكون أقرب إلى القبول وأبعد عن التنفير والتغيظ. (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) مذهب الأشاعرة فيه ظاهر. وحمله المعتزلة على مشيئة الإلجاء والقسر. وأجيب بعد المعارضة بالعلم والداعي بأن الإيمان الاختياري هب أنه أنفع وأفضل من الإيمان القهري إلا أنه تعالى لما علم أن ذلك لا يقع ولا يحصل فقد كان يجب في حكمته أن يخلق الله فيه الإيمان القهري كي يخلص من العقاب ، وإن لم يجب له الثواب كما أن الأب المشفق إذا علم أن ابنه لا يحسن الغوص يقول له : اترك الغوص في البحر ولا تطلب اللآلئ فإنك لا تجدها واكتف بالرزق القليل مع السلامة ، فأما أن يأمره بالغوص في البحر مع اليقين التام بأنه لا يستفيد منه إلا الهلاك فإن ذلك من الرحمة والشفقة بمعزل. ثم ختم الكلام بما يكمل به بصيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله ، وذلك أنه بيّن له قدر ما جعل إليه فذكر أنه ما جعله حفيظا ولا وكيلا عليهم وإنما فوض إليه الإبلاغ والإنذار. ثم إنهم لما نسبوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أنه جمع القرآن بطريق المداومة وكان لا يبعد أن يغضب له المسلمون لسبب ذلك فيسبوا آلهتهم نهى الله تعالى عن ذلك فقال (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وذلك أن المسلمين إذا شتموا آلهتهم فربما غضبوا وذكروا الله بما لا ينبغي من القول. وفيه تنبيه على أن خصمك إذا شافهك بجهل وسفاهة لم يجز لك أن تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإن ذلك يوجب فتح باب المشاتمة والمسافهة وإنه لا يليق بالعقلاء. قال ابن عباس : لما نزل (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] قال المشركون : لئن لم تنته عن سب آلهتنا وعيبها لنهجونّ إلهك فنزلت. وقال السدي : لما حضر أبا طالب الوفاة قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهي عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان يمنعه فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة ابن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن البختري إلى أبي طالب فقالوا : أنت كبيرنا

١٤١

وسيدنا ، وأن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه. فدعاه فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ماذا تريدون؟ قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك. فقال أبو طالب : قد أنصفك قومك وبنو عمك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم؟ قال أبو جهل : نعم وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها فما هي؟ قال : قولوا لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب : قل غيرها يا ابن أخي فإن قومك قد فزعوا منها. فقال : يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها. فقالوا : لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فأنزل الله تعالى هذه الآية. قالت العلماء : إن القوم كانوا مقرين بوجود الإله تعالى فكيف يتصور إقدامهم على شتم الله؟ وأجيب بأنه ربما كان بعضهم قائلا بالدهر ونفي الصانع فما كان يبالي هذا النوع من السفاهة ، أو لعل مرادهم شتم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله فأجرى الله تعالى شتمه مجرى شتم الله كما في قوله (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] أو لعلهم من جهالتهم اعتقدوا أن الشيطان يحمله على ادعاء الرسالة ثم إنهم سموا ذلك الشيطان بأنه إله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله. وهاهنا سؤال وهو أن شتم الأصنام من أصول الطاعات فكيف يحسن من الله تعالى أن ينهى عنه؟ والجواب أن هذا الشتم وإن كان طاعة إلا أنه إذا وقع على وجه يستلزم منكرا وجب الاحتراز عنه ، لأن هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله سبحانه وشتم رسول وفتح باب السفاهة ويقتضي تنفيرهم عن قبول الدين وإدخال الغيظ والغضب في قلوبهم. وفيه أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى إلى ارتكاب منكر ، والنهي عن المنكر يقبح إذا أدى إلى زيادة منكر وغلبة الظن قائمة مقام اليقين في هذا الباب. وفيه تأديب لمن يدعو إلى الدين كيلا يتشاغل بما لا يفيد في المطلوب ، فإن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها ، يقال : عدا فلان عدوا وعدوانا وعداء إذا ظلم ظلما يتجاوز القدر. قال الزجاج (عَدْواً) منصوب على المصدر لأن المعنى فيعدو عدوا وقرىء (عَدْواً) بفتح العين والتشديد أي في حال كونهم أعداء. ومعنى (بِغَيْرِ عِلْمٍ) على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به و (كَذلِكَ) أي مثل ذلك التزيين (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) قالت الأشاعرة : فيه دلالة على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر وللمؤمن الإيمان وللعاصي المعصية ، وزيفه الكعبي بقوله تعالى (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٢٤] [العنكبوت : ٣٨] وبقوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) [البقرة : ٢٥٧] فإذا المراد أنه تعالى زين لهم ما

١٤٢

لهم أن يعملوا وهم لا يفقهون ، أو المراد زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم أي خليناهم وشأنهم وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم ، أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زينا في زعمهم وقولهم إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا ، وضعف بعد المعارضة بالعلم وخلق الداعي بأن قوله تعالى (كَذلِكَ زَيَّنَّا) بعد قوله (فَيَسُبُّوا اللهَ) مشعر بأن إقدامهم على ذلك المنكر إنما كان بتزيين الله تعالى. وأيضا الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفرا وجهلا والعلم بذلك ضروري ، بل إنما يختاره لأنه اعتقد كونه إيمانا وعلما وحقا وصدقا ، ولو لا سابقة الجهل الأول لما اختار الجهل الثاني ولا تذهب الجهالات إلى غير النهاية ، فلا بد أن ينتهي إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه وهو بسبب ذلك الجهل ظن الكفر إيمانا والجهل علما. قال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) والغرض حكاية شبهة أخرى لهم وهي أن هذا القرآن كيفما كان أمره فليس من جنس المعجزات البتة ، ولو أنك يا محمد جئتنا بمعجزة باهرة وبينة قاهرة لآمنا بك وأكدوا هذا المعنى بالأيمان والأقسام. قال الواحدي : إنما سمى اليمين بالقسم لأن اليمين موضوعة لتوكيد الخبر وكانت الحاجة إلى ذكر الحلف عند انقسام الناس وقت سماع الخبر إلى مصدق ومكذب ، فمعنى الأقسام إزالة القسمة وجعل الناس كلهم مصدقين بواسطة الحلف واليمين. عن محمد بن كعب قال : كلمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله قريش فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى كانت معه عصا فضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، وأن عيسى كان يحيي الموتى ، وأن صالحا كانت له ناقة ، فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا : تجعل لنا الصفا ذهبا. قال : فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو فجاءه جبريل عليه‌السلام فقال : إن شئت أصبح الصفا ذهبا ولكن لم أرسل بآية فلم يصدق بها إلا أنزلت العذاب ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتركهم حتى يتوب تائبهم وأنزل الله الآيات إلى قوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) قال الكلبي ومقاتل : إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه. وقال الزجاج : معناه بالغوا في الأيمان. والمراد بقوله (لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) ما روينا من جعل الصفا ذهبا. وقيل : هي الأشياء المذكورة في قوله (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا) [الإسراء : ٩٠] الآيات. وقيل : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله يخبرهم بأن عذاب الاستئصال كان ينزل بالأمم المتقدمين المكذبين فالمشركون طلبوا مثلها. (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي هو مختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات لأن المعجزات لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى ، أو المراد بالعندية هو العلم بأن إحداث هذه المعجزات هل يقتضي

١٤٣

إيمانهم أم لا كقوله (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) [الأنعام : ٥٩] أو المراد أنها وإن كانت معدومة في الحال إلا أنه تعالى متى شاء أحدثها وليس لكم أن تتحكموا في طلبها كقوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [الحجر : ٢١] (وَما يُشْعِرُكُمْ) ما استفهام والجملة خبره ، ثم من قرأ (أَنَّها) بكسر الهمزة على الابتداء ـ وهي القراءة الجيدة ـ فالتقدير وما يشعركم ما يكون منهم ثم ابتدأ فقال (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) وأما قراءة الفتح فقال سيبويه : سألت الخليل عن ذلك فقال : لا تحسن لأنها تصير عذرا للكفار ، لأن معنى قول القائل : ما يدريك أنه لا يفعل هو أنه يفعل. فمعنى الآية أنها إذا جاءت آمنوا وذلك يوجب مجيء هذه الآيات ويصير هذا الكلام عذرا لهم في طلبها ، لكن القراءة لما كانت متواترة فلا جرم ذكر العلماء فيه وجوها : قال الخليل : «أن» بمعنى «لعل» تقول العرب : ائت السوق أنك تشتري لنا شيأ أي لعلك. ويقوي هذا الوجه قراءة أبي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وثانيها «أن» تجعل «لا» صلة كما في قوله (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥] وثالثها أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها فقال الله : وما يدريكم أيها المؤمنون أنهم لا يؤمنون على معنى أنكم لا تدرون ما سبق به على من أنهم لا يؤمنون. وأما من قرأ (لا تُؤْمِنُونَ) بتاء الخطاب فالمراد وما يشعركم أيها الكفار. قال القاضي والجبائي : في الآية دلالة على أنه تعالى يجب أن يفعل كل ما في مقدوره من الألطاف إذ لو كان في المعلوم لطف يؤمنون عنده ، ثم إنه لا يفعل ذلك لم يكن لتعليل ترك الإجابة بأنهم لا يؤمنون وجه. وأيضا لو كان الإيمان بخلق الله تعالى ولم يكن لفعل الألطاف أثر في حمل المكلف على الطاعات لم يكن لإظهار تلك المعجزات أثر. وأجيب بأن تأثير المعجزات عندهم مبني على وجوب اللطف ، فلو أثبت اللطف به لزم الدور ، وبأن الآية التي بعد هذه وهي قوله (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) تدل على أن الكفر والإيمان بقضاء الله وقدره. ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار هو أنهم إذا جاءتهم الآيات القاهرة التي اقترحوها عرفوا كيفية دلالتها على صدق الرسول إلا أنه تعالى إذا قلب قلوبهم وأبصارهم عن ذلك الوجه الصحيح بقوا على الكفر ولم ينتفعوا بتلك الآيات. والتقليب تحريك الشيء عن وجهه ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله يقول «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك» (١) والمراد أنه تعالى يقلب القلوب تارة من داعي الخير إلى داعي الشر وبالعكس. وإنما قدم ذكر تقليب الأفئدة على تقليب الأبصار ، لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر عنه ، والحاصل

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب القدر باب ٧. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب ٢. أحمد في مسنده (٤ / ١٨٢) ، (٦ / ٩١).

١٤٤

أن السمع والبصر آلتان للقلب فلهذا السبب وقع الابتداء بتقليب القلب. قال الجبائي : المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وحرها لتعذيبهم. وزيف بأن قوله (وَنَذَرُهُمْ) إنما يحصل في الدنيا وهذا يستلزم سوء النظم. وقال الكعبي : المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم بأنا لا نفعل بهم ما نفعل بالمؤمنين من الفوائد والألطاف حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم. وضعف بأنه إنما استحق الحرمان من تلك الألطاف والفوائد بسبب إقدامه على الكفر وهو الذي أوقع نفسه في ذلك الحرمان فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى في قوله (وَنُقَلِّبُ) وقال القاضي : القلب باق على حالة واحدة إلا أنه تعالى أدخل التقليب والتبديل في الدلائل. واعترض بأن تقليب القلب نقله من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة. أما قوله (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فقال الواحدي : فيه حذف والتقدير ولا يؤمنون بهذه الآيات كما لم يؤمنوا بظهور الآيات أول مرة يعني أول مرة أتتهم الآيات مثل انشقاق القمر وغيره. والكناية في (بِهِ) إما عائدة إلى القرآن ، أو إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله ، أو إلى ما طلبوا من الآيات وقيل : الكاف للجزاء أي كما لم يؤمنوا أول مرة فكذلك نقلب أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم. قال الجبائي : (وَنَذَرُهُمْ) أي لا نحول بينهم وبين اختيارهم ولا نمنعهم بمعاجلة الهلاك وغيره لكنا نمهلهم ، فإن أقاموا على طغيانهم فذلك من قبلهم وأنه يوجب تأكيد الحجة عليهم. وقالت الأشاعرة : نقلب أفئدتهم من الحق إلى الباطل ونتركهم في ذلك الطغيان والضلال والعمى.

التأويل : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ) دلالات السعادات الباقية ، فمن أبصرها بنظر البصيرة فاشتغل بتحصيلها وأقبل على الله لسلوك سبيلها فذلك تحصيل لنفسه (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (وَمَنْ عَمِيَ) فبالعكس. (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ) لا تخاطبوا أهل الضلال على مواجب نوازع النفس والطبيعة فيحملهم ذلك على ترك الإجلال وإظهار الضلال ، بل خاطبوهم بلسان الحجة والتزام الحجة ونفي الشبهة. (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) حسبوا أن البرهان يوجب الإيمان ولم يعلموا أنهم مقهورون تحت حكم السلطان ، وما يغني وضوح الأدلة لمن لم تدركه سوابق الرحمة (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) عن الآخرة إلى الدنيا (وَأَبْصارَهُمْ) عن شواهد المولى إلى مشاهدة النفس والهوى كأنهم لم يؤمنوا يوم الميثاق إذ قلت ألست بربكم؟ قالوا بلى.

تم الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوله (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ)

١٤٥

بسم الله الرحمن

الجزء الثامن من أجزاء القرآن الكريم

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١))

القراآت : (قُبُلاً) بكسر القاف وفتح الباء : أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون : بضمتين. (مُنَزَّلٌ) بالتشديد : ابن عامر وحفص والمفضل. (كَلِمَةُ رَبِّكَ) عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب. الباقون كلمات (مَنْ يَضِلُ) من الإضلال : الأصبهاني عن نصير ، فصل على البناء للفاعل و (حَرَّمَ) على البناء للمفعول : حمزة وخلف وعاصم غير حفص والمفضل ، وقرأ أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وحفص جميعا بالفتح ، الباقون : على البناء للمفعول فيهما (لَيُضِلُّونَ) بضم الياء : عاصم وحمزة وعلي وخلف ، الباقون : بالفتح.

الوقوف : (يَجْهَلُونَ) ه (غُرُوراً) ط (يَفْتَرُونَ) ه (مُفَصَّلاً) ط (الْمُمْتَرِينَ) ه

١٤٦

(وَعَدْلاً) ط (لِكَلِماتِهِ) ج لابتداء الضمير المنفصل مع احتمال الواو الحال أي لا تبديل لكلماته وهو يسمع ويعلم ، (الْعَلِيمُ) ه (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ط (يَخْرُصُونَ) ه (عَنْ سَبِيلِهِ) ج (بِالْمُهْتَدِينَ) ه (مُؤْمِنِينَ) ه (إِلَيْهِ) ط (بِغَيْرِ عِلْمٍ) ط (بِالْمُعْتَدِينَ) ه (وَباطِنَهُ) ط (يَقْتَرِفُونَ) ه (لَفِسْقٌ) ط (لِيُجادِلُوكُمْ) ج (لَمُشْرِكُونَ) ه.

التفسير : هذا شروع في تفصيل ما أجمله قوله (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٠٩] وكان المستهزءون بالقرآن خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحرث بن حنظلة ، أتوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في رهط من أهل مكة فقالوا : أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقول أم باطل ، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا أي كفيلا على ما تدعيه ، فنفى الله تعالى عنهم الإيمان وإن أوتوا هذه المقترحات. قال أبو زيد : يقال لقيت فلانا قبلا وقبلا ومقابلة كلها بمعنى واحد وهو المواجهة رواه الواحدي ، وقال أبو عبيدة والفراء والزجاج : قبلا بكسر القاف معناه معاينة. روي عن أبي ذر قال : قلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أكان آدم نبيا؟ قال : نعم ، كان نبيا كلمه الله تعالى قبلا ، وأما قبلا بضمتين فقيل : إنه جمع قبيل ومعناه الجماعة تكون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتى مثل الروم والزنج والعرب ولهذا قال الأخفش في تفسيره أي قبيلا قبيلا. أو معناه الكفيل والعريف من قبل به يقبل قبالة ، والمعنى لو حشرنا عليهم كل شيء فكفلوا بصحة ما يقول ما آمنوا ، وموضع الإعجاز فيه أن الأشياء المحشورة منها ما ينطق ومنها ما لا ينطق ، ومنها حي ومنها ميت ، فإذا حشرها الله تعالى على اختلاف طبائعها مجتمعة في موقف واحد ثم أنطقها وأطبقوا على قبول هذه الكفالة كان ذلك من أعظم المعجزات ، أما قوله تعالى : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) إيمانهم ، فقد قالت الأشاعرة : فلما لم يؤمنوا دل على أنه تعالى ما شاء إيمانهم ، وقالت المعتزلة : لو لم يرد منهم الإيمان لما وجب عليهم الإيمان كما لو لم يأمرهم به لم يجب ، ولو أراد الكفر من الكافر لكان الكافر في كفره مطيعا لله لأنه لا معنى للطاعة إلا فعل المراد ، ولو جاز من الله تعالى أن يريد الكفر لجاز أن يأمر به ، ولجاز أن يأمرنا بأن نريد الكفر. فالمراد من الآية أنه شاء من الكل الإيمان الاختياري وما شاء الإيمان القهري. والمعنى : ما كانوا ليؤمنوا إيمانا اختياريا إلا أن يشاء الله مشيئة إكراه واضطرار فحينئذ يؤمنون ، وزيف بأن الاختيار لا بد معه من حصول داعية يترجح بها أحد طرفي الممكن ، ولا تحصل تلك الداعية إلا بتخليق الله تعالى فكأنه لا اختيار. قال الجبائي : قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) يدل على حدوث المشيئة إذ لو كانت قديمة وهي الشرط لزم من حصولها حصول المشروط. وأجيب بأنها قديمة إلا أن

١٤٧

تعلقها بأحداث المحدث في الحال إضافة حادثة. ثم ختم الآية بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) قالت الأشاعرة : أي لا يعلمون أن الكل بقضاء الله وبقدره. وقالت المعتزلة : إنهم لا يدرون أنهم يبقون كفارا عند ظهور الآية التي طلبوها والمعجزات التي اقترحوها فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم ، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم فيطمعون في إيمانهم الاختياري بمجيء الآيات المقترحات.

ثم قال : (وَكَذلِكَ) قيل : إنه منسوق على قوله : (كَذلِكَ زَيَّنَّا) [الأنعام : ١٠٨] أي وكما زينا لكل أمة عملهم (جَعَلْنا) وقيل : إن المشار إليه محذوف أي وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم ، لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر. قالت الأشاعرة : لا شك أن تلك العداوة معصية وكفر ، وأن جعلها شرفا لآية تدل على أن خالق الخير والشر والطاعة والمعصية والإيمان والكفر هو الله. قال الجبائي : المراد بهذا الجعل أنه حكم وبين فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل إنه كفره ، وإذا أخبر عن عدالته قيل عدله. وقال الكعبي : إنه أمر الأنبياء بعداوتهم وأعلمهم بكونهم أعداء لهم فاقتضى ذلك أنهم صاروا أعداء للأنبياء. لأن العداوة تكون من الجانبين. أجاب أبو بكر الأصم بأنه لما أرسل محمدا إلى العالمين وخصه بتلك المعجزات صار ذلك التخصيص سببا للحسد والعداوة أو للبغضاء فهذا هو المراد بجعلهم أعداء له. وزيف بأن الأفعال مستندة إلى الدواعي وهي من الله تعالى ، وبأن العداوة والمحبة متعلقة بالطبع لا بالإرادة والتكلف فلا يقدر عليها إلا الله تعالى. وانتصاب ال (شَياطِينَ) كما مر في قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠٠] قال الزجاج وابن الأنباري : (عَدْواً) في معنى الجمع ، ولقائل أن يقول : لا حاجة إلى هذا التكلف لصحة قولنا : وكذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدوّا واحدا. إذ ليس يجب أن يحصل لكل واحد من الأنبياء أكثر من عدو واحد. عن ابن عباس : كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان. وقال مجاهد وقتادة والحسن : إن من الجن شياطين ومن الإنس شياطين ، وإن شيطان الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليعينه عليه. روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأبي ذر : هل تعوّذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ قال : قلت : وهل للإنس من شياطين؟ قال : نعم ، هم شر من شياطين الجن. وقيل : إن الجميع من ولد إبليس إلا أن الذي يوسوس للإنس يسمى شيطان الإنس ، والذي يوسوس للجن يسمى شيطان الجن. وزيف بأن المقصود من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء وهم الشياطين. وعن

١٤٨

مالك بن دينار أن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجن عني وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا. ومعنى الإيحاء الإيماء أو القول السريع أي يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس ، وكذلك بعض الجن إلى بعض ، وبعض الإنس إلى بعض ، وكأنه لا يتصوّر وسوسة الإنس إلى الجن إلا على تقدير القول بالتسخير. و (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ، والتحقيق فيه أن الإنسان ما لم يعتقد في أمر من الأمور خيرية أو نفعا لم يرغب فيه. ثم إن كان هذا الاعتقاد مطابقا للواقع فهو الحق والصدق والإلهام وكان صادرا من الملك وإلا كان مزخرفا أي يكون باطنه فاسدا وظاهره مزينا ، قال الواحدي : (غُرُوراً) نصب على المصدر لأن إيحاء الزخرف من القول في معنى الغرور. (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) استدلال الأشاعرة به ظاهر والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء. (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) منصوب على أنه مفعول معه أو مفعول به أي وافتراءهم أو ما يفترونه. قال ابن عباس : يريد ما زين لهم إبليس وغرهم به ، وفيه تحذير من الكفر وترغيب في الإيمان وتسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتنبيه له على ما أعد للكفرة من العقاب وله من الثواب بسبب صبره على سفاهتهم وتلطفه بهم. الصغو في اللغة الميل. يقال في المستمع إنه مصغ إذا مال بحاسته إلى ناحية الصوت. وأصغى الإناء إذا أماله حتى انصب بعضه في بعض. ويقال للقمر إذا مال إلى الغروب صغا وأصغى. قال الجوهري : صغا يصغو ويصغي صغوا أي مال ، وكذلك صغى بالكسر يصغي بالفتح صغى وصغيا ، واللام في (وَلِتَصْغى) لا بد لها من متعلق فقالت الأشاعرة : التقدير وإنما جعلنا مثل ذلك الشخص عدوّا للنبي لتميل (إِلَيْهِ) أو إلى قوله المزخرف (أَفْئِدَةُ) الكفار فيبعدوا بذلك السبب عن قبول دعوة النبي (وَلِيَرْضَوْهُ) وليختاروه على أنفسهم (وَلِيَقْتَرِفُوا) وليكتسبوا من الآثام (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) وقال الجبائي : إن هذا الكلام خرج مخرج الأمر ومعناه الزجر كقوله : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) [الإسراء : ١٤]. وزيف بأن حمل لام كي على لام الأمر تحريف. وقال الكعبي : هي لام العاقبة تقديره : ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أفئدة الكفار جعلنا لكل نبي عدوا. وعن أبي مسلم أنها معطوفة على موضع (غُرُوراً) والتقدير : يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغتروا بذلك ولتميل قلوب الكفار إلى المذاهب الباطلة. وأورد عليه أن ميل القلوب إلى الآراء الفاسدة هو عين الاغترار فيلزم عطف الشيء على نفسه. وهاهنا بحث وهو أن الأشاعرة قالوا : البنية ليست شرطا للحياة ، فالحي هو الجزء الذي قامت الحياة به ، والعالم هو الجزء الذي قام العلم به. وقالت المعتزلة : الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء. حجة الأشاعرة أنه جعل الموصوف

١٤٩

بالميل والرغبة في الآية هو القلب لا جملة الحي ، وبمثله استدل من جعل المتعلق الأول للنفس هو القلب لا مجموع البدن. ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه لا فائدة لهم في إظهار الآيات التي اقترحوها بين بقوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل وكمل والزائد على ذلك لا يجب الالتفات إليه ، وإنما قلنا إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين : الأول : أن الله تعالى قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل عليه الكتاب المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته وأشار إلى هذا الوجه بقوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) يعني قل يا محمد إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات ، فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله حكما فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز. الوجه الثاني : اشتمال التوراة والإنجيل على أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حقا ، وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله وأشار إليه بقوله : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) ثم قال : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) والخطاب لكل أحد أي إذا ظهرت الدلائل فلا ينبغي أن يمتري فيه أحد. وقيل : الخطاب للرسول في الظاهر والمراد به الأمة. وقيل : الخطاب للرسول في الحقيقة والمراد التهييج والإلهاب كقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤] والمراد فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق ، ولا يريبك جحود أكثرهم. قال الواحدي : الحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة. وقال بعض أهل التأويل : الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم كل من يحكم والحكم هو الذي لا يحكم إلا بالحق.

ثم لما بين أن القرآن معجز قال : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي القرآن. وقوله : (صِدْقاً وَعَدْلاً) مصدران منتصبان على الحال من الكلمة ، ومعنى تمامها أنها وافية كافية في كونها معجزة دالة على صدق محمد ، أو كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى القيامة علما وعملا ، أو المراد بالتمام أنها أزلية ولا يحدث بعد ذلك شيء. واعلم أن كل ما حصل في القرآن نوعان : الخبر والتكليف ؛ فالخبر كل ما أخبر الله تعالى عن وجوده أو عن عدمه كالخبر عن وجود ذاته وحصول صفاته أعني كونه تعالى قادرا سميعا بصيرا ويدخل فيه الخبر عن صفات التقديس والتنزيه كقوله تعالى : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) [الإخلاص : ٣] (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] ويدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال الله تعالى وكيفية تدبيره لملكوته في السموات والأرض وفي عالم الأرواح والأجسام ، ويدخل فيه الخبر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب والعقاب ، ويدخل فيه الخبر عن أقسام أسماء الله تعالى والخبر عن النبوات وأقسام المعجزات ، والخبر عن أحوال النشر والقيامة وصفات أهل الجنة والنار ، والخبر عن أحوال المتقدمين والخبر عن المغيبات. وأما التكليف فيدخل فيه

١٥٠

كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبيده سواء كان ملكا أو بشرا أو شيطانا ، وسواء كان ذلك في شرعنا أو في شرائع الأنبياء المتقدمين أو في مراسيم الملائكة المقربين الذين هم سكان السموات والجنة والنار والعرش وما وراءه مما لا يعلم أحوالهم إلا الله تعالى. فإذن المراد وتمت كلمات ربك صدقا إن كان من باب الخبر وعدلا إن كان من باب التكاليف وهذا ضبط حسن. وقيل : إن كل ما أخبر الله تعالى عنه من وعد ووعيد وثواب وعقاب فهو صدق لأنه لا بد أن يكون واقعا ، وهو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون بصفة الظلم. ثم قال : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) والمعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبه في كون القرآن دالا على صدق محمد إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدلالة البتة لجلاء الدلالة ووضوحها. أو المراد أن كلماته تبقى موصوفة بصفتها مصونة عن التحريف والتغيير كما قال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] أو الغرض أنها بريئة عن التناقض كما قال : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] أو المعنى أن أحكام الله تعالى لا تتغير ولا تتبدل لأنها أزلية والأزلي لا يزول ، وهذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر إذ يلزم منه أن لا ينقلب السعيد شقيا وبالضد. ثم لما أجاب عن شبه الكفار بيّن أن عند ظهور الحجة وتبين المحجة لا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى كلمات الجهال فقال : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) والمضل لا بد أن يكون ضالا ويعني بهم الذين ينازعون النبي في الدين غير قاطعين بصحة مذاهبهم كالزنادقة وعبدة الكواكب والأصنام ، وكالذين يحرمون البحائر والسوائب والوصائل ويحللون الميتة فيحكمون على الحق بأنه باطل وعلى الباطل بأنه حق. ثم قال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يقدرون على أنهم على شيء أو يكذبون في أن الله أحل كذا وحرم كذا. وأصل الخرص حزر ما على النخل من الرطب تمرا. وليس لنفاة القياس تمسك بالآية من قبل توجه الذم على متبع الظن ، لأن المذموم من اتباع الظن هو الذي لا يستند إلى أمارة كظن الكفار المستند إلى تقليد أسلافهم فقط ، أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إلى أمارة فلم يتم أنه كذلك. ثم قال : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) والمراد أنك بعد ما عرفت أن الحق ما هو والباطل ما هو فلا تكن في قيدهم بل فوض أمرهم إلى خالقهم لأن الله تعالى عالم بأن المهتدي من هو والضال من هو فيجازي كل أحد بما يليق بعمله ، أو المراد أن هؤلاء الكفار وإن أظهروا من أنفسهم ادعاء الجزم واليقين فهم كاذبون والله تعالى عالم بأحوال قلوبهم وبواطنهم ، ومطلع على تحيرهم في أودية الجهالة وتيه الضلال ، قال النحويون : إن أفعل التفضيل لا يعمل في مظهر ، ففي الكلام محذوف أي يعلم من يضل عن سبيله ، فإن لم يقدر محذوف قوي بالباء كما في القلم

١٥١

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القلم : ٧] وهذا هو الأصل ، وإنما خص هذه السورة بالحذف موافقة لقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] وعدل إلى لفظ المستقبل تنبيها على قطع الإضافة لأن أكثر ما يستعمل «أفعل من» يستعمل مع الماضي نحو «أعلم من دب ودرج» و «أحسن من قام وقعد» و «أفضل من حج واعتمر». فلو لم يعدل إلى لفظ المستقبل التبس بالإضافة تعالى الله عن ذلك. وجوّز بعضهم أن يكون «من» للاستفهام كقوله : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) [الكهف : ١٢] ثم قال : (فَكُلُوا) والفاء مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرّمون الحلال ، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين : إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم. فقال الله سبحانه للمسلمين : إن كنتم محققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله. فإن قيل : إن القوم كانوا يبيحون ما ذبح على اسم الله تعالى ولا ينازعون فيه. وإنما النزاع في أكل الميتة فإنهم كانوا يبيحونها والمسلمون يحرمونها ، فما الحكمة في إثبات الحكم في المتفق عليه وترك الحكم في المختلف فيه؟ فالجواب لعل القوم كانوا يحرمون أكل المذكاة ويبيحون أكل الميتة فرد الله تعالى عليهم في الأمرين بقوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) وبقوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٤٥] أو نقول : المراد اجعلوا أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم الله عليه ، وعلى هذا فيكون المراد تحريم الميتة فقط والله أعلم. أما قوله : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ) فأكثر المفسرين قالوا : المراد به ما فصل في أول المائدة من قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] إلى آخر الآية ، واعترض عليه بأن سورة الأنعام مكية والمائدة من آخر ما نزل بالمدينة ، والآية تقتضي أن يكون المفصل مقدما على هذا المجمل بل الأولى أن يقال : المراد قوله تعالى بعد هذه الآية : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) [الأنعام : ١٤٥] إلى آخرها. فإن هذا القدر من التأخر غير ضائر. وقوله : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ) أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدّة المجاعة (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ) المبالغة في قراءة ضم الياء أكثر لأن كل مضل فإنه يكون ضالا ، وقد يكون الضال غير مضل ، قيل : إنه عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أول من غير دين إسماعيل واتخذ البحائر والسوائب وأكل الميتة. وقوله : (بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يريد أن عمرو بن لحي أقدم على هذه المذاهب عن الجهالة الصرفة ، وقال الزجاج : المراد منه الذين يحللون الميتة ويناظرون في إحلالها ، أو يحتجون عليها بقولهم إذ حل ما تذبحونه أنتم فلأن يحل ما يذبحه الله تعالى أولى ، وكذلك كل ما يضلون فيه من عبادة الأوثان والطعن في نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وفي الآية دلالة على أن النزاع في الدين بمجرد التقليد حرام (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) فيجازيهم عليها

١٥٢

وفيه من التهديد ما فيه.

ثم ذكر آية جامعة فقال : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) فقيل : ظاهره الزنا في الحوانيت وباطنه الصديقة في السر. قال الضحاك : كان أهل الجاهلية يرون الزنا حلالا ما كان سرا. والأصح أن النهي عام إذ لا دليل على تخصيصه. ثم قيل : المراد ما أعلنتم وما أسررتم. وقيل : ما عملتم وما نويتم. وقال ابن الأنباري : يريد وذروا الإثم من جميع جهاته كما تقول : ما أخذت من هذا المال قليلا ولا كثيرا أي ما أخذته بوجه من الوجوه. وقريب منه قول من قال : المراد النهي عن الإثم مع بيان أنه لا يخرج عن كونه إنما بسبب إخفائه وكتمانه. وقيل : المراد النهي عن الإقدام على الإثم. ثم قال : (وَباطِنَهُ) ليظهر بذلك أن الداعي له إلى ترك ذلك الإثم خوف الله لا خوف الناس. وقيل : ظاهر الإثم أفعال الجوارح ، وباطنه أفعال القلوب من الكبر والحسد والعجب وإرادة الشر للمسلمين ، ويدخل فيه الاعتقاد والعزم والنظر والظن والتمني والندم على أفعال الخيرات ، ومنه يعلم أن ما يوجد في القلب قد يؤاخذ به وإن لم يقترن به عمل (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) أي يكتسبون من الآثام ومنه الاعتراف يمحو الاقتراف كما يقال : التوبة تمحو الحوبة. وظاهر النص يدل على أنه يعاقب المذنب البتة إلا أن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب لم يعاقب. وأهل السنة على أنه إذا لم يتب احتمل العفو (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) نقل عن عطاء أنه قال : كل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من طعام أو شراب فهو حرام تمسكا بعموم الآية. وأجمع سائر الفقهاء على تخصيص هذا العموم بالذبح ، ثم اختلفوا فمالك : كل ذبح لم يذكر اسم الله تعالى عليه فهو حرام ، ترك الذكر عمدا أو نسيانا وهو قول ابن سيرين وطائفة من المتكلمين. أبو حنيفة : إن ترك عمدا حرام وإن ترك نسيانا حل. الشافعي : متروك التسمية عمدا وسهوا حلال إذا كان الذابح مسلما لقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) والضمير عائد إلى الأكل الذي دل عليه الفعل أو إلى الموصول على أنه في نفسه فسق مثل «رجل عدل» أو على تقدير حذف المضاف أي وإن أكله لفسق. وقد أجمع المسلمون على أنه لا يفسق بأكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية ولقوله تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) وهذه المناظرة كانت في مسألة الميتة ؛ وذلك أن المشركين قالوا : يا محمد أخبرنا عن الشاة من قتلها إذا ماتت؟ قال : الله قتلها ، قالوا :فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال ، وما قتل الكلب والصقر حلال ، وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله الآية ، فالمراد من الشياطين هاهنا إبليس وجنوده وسوسوا إلى أوليائهم من المشركين ليخاصموا محمدا وأصحابه في أكل الميتة. وقال عكرمة : وإن الشياطين ـ يعني مردة المجوس ـ ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش. وذلك أنه لما نزل تحريم الميتة

١٥٣

سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة أن محمدا وأصحابه يزعمون أن ما يذبحونه حلال وأن ما يذبحه الله حرام ، فوقع في أنفس ناس من المسلمين شيء فنزلت الآية. ثم قال : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) يعني في استحلال الميتة (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) قال الزجاج : وفيه دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله تعالى أو حرم شيئا مما أحل الله فهو مشرك لأنه أثبت حاكما سوى الله تعالى. ثم قال الشافعي : الفسق في آية أخرى وهي ، قوله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) [الأنعام : ١٤٥] إلى قوله : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) مفسر بما أهل به لغير الله فعلمنا أن الفسق في هذه الآية أيضا مفسر به نزلنا عن هذا المقام وهو التمسك بالمخصصات ، فلم قلتم إنه لم يوجد ذكر الله هاهنا لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «ذكر الله مع المسلم سواء قال أو لم يقل» فيحمل هذا الذكر على ذكر القلب. أو نقول : هب أن هذا الدليل يوجب الحرمة إلا أن معنا ما يدل على الحل ، وإذا تعارض الحل والحرمة فالحل راجح لأن الأصل في الأشياء الإباحة وللعمومات الدالة على الحل كقوله : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] (كُلُوا وَاشْرَبُوا) [الطور : ١٩] ولأنه مستطاب وقد قال : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) [المائدة : ٤] ، ولأن الطبع يميل إليه وقد نهى عن إضاعة المال ، هذا تقرير مذهب الشافعي ومع ذلك فالأولى بالمسلم أن يحترز عنه لقوة ظاهر النص. قال الكعبي : في الآية دلالة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات لأنه تعالى سمى مخالفته شركا. وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يراد بالشرك هاهنا اعتقاد أن لله شريكا في الحكم.

التأويل : (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) أي : قلوبهم الميتة (وَحَشَرْنا) أي أريناهم جميع الآيات المودعة في المكونات (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) فإن المشيئة تغير السجية والعناية الأزلية كفاية الأبدية (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أن الهدى ليس بالمنى وأنه بمشيئة المولى ، ثم أخبر أن البلايا للسائرين إلى الله هي المطايا فقال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ) هي النفس الأمارة التي هي أعدى الأعداء. (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هديناهم بنور الكتاب إلى حضرة الجلال (فَلا تَكُونَنَ) نهى التكوين في الأزل (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) كلامه وقضاؤه في الأزل (صِدْقاً) فيما قال (وَعَدْلاً) فيما حكم بالوجود والعدم والسعادة والشقاوة والرد والقبول والخير والشر والحسن والقبح والإيمان والكفر ، وأحسن شيء خلقه هو الإنسان (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] وكذلك شر شيء هو الإنسان عند فساد استعداده (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) [التين : ٥] ولأهل الكمال نرق في كمال الحسن إلى الأبد ، ولأهل النقصان تسفل في القبح إلى الأبد أيضا إظهارا للقدرة الكاملة غير المتناهية (وَهُوَ السَّمِيعُ) لحاجة كل ذي حاجة (الْعَلِيمُ) بما يستأهله كل موجود (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ

١٥٤

فِي الْأَرْضِ) وهم أهل الأهواء وأقلهم أهل الحق (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) في دعوى طلب الحق. فإن سبيل الحق لا يسلك بالهوى وإنما يسلك بالصدق والهدى. (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) فمن أمارات الإيمان أن يأكلوا الطعام بحكم الشرع لا على وفق الطبع ويذيبوه بذكر الله كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله «أذيبوا طعامكم بذكر الله» فالأكل على الغفلة والنسيان والاستعانة به على العصيان يورث موت الجنان والحرمان من الجنان. (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ) يا أهل الله (ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) وهو الدنيا وما فيها والآخرة ونعيمها (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) من ضروريات البشر في الدارين بأمر المولى لا بالطبع والهوى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) الذين جاوزوا المولى وركنوا إلى الدنيا والعقبى (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ) يعني الأعمال الطبيعية (وَباطِنَهُ) يعني الأخلاق ، الذميمة الردية (سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) لأن الأخلاق الظلمانية توجب صدأ مرآة القلب وتزيدها رينا إلى أن يصير حجابا بين العبد وبين الله تعالى : ولا تأكلوا طعاما إلا بأمر الله وعلى ذكر الله وفي طلب الله ليندفع بنور الذكر ظلمة الطعام وشهوته ، (وَإِنَّهُ) يعني ظلام الطعام يؤدي إلى الفسق الذي هو الخروج من النور الروحاني إلى الكلمة النّفسانية. (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ) فإن للشيطان مجالا في الوسوسة إذا كانت النفوس في المجادلة مع القلوب لتدعوها إلى متابعة الهوى الله حسبي.

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا

١٥٥

وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠))

القراآت : (مَيْتاً) بالتشديد : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب (رِسالَتَهُ) بالنصب والتوحيد : ابن كثير وحفص والمفضل. الباقون : (رِسالاتِهِ) على الجمع وبالكسر في موضع النصب (ضَيِّقاً) وبابه بالتخفيف : ابن كثير (حَرَجاً) بكسر الراء : أبو جعفر ونافع وسهل وأبو بكر وحماد. الباقون : بالفتح (يَصَّعَّدُ) من الصعود : ابن كثير يصاعد من التصاعد بإدغام التاء في الصاد : أبو بكر وحماد. الباقون : (يَصَّعَّدُ) بالإدغام من التصعد. (يَحْشُرُهُمْ) بياء الغيبة : حفص. الآخرون بالنون.

الوقوف : (بِخارِجٍ مِنْها) ط (يَعْمَلُونَ) ه (فِيها) ط (وَما يَشْعُرُونَ) ه (رُسُلُ اللهِ) ط (رِسالاتِهِ) ط (يَمْكُرُونَ) ه (لِلْإِسْلامِ) ج لابتداء شرط آخر مع العطف. (فِي السَّماءِ) ج (لا يُؤْمِنُونَ) ه (مُسْتَقِيماً) ط (يَذَّكَّرُونَ) ه (يَعْمَلُونَ) ه (جَمِيعاً) ج للحذف أي يحشرهم ويقول لهم مع اتحاد المقصود (مِنَ الْإِنْسِ) الأول ج لتبدل القائل مع اتفاق الجملتين (أَجَّلْتَ لَنا) ط قال النار يغلظ الصوت على النار إشارة إلى أن النار مبتدأ بعد القول وليست فاعله (شاءَ اللهُ) ط (عَلِيمٌ) ه (يَكْسِبُونَ) ه (يَوْمِكُمْ هذا) ط (كافِرِينَ) ه.

التفسير : إنه سبحانه بعد أن ذكر أن المشركين يجادلون المؤمنين ضرب مثلا للفريقين فبيّن أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا فجعله الله حيا وأعطاه نورا يهتدي به في مصالحه ، وأن الكافر بمنزلة من هو في الظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها فيكون متحيرا على الدوام ، وهل هما خاصان أو عامان فيه قولان : الأول قال ابن عباس : يريد حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل ؛ وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بفرث وحمزة لم يؤمن بعد ، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس ، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ويقول : يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا؟ فقال حمزة : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله ، أشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فأنزلت الآية. وعن مقاتل : نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي جهل ؛ وذلك أنه قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه. والله لا نؤمن به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت ، وعن عكرمة أنها نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل ، وعن الضحاك هي في عمر بن الخطاب وأبي جهل. والقول الثاني أنها عامة في كل مؤمن

١٥٦

وكافر لحصول المعنى في الكل. وإنما جعل الكفر موتا لأنه جهل والجهل يوجب الحيرة والوقفة فهو كالموت الذي يوجب السكون. وأيضا الميت لا يهتدي إلى شيء وكذلك الجاهل ، والهدى علم وبصيرة وهما يوجبان الفوز بالمطالب كالحياة والنور ، قال بعض العلماء : قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) إشارة إلى أول مراتب النفس الإنسانية وهي الاستعداد المحض المسماة بالعقل الهيولاني عند الحكيم. وقوله : (فَأَحْيَيْناهُ) إشارة إلى ثانية مراتبها المسماة بالعقل بالملكة وهي أن يحصل لها العلوم الكلية الأولية. وقوله (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً) إشارة إلى ثالثة المراتب وهي التي قد حصلت لها المعقولات المكتسبة ولكنها لا تكون حاضرة بالفعل بل تكون بحيث متى شاء صاحبها استرجاعها واستحضارها قدر عليه ولهذا يسمى عقلا بالفعل أي الفعل القريب ، وقوله : (يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) إشارة إلى رابعة المراتب وهي النهاية المسماة بالعقل المستفاد ، وقد حصلت المعارف القدسية والجلايا الروحانية للنفس حاضرة بالفعل وصار جوهر الروح مشرقا بتلك المعارف مستضيئا بها. ويمكن أن يقال : الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح ، والنور عبارة عن اتصال نور الوحي والتنزيل فإنه لا بد في الإبصار من أمرين : سلامة الحاسة والنور الخارجي من الشمس والسراج ، فكذلك البصيرة لا بد لها في الإدراك من سلامة حاسة العقل ومن طلوع نور الوحي فلهذا قال جمع من المفسرين : المراد بهذا النور القرآن ، ومنهم من قال : نور الدين أو نور الحكمة. والأقوال متقاربة ، وأما مثل الكافر فهو (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) وفيه أن ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت كالصفة اللازمة له لا تكاد تزول عنه فيبقى متحيرا خائفا فزعا نعوذ بالله من هذه الحالة. ومعنى المثل هاهنا الصفة الغريبة أي كمن صفته هذه والمراد كمن هو في الظلمات. ثم قال : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) والمزين هو الله بالتحقيق عند الأشاعرة. والشيطان بالحقيقة أو الله مجازا عند المعتزلة ، والإضافة إلى الله بالحقيقة أو المجاز أولى بدليل قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا) أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها كذلك جعلنا ، أو وكما زينا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ) وهي جمع الأكبر و (مُجْرِمِيها) مضاف إليه والظرف مفعول ثان قدم ليعود الضمير إلى القرية. وقيل : التقدير جعلنا مجرميها أكابر. قال الزجاج : إنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل رياستهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم ، ولأن كثرة المال وقوّة الجاه تحمل الناس على المبالغة في حفظهما وذلك لا يتم إلا باستعمال بعض الأخلاق الذميمة من المكر والغدر والكذب والغيبة والنميمة والشح والأيمان الكاذبة وكفى بهذه الأمور دليلا على خساسة المال والجاه. واللام في (لِيَمْكُرُوا) على أصله عند الأشاعرة ، واستدلوا به على أن الشر بإرادة الله تعالى. وحمله

١٥٧

المعتزلة على لام العاقبة مجازا كما حملوا الجعل في قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا) على التخلية والخذلان. ثم قال في معرض التهديد (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) لأن وباله يعود عليهم (وَما يَشْعُرُونَ) وفيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقديم موعد بالنصرة ، ثم إنه سبحانه حكى قول أبي جهل وأضرابه «زاحمنا بني عبد مناف في الشرف إلى آخره» وقول الوليد بن المغيرة «لو كانت النبوّة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا» فقال : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ) أي معجزة قاهرة أو وحي. (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) قال الضحاك : أراد كل واحد منهم ذلك كما في الآية الأخرى : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) [المدثر : ٥٢] ويشبه أن يكون هذا الكلام الخبيث هو المراد بالمكر المذكور في الآية المتقدمة ، وللمفسرين في مقترحهم قولان : أحدهما ـ وهو الأشهر ـ أنهم أرادوا أن تحصل لهم النبوّة والرسالة كما حصلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن يكونوا متبوعين لا تابعين ومخدومين لا خادمين. وثانيهما عن ابن عباس والحسن أن المعنى وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] إلى قوله : (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣] من الله تعالى إلى أبي جهل وفلان وفلان فالقوم ما طلبوا النبوّة وإنما طلبوا آيات قاهرة ومعجزات ظاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين تدل على صحة نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقوله سبحانه في جوابهم على سبيل الاستئناف (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) على القول الأول ظاهر ، وأما على القول الثاني فوجهه أن القوم إذا اقترحوا تلك الآيات فلو أظهر الله تعالى تلك المعجزات على وفق التماسهم لكانوا قد قربوا من منصب الرسالة. قال بعض العقلاء : الأرواح متساوية في تمام الماهية فحصول النبوّة والرسالة لبعضها دون بعض تشريف من الله تعالى وإحسان وتفضل. وقال آخرون : بل النفوس مختلفة بجواهرها وماهياتها فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيات مشرقة بالأنوار الإلهية مستعلية منورة ، وبعضها خبيثة كدرة محبة للجسمانيات ، فالنفس ما لم تكن من القسم الأول لم تصلح لقبول الوحي والرسالة. ومراتب الرسل مختلفة فمنهم ذو معجزة واحدة وذو معجزتين أو أكثر ، ومنهم من له تبع قليل ومنهم من آمن به جم غفير ، ومنهم من كان الرفق غالبا عليه ومنهم من كان مدار أمره على التغليظ والتشديد. وفي الآية تعريض بأن حصول النبوّة والرسالة لا بد فيه من قلب سليم ، والمقترحون فيهم من المكر والحسد ما فيهم فكيف يعقل حصول الرسالة لهم وإنما يحصل لهم ما يناسب أخلاقهم وأحوالهم ولهذا قال تعالى : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ) ذل وهوان (عِنْدَ اللهِ) أي في الآخرة أو في الدنيا

١٥٨

بحكم الله وإيجابه من الأسر والقتل. أو المراد من عند الله فحذف «من». أو قوله : (عِنْدَ اللهِ) مستأنف أي معدّ لهم ذلك ، واعلم أن كمال العقاب لا بد فيه من أمرين : الضرر ، والإهانة. ثم إن القوم لما تردوا عن طاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله طلبا للعز والكرامة فالله تعالى بيّن أنه يقابلهم بضد مقصودهم ، فأول ما يوصل إليهم الذل والهوان وبعده عذاب شديد جميع ذلك بسبب مكرهم ونكرهم (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) يقال : شرح فلان أمره ، إذا أظهره وأوضحه ومنه شرح المسألة إذا بينها. وقال الليث : شرح الله صدره فانشرح أي وسعه لقبول ذلك الأثر. ولا شك أن توسيع الصدر غير ممكن على سبيل الحقيقة ولكن هاهنا معنى وهو أنه إذا اعتقد الإنسان في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح مال طبعه إليه وقوي طلبه ورغبته في حصوله وظهر في القلب استعداد شديد لتحصيله فسميت هذه الحالة سعة الصدر ، وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أو ظن يكون ذلك العمل مشتملا على ضرر زائد ومفسدة راجحة دعاه ذلك إلى تركه وحصل في النفس نبوّة عن قبوله فيقال لهذه الحال ضيق الصدر ، لأن المكان إذا كان ضيقا لم يتمكن الداخل من الدخول فيه ، وإذا كان واسعا قدر على الدخول فيه. وأكثر استعمال شرح الصدر في جانب الحق والإسلام وقد ورد في الكفر أيضا قال تعالى : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) [النحل : ١٠٦]. قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل له : كيف يشرح الله صدره؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يقذف الله تعالى فيه نورا حتى ينفسخ وينشرح ، فقيل له : وهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله» وهذا البيان مناسب لما ذكرنا فإن الإنابة إلى دار الخلود لا بد أن تترتب على اعتقاد أن عمل الآخرة زائد النفع والخير ، والتجافي عن دار الغرور إنما ينبعث عن اعتقاد كون عمل الدنيا زائد الضر والضير ، والاستعداد للموت قبل نزوله نتيجة مجموع الأمرين الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. أما قوله : (حَرَجاً) فمن قرأ بكسر الراء فعلى النعت ، ومن قرأ بالفتح فعلى الوصف بالمصدر للمبالغة. قال الزجاج : الحرج في اللغة أضيق الضيق. وقيل : الحرج بالفتح جمع حرجة وهو الموضع الكثير الأشجار الذي لا تناله الراعية. حكى الواحدي بإسناده عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وقال : هل هاهنا أحد من بني بكر؟ قال رجل : نعم. قال : ما الحرجة فيكم؟ قال : الوادي الكثير الأشجار المشتبك الذي لا طريق فيه. فقال : كذلك قلب الكافر. ومعنى : (يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) كأنما يزاول أمرا غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد عن الاستطاعة فكأن الكافر في نفوره من الإسلام وثقله عليه بمنزلة من يتكلف

١٥٩

الصعود إلى السماء. وقيل : المراد أن قلبه يتباعد عن الإسلام وقبوله تباعد ما بين الأرض والسماء. (كَذلِكَ يَجْعَلُ) أي كما جعل ضيق الصدر في قلوبهم كذلك يجعل الرجس عليهم. وقال الزجاج : أي مثل ما قصصنا عليك يجعل الله الرجس. عن ابن عباس هو الشيطان يسلطه الله عليهم. وقال مجاهد : الرجس ما لا خير فيه. وعن عطاء : الرجس هو العذاب. وقال الزجاج : هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة. قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أن الهداية والضلال من الله تعالى ؛ بيانه أن العبد قادر على الإيمان وعلى الكفر وقدرته بالنسبة إلى الأمرين سواء ولا يترجح إلا لداعية ، ولا معنى للداعية إلا علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملا على مصلحة زائدة ، ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل ، ولا بد أن تنتهي تلك الداعية إلى تخليق الله وتكوينه دفعا للتسلسل فإذا خلق الله تعالى في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة ـ وهو المراد بشرح الصدر ـ مال القلب إليه ، وإذا خلق في قلبه اعتقاد أن الإيمان بمحمد سبب للمفسدة الدينية والدنيوية نبا طبعه عنه وبقي على الكفر. فحاصل الآية أن من أراد الله منه الإيمان قوى دواعيه إليه ، ومن أراد منه الكفر قوى صوارفه عن الإيمان. وقالت المعتزلة : إنه لا دلالة في الآية على قولكم لأنه ليس فيها أكثر من أنه إذا أراد أن يهدي إنسانا أو يضله فعل به كيت وكيت ، وليس فيها أنه أراد ذلك أو لم يرده نظيره قوله : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) [الأنبياء : ١٧] فبيّن أنه كيف يفعل اللهو لو أراده ، ثمّ إنه لم يرد ذلك بالاتفاق وأيضا لم قلتم إنه أراد ومن يرد أن يضله عن الإيمان بل المراد من يرد الله أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنة يشرح صدره للإسلام حتى يثبت عليه ، وتفسير الشرح هو أنه يفعل به ألطافا تدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه. ومن يرد أن يضله عن طريق الجنة فعند ذلك يلقي في صدره الضيق والحرج لا في كل الأوقات بل في بعضها كيلا يمكن دفعه وخصوصا عند ظهور نصرة المؤمنين وبدوّ الذل والصغار في الكافرين. وأيضا لم لا يجوز أن يقال : المعنى فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنة يشرح صدره للإسلام في ذلك الوقت الذي يهديه فيه إلى الجنة لما رأى من فوائد الإيمان ونتائجه من الدرجات العالية والمراتب الشريفة فتزداد رغبته فيه ، ومن يرد أن يضله يوم القيامة عن طريق الجنة ففي ذلك الوقت يضيق صدره للحزن الشديد الذي ناله عند الحرمان من الجنّة والدخول في النار؟ وقال في الكشاف : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف (يَشْرَحْ صَدْرَهُ) للإسلام يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحب الدخول فيه (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) أي يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) يمنعه ألطافه حتى

١٦٠