تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

الوجود (تَوَفَّتْهُ) رسل صفات قهرنا وهم لا يقصرون في إفناء الأوصاف (ثُمَّ رُدُّوا) إلى البقاء بالله (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ) بر الأجسام وبحر الأرواح فإن عالم الأرواح بالنسبة إلى عالم الألوهية ظلمانية. (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً) بالجسم (وَخُفْيَةً) بالروح (وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) آفة وفتنة (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) حين يتجلى لكم نور من أنوار صفاته ، فبعضكم يقول : أنا الحق وبعضكم يقول : سبحاني ما أعظم شأني (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) بسدل حجاب العزة والغيرة بينه وبينكم (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) حجابا من أوصاف بشريتكم باستيلاء الهوى عليكم (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) بجعل الخلق فيكم فرقا. فمن قائل هم الصديقون ، ومن قائل هم الزنديقون (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) بالقتل والصلب وقطع الأطراف (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ) آيات المعارف للسائرين إلى الله (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) لشرائط السير ولا يفقهون في مقام دون الفناء عن كلية الوجود بالبقاء بشهود المعبود (وَكَذَّبَ) بهذا المقام (قَوْمُكَ) المنكرون (وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) لا أسلك طريق هذا المقام بوكالتكم لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى كما قال (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) أي لكل سائر وواقف مستقر من درجات القرب أو دركات البعد (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ) في أحوال الرجال ولا حظ لهم منها (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تجالسهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ) غير تلك الطامات التي هي ريح في شبح. (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) لأن همهم من لبس الخرقة والتزيي بزي الطالبين إنما هو الدنيا وقبول الحق (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ) أي كراهة أن يبطل استعدادها بالكلية (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) بمقامات الرجال من الوصول والوصال (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أنطلب غير الله الذي هو النافع الضار. والنفع الحقيقي هو الفوز بالوصول إليه ، والضر الحقيقي هو الانقطاع عنه. (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) إلى مقام الاثنينية التي كنا فيها بعد أن هدانا الله إلى الوحدة كالذي أضلته شياطين الجن والإنس في أرض البشرية باتباع الهوى (حَيْرانَ) من إغوائهم. (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ) بترك الوجود كالكرة في ميدان القدرة مستسلما لصولجان القضاء (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) بمحافظة الأسرار عن الأغيار والاتقاء به عن غيره ليحشر إليه لا إلى الجنة أو النار كما قال : ألا من طلبني وجدني. (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي لإظهار صفاته ، فجعل المخلوقات مرآة لجماله وجلاله وإذا أراد أن يرى عبدا من عباده تلك الصفات يقول له : كن رائيا فيكون ، ولن يصير رائيا بمجرد سعيه لأن قوله في حق الإنسان كن رائيا هو الحق وله ملك الإراءة وملك الرؤية ، ينفخ الإراءة في صور القلب (وَهُوَ الْحَكِيمُ) فيما اختص الإنسان بإراءة الآيات (الْخَبِيرُ) بمن يخصه من بين الناس بالإراءة.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ

١٠١

لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣))

القراآت : (إِنِّي أَراكَ) بفتح الياء : أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر ونافع (لِأَبِيهِ آزَرَ) بالضم على النداء : يعقوب (رَأى كَوْكَباً) بإمالة الهمزة : أبو عمرو غير عباس والنجاري عن ورش. وكذلك (رَآهُ) و (رَآكَ) وقرأ حمزة وعلي وخلف ويحيى وعباس وهبيرة من طريق الخراز بكسر الراء والهمزة. وافق ابن ذكوان في (رَأى) فقط وخالفهم فيما اتصلت بالكاف والهاء في سورة النجم. وافق ابن مجاهد والنقاش بالإمالة وكسر الراء في سورة «اقرأ باسم» (رَأَى الْقَمَرَ) و (رَأَى الشَّمْسَ) ونحوهما بكسر الراء وفتح الهمزة : حمزة وخلف ونصر وعباس ويحي والخراز. وروى خلف عن يحي بكسر الراء والهمزة (أَتُحاجُّونِّي) بتخفيف النون : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان. الباقون : بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية (وَقَدْ هَدانِ) بالإمالة : علي. وقرأ سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل بالياء في الحالين ، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل. (دَرَجاتٍ) بالتنوين : عاصم وحمزة وعلي وخلف ويعقوب.

الوقوف : (آلِهَةً) ج للابتداء بأن مع اتحاد القول. (مُبِينٍ) ه (الْمُوقِنِينَ) ه (رَأى كَوْكَباً) ج لأن جواب «لما» قوله «رأى» مع اتحاد الكلام بلا عطف (رَبِّي) ج لأن جواب «لما» منتظر مع فاء التعقيب فيها. (الْآفِلِينَ) ه (هذا رَبِّي) ج لذلك (الضَّالِّينَ) ه (هذا أَكْبَرُ) ج لذلك يشركون ه (الْمُشْرِكِينَ) ج لاحتمال الواو الحال أي وقد حاجه. (قَوْمُهُ) ط (هَدانِ) ط لانتهاء الاستفهام (شَيْئاً) ط (عِلْماً) ط (تَتَذَكَّرُونَ) ه (سُلْطاناً) ط للاستفهام بعد تمام الاستفهام (بِالْأَمْنِ) ج لأن جواب «إن» منتظر محذوف التقدير : إن كنتم تعلمون فأجيبوا مع اتحاد الكلام (الْمُشْرِكِينَ) ه لتناهي الاستفهام وابتداء إخبار ، ولو وصل اتصل بما قبله يهتدون ه (عَلى قَوْمِهِ) ط (مَنْ نَشاءُ) ط (عَلِيمٌ) ه.

١٠٢

التفسير : إنه سبحانه كثيرا ما يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم صلوات الرحمن عليه لأنه يعرف بالفضل والتقدم عند جميع الطوائف ، وذلك أنه سلم قلبه للرحمن ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان. ثم إن بظاهر الآية يدل على أن اسم والد ابراهيم هو آزر ، ومنهم من قال : اسمه تارح. قال الزجاج : لا خلاف بين النسابين أن اسمه تارح ، فمن الملحدة من طعن في هذا النسب لهذا السبب. والجواب أن إجماع النسابة لا عبرة به لأن ذلك ينتهي إلى قول الواحد أو الأثنين ـ مثل وهب وكعب ـ أو غيرهما. سلمنا أن اسمه كان «تارح» لكنه من المحتمل أن يكون أحدهما لقبا والآخر اسما أصليا ، أو يكون آزر صفة مخصوصة في لغتهم كالمخطىء والمخذول. وقيل : إن آزر هو الشيخ الهرم بالخوارزمية وهذا عند من يجوز اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة من غير لغة العرب. وقيل : إن آزر اسم صنم يجوز أن ينبز به للزومه عبادته ، فإن من بالغ في محبة واحد فقد يجعل اسم المحبوب اسما للمحب قال تعالى (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١] وقال الشاعر :

أدعى بأسماء نبزا في قبائلها

كأن أسماء أضحت بعض أسمائي.

أو أريد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل : إن والد إبراهيم كان تارح وكان آزر عما له والعم قد يطلق عليه اسم الأب بدليل قوله (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة : ١٣٣] ومعلوم أن إسماعيل كان عما ليعقوب. ومما يدل على صحة ظاهر الآية أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا حراصا متهالكين على تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإظهار نقصه ، فلو كان النسب كذبا لامتنع في العادة سكوتهم عن تكذيبه ، وحيث لم يكذبوه علمنا أن النسب صحيح ، قالت المعتزلة ومن يجري مجراهم : إن أحدا من آباء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان كافرا وفسروا قوله (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء : ٢١٩] بانتقاله من ساجد إلى ساجد وأكدوه بما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لم أزل أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» وإن آزر كان عم إبراهيم وما كان والدا له لأن إبراهيم شافهه بالغلظة والجفاء في قوله : (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وقد قال تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) [الإسراء : ٢٣] ولأنه ناداه بالاسم في قراءة من قرأ «آزر» بالضم. والنداء بالاسم دليل الاستخفاف ولهذا لم يقرأ بالضم في قوله (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي) [الأعراف : ١٤٢] وأجيب بأن قوله (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء : ٢١٩] يحتمل وجوها أخرى سوف يجيء ذكرها ، وبأن قوله «لم أزل أنتقل» محمول على أنه لم يقع في نسبه ما كان سفاحا. والتغليظ من إبراهيم إنما كان لأجل إصرار

١٠٣

أبيه على الكفر كما قال (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة : ١١٤] لا لأجل السفه والجفاء لقوله (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) [هود : ٧٥] ثم إن إبراهيم احتج على فساد اعتقاد عبدة الأصنام بقوله منكرا على آزر وقومه (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) أي معبودين. وذلك أن الأصنام لو كان لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافيا فلما لم يكن الواحد كافيا دل ذلك على عجزها وإن كثرت ، واحتج بعضهم بالآية على وجوب معرفة الله تعالى ، وعلى أن وجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع لأن إبراهيم حكم عليهم بالضلال من حيث النظر والاستدلال ، وأجيب بأنه لعله عرف ضلالهم بحكم شرع الأنبياء المتقدمين عليه (وَكَذلِكَ) أي مثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام والاشتغال بغير الله (نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والنكتة فيه أن التخلي عن غير الله يوجب رفع الحجاب وبقدر ذلك يكون حصول التجلي والتحلي بالله وإنما لم يقل «أريناه» بلفظ الماضي لأنه أراد الحكاية كأنه قيل : كيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ في قوة الدين والذب عنه؟ فأجيب أنا كنا نريه الملكوت وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه ، أو المقصود بيان ارتفاعه في معارج الكمال وازدياده في ذلك على سبيل الدوام والاستمرار فإن مخلوقاته تعالى وإن كانت متناهية في الذات وفي الصفات إلا أن جهات دلالاتها على ذاته وصفاته سبحانه غير متناهية كما قال إمام الحرمين : معلومات الله غير متناهية ، ومعلوماته في تلك المعلومات أيضا غير متناهية. فإن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل ، ويمكن اتصافه بصفات لا نهاية لها على البدل ، فكل تلك الأحوال التقديرية معلومة لله تعالى ، وكل تلك الأحوال دالة على حكمة الله تعالى وعظمة قدرته ، وإذا كان الجوهر الفرد كذلك فكيف كل الملكوت! ولهذا قيل : السفر إلى الله تعالى له نهاية ، فأما السفر في الله سبحانه فإنه بلا نهاية. والملكوت هو الملك والتاء للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت ومن الرهبة. قال بعضهم : إنه سبحانه أراه الملكوت بالعين. قالوا : شق له السموات حتى رأى العرش والكرسي إلى منتهى الأجرام العلوية ، وشق له الأرض إلى ما تحت الثرى فرأى ما فيها من البدائع والعجائب. عن ابن عباس أنه قال : لما أري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وأري ما فيها وما في الأرض من العجائب رأى عبدا على فاحشة فدعا عليه وعلى آخر بالهلاك ، فقال الله تعالى له : كف عن عبادي فهم بين خلال ثلاث : إما أن أجعل منهم ذرية طيبة ، أو يتوبون فأغفر لهم ، أو النار من ورائهم. وقال الأكثرون : إن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة ، لأن ملك السموات والأرض لا يرى وإنما يعرف بالعقل ولو أريد نفس السموات والأرض صار لفظ الملكوت ضائعا. وأيضا قوله (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) جار مجرى الشرح والتفسير لتلك الإراءة فثبت أنه استدل بتغير الأجرام وإمكانها

١٠٤

وحدوثها على وجود الإله الواجب الحكيم. ثم قال بالآخرة (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه. وأيضا الإراءة بالعين تفيد العلم الضروري بالإله القادر ومثل هذه المعرفة لا توجب المدح والثواب كما للكفار في الآخرة. وأيضا اليقين عبارة عن تحصيل علم بالتأمل إذا كان مسبوقا بالشك ، فالمراد نري إبراهيم ليستدل بها وليكون من الموقنين ، أو ليكون من الموقنين نريه ، أو فعلنا ذلك وذلك أن الإراءة قد تصير سببا للجحود لا الإيقان كما في حق فرعون (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) [طه : ٥٦] وأيضا الإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال ، وبتقدير الإمكان لا يكون لها دوام وبقاء ، وبتقدير البقاء تكون شاغلة للرائي عن الله. أما إذا نظر بعين البصيرة في المخلوقات وعرف حدوثها وإمكانها ، وعرف أن كل ممكن يحتاج إلى الصانع الحق الواجب فكأنه بهاتين المقدمتين قد طالع صفحة الملكوت بعين عقله وسمع بأذن قلبه شهادتها بالاحتياج والانقياد لله ، وهذه الرؤية باقية غير زائلة ولا شاغلة عن الله بل هي شاغلة للقلب والروح بالله. وهذه الرؤية وإن كانت حاصلة لجميع الموحدين لقوله (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣] إلا أن الاطلاع على تفاصيل آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذه العوالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وعوارضها ولواحقها كما هي ، لا تحصل إلا لأكابر الأنبياء ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه «أرني الأشياء كما هي» ثم إن الإنسان في أول استدلاله لا ينفك قلبه عن اختلاج شبهة فيه ، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت كان لكل واحد منها نوع تأثير وقوة ، ويكون جاريا مجرى تكرار الدرس الواحد وتزداد النفس بكل منها نورا وإشراقا وانبساطا إلى أن يحصل الجزم ويكمل الإيقان وتطلع شمس العلم والعرفان إلى حيث أتيح لها من الارتقاء والتصاعد وذلك قوله (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) قال في الكشاف : إنه معطوف على قوله (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) وقوله (وَكَذلِكَ نُرِي) جملة وقعت اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه. يقال : جن عليه الليل وأجنه الليل. والتركيب يدور على الستر ومنه الجنة والجن والمجنون والجنين. وقيل : جن عليه الليل أي أظلم عليه ولأجل هذا التضمين عدي بـ «على». وأما «أجنة» فمعناه ستره من غير تضمين معنى أظلم. واعلم أن كثيرا من المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه ، فأمر بذبح كل غلام يولد فحملت أم إبراهيم عليه‌السلام به وما أظهرت حملها للناس ، فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر فجاء جبريل عليه‌السلام فوضع أصبعه في فيه فمصه فخرج منه رزقه ، وكان يتعهده جبريل عليه‌السلام وكانت الأم تأتيه أحيانا وترضعه. وبقي في الغار حتى كبر وعرف أن له ربا فسأل الأم فقال لها : من ربي؟ فقالت :

١٠٥

أنا. فقال : من ربك؟ فقالت : أبوك. فقال لأبيه : من ربك؟ فقال : ملك البلد. فعرف إبراهيم جهلهما بربهما. فنظر من باب ذلك الغار ليرى ما يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي كان أصغر النجوم في السماء فقال : هذا ربي إلى آخر القصة. ثم منهم من قال : كان هذا بعد البلوغ وأوان التكليف ، ومنهم من قال : كان هذا قبل البلوغ. وأكثر المحققين على فساد هذا القول لوجوه منها : أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر لا يجوز على الأنبياء بالاتفاق. ومنها أن إبراهيم كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة لأن الله تعالى أخبر عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد بالرفق مرارا بقوله (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) [مريم : ٤٢] الآيات. وفي هذا الموضع دعا أباه إلى التوحيد بالكلام الخشن ، والدعوة بالرفق مقدمة على الدعوة بالخشونة والغلظة. ومنها أن هذه الواقعة كانت بعد أن أراه ملكوت السموات والأرض بدليل فاء التعقيب في قوله (فَلَمَّا جَنَ) ومنها أنه تعالى وصفه بقوله (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات : ٨٤] ومدحه بقوله (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) [الأنبياء : ٥] أي من أول زمان الفطرة. ومنها قوله عقيب هذه القصة (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) ولم يقل «على نفسه». ومنها أنه قال بعد القصة (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم. ومنها قوله (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) وفيه دليل على أنه إنما اشتغل بالنظر في الكواكب بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فقال (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ردا عليهم وتنبيها على فساد قولهم ، ويؤكده قوله (كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) لأنه يدل على أنهم كانوا قد خوفوه بالأصنام كما في قصة هود (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤] ومنها أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار ، وكان ينبغي أن يستدل أوّلا بغروب الشمس على عدم إلهيتها ثم يبطل إلهية القمر وسائر الكواكب بالطريق الأولى ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن المقصود إلزام القوم وإفحامهم. والابتداء بأفول الكوكب لأنه اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم ، ثم امتدت المناظرة الى أن طلعت الشمس. ثم هاهنا احتمالان : الأول أن يقال إن هذا كلام إبراهيم بعد البلوغ ولكنه ذكره بلفظهم حتى يرجع إليه فيبطله ، مثاله : أن يقول في مناظرة من يزعم قدم الجسم : الجسم قديم فإن كان كذلك فلم نشاهده ونراه متركبا متغيرا. فقولك «الجسم قديم» إعادة لكلام الخصم لإلزام الحجة عليه ، أو المراد هذا ربي في زعمكم واعتقادكم كقول الموحد للجسم : الإله جسم محدود أي في زعمه واعتقاده. قال تعالى (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) [القصص : ٦٢] وقال (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] أي عند نفسك. وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : يا إله الآلهة في زعمهم. أو المراد منه

١٠٦

لاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام لدلالة الكلام ، أو أضمر القول أي يقولون هذا ربي وإضمار القول كثير (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا) [البقرة : ١٢٧] أي يقولان ربنا (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ) [الزمر : ٣] أي يقولون : ما نعبدهم (إِلَّا لِيُقَرِّبُونا) [الزمر : ٣] أو ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء ، أو أنه عليه‌السلام قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة لم يقبلوا قوله فمال إلى الاستدراج وذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم مع أن إبراهيم كان مطمئنا بالإيمان فكان بمنزلة المكره على كلمة الكفر حيث لم يجد إلى الدعوة المأمور بها طريقا سوى ذلك. وإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة تعود إلى شخص واحد لقوله تعالى (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦] فلأن يجوز ذكرها لتخليص جم غفير من الكفر والعقاب الأبدي أولى. قالت العلماء : إن المكره على ترك الصلاة لو صلى حتى قتل استحق الأجر. ثم إذا جاء وقت القتال مع الكفار وعلم أنه لو اشتغل بالصلاة انهزم عسكر الإسلام فههنا يجب عليه ترك الصلاة والاشتغال بالقتال حتى لو صلى وترك القتال أثم. وإن من كان في الصلاة فرأى طفلا أو أعمى أشرف على غرق أو حرق وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذهما ومثل هذه الواقعة قوله (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٨] وذلك أنهم كانوا يستدلون بعلم النجوم على الحوادث المستقبلة فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظاهر مع إنه كان بريئا عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام. قال المتكلمون : إنه يصح من الله تعالى إظهار خوارق العادات على يد من يدعي الإلهية ، لأن صورة هذا المدعي وشكله يدل على كذبه فلا يروج التلبيس ولكنه لا يجوز إظهارها على يد من يدعي النبوّة كاذبا لأن التلبيس يروج حينئذ فكذا هاهنا قوله (هذا رَبِّي) لا يوجب الضلال لأن دلائل بطلانه جلية وفي ذلك استدراج لهم لقبول الدليل فكان جائزا. الاحتمال الثاني : أنه ذكر ذلك قبل البلوغ فلعله خطر بباله لشدة ذكائه قبل بلوغه إثبات الصانع سبحانه فتفكر فرأى النجم فقال (هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ثم إنه تعالى أكمل بلوغه في أثناء هذا الفكر فقال عند أفول الشمس (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) واعلم أن القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه‌السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل يربيه محتملة في الجملة ، لأن الإرهاص ـ وهو تقديم المعجز على وقت الدعوى ـ جائز عندنا. ولم يجوّزه القاضي إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله تعالى فتكون تلك الخوارق معجزة لذلك الرسول. قال في الكشاف : فإن قلت : لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب. وأنا أقول : الاحتجاج بالبزوغ في

١٠٧

الآية لا يصح لأنه تعالى بين أنه نظر إلى الكوكب وقت كونه طالعا لا حين بزوغه ليلزم مشاهدة التغير والانتقال ، وكذا إلى القمر وإلى الشمس دليله أنه لم يقل رأى القمر يبزغ بل بازغا. ولو سلم فإن أحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص والأوساط والعوام ، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان فكل ممكن محتاج والمحتاج لا يجوز أن يكون منقطع الحاجات فلا بد من الانتهاء إلى الواجب بالذات. وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة ، فكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم. وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب ، فكل كوكب يغرب فإنه يزول نوره ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن كان كذلك فإنه لا يصلح للإلهية ، أقصى ما في الباب أن يقال : إن لها تأثيرات في أحوال العالم السفلى ، ولكن تلك التأثيرات لما لم تكن لها بذاتها لزم استناد الكل إلى الواجب سبحانه وهو الإله الأعظم القادر على خلق السموات والنجوم النيرات ، فيجب ان يكون قادرا على خلق البشر وعلى تدبير السفليات بالطريق الأولى فلا يلزم من وضع الواسطة رفع المبدإ بحال ، ويعلم من قوله (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أنه تعالى ليس بجسم وإلا كان غائبا عنا فكان آفلا ، وإنه لا يصح عليه المجيء والذهاب والنزول والصعود ولا الصفات المحدثة. وفيه أن معارف الأنبياء استدلالية لا ضرورية وأنه لا سبيل إلى معرفته تعالى إلا النظر والاستدلال. أما قوله (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً) يقال بزغ القمر أو الشمس إذا ابتدأ بالطلوع. وأصل البزغ الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقا قاله الأزهري. وفي قوله (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) إشارة إلى أن الهداية ليست إلا من الله تعالى. والمعتزلة حملوها على التمكين وإزاحة الأعذار ونصب الدلائل ، وزيف بأن كل ذلك كان حاصلا فالهداية التي كان يطلبها بعد ذلك لا بد أن تكون زائدة عليها (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) أراد هذا الطالع أو هذا المرئي ، أو ذكر بتأويل الضياء والنور ، أو باعتبار الخبر وهو رب مع رعاية الأدب وهو ترك التأنيث عند اللفظ الدال على الربوبية كما لم يقولوا في صفة الله علامة وإن كانت بتاء مبالغة (هذا أَكْبَرُ) أي أكبر الكواكب جرما ونورا ، وقد برهن في الهيئة على أنها مائة وستة وستون مثلا لكرة الأرض كلها. وإنما لم يقتصر على ذكر الشمس أوّلا مع أنه يلزم منه عدم ربوبية ما دونها من القمر والكواكب ، لأنه أراد الأخذ من الأدون إلى الأعلى لمزيد التقرير والتصوير (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) قيل : لا يلزم من نفي ربوبية النجوم نفي الشريك مطلقا. والجواب أن القوم لم ينازعوه إلا في الصور المذكورة ، فلما أثبت أنها ليست أربابا ثبت بالاتفاق نفي الشركاء على الإطلاق. ومعنى (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ) وجهت عبادتي لأجله فإن من كان مطيعا لغيره منقادا لأمره فإنه يوجه وجهه إليه ، فجعل توجيه الوجه إليه كناية عن الطاعة. وأصل الفطر الشق يقال : تفطر الشجر بالورق والورد إذا

١٠٨

أظهرهما ، والحنيف المائل عن كل معبود سوى الله تعالى. قال أبو العالية : الذي يستقبل البيت في صلاته.

ثم إن قومه حاجوه متمسكين بالتقليد تارة كقولهم (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف : ٢٢] وكقولهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥] ومخوّفين إياه بالأصنام أخرى فأجابهم بقوله (أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) أي لما ثبت بالدليل الموجب للهداية صحة قولي فكيف ألتفت إلى حجتكم الواهية؟ (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر (إِلَّا أَنْ يَشاءَ) إلا وقت مشيئة (رَبِّي) شيئا يخاف. فحذف المضاف أي إلا إن أذنبت فيشاء إنزال العقوبة بي ، أو إلا أن يريد ابتلائي بمحنة ، أو إلا أن يمكن بعض تلك الأصنام من ضري مثل أن يرجمني بكوكب ، أو كان قد أودع فيها طلسم فيصيبني مكروه من جهته بإذن الله تعالى ، وفائدة الاستثناء أنه لو حدث به شيء من المكاره في الأيام المستقبلة لم يحمله الحمقى والجهلة على قدرة الأصنام (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فلا يفعل إلا الخير والصلاح (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أن نفي الأنداد عن رب الأرباب لا يوجب حلول العقاب ونزول العذاب ، وأن الصحيح لا يساوي الفاسد ، والعاجز لا يساوي القادر؟ ثم أكد ذلك بقوله (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) إذ لا سلطان فينزل. وقيل : إنه لا يمتنع عقلا أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للصلاة والدعاء ، ولكنه لم يؤمر به. والمعنى ما لكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم إلا من في موضع الخوف؟ ثم قال (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) يعني فريقي المشركين والموحدين. ولم يقل «فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم» اجتنابا عن تزكية نفسه. والغرض إني أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله (الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، والمعنى أن الذي حصل لهم الأمن المطلق هم المستجمعون لكمال القوة النظرية وسنامه الإيمان ، ولكمال القوة العلمية وهو وضع الأشياء في موضعها وإليه الإشارة بقوله (وَلَمْ يَلْبِسُوا) أي لم يخلطوا إيمانهم (بِظُلْمٍ). قالت الأشاعرة : شرط في الإيمان الموجب للأمن عدم الظلم ، ولو كان ترك الظلم داخلا في الإيمان لم يكن لهذا التقييد فائدة فثبت أن الفاسق مؤمن. وقالت المعتزلة : شرط في حصول الأمن حصول الأمرين : الإيمان وعدم الظلم. فوجب أن لا يحصل إلا من للفاسق وذلك يوجب حصول الوعيد له أبدا. وأجيب بأن الظلم هاهنا الشرك لقوله (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] واجتماعه مع الإقرار بالصانع ممكن وحينئذ يصح إطلاق اللبس بمعنى الخلط ويكون المراد : الذين آمنوا بالله ولم يثبتوا له شريكا في

١٠٩

المعبودية ، ويؤيده أن القصة وردت في نفي الأضداد والأنداد. وأيضا لا يلزم من عدم الأمن المطلق حصول القطع بالعذاب الأبدي. واعلم أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للذم والإنكار كمحاجة قوم إبراهيم ، وتارة تكون موجبة للمدح وذلك إذا كان الغرض تقريرا لدين الحق والمذهب الصدق كمحاجة إبراهيم من قوله (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) إلى هاهنا وإليها الإشارة بقوله (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) أرشدناه إليها ووفقناه لها (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) من قرأ بالإضافة فظاهر لأنه رفع يتعدى إلى واحد ، ومن قرأ بالتنوين فيكون كقوله (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [البقرة : ٢٥٣] وقد تقدم في البقرة ، واختلف في تلك الدرجات فقيل : أعماله في الآخرة ، وقيل : تلك الحجج درجات رفيعة لأنها تقتضي ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعلى العالم الروحاني ، وقيل : نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة ، وفي الآخرة بالجنة والثواب. أو نرفع درجات من نشاء بالحكمة والعلم (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فيرفع الدرجات بمقتضى الحكمة والعلم لا لموجب التشهي والشهوة.

التأويل : رأى إبراهيم ملكوت الأشياء أي بواطنها ليكون من الموقنين عند كشفها كما كان موقنا عند كشف الضلال المودع في آزر وقومه (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ) ظلمة ليل البشرية أمطر سحاب العناية غيث الهداية على أرض قلبه فأنبت بذر الخلة المودعة في ملكوت قلبه ، فرأى نور الرشد في صورة الكوكب طالعا من أفق سماء روحانيته فقال : (هذا رَبِّي) أراد به سره المكوكب لا الكوكب وإن لم يشعر به نفسه كما قيل :

هوى فؤادي ولم يعلم به بدني

فالجسم في غربة والروح في وطن

فإن كذبت النفس فيما قالت للكوكب «هذا ربي» ما كذب الفؤاد ما رأى من الكوكب. فقال (هذا رَبِّي) فلما احتجب كوكب نور الرشد بغلبات صفات الخلقية عند رجوعه إلى أوصافه ووافقه كوكب السماء بالغروب قال سره (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) فلما اتسع انفتاح روزنة القلب إلى الملكوت بقدر القمر تجلى له نور الربوبية في مرآة القمر (قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ) عند رجوعه إلى أوصافه ازداد الشوق قال إن (لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) برفع حجب الأوصاف ويبقني على وجود الخليقة (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) عن الحق كآزر وقومه. فلما انخرقت حجب الأوصاف وخرجت شمس الهداية من غيم البشرية ، وأشرقت أرض القلب بنور ربها (قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ) شمس الهداية تعززا وتعظما ليغرب إبراهيم عليه‌السلام عن شرك الأنانية.

إن شمس النهار تغرب بالليل

وشمس القلوب ليست تغيب.

١١٠

تبرأ عن الأضداد والأنداد ونزعته همة الخلة عن الجهات وخلصه تجلي صفة الجمال عن شبكة الوهم والخيال. فقال (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) وقد يدور في الخلد أن إبراهيم صلوات الله الرحمن عليه جن عليه ظلمة الشبهة فنظر أولا في عالم الأجسام فوجدها آفلة في أفق التغير فلم يرها تصلح للإلهية ، فارتقى منها إلى عالم النفوس المدبرة للأجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان حكمها حكم ما دونها فصعد منها إلى عالم العقول المجردة ، فصادفها آفلة في أفق الإمكان فلم يبق إلا الواجب الحق. ومن الناس من حمل الكوكب على الحس ، والقمر على الخيال ، والشمس على الوهم والعقل ، ومراده أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية القوة ، ومدبر العالم قاهر لها مستول عليها (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) ليسبلوا ستور شبههم على شموس عرفانه ، وقد هداني إليه بالعيان بعد توالي البرهان (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) من الخذلان وهذا محال لأنه (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فهو أعلم بأهل العرفان وبأصحاب الخذلان (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) بشرك الالتفات إلى غيره من الأكوان حتى قال لجبريل : أما إليك فلا (وَتِلْكَ) يعني إراءة الملكوت وشواهد الربوبية في مرآة الكواكب وصدق التوجه إلى الحق والتبري عما سواه والخلاص عن شرك الأنانية والإيمان الحقيقي بالعيان حتى ارتقى من الأفعال إلى الصفات ثم إلى الذات (آتَيْناها إِبْراهِيمَ) بذاتنا من غير واسطة حتى جعلها حجة على قومه (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بجذبات الألوهية عن حضيض الأنانية الله حسبي.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠))

القراآت : (وَالْيَسَعَ) بتشديد اللام : حمزة وعلي وخلف. الباقون : بالتخفيف ، (اقْتَدِهْ) بإشباع الهاء : ابن عامر الحلواني عن هشام مختلسة ، وبحذف الهاء في الوصل : سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. الباقون : بسكون هاء السكت على الأصل.

الوقوف : (وَيَعْقُوبَ) ط (كُلًّا هَدَيْنا) ج لأن (وَنُوحاً) مفعول ما بعده ، ولو وصل

١١١

التبس بأنه مفعول ما قبله مع اتفاق الجملتين (وَهارُونَ) ط (الْمُحْسِنِينَ) ه لا للعطف (وَإِلْياسَ) ط (مِنَ الصَّالِحِينَ) ه لا للعطف (وَلُوطاً) ط (الْعالَمِينَ) ه لا للعطف. (وَإِخْوانِهِمْ) ج لبيان أن قوله (وَاجْتَبَيْناهُمْ) يعود إلى قوله (كُلًّا هَدَيْنا) كقوله (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) [مريم : ٥٨] ولاحتمال الواو الحال أي وقد اجتبيناهم وذكر هديناهم بعده (مُسْتَقِيمٍ) ه (مِنْ عِبادِهِ) ط (يَعْمَلُونَ) ه (وَالنُّبُوَّةَ) ج (بِكافِرِينَ) ه (اقْتَدِهْ) ط (أَجْراً) ط (لِلْعالَمِينَ) ه.

التفسير : لما حكى حجج إبراهيم صلوات الرحمن عليه في التوحيد والذب عن الدين الحنيفي عدّد وجوه نعمه وإحسانه عليه بعد نعمة إيتاء الحجة ورفع الدرجة فقال (وَوَهَبْنا لَهُ) باللفظ الدال على العظمة كما يقوله عظماء الملوك ليدل بذلك على عظم العطية ، وذلك أنه جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله وعقبه. قيل : وإنما لم يذكر إسماعيل مع إسحق وإن كان هو أيضا ابنه لصلبه ، لأن المقصود بالذكر هاهنا أنبياء بني إسرائيل وهم بأسرهم أولاد إسحق ويعقوب ، وأما إسماعيل فإنه ما خرج من صلبه أحد من الأنبياء إلا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يجوز ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا المقام لأنه أمر محمدا أن يحتج على العرب بأن إبراهيم لما ترك الشرك وأصر على التوحيد شرفه الله بالنعم الجسام في الدين والدنيا ، ومن جملة ذلك أن آتاه أولادا كانوا ملوكا وأنبياء ، فإذا كان المحتج بهذه الحجة هو محمد امتنع أن يذكر نفسه في هذا المعرض ، فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحق. أما قوله (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) فالمقصود منه بيان كرامة إبراهيم بحسب الآباء أيضا مثل نوح وإدريس وشيث ، وأما الضمير في قوله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) فقد قيل : إنه يعود إلى «نوح» لأنه أقرب ولأنه تعالى ذكر في جملتهم لوطا وهو كان ابن أخي إبراهيم وما كان من ذريته ، بل كان من ذرية نوح ، ولأن ولد الإنسان لا يقال إنه ذريته فعلى هذا إسماعيل ما كان من ذرية إبراهيم وكان من ذرية نوح ، ولأن يونس عليه‌السلام لم يكن من ذرية إبراهيم على قول بعضهم. وقيل : الضمير عائد إلى إبراهيم لأنه هو المقصود بالذكر في هذا المقام. واعلم أن الله تعالى ذكر أربعة من الأنبياء وهم : نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب. ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر نبيا : داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى والياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا. فالمجموع ثمانية عشر. وأنه لم يراع الترتيب بينهم في الآية لا بحسب الفضل والشرف ولا بحسب الزمان والمدة ، فاستدل العلماء بذلك على أن الواو لا تفيد الترتيب. وقال في التفسير الكبير : إن وجه الترتيب أنه تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الكرامة. فمن المراتب المعتبرة عند الجمهور الملك

١١٢

والسلطنة وقد أعطى داود وسليمان من ذلك نصيبا عظيما ، والمرتبة الثانية البلاء والمحنة وقد خص أيوب بذلك ، والثالثة استجماع الحالتين وذلك في حق يوسف فإنه ابتلي أوّلا ثم أوتي الملك ثانيا. الرابعة قوّة المعجزات وكثرة البراهين والبينات وذلك حال موسى وهارون الخامسة الزهد الكامل كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ولهذا وصفهم بأنهم من الصالحين. السادسة الأنبياء الذين ليس لهم في الخلق أتباع ولا أشياع وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط. وأما المراد بقوله (كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا) قيل : المراد الهداية إلى طريق الجنة بدليل قوله (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) فإن جزاء المحسن على إحسانه لا يكون إلا الثواب. وقيل : لا يبعد أن يقال : المراد الهداية إلى الدين والمعرفة لأنهم اجتهدوا في طلب الحق فجازاهم الله بالوصال والوصول كما قال (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] وقيل : إنها الإرشاد إلى النبوّة والرسالة لأن الهداية المخصوصة بالأنبياء ليست إلا ذلك ، وهذا إنما يصح عند من جوز أن تكون الرسالة جزاء على عمل. واستدل بعضهم بقوله (وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) على أن الأنبياء أفضل من الملائكة ، وذلك أن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل فيه الملائكة وكذا الأولياء. وقيل : فضلناهم على عالمي زمانهم فلا يتم الاستدلال. قال القاضي : ويمكن أن يقال : المراد وكل من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين. ثم الكلام في أن أي الأنبياء أفضل من بعض كلام آخر لا تعلق له بالأول. ثم قال (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) معطوف على (كلًّا) أي فضلنا بعض آبائهم. فالآباء هم الأصول ، والذريات هم الفروع ، والإخوان فروع الأصول. وفيه دليل على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء بنوع من الشرف والكرامة. ثم إن قلنا المراد من الهداية الهداية إلى الثواب والجنة فقوله (مِنْ آبائِهِمْ) وكلمة «من» للتبعيض يدل على أنه قد كان في آباء هؤلاء الأنبياء من كان غير مؤمن ولا واصل إلى الجنة ، وإن فسرنا الهداية بالنبوة لم يفد ذلك إلا أنه يفيد أن لا تكون المرأة رسولا ولا نبيا (وَاجْتَبَيْناهُمْ) أي اصطفيناهم من جبيت الماء في الحوض وجبوته أي جمعته ، (ذلِكَ هُدَى اللهِ) إشارة إلى معرفة التوحيد والتنزيه بدليل قوله (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ) وفيه دليل على أن الهداية من الله تعالى وليس للعبد فيها اختيار. وفيه تهديد عظيم كقوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] والغرض من ذلك زجر الأمة. (أُولئِكَ) يعني الأنبياء الثمانية عشر. (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) ولا بد بحكم العطف من تغاير الأمور الثلاثة. ووجه بأن الحكام على الخلق ثلاث طوائف : الحكام على بواطن الناس وهم العلماء ، والحكام على ظواهر الخلق وهم السلاطين ، والجامعون بين الأمرين وهم الأنبياء. فالأمور الثلاثة إشارة إلى هذه الأصناف الثلاثة. ومعنى إيتاء الكتاب الفهم

١١٣

التام بما في هذا الجنس والعلم المحيط بحقائقه وأسراره. ولو قيل : المراد بالإيتاء الابتداء بالوحي والتنزيل كصحف إبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى لم يشمل كل المذكورين لأنه تعالى ما أنزل على كل واحد منهم كتابا على التعيين. (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي بالأمور الثلاثة أو بالنبوة (هؤُلاءِ) يعني أهل مكة (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) أي ليسوا كافرين بها ومن توكيلهم بها أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه. ومن القوم؟ قيل : كل مؤمن وقيل : أهل المدينة وهم الأنصار. وقيل : هم والمهاجرون. وقال الحسن : هم الأنبياء الذين تقدم ذكرهم واختاره الزجاج لقوله عقيب ذلك (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ) وقال أبو رجاء : يعني الملائكة وضعف بأن اسم القوم قلما يقع على غير بني آدم. وفي الآية دلالة على أنه تعالى سينصر نبيه ويظاهر دين الإسلام على كل الأديان وقد وقع ما وعد وكان إخبارا بالغيب فصح إعجاز القرآن. وفيها استدلال للأشاعرة على أنه تعالى خلق قوما للإيمان ولو كان خلق الكل للإيمان والبيان والتمكين وفعل الألطاف مشتركا بين الكل لم يصح هذا التخصيص. أجاب الكعبي بأنه زاد المؤمنين من الألطاف ما لا يحصيه إلا الله ، وبتقدير أن يستوي فإذا لم ينتفع به الكافر صح بحسب الظاهر أن يقال إنه لم يحصل له تلك الألطاف. ورد بأن الألطاف الداعية إلى الإيمان مشترك فيها بين الكافر والمؤمن ، وبأن الوالد لما سوّى بين الولدين في العطية ثم إن أحدهما ضيع نصيبه فأي عاقل يجوّز أن يقول أحد إن الأب ما أنعم عليه وما أعطاه شيئا (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) من حذف الهاء في الوصل فعلى الأصل ، ومن أثبتها في الوصل كما في الوقف أراد موافقة المصحف فإن الهاء ثابتة في الخط فكره مخالفة الخط في الحالين. وأما قراءة ابن عامر بكسر الهاء بغير إشباع فقال أبو بكر بن مجاهد : إنها غلط. وقال أبو علي الفارسي : ليست بغلط ووجهها أن يجعل الهاء كناية عن المصدر الدال عليه الفعل. والتقدير : فبهداهم اقتد الاقتداء. وتقديم المفعول للاختصاص أي لا تقتد إلا بهم. ولا خلاف في أنه أمر لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاقتداء بالأنبياء المذكورين. إنما الكلام في تفسير الهدى. فمن الناس من قال : المراد الذي أجمعوا عليه وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال. وقال آخرون : المراد به الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل ، وعلى هذا فيلزمنا شرع من قبلنا ، وقيل : اللفظ مطلق فيحمل على الكل إلا ما خصه الدليل المفصل. وقال القاضي : هذا بعيد لأن شرائعهم مختلفة متناقضة ولا يمكن الإتيان بالأمور المتناقضة معا ، ولأن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل ، ودليل إثبات شرعهم كان مخصوصا بتلك الأوقات ، ولأن منصبهم يلزم أن يكون أجل من منصبه وأنه باطل بالإجماع ، وأجيب بأن العام يجب تخصيصه في الصورة المتناقضة فيبقى فيما عداها حجة ، وبأن

١١٤

المستدل بالدليل فصل في ذلك الحكم فلا معنى للاقتداء بالدليل إلا إذا كان فعل الأول سببا لوجوب الفعل على الثاني ، وبأنه يلزم أن يكون منصبه أجل من منصبهم لأنه أمر باستجماع خصال الكمال وصفات الشرف التي كانت متفرقة فيها كالشكر في داود وسليمان ، والصبر في أيوب ، والزهد في زكريا ويحيى وعيسى ، والصدق في إسماعيل ، والتضرع في يونس ، والمعجزات الباهرة في موسى وهارون ، ولهذا قال «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي».

ولما أمره بالاقتداء بالأنبياء وكان من جملة هداهم أن لا يطلبوا الأجر أي المال والجعل في إيصال الدين وإبلاغ الشريعة قيل له : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ) أيها الأمة (عَلَيْهِ) على البلاغ (أَجْراً إِنْ هُوَ) يعني القرآن (إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) يريد كونه مشتملا على كل ما يحتاجون إليه في المعاش والمعاد. وفيه دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مبعوثا إلى الناس كافة لا إلى قوم دون قوم.

التأويل : ومما رفعنا به درجات إبراهيم أنا وهبنا له إسحق ويعقوب. ولعله أفرد ذكر إسماعيل لمكان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله كيلا يقع ذكره تبعا لموهبة إبراهيم ، فإن الكائنات تبيع لوجود محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله ، ومن آبائهم إلى آدم ومن ذرياتهم إلى محمد (وَاجْتَبَيْناهُمْ) في الأزل لهذا الشأن (وَهَدَيْناهُمْ) إلى الأبد (وَلَوْ أَشْرَكُوا) بأن لاحظوا غيرنا فأثبتوا شيئا من دوننا ونسبوا شيئا من الحوادث إلى غير قدرتنا ، أو لم يبدلوا أنانيتهم في هويتنا (لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لتلاشي عرفانهم وتلف ما سلف من إحسانهم (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) لأنهم سلكوا حتى انتهى مسير كل منهم إلى ما قدر له : آدم في السماء الدنيا ، ويحيى وعيسى في الثانية ، ويوسف في الثالثة ، وإدريس في الرابعة ، وهارون في الخامسة ، وموسى في السادسة ، وإبراهيم في السابعة ، وجميع الملائكة المقربين إلى سدرة المنتهى ، وأنت محمد إلى مقام قاب قوسين أو أدنى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ) أيها الأنبياء على الاقتداء (أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) ليعلموا أن الطريق إلى الله لا يسلك إلا بالاقتداء ، أو (لا أَسْئَلُكُمْ) أيها الأمة على دعوتكم إلى الحق (أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) من الله وبه وإليه وهو المستعان.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى

١١٥

وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤) إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠))

القراآت : يجعلونه يبدونها ويخفون بياءات الغيبة : أبو عمرو وابن كثير ، الباقون : على الخطاب ولينذر بياء الغيبة : أبو بكر وحماد. الباقون : بتاء الخطاب (بَيْنَكُمْ) بفتح النون : أبو جعفر ونافع وعلي وحفص والمفضل. الباقون : بالرفع (وَجَعَلَ اللَّيْلَ) على لفظ المضي ونصب الليل عاصم وحمزة وعلي وخلف الباقون وجاعل الليل على لفظ اسم الفاعل وبالإضافة (وَجَنَّاتٍ) بالرفع : الأعشى والبرجمي الباقون : بالنصب (فَمُسْتَقَرٌّ) بكسر القاف : أبو عمرو وابن كثير وسهل ويعقوب. الباقون : بالفتح (ثَمَرِهِ) بضمتين : حمزة وعلي وخلف وكذلك في آخر السورة ويس. الباقون : بفتحتين (وَخَرَقُوا) بالتشديد : أبو جعفر ونافع. الباقون : بالتخفيف.

الوقوف : (مِنْ شَيْءٍ) ط (كَثِيراً) ط لمن قرأ يجعلونه بياء الغيبة. ومن قرأ بالتاء فوقفه حائز لانتهاء الاستفهام مع اتفاق الخطاب على تقدير وقد علمتم (آباؤُكُمْ) ط (قُلِ اللهُ) ط لأن قوله (ذَرْهُمْ) معطوف على (قُلْ يَلْعَبُونَ) ه (وَمَنْ حَوْلَها) ط (يُحافِظُونَ) ه (أَنْزَلَ اللهُ) ط (أَيْدِيهِمْ) ج لاتساق الكلام معنى مع تقدير

١١٦

حذف أي يقولون أخرجوا (أَنْفُسَكُمُ) ط لأن المراد من اليوم يوم القيامة (تَسْتَكْبِرُونَ) ه (ظُهُورِكُمْ) ج لاتحاد القول. والوقف أوضح لابتداء النفي وانقطاع النظم (شُرَكاءُ) ط (تَزْعُمُونَ) ه (وَالنَّوى) ط (مِنَ الْحَيِ) ط (تُؤْفَكُونَ) ه (فالِقُ الْإِصْباحِ) ج لمن قرأ (وَجَعَلَ) لانقطاع النظم واتصال المعنى على تقدير فلق وجعل ، أو وقد جعل وعامل الحال معنى الفعل في فالق (حُسْباناً) ط (الْعَلِيمِ) ه (وَالْبَحْرِ) ط (يَعْلَمُونَ) ه (وَمُسْتَوْدَعٌ) ط (يَفْقَهُونَ) ه (ماءً) ج للعدول مع اتحاد المقصود (مُتَراكِباً) ط ومن قرأ (وَجَنَّاتٍ) بالرفع فللعطف على (قِنْوانٌ) لفظا فيلزمه وقفه على (دانِيَةٌ) وإلا فليعطف ويفهم أن (جَنَّاتٍ) من جملة النخل ، ومن خفض فوقفه على (مُتَراكِباً) جائز للعطف على قوله (خَضِراً) مع وقوع العارض (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) ط (وَيَنْعِهِ) ط (يُؤْمِنُونَ) ه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) ط (يَصِفُونَ) ه.

التفسير : اعلم أن مدار القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد. فبعد ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك شرع في تقرير أمر النبوة فقال (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) قال ابن عباس : أي ما عظموا الله حق تعظيمه حيث أنكروا النبوة والرسالة. وقال أيضا في رواية : ما آمنوا بأن الله على كل شيء قدير. وقال أبو العالية : ما وصفوه حق صفته. وقال الأخفش : ما عرفوه حق معرفته أي في اللطف بأوليائه أو في القهر لأعدائه ، وقال الجوهري : قدر الشيء مبلغه وقدرت الشيء أقدره وأقدره قدرا من التقدير أي حرره وعرف مقداره. ثم بيّن سبب عدم عرفانه بقوله (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) وإنما كان منكر البعث والرسالة غير عارف بالله تعالى ، لأنه إما أن يدعي أنه تعالى ما كلف أحدا من الخلائق تكليفا أصلا وهو باطل لأنه فتح باب المنكرات والقبائح بأسرها ، وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي ولكن لا على ألسنة الرسل وهذا أيضا جهل. فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون العقل كافيا في إيجاب الواجبات وحظر المنكرات؟ فالجواب هب أن الأمر كذلك إلا أنه لا يمتنع تأكيد التصريف العقلي بل يجب تفصيل ذلك المجمل بالتعريفات المشروحة على ألسنة الرسل ، لأن أكثر العقول قاصرة عن إدراك مدارك الأحكام الشرعية كما أن نور البصر قاصر عن إدراك المبصرات إلا إذا أعين بنور من خارج كنور الشمس أو السراج. وأيضا تفويض مصالح العباد إلى مقتضى عقولهم يؤدي إلى التنازع والتشاجر لتصادم الأهواء وتناقض الآراء فلا بد من أن يتفقوا على واحد يصدرون عن رأيه ، وتعيين ذلك الواحد من الخلق ترجيح بلا مرجح وإشراف على الضلال لاحتمال الخطأ في اجتهادهم ، فلعل الخير في نظرهم يكون شرا في نفس الأمر فلزم أن يكون التعيين من الله سبحانه بكونه أعرف

١١٧

بالبواطن كقوله (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] وإنما يعرف ذلك المعين بظهور المعجزة على وفق دعواه تصديقا له ، ومن أنكر ذلك ولم يجوّز خرق العادة فقد وصف الله تعالى بالعجز ونقصان القدرة. وقد طعن بعض الملحدة في الآية بأن هؤلاء القائلين إن كانوا كفار قريش أو البراهمة فهم ينكرون رسالة كل الأنبياء كما ينكرون رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) على أن قوله (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) بتاء الخطاب إنما يليق باليهود وإن كانوا أهل الكتاب فهم لا يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء ، بل يقرّون بنزول التوراة على موسى والإنجيل على عيسى. وأيضا الأكثرون اتفقوا على أن السورة مكية وأنها نزلت دفعة واحدة ومناظرات اليهود مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله كانت مدنية ، فكيف يمكن حمل الآية على تلك المناظرة؟ والجواب أنهم إن كانوا كفار قريش فإنهم كانوا مختلطين باليهود والنصارى وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التواتر ظهور المعجزات على يد موسى كالعصا وفلق البحر وإظلال الجبل وغيرها وكان جاريا مجرى ما يوجب عليهم الاعتراف بنبوة موسى ، وعلى هذا لا يبعد إيراد نبوة موسى إلزاما لهم في قولهم (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) ولما كان كفار قريش مع اليهود والنصارى متشاركين في إنكار نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله لم يبعد أن يكون الكلام الواحد خطأ بالكفار قريش أوّلا ولأهل الكتاب آخرا وأما إن كانوا أهل الكتاب ـ وهو المشهور عند الجمهور ـ فالوجه ما روي عن ابن عباس أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رجلا سمينا دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود. فضحك القوم فغضب ثم التفت إلى عمر فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له قومه : ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فقال : إنه أغضبني. ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. فلعل مالك بن الصيف لما تأذى من الكلام المذكور طعن في نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنه ما أنزل عليه من شيء البتة فأمر بأن يقول في جوابه (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) أي لما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر وهو موسى فكيف يمكنك أن تقطع بأنه ما أنزل عليّ شيئا غاية ما في الباب أن تطالبني بالمعجز. والحاصل أنهم قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى ، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم بالتحريف وإبداء بعض وإخفاء بعض. وقيل : اللفظ وإن كان مطلقا بحسب اللغة إلا أنه مقيد بحسب العرف بتلك الواقعة ، فكأنه قال : ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين ، وهذا كما إذا أرادت المرأة أن تخرج من الدار فغضب الزوج

١١٨

وقال : إن خرجت من الدار فأنت طالق ، فإن كثيرا من الفقهاء قالوا : التعليق مقيد بتلك المرة حتى لو خرجت مرة أخرى لم تطلق. ويرد على هذا التوجيه أن قوله (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) لا يكون مبطلا لكلام الخصم. أما قوله «إن السورة مكية والمناظرات مدنية» فأجيب عنه بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنها نزلت بالمدينة في هذه الواقعة والله أعلم.

ومن الأحكام المستنبطة من الآية أن قوله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) يفيد أن عقول الخلق قاصرة عن كنه معرفة الله تعالى وإن كانوا مقرين بالنبوة والرسالة لإطلاق قوله في موضع آخر (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) [الزمر : ٦٧] ومنها أن النكرة في سياق النفي تعم وإلا لم يكن قوله (مَنْ أَنْزَلَ) مبطلا لقوله (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) ومنها أن النقض يقدح في صحة الكلام وإلا لم يكن في قوله (مَنْ أَنْزَلَ) حجة. ويعلم منه أن قول من يقول إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقض مبطلا ضعيف وإلا بطلت حجة الله تعالى في هذه الآية ، فإن لليهود حينئذ أن تقول : معجزات موسى كانت أظهر وأبهر من معجزاتك فلا يلزم نبوتك. ومنها أن الغزالي رحمه‌الله تكلف وقال : حاصل الآية يرجع إلى أن موسى أنزل الله عليه شيئا ، وأحد من البر ما أنزل الله عليه شيئا فينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال ، وليس هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) فوجب القول بكونها كاذبة فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني ، وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف. ثم اعلم أنه سبحانه وصف كتاب موسى بكونه نورا وهدى للناس والعطف يقتضي المغايرة. فالمراد بالنور ظهوره في نفسه ، وبالهدى كونه سببا لظهور غيره كقوله في وصف القرآن (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى : ٥٢] قال أبو علي الفارسي (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) أي ذات قراطيس أي يودعونه إياها. فإن قيل : إذا كان جميع الكتب كذلك فلم ذكر في معرض الذم؟ قلنا : لأنهم جعلوه قراطيس مفرقة مبعضة ليتوسلوا بذلك إلى إبداء بعض وإخفاء بعض مما فيه نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو شيء من الأحكام التي لا توافق هواهم كالرجم وغيره (وَعُلِّمْتُمْ) أيها اليهود على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أن هذا القرآن يقص على بنى إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ، وقيل : كانوا يقرؤن الآيات المشتملة على نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما كانوا يفقهون معانيها إلى أن بعث الله محمدا ، فظهر أن المراد منها هو البشارة

١١٩

بمقدمه ، وقيل : الخطاب لمن آمن من قريش كقوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) [يس : ٦] (قُلِ اللهُ) أي أنزله الله فإنهم لا يقدرون على أن ينكروا ذلك فإن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف المؤيد قول صاحبه بالمعجزات الباهرة لا يكون إلا من الله سبحانه. ونظيره (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [الأنعام : ١٩] والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها ، فسواء أقر الخصم به أو لم يقر فالغرض حاصل. (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) يقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه إنما أنت لاعب و (يَلْعَبُونَ) حال من (ذَرْهُمْ) أو من (خَوْضِهِمْ) ويحتمل أن يكون (فِي خَوْضِهِمْ) حالا من (يَلْعَبُونَ) وأن يكون صلة له أو لـ (ذَرْهُمْ). والمعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والإنذار هذا المبلغ العظيم فقد قضيت ما عليك كقوله (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨] قيل : إنها منسوخة بآية السيف وفيه نظر لأنه مذكور لأجل التهديد فلم يكن نزول آية القتال رافعا لشيء من مدلولات هذه الآية. ثم لما ذكر حال التوراة أعقبه بذكر القرآن فقال (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) وفائدة هذا الوصف أنه كان من الممكن أن يظن أن محمدا مخصوص من الله بعلوم كثيرة يتمكن بسببها من تركيب القرآن على هذا النسق من الفصاحة ، فنفى ذلك الوهم وبين أن الله هو الذي تولى إنزاله بالوحي على لسان جبريل عليه‌السلام (مُبارَكٌ) كثير خيره دائم نفعه باعث على الخيرات زاجر عن المنكرات لما فيه من أصول العلوم النظرية والعملية. وقد جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه والمتمسك به يفوز بعز في الدنيا وسعادة في الآخرة وقد جرب فوجد كذلك. (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي موافق لما قبله من الكتب الإلهية. أما في الأصول فلأنه يمتنع وقوع التفاوت فيها بحسب الأزمنة والأمكنة ، وأما في الفروع فلأنها مشتملة على التبشير بمقدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويحصل منه أن التكاليف الموجودة فيها إنما تبقى إلى وقت ظهوره ثم تصير منسوخة (وَلِتُنْذِرَ) من قرأ بتاء الخطاب فظاهر ، ومن قرأ على الغيبة فلأنه أسند الإنذار إلى الكتاب مجازا لأنه سبب الإنذار (إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) [الأنبياء : ٤٥] وهو معطوف على ما دل عليه سائر الأوصاف كأنه قيل : أنزلناه للبركة ولتصديق ما تقدمه من الكتب وللإنذار ، قال ابن عباس : سميت مكة أم القرى لأن الأرضين دحيت من تحتها. وقال أبو بكر الأصم : لأنها قبلة أهل الدنيا فصارت هي كالأصل وسائر البلاد تبعا ، وأيضا الناس يجتمعون إليها للحج وللتجارة كما يجتمع الأولاد إلى الأم. وقيل : لأن الكعبة أول بيت وضع للناس. وقيل : إن مكة أول بلدة في الأرض ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي أهل أم القرى ومن حولها. قيل : المراد أهل جزيرة العرب فاستدل اليهود بذلك على أنه مبعوث إلى العرب فقط. وأجيب بأن تخصيص هذه المواضع بالذكر لا يدل على نفي ما عداها لا سيما وقد

١٢٠