الكشف والبيان - ج ٥

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٥

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

وحدثنا الأستاذ أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب لفظا في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة في آخرين.

قالوا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أبو ضمرة وأنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمر بن العاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» [١٥٥] (١).

وحدثنا أبو القاسم أخبرنا محمد بن أحمد بن سعيد حدثنا العباس بن حمزة حدثنا [.........] (٢) السدي حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان عن عبد الله بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجنيد عن أبي الدرداء أنه قال : يا أهل حمص مالي أرى أنّ علماؤكم يذهبون وجهالكم لا يتعلمون ، فأراكم قد أقبلتم على ما يكفل لكم ، وضيعتم ما وكلتم به اعلموا قبل أن يرفع العلم فإن رفع العلم ذهاب العلماء (٣).

وأخبرنا أبو القاسم حدثنا عبد الله بن المأمون بهرات حدثنا أبي حدثنا خطام بن الكاد بن الجراح عن أبيه عن جويبر عن الضحاك قال : قال علي رضي‌الله‌عنه : إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كف لم تعد.

حدثنا أبو القاسم حدثنا أبي حدثنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد الرازي الزعفراني حدثنا عمر بن مدرك البلخي ، أبو حفص حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا هشام بن حيان عن الحسين قال : قال عبد الله بن مسعود : موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.

ومنه عن الرازي حدثنا عمرو بن تميم الطبري. أخبرنا محمد بن الصلت. حدثنا عباد بن العوام عن هلال عن حيان قال : قلت لسعيد بن جبير ما علامة هلاك الناس؟ قال : هلاك علمائهم ، ونظير هذه الآية في سورة الأنبياء عليهم‌السلام.

(وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا راد لحكمه ، والمعقب في كلام العرب الذي يكرّ على الشيء ويتبعه (٤).

__________________

(١) صحيح مسلم : ٨ / ٦٠.

(٢) كلمة غير مقروءة.

(٣) المصنف لابن أبي شيبة : ٨٠ / ١٧٠.

(٤) تفسير الطبري : ١٣ / ٢٢٩.

٣٠١

قال لبيد :

حتى تهجر في الرواح وهاجه

طلب المعقب حقه المظلوم (١)

(وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ. وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني من قبل مشركي مكة (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) يعني له أسباب المكر وبيده الخير والشر وإليه النفع والضر فلا يضر مكر أحد أحدا إلّا من أراد الله ضره ، وقيل : معناه له جزاء إليكم.

(يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ ... سَيَعْلَمُ) : قرأ ابن كثير وأبو عمر : الكافر على الواحد ، والباقون على الجمع.

(لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) عاقبة الدار الآخرة ممن يدخلون النار ويدخل المؤمنون الجنة (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) إني رسوله إليكم ، (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أيضا يشهدون على ذلك. هم مؤمنو أهل الكتاب.

وقرأ الحسين وسعيد بن جبير : وَمِنْ عِنْدِهِ بكسر الميم والدال. عُلِمَ الْكِتابُ مبني على (٢) الفعل المجهول.

وروى أبو عوانة عن أبي الخير قال : قلت لسعيد بن جبير (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أهو عبد الله بن سلام؟ قال : كيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية.

وكان سعيد يقرأها وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الْكِتابُ ، ودليل هذه القراءة قوله (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (٣) وقوله (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (٤).

وأخبرنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن بابويه أخبرنا أبو رجاء محمد بن حامد بن محمد المقرئ بمكة حدثنا محمد بن حدثنا عبد الله بن عمر حدثنا سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الْكِتابُ.

وبه عن السمري حدثنا أبو توبة عن الكسائي عن سليمان عن الزهري عن نافع عن ابن عمر قال : قال : وذكر الله أشدّ فذكر إنه حيث جاء إلى الدار ليسلم سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الْكِتابُ بكسر الميم وسمعه في الركعة الثانية يقرأ (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ) الآية.

أخبرني أبو محمد عبد الله بن محمد الفاسي حدثنا القاضي الحسين بن محمد بن عثمان

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٣ / ١٦١ ، ولسان العرب : ١ / ٦١٤.

(٢) هكذا في الأصل.

(٣) سورة الكهف : ٦٥.

(٤) سورة الرحمن : ١. ٢.

٣٠٢

النصيبي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين السميعي بحلب حدثني الحسين بن إبراهيم بن الحسين الجصاص. أخبرنا الحسين بن الحكم حدثنا سعيد بن عثمان عن أبي مريم وحدثني بن عبد الله ابن عطاء قال : كنت جالسا مع أبي جعفر في المسجد فرأيت ابن عبد الله بن سلام جالسا في ناحية فقلت لأبي جعفر : زعموا أنّ الذي (عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) عبد الله بن سلام. فقال : إنما ذلك علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه.

وفيه عن السبيعي : حدثنا عبد الله بن محمد بن منصور بن الجنيد الرازي عن محمد بن الحسين بن الكتاب.

أحمد بن مفضل حدثنا مندل بن علي عن إسماعيل بن سلمان عن أبي عمر زاذان عن ابن الحنيفة (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) قال : هو علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه (١).

__________________

(١) زاد المسير لابن الجوزي : ٤ / ٢٥٢ ، وتفسير القرطبي : ٩ / ٣٣٦ ، شواهد التنزيل : ١ / ٤٠١.

٣٠٣

سورة إبراهيم (ع)

كلها مكية غير آيتين وهما قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا) (١). إلى قوله : (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (٢) نزلتا في قتلى بدر وأسرائهم ، [مكية] وهي ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا وثمانمائة وإحدى وثلاثون كلمة في إثنتين وخمسون آية.

أخبرنا أبو الحسين بن علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرة قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم وأبو الشيخ عبد الله بن محمد قالا : أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك ، أحمد بن يونس اليربوعي عن سلام بن سليم المدائني ، عن عمرو بن كثير عن يزيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة إبراهيم والحجر أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وبعدد من لم يعبدها» [١٥٦] (٣).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٢٨.

(٢) سورة ابراهيم : ٣٠.

(٣) تفسير مجمع البيان : ٦ / ٥٥.

٣٠٤

لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨))

(الر) ابتدأ (كِتابٌ) خبره وإن قلت هذا كتاب (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) يا محمد يعني القرآن (لِتُخْرِجَ النَّاسَ) لتدعوهم [إليه] (١) (مِنَ الظُّلُماتِ) الضلالة والجهالة (إِلَى النُّورِ) العلم والإيمان (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بتوفيق ربهم إياهم ولطفه بهم (٢) (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

قرأ أهل المدينة والشام : اللهُ ، برفع الهاء على الاستئناف وخبره : «الَّذِي» وقرأ الآخرون : بالخفض نعتا لـ (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

وقال أبو عمر : بالخفض على التقديم والتأخير ، مجازه : إلى صراط الله العزيز الحميد الله (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ). كقول القائل مررت بالظريف عبد الله

لو كنت ذا نبل وذا شريب

ما خفت شدات الخبيث الذيب (٣)

وكان يعقوب بن إسحاق الحضرمي إذا وقف على (الْحَمِيدِ) رفع قوله (اللهِ) وإذا وصل خفض على النعت(٤) (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ. الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ) يختارون الحياة الدنيا (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ويضربون ويميلون الناس عن دين الله (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) ويطلبونها زيغا وقيلا ، والعوج بكسر العين في الدين والأمر والأرض كلا لم يكن قائما.

والعوج بفتح العين في كل ما كان قائما كالحائط والرمح ونحوهما (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) بلغتهم ليفهموا لبنية ، بيانه قوله (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) بالدعوة (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ).

قال ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة : بنعم الله.

قال مقاتل : بوقائع الله في الأمم السالفة وما كان في أيام الله الخالية من النقمة والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه ؛ لأنها كانت معلومة عندهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).

__________________

(١) أي إلى القرآن.

(٢) تفسير الطبري : ١٣ / ٢٣٤.

(٣) تفسير الطبري : ١٣ / ٢٣٥.

(٤) راجع تفسير القرطبي : ٩ / ٣٣٩.

٣٠٥

قال أهل المعاني : أراد لكل مؤمن ؛ لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين وأفعالهم إلى قوله تعالى (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ).

قال الفراء : العلّة الجالبة لهذه الواو إن الله تعالى أخبرهم إن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير الذبح والتذبيح وإن طرح الواو في قوله (وَيُذَبِّحُونَ) ويقتلون فإنه أراد تفسير صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) يتركونهن حبالى لأنفسهنّ ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم» [١٥٧] (١) أي دعوا شبانهم أحياء (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أي أعلم ودليله قراءة عبد الله بن مسعود وإذ قال ربكم به وأذن ويأذن بمعنى واحد مثل أوعد وتوعد.

(لَئِنْ شَكَرْتُمْ) نعمتي وآمنتم وأطعتم (لَأَزِيدَنَّكُمْ) في النعمة قال ابن عيينة : الشكر بقاء النعمة ومن الزيادة ومرضاة المؤمن ، وقيل الشكر قيد للموجود وقيد للمفقود.

(وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) نعمتي فصددتموها ولم تشكروها.

(إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) إلى قوله (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) عن خلقه (حَمِيدٌ) محمود في أفعاله لأنه فيها سيفصل أو يعدل.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧))

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ١٢.

٣٠٦

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) يعني من كان بعد قوم نوح وعاد وثمود.

وكان ابن مسعود يقرأها : (وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) ثم يقول كذب النسابون (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ).

قال ابن مسعود : يعني عضوا على أيديهم غيظا.

قال ابن زيد وقرأ : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) (١).

ابن عباس : لما سمعوا كتاب الله عجبوا فرجعوا بأيديهم إلى أفواههم.

مجاهد وقتادة : كذبوا الرسل وردّوا ما حلوا به.

الأخفش وأبو عبيدة : أي تركوا ما أمروا به وكفوا عنه ولم يمضوه ولم يؤمنوا.

تقول العرب للرجل إذا أمسك عن الجواب فلم يجب وسكت : قد ردّ يده في فيه.

قال القيسي : إنا لم نسمع واحدا من العرب يقول ردّ يده في فيه إذا ترك ما أمر به وإنما المعنى إنهم عضوا على الأيدي حيفا وغيظا.

كقول الشاعر :

تردون في فيه غش الحسود (٢)

يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أنامله العشر وقال الهذلي :

قد أفنى أنامله أزمة

فأضحى يعض على الوظيفا (٣)

الوظيف يعني الذراع والساق ، واختار النحاس هذا القول ؛ لقوله تعالى (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) (٤).

وأنشد

لو أن سلمى أبصرت تخددي

ودقة في عظم ساقي ويدي

وبعد أهلي وجفاء عودي

عضت من الوجد بأطراف اليد (٥)

__________________

(١) سورة آل عمران : ١١٩.

(٢) تفسير القرطبي : ٩ /.

(٣) لسان العرب : ١٥ / ٤٢٤.

(٤) سورة آل عمران : ١١٩.

(٥) لسان العرب : ١٤ / ٣٤٨ ، ومعاني القرآن للنحاس : ٣ / ٥٣٠.

٣٠٧

قال الكلبي : يعني من الأمم ردّوا بأيديهم إلى أفواههم أي في أفواه أنفسهم ؛ إشارة إلى الرسل إن اسكتوا.

مقاتل : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ) على أفواه الرسل حين يسكتونهم بذلك (وَقالُوا) يعني الأمم للرسل ، (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) موجب الريبة موقع للتهمة (قالَتْ رُسُلُهُمْ) إلى قوله تعالى (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) من تعجله (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعني الموت فلا يعاجلكم بالعذاب والعقاب (قالُوا) الرسل (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) في الصورة والهيئة ولستم بملائكة وإنما يريدون بقولكم (أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بينة على صحة دعواكم ، والسلطان في القرآن على وجهين وجه ملائكة ووجه بينة كقوله (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) (١) (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) (٢) فصحة قوله (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) (٣) بهذا وقوله : (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٤).

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بالنبوة والحكمة إلى قوله (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) بيّن لنا الرشد وبصرنا طريق النجاة ، (وَلَنَصْبِرَنَ) اللام للقسم مجازه لنصبرن (عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله تعالى (فِي مِلَّتِنا) يعنون الآن ترجعوا وحتى ترجعوا إلى ديننا (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد هلاكهم (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي) أي مقامه وقيامه بين يدي ، فأضاف قيام العبد إلى نفسه ، كما يقول يذهب على ضربك أي ضربي إياك ، وسوف رويتكك أي برويتي إياك. قال الله (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٥) أي رزقي إليكم فإن شئت قلت ذلك لمن يخاف قيامي عليه ومراقبتي له ، مثاله قوله (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٦).

وقال الأخفش : (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي) أي عذابي.

(وَخافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُوا) واستنصروا الله عليها (٧).

قال ابن عباس ومقاتل : يعني الأمم ، وذلك أنهم قالوا : اللهم إن كان هؤلاء الرسل

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٢٢.

(٢) سورة سبأ : ٢١.

(٣) سورة يونس : ٦٨.

(٤) سورة إبراهيم : ١٠.

(٥) سورة الواقعة : ٨٢.

(٦) سورة الرعد : ٣٣.

(٧) تفسير الطبري : ١٣ / ٢٥٣.

٣٠٨

صادقين فعذبنا ، نظيره قوله تعالى (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (١) وقالوا (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) (٢) الآية.

وقال مجاهد وقتادة : يعني الرسل وذلك أنهم لما تبينوا من إيمان قومهم استنصروا عدوّهم ودعوا على قومهم بالعذاب.

بيانه قوله تعالى في قصة نوح ولوط وموسى (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ).

مجاهد : معاند للحق ويجانبه.

وقال إبراهيم : الناكب عن الحق.

ابن عباس : المعرض.

وقتادة : العنيد الذي لا يقول لا إله إلّا الله.

مقاتل : المستكبر.

ابن كيسان : الشامخ بالحق.

ابن زيد : المخالف للحق.

والعرب تقول : شر الإبل العنيد الذي يخرج من الطريق خيره ، المريد العاصي ، ويقال عند العرب إذا لم يرقا دمه (٣).

وقال أهل المعاني : المعاند والعنيد هو المعارض لك بالخلاف وأصله من العند وهو الناحية.

قال الشاعر :

إذا نزلت فاجعلوني وسطا

إني كبير لا أطيق العندا (٤)

(مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) يعني أمامه وقدامه كما يقال : إن الموت من ورائك. قال الله (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) (٥).

قال الشاعر :

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٢٩.

(٢) سورة الأنفال : ٣٢.

(٣) كذا في المخطوط.

(٤) تاج العروس : ١ / ١٠٨.

(٥) سورة الكهف : ٧٩.

٣٠٩

أتوعدني وراء بني رياح

كذبت لتقصرن يداك دوني (١)

أي قدامهم.

أبو عبيدة : من الأضداد.

وقال الأخفش : هو كما يقال هذا الآخر من ورائك أي سوف يأتيك وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه (٢).

وقال الشاعر :

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب (٣)

وقال بعضهم إنما يجوز هذا في الأوقات ؛ لأن الوقت يمر عليك فيصير إن أخرته خلفك.

مقاتل : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) يعني بعده.

وكان أستاذنا أبو القاسم الحبيبي يقول : الأصل في هذا أنّ كل ما ورائي عندك شيء من خلفك وقدام فهو [....] (٤) ، (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ) ثم بين ذلك لنا فقال (صَدِيدٍ) وهو القيح والدم.

قتادة : هو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه.

محمد بن كعب والربيع بن أنس : هو غسالة أهل النار وذلك ما يسيل من ابن الزنا يسقى الكافر (يَتَجَرَّعُهُ) يتحساه ويشربه ويجرع لا بمرة واحدة لمرارته وحرارته (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) لا يكاد أستقبله مجازه ولا يستسيغه كقوله (لَمْ يَكَدْ يَراها) (٥) أي لم يرها.

قال ابن عباس : لم يحبوه ، وقيل لا يحبّونه.

وروى أبو أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية يعطى إليه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه فقطع أمعاءه وحتى يخرج من دبره.

يقول الله (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (٦) وقال (يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ) (٧) (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من أعضائه فيجد ألم الموت وسقمه.

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٣ / ١٦٩ ، ولسان العرب : ١٥ / ٣٩٠.

(٢) راجع تفسير القرطبي : ٩ / ٣٥٠. ٣٥١.

(٣) المعني : ١ / ١٥٢.

(٤) كلمة غير مقروءة.

(٥) سورة النور : ٤٠.

(٦) سورة محمد : ١٥.

(٧) سورة الكهف : ٢٩.

٣١٠

وقال إبراهيم التيمي : حتى من تحت كل شعرة في جسده.

الضحاك : حتى من إبهام رجله.

الأخفش : يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سمّاها موتا.

(وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) ولا يخرج نفسه فيستريح.

وقال ابن جريج : تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ولا يرجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة ، نظيره قوله (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (١) (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) شديد.

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ) (٢) اختلفت النحاة في رفع مثل ، قال الفراء : أضاف المثل إلى الكافرين والمثل للأعمال ؛ لأن العرب تقدم الأسماء ؛ لأنها أعرف ثم تأتي بالخبر الذي يخبر عنه مع صاحبه ، ومجاز الآية مثل الذين كفروا بربهم (كَرَمادٍ) ، قوله : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٣) أي أحسن خلق كل شيء وقوله

__________________

(١) سورة طه : ٧٤.

(٢) سورة إبراهيم : ١٨.

(٣) سورة السجدة : ٧.

٣١١

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) (١) معناه يوم القيامة ترى وجوه الذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة سيئة ، في الآية إضمار معناها ولا يمنّ عليك مثل الذين كفروا بربهم ، ثم ابتدأ وأخذ يفسره فقال : أعمالهم (كَرَمادٍ) وإن شئت جعلت المثل صفة فقلت الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) وصف اليوم بالعصوف وهو من صفة الريح ؛ لأن الريح تكون فيه كما يقال يوم بارد وحار ؛ لأن البرد والحر يكونان فيه ، وليل نائم ونهار صائم. قال الله (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) (٢) ويدلّ عليه الليل والنهار.

قال الشاعر :

يومين غيمين ويوما شمسا (٣)

وقال الفراء : إن شئت قلت : في يوم في عصوف وإن شئت قلت : في يوم عاصف الريح ، تحذف الريح ؛ لأنها قد ذكرت قبل ذلك.

كقول الشاعر :

إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف (٤)

أراد كاسف الشمس.

وقيل هو من نعت الريح غير أنه لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل (حجر ضب خرب) ونحوه ، وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكافر يعني هم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا ؛ لأنهم أشركوا فيها كما أنّ الرماد الذي فرّقه الريح لا ينتفع به. فذلك قوله (لا يَقْدِرُونَ) يعني الكفار (مِمَّا كَسَبُوا) في الدنيا (عَلى شَيْءٍ) في الآخرة (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

قرأ أهل الكوفة إلّا عامر : خالق السماوات والأرض على التعظيم (٥).

وقرأ الآخرون : (خَلَقَ السَّماواتِ) على الفصل (بِالْحَقِ) قال المفسرون : لم يخلقهما باطلا وإنما خلقهما لأمر عظيم.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) يبدلكم أحسن وأفضل وأطوع منكم ، (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) منيع متعذر (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) خرجوا من قبورهم وظهروا لله جميعا ،

__________________

(١) سورة الزمر : ٦٠.

(٢) سورة يونس : ٦٧.

(٣) جامع البيان للطبري : ١٣ / ٢٥٨.

(٤) لسان العرب : ٩ / ٢٤٨ ، جامع البيان للطبري : ١٣ / ٢٥٨.

(٥) على وزرن : فاعل ، راجع تفسير الطبري : ١٣ / ٢٦٠.

٣١٢

الاستقبال (فَقالَ الضُّعَفاءُ) يعني الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) يعني المتبوعين من القادة (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) جمع تابع مثل حارس وحرس ، وقيل : راصد ورصد ونافر ونفر ، ويجوز أن يكون تبع مصدرا سمي به أي كنا ذوي تبع (١).

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي هل أنتم ودافعون عذاب الله عنا ، قال المتبوعين (قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ) إلى قوله (مِنْ مَحِيصٍ) مهرب ولا منجى ، ويجوز أن يكون بمعنى المصدر وبمعنى الإسم.

يقال حاص فلان عن كذا أي فرّ وزاغ عنه يحيص حيصا وحيوصا وحيصانا.

قال مقاتل : إنهم يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع.

يقولون تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر فحينئذ يقولون (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. وَقالَ الشَّيْطانُ) يعني إبليس (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) فرغ من الأمر فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.

قال مقاتل : يوضع له منبر من نار فيرقاه ويجتمع الكفار عليه بالأئمة (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) يوفى لكم (وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) ولاية ومملكة وحجة وبصيرة (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) هذا من الاستثناء المنقطع مجازه لمن يدعونكم (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) بإجابتي ومتابعتي من غير سلطان وغير برهان (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) بمعينكم (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) بمغنيّ وبمغيثي.

قرأه العامة : (بِمُصْرِخِيَ) بفتح الياء.

وقرأ الأعمش وحمزة : بكسر الياء ، والأصل فيه بمصرخيين فذهبت النون لأجل الإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة ، فمن نصب فلأجل التضعيف ومن كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر ؛ لأن الياء أخت الكسرة (٢) (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ) به (مِنْ قَبْلُ) أي لا يمكن أن أكون شريكا لله فيما أشركتموني به من طاعتكم إياي واستهزأت من ذلك (إِنَّ الظَّالِمِينَ) الكافرين الواضعين للعباد الطاعة في غير موضعها (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

روى عتبة بن عامر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الشفاعة قال : يقول عيسى عليه‌السلام: ذلكم النبي الأمي فيأتونني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتي فيشفّعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي.

ثم يقول الكفار : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا؟ فيقولون : ما هو غير

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٩ / ٣٥٥.

(٢) تفسير القرطبي : ٩ / ٣٥٧.

٣١٣

إبليس هو الذي أضلنا فيأتون فيقولون : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أضللتنا قال : فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد ثم يعظم نحيبهم فيقول عند ذلك (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) (١).

(... وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله (فِيها سَلامٌ) يسلم الله ويسلم الملائكة عليهم (أَلَمْ تَرَ) يا محمد يعني فإن الله يعلم بإعلامي إياك (كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) يعني ما بين الله شبهها كلمة طيبة شهادة أن لا إله إلّا الله (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وهي النخلة يدل عليه

حديث عتيب الحجاب قال : كان أبو العالية أميني فأتاني يوما في منزلي بعد ما صليت الفجر فانطلقت معه إلى أنس بن مالك فدخلت عليه فجيء بطبق عليه رطب.

فقال أنس : كل يا أبا العالية فإنّ هذه من الشجرة التي قال الله في كتابه (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ). ثم قال أنس أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقناع بسر ، فقرأ (٢) هذه الآية ، ومعنى الآية : كشجرة طيبة الثمرة ، فترك ذكر الثمرة استغناء بدلالة الطعام عليه.

وقال أبو ظبيان عن ابن عباس : هذه شجرة في الجنة (أَصْلُها ثابِتٌ) في الأرض (وَفَرْعُها) عال (فِي السَّماءِ) كذلك أصل هذه الكلمة راجع في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق والإخلاص.

وإذا تكلم بالشهادة تذهب في السماء فلا يكتب حتى ينتهي إلى الله تعالى. قال الله (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).

وروى مقاتل بن حيان عن الضحاك عن ابن عباس قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ لله عمودا من نور أسفله تحت الأرض السابعة ورأسه تحت العرش ، فإذا قال العبد أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله اهتز ذلك العمود ، فيقول الله عزوجل : اسكن ، فيقول : كيف أسكن؟ ولم تغفر لقائلها فيقول الرب : قد غفرت له فيسكن عند ذلك» [١٥٨].

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكثروا من هز ذلك العمود» [١٥٩] (٣).

(تُؤْتِي أُكُلَها) تعطي ثمرها (كُلَّ حِينٍ) اختلفوا في الحين.

فقال مجاهد وعكرمة وابن زيد : كل سنة.

قال عكرمة : أرسلت إلى عمر بن عبد العزيز إني نذرت أن أقطع يد رجل من هكذا سنة وحينا ، ما عندك فيه. قال ابن عباس : فقلت له : لا تقطع يده واحبسه سنة (٤).

__________________

(١) سنن الدارمي : ٢ / ٣٢٧ ، وتفسير الطبري : ١٣ / ٢٦٣.

(٢) تفسير الطبري : ١٣ / ٢٦٨.

(٣) الموضوعات لابن الجوزي : ٣ / ١٦٧ ، ومجمع الزوائد باختصار : ١٠ / ٨٢.

(٤) تفسير الطبري : ١٣ / ٢٧٤.

٣١٤

إنّ ابن عباس يقول : الحين حينان حين يعرف ويبدل وحين لا يعرف. فأما الحين الذي لا يعرف (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (١) وأما الذي يعرف (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) فهو ما بين العام إلى العام المقبل.

فقال : أصبت يا مولى ابن عباس وأحسنت (٢).

وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن : كل ستة أشهر ما بين عرامها (٣) إلى حملها.

وروى طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل عن رجل حلف ألّا يكلم أخاه حينا فقال : الحين سبعة أشهر ، وقرأ هذه الآية.

فقال سعيد بن المسيب : الحين شهران ؛ لأن النخلة لا يكون فيها أكلها إلّا شهرين.

وقال الربيع بن أنس : (كُلَّ حِينٍ) كل غدوة وعشية ، كذلك يصعد عمل المؤمن عن أول النهار وآخره ، وهي رواية أبي ظبيان عن ابن عباس.

قال الضحاك : كل ساعة ليلا ونهارا ، شتاء وصيفا يؤكل في جميع الأوقات. كذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها (٤).

وقرأ أبو الحكم في تمثيل الله الإيمان بالشجرة فهي أن الشجرة لا تكون شجرة إلّا بثلاثة أشياء عود راسخ وأصل قائم وفرع عال. كذلك الإيمان لا يتم ولا يقوم إلّا بثلاثة أشياء تصديق بالقلب ، وقول باللسان ، وعمل بالأبدان.

يدل عليه ما روى جعفر بن محمد عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالإيمان» [١٦٠].

لحميد الطويل عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إن مثل هذا الدين مثل شجرة ثابتة ، الإيمان أصلها ، والزكاة فرعها ، والصيام عروقها ، والداعي في الله نباتها ، وحسن الخلق ورقها ، والكف عن محارم الله خضرتها ، فكما لا ـ يكمل هذه الشجرة إلّا بثمر طيبة ، لا يكمل الإيمان إلّا بالكف عن محارم الله» [١٦١] (٥).

والحكمة في تشبهها إياه بالحنطة من بين سائر الأشجار أنها لما كانت أشبه الأشجار بالإنسان شبهت به وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها تشعبت بالغصون عن جوانبها والنخلة إذا

__________________

(١) سورة ص : ٨٨.

(٢) معاني القرآن للنحاس باختصار : ٣ / ٥٢٨.

(٣) العرام : الغشر ، راجع لسان العرب : ١٢ / ٣٩٥.

(٤) راجع زاد المسير : ٤ / ٢٦٣. ٢٦٤.

(٥) تفسير القرطبي : ٩ / ٣٦٠.

٣١٥

قطع رأسها يبست وذهب أصلها ؛ ولأنها تشبه الإنسان وسائر الحيوانات في الإلقاح ؛ لأنها لا تحمل حتى يلقح.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير المال سكة مأبورة ومهدة مأمورة» [١٦٢] (١).

ومنه حديث ابن عمر : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذات يوم لأصحابه : «إن شجرة من الشجر لا يطرح ورقها وهي مثل المؤمن فأخبرني ما هي؟» قال : فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة ثم نظرت فإذا أنا أصغر القوم فاستحييت وسكت. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي النخلة» [١٦٣] فذكرت ذلك لأبي فقال : يا بني لو كنت قلتها لكانت أحبّ إليّ من فضلة ؛ لأنها من شجرة آدم (٢).

يروى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أكرموا عمتكم» فقيل ومن عمتنا يا رسول الله؟ قال : «النخلة» [١٦٤] (٣) وذلك أنّ الله تعالى لما خلق آدم فصلت من طينه فصلة فخلق منها النخلة قال الله : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) وهي الشرك (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) هي الحنظلة.

قال ابن عباس : هذا مثل ضربه الله ولم يخلق هذه الشجرة على وجه الأرض.

(اجْتُثَّتْ) اقتلعت. قال ابن عباس ، والسدي : استرخت.

الضحاك : استوصلت. المؤرخ : أخذت حيث ما هي يقينا (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) كذلك الكافر لا خير فيه ولا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) يحقق الله إيمانهم وأعمالهم بالقول والتثبيت ، وهو شهادة أن لا إله إلّا الله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) يعني في القبر ، وقيل : (فِي الْحَياةِ) في القبر عند الله تعالى (وَفِي الْآخِرَةِ) إذا بعث.

مقاتل : ذلك أنّ المؤمن إذا مات بعث الله إليه ملكا يقال له : رومان فيدخل قبره فيقول له : إنه يأتيك الآن ملكان أسودان فيسألانك من ربك ومن نبيك وقادتك فأجبهما بما كنت عليه في حياتك ، ثم يخرج فيدخل الملكان وهما منكر ونكير أسودان أزرقان فظان غليظان أعينهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالريح العاصف معهما مهزبة ، فيقعدان ويسألانه لا يشعران بدخول رومان فيقول ربي الله ونبيي محمد وديني الإسلام ، فيقولان له عند الله سعيد ثم يقولان : اللهم فأرضه كما أرضاك ، ويفتح له في قبره باب من الجنة يأتيه منها التحف ، فإذا انصرفا عنه قال له : نم

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ١٣ / ٢٧٠.

(٢) صحيح ابن حبان : ١ / ٤٨١ ح ١٢٤٦٠.

(٣) كنز العمال : ١٢ / ٣٣٨ ح ٣٥٣٠٠ ، تفسير القرطبي : ٩ / ٣٦٠.

٣١٦

نومة العروس ، فهذا هو التثبيت (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) يعني يلعنهم وذلك أنّ الكافر إذا دخل عليه الملكان قالا له : من ربك وما دينك ومن نبيك؟ قال : لا أدري. قال له : لا دريت ولا هديت عشت عصيا ومتّ شقيا ، ثم يقولان له نم نومة المنهوس ويفتح من قبره باب من جهنم ويضربانه ضربة بتلك المرزبة فيشهق شهقة يسمعها كل حيوان إلّا الثقلان ويعلنه كل من يسمع صوته فذلك قوله (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (١).

روى البراء بن عازب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال : «فيعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ، ويقولان من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد ، وينتهرانه ويقولان الثانية من ربك وما دينك ومن نبيك؟ وهو آخر أسئلة الملكان فيثبته الله فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينادي مناد في السماء أن ثبت عبدي» [١٦٥] (٢) فنزل قوله تعالى (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية.

وقال ابن عباس في هذه الآية : إنّ المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة فسلموا عليه وبشروه بالجنة فإذا مات مشوا مع جنازته وصلوا عليه مع الناس ، فإذا دفن جلس في قبره فيقال له من ربك؟ فيقول ربي الله. فيقال له من رسولك؟ فيقول محمد. فيقال له ما شهادتك؟ فيقول أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله فيوسع له في قبره حد بصره ، وذلك قوله (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ).

وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جنازة فقال : «يا أيها الناس إنّ هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن ويتفرق عنه أحباؤه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال : ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله. فيقول له : صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقال له : هذا منزلك كان لو كفرت بربك ، فأما إذا آمنت به فإنّ الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض له فيقال له اسكن ثم يفتح له في قبره ، وأما الكافر أو المنافق فيقال له ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول : لا أدري ، فيقال له : لا دريت ولا تليت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له : هذا كان منزلك لو آمنت بربك ، فأما إذا كفرت فإنّ الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلّا الثقلين».

قال بعض أصحابه : يا رسول الله ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلّا هيل جزعا لذلك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا» الآية [١٦٦] (٣).

__________________

(١) سورة البقرة : ١٥٩.

(٢) جامع البيان للطبري : ١٣ / ٢٨١ ، ومسند أحمد : ٤ / ٢٨٧ ، بتفاوت يسير.

(٣) كنز العمال : ١٥ / ٦٣٧ ح ٤٢٥٠٩ ، جامع البيان للطبري : ١٣ / ٢٨١.

٣١٧

وقال أبو هريرة : إن الميت يسمع خفق نعالهم حتى يولون عنه مدبرين وإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه والصيام عن يساره وفعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف فيصلي الناس عند رجليه فيؤتى من عند رأسه فيقول للصلاة : أقبلي فتدخل فيؤتى من يمينه فيقول الزكاة اقبلي فتدخل ، فيؤتى عن يساره فيقول الصيام قبلي يدخل صوتي من عند رجليه فيقول فعل الخيرات اقبلي فتدخل ، فيقال له : اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس وقد دخل الغروب ، فيقال له : أخبرنا عما نسألك. فيقول : دعوني حتى أصلي فيقال إنك ستفعل ، فأخبرنا عما نسألك عنه فيقول وعم تسألونني؟ فيقال أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ما نقول فيه وماذا شهد عليه ، فيقول أمحمد؟ فيقال : نعم ، فيقول : أشهد إنه لرسول الله قد جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه ، فيقال له : على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ، ثم يفتح إليه في قبره سبعون ذراعا وينوّر له فيه ، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له : أنظر إلى ما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ، ثم يفتح له باب إلى النار فيقال له : انظر إلى ما صرف الله عنك لو عصيته ، فيزداد غبطة وسرورا ، ثم يجعل نسمه في النسيم الطيب ، وهي طير [خضر] تعلق بشجر الجنة ويعاد جسده إلى ما بدئ منه من التراب ، وذلك قوله (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله (وَفِي الْآخِرَةِ) (١).

وعن أبي نافع قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمشي بغدير وأنا أمشي خلفه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا هديت لا هديت ثلاثا» [١٦٧] (٢).

قال أبو نافع قلت : يا رسول الله مالي؟ قال : ليس إياك أريد ، وإنما أريد صاحب هذا القبر ، يسأل عني فيزعم أنه لا يعرفني فإذا هو قبر قد رشّ عليه الماء حين دفن صاحبه.

وأخبرنا أبو القاسم السلمي عن أبي الطيب محمد بن علي الخياط يقول : سمعت سهيل بن جابر العتكي يقول : رأيت يزيد بن عثمان بعد موته في المنام ، فقلت له ما فعل الله بك فقال : إنه أتاني في قبري ملكان فظان غليظان فقالا من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت لهما ألمثلي يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين سنة فذهبا وقالا أكتبت عن جرير بن عثمان؟ قلت : نعم. قالا : إنه كان يبغض عليا فأبغضه الله (٣).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا

__________________

(١) بطوله في تفسير الطبري : ١٣ / ٢٨٣.

(٢) المعجم الكبير : ١ / ٣٢٥.

(٣) تفسير القرطبي : ٩ / ٣٦٣.

٣١٨

خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) يعني غيّروا نعمة الله عليهم في تكذيبهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بعثه الله منهم وفيهم فكفروا به وكذبوه فيصيروا نعمة الله عليهم كفرا (وَأَحَلُّوا) وأنزلوا (قَوْمَهُمْ) ممن تابعهم على كفرهم (دارَ الْبَوارِ) الهلاك ثم [ترجم] (١) عن دار البوار ما هي. فقال : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) يدخلونها (وَبِئْسَ الْقَرارُ) المستقر.

عامر بن واثلة سمعت علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه يقول في قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا) الآية قال : هم كفار قريش الذين نحروا يوم بدر (٢).

قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : هما الأفجران من قريش بني امية ، فأما بنو امية فمتعوا إلى حين ، وأما بنو مخزوم فاهلكوا يوم بدر (٣).

ابن عباس : هم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه (٤).

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا) قرأ الكوفيون بضم الياء على معنى ليضلوا الناس عن سبيله ، وقرأ الباقون بفتح الياء على اللزوم (٥) (قُلْ تَمَتَّعُوا) عيشوا متاع الدنيا.

(فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) وهذا وعيد.

قوله : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ). قال الفراء : (٦) جزم : يقيموا بتأويل الجزاء ومعناه الأمر (٧).

(وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) إلى قوله (وَلا خِلالٌ) مخالة فيقال خلت فلانا فأنا أخاله مخالة وخلال وخلّة (٨).

__________________

(١) زيادة عن تفسير الطبري : ١٣ / ٢٨٧.

(٢) تفسير القرطبي : ٩ / ٣٦٤.

(٣) تفسير القرطبي : ٩ / ٣٦٤ ، ونسبه لعمر وعلي معا.

(٤) تفسير القرطبي : ٩ / ٣٦٤.

(٥) أي عاقبتهم إلى الإضلال والضلال ، فهذه لام العاقبة.

(٦) في جزم : يقيموا أوجه هذا أحدها ، وقيل إنه على حذف لام الأمر أي : ليقيموا ، وقيل أنه جواب الأمر وهو قل.

(٧) زيادة عن تفسير الطبري : ١٣ / ٢٩٤ ، وعبارة المخطوط مشوشة.

(٨) المصدر السابق.

٣١٩

قال امرؤ القيس :

صرفت الهوى عنهن من خشية الردى

وخلت بمقليّ الخلال ولا قالي (١)

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) إلى قوله (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ).

قال ابن عباس : دؤوبهما في طاعة الله.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) متعاقبان في الضياء والظلمة والنقصان والزيادة (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) يعني وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئا فحذف الشيء الثاني اكتفاء بدلالة الكلام على التبعيض كقوله (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (٢) يعني وأوتيت من كل شيء في زمانها شيئا وقيل هو التكثير نحو قولك : فلان يعلم كل شيء وأتاه كل الناس ، وأنت تعني بعضهم نظيره قوله (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) (٣).

وقال بعض المفسرين : معناه وآتاه من كل ما سألتموه وما لم تسألوه (٤) ، وهذه قراءة العامة بالإضافة [.........] (٥).

وقرأ الحسن والضحاك وسلام : مِنْ كُلٍ ، بالتنوين على النفي يعني من كل ما لم تسألوه فيكون ما يجد.

قال الضحاك : أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها ، صدق الله لكم من شيء أعطاناه الله ما سألناه إياه ولا خطرنا ببال (٦).

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) لا تطيقوا ذكرها ولا القيام بشركها لا بالجنان ولا باللسان ولا بالبيان (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) لشاكر غير من أنعم عليه واضع الشكر في غير موضعه (كَفَّارٌ) جحود لنعم الله ، وقيل ظلمه لنفسه بمعصيته كفار لربه في نعمته ، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع ، كفار في النعمة يجمع ويمنع.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٣ / ٢٩٤.

(٢) سورة النمل : ٢٣.

(٣) سورة الانعام : ٤٤.

(٤) المصدر السابق : ١٣ / ٢٩٧.

(٥) كلمة غير مقروءة.

(٦) المصدر السابق : ١٣ / ٢٩٧.

٣٢٠