الكشف والبيان - ج ٥

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٥

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

قيل : فتوفّاه الله طيّبا طاهرا بمصر ، ودفن في النيل في صندوق رخام ، وذلك أنّه لما مات تشاحّ الناس عليه كلّ يحب أن يدفن في محلّتهم لما يرجون من بركته ، فاجتمعوا على ذلك حتى همّوا بالقتال ، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث مفرق الماء بمصر فيمرّ الماء عليه ثمّ يصل الماء إلى جميع مصر ، فيكونوا كلّهم فيه شرعا واحدا ففعلوا.

وروى صالح المرّي ، عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك ، قال : إنّ الله عزوجل لمّا جمع ليعقوب شمله خلا ولده نجيّا ، فقال بعضهم لبعض : أليس قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف؟ قالوا : بلى ، قال : فإن أعفوا عنكم ولكن كيف لكم بربّكم؟ ، فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنب أبيه قاعد.

قالوا : يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط ، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله ، حتى حرّكوه ، والأنبياء عليهم‌السلام أرحم البريّة ، فقال : ما لكم يا بنيّ؟ قالوا : ألست قد علمت ما كان منّا إليك ، وما كان منّا إلى أخينا يوسف؟ قالا : بلى ، وقالوا : أفلستما قد عفوتما ، قالا : بلى ، قالوا : فإنّ عفوكما لا يغني عنّا إن كان الله لم يعف عنّا ، قال : فما تريدون يا بني؟ قالوا : نريد أن تدعو الله فإذا جاء الوحي من عند الله بأنّه قد عفا صنعنا قرّت أعيننا واطمأنّت قلوبنا ، وإلّا فلا قرّة عين لنا في الدنيا أبدا ، فقام الشيخ واستقبل القبلة وقام يوسف خلف أبيه ، وقاموا خلفهما أذلّة خاشعين ، فدعا يعقوب وأمّن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة.

قال صالح المرّي : يخيفهم ، حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبرئيل على يعقوب فقال : إنّ الله تبارك وتعالى بعثني إليك أبشّرك ، فإنّه قد أجاب دعوتك في ولدك ، وإنّه قد عفا عمّا صنعوا ، فإنّه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوّة ، وذلك الذي ذكرت وقصصت عليك.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

٢٦١

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) وما كنت يا محمّد عند أولاد يعقوب (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) أي تعاهدوا على إلقاء يوسف في غيابة الجب ، (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) بيوسف ، (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ) على إيمانهم (بِمُؤْمِنِينَ وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) أي على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله (مِنْ أَجْرٍ) : جعل وجزاء (إِنْ هُوَ) يعني القرآن والوحي (إِلَّا ذِكْرٌ) : عظة وتذكير (لِلْعالَمِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) وكم قول فيه عظة وعبرة ودلالة (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) لا يتفكّرون فيها ولا يعتبرون بها.

الحرث بن قدامة عن عكرمة أنّه قرأ : وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها رفعا ، عن محمّد بن عمر قال : سمعت عمرو بن وائل يقرأ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ) قطعا ، وَالْأَرْضُ يَمُرُّونَ عَلَيْها رفعا ، أبو حمزة الثمالي عن السدي : أنّه قرأ (وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها) نصبا ، وقرأ : يمرون على الأرض ، وعن ابن مجاهد قال : حدّثنا إسحاق الحربي أبو حذيفة ، حدّثنا سفيان قال : وقرأ عبد الله : وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمشون عليها.

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) عكرمة في قول الله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) قال : من إيمانهم إذا سئلوا : (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟) قالوا : الله ، وإذا سئلوا من نزّل القطر؟ قالوا : الله ، ثمّ هم يشركون ، وروى جابر عن عكرمة وعامر ، في قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) قالا : يؤمنون بالله أنّه ربّهم وهو خالقهم ويشركون من دونه ، وهذا قول أكثر المفسّرين.

وروى بن جبير عن الضحّاك عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب وكانوا يقولون في تلبيتهم : لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك ، تملكه وما ملك ، وكان فيها يخزونك من تلبي : فأجب يا الله لو لا أن بكرا دونك بني غطفان وهم يلونك ، ينزل الناس ويخزونك ، ما زال منا غنجا يأتونك ، وكانت تلبية حرمهم : خرجنا عبادك الناس طرف وهم تلادك ، وهم قديما عمّروا بلادك ، وقد تعادوا فيك من يعادك ، وكانت تلبية قريش : [اللهمّ لبّيك ، لا شريك لك إلّا شريكا هو لك تملكه وما ملك] (١) ، وكانت تلبية حمدان وغسان وقضاعة وجذام وتلقين وبهرا : نحن عبادك اليماني إنّا نحجّ ثاني [على الطريق الناجي نحن نعادي] جئنا إليك حادي (٢). فأنزل الله (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) يعني في التلبية.

وقال : لمّا سمع المشركون ما قبل هذه الآية من الآيات قالوا : فإنّا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء ولكنّا نزعم أنّ له شريكا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

__________________

(١) زيادة عن أخبار مكّة للأزرقي : / ١٩٤ ، وتاريخ دمشق : ١٩ / ٥٠١ ، والعبارة غير مقروءة في المخطوط.

(٢) ذكر اليعقوبي تلبية كلّ قبيلة من العرب مفصّلا فليراجع تاريخ اليعقوبي : ١ / ٢٥٥ وفيها اختلاف عمّا ذكره المصنّف هنا.

٢٦٢

عطاء : هذا في الدعاء وذلك أنّ الكفّار أشركوا بربّهم في الرخاء ، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء ، بيانه قوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١) وقوله تعالى : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٢) وقوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ) (٣) وقوله : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (٤).

وقال بعض أهل المعاني : معناه (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) قبل إيمانهم ، نظيره قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) (٥) يعني كانوا هم أشدّ منهم بطشا. وقال وهب : هذه في وقعة الدخان وذلك أنّ أهل مكّة لمّا غشيهم الدخان في سنيّ القحط قالوا : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) ، وذلك إيمانهم وشكرهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب بيانه قوله : (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) (٦) والعود لا يكون ، إلّا بعد ابتداء والله أعلم (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) قال ابن عباس : مجللة ، مجاهد : عذاب يغشاهم ، نظيره قوله : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (٧) : قتادة : وقيعة ، الضحّاك : يعني الصواعق والقوارع (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) القيامة (بَغْتَةً) فجأة ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بقيامها ، ابن عباس : تصيح الصيحة بالناس وهم في أسواقهم.

(قُلْ) لهم يا محمّد (هذِهِ) الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها (سَبِيلِي) سنّتي ومنهاجي ، قاله ابن زيد ، وقال الربيع : دعوتي ، الضحّاك : دعائي ، مقاتل : ديني ، نظيره قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (٨) أي دينه ، (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) على يقين ، يقال : فلان مستبصر في كذا أي مستيقن (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) آمن بي وصدّقني فهو أيضا يدعو إلى الله ، هذا قول الكلبي ، وابن زيد قال : أحقّ والله على من اتّبعه أن يدعو إليّ بما دعا إليه ، ويذكر بالقرآن والموعظة ، وينهى عن معاصي الله.

وقيل : معناه أنا ومن اتّبعني على بصيرة ، يقول : كما أنّي على بصيرة ، فكذلك من آمن بي واتّبعني فهو على بصيرة أيضا ، قال ابن عباس : يعني أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا على أحسن طريقة وأقصد هداية ، معدن العلم ، وكنز الإيمان وجند الرحمن. (وَسُبْحانَ اللهِ) أي وقل :

__________________

(١) سورة يونس : ٢٢.

(٢) سورة لقمان : ٣٢.

(٣) سورة يونس : ١٢.

(٤) سورة فصّلت : ٥١.

(٥) سورة ق : ٣٦.

(٦) سورة الدخان : ١٥.

(٧) سورة العنكبوت : ٥٥.

(٨) سورة النحل : ١٢٥.

٢٦٣

سبحان الله تنزيها له عمّا أشركوا (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) : يا محمّد (إِلَّا رِجالاً) لا ملائكة ، (نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) يعني من أهل الأمصار دون أهل البوادي لأنّ أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا) يعني هؤلاء المشركين المنكرين لنبوّتك (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أخبر بأمر الأمم المكذّبة من قبلهم ، فيعتبروا (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) يقول جلّ ثناؤه : هذا فعلنا في الدنيا بأهل ولايتنا وطاعتنا أن ننجيهم عند نزول العذاب ، وما في دار الآخرة لهم خير ، فترك ما ذكرنا ، آنفا لدلالة الكلام عليه ، وأضيف الدار إلى الآخرة ولا خلاف لتعظيمها كقوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (١) وقولهم : عام الأوّل ، وبارحة الأولى ويوم الخميس وربيع الآخر : وقال الشاعر :

ولو أقوت عليك ديار عبس

عرفت الذلّ عرفان اليقين (٢)

يعني عرفانا.

(أَفَلا يَعْقِلُونَ) يؤمنون (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) اختلف القرّاء في قوله : (كُذِبُوا)

فقرأها قوم بالتخفيف (٣) وهي قراءة علي بن أبي طالب عليه‌السلام وابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي عبد الرحمن السلمي وعكرمة والضحاك وعلقمة ومسروق والنخعي وأبي جعفر المدني ومحمّد بن كعب والأعمش وعيسى بن عمر الهمداني وأبي إسحاق السبيعي وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة وعلي بن الحسين وابنه محمّد بن علي وابنه جعفر بن محمّد ، وعبد الله بن مسلم وابن يسار ، واختارها الكسائي وأبي عبيدة.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قرأ (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) مخفّفة وهي قراءة عائشة و [هرقل] الأعرج ونافع والزهري وعطاء بن أبي رياح وعبد الله بن كثير وعبد الله بن الحارث وأبي رجاء والحسن.

وقتادة وأبي عمرو وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون ويعقوب ، ورويت أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن قرأ بالتخفيف ، فمعناه : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبتهم في وجود العذاب.

وروى الخبر عن شعيب بن الحجاج عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزري : قال صنعت طعاما فدعوت ناسا من أصحابنا منهم : سعيد بن جبير وأرسلت إلى الضحّاك بن مزاحم فأبى أن

__________________

(١) سورة الواقعة : ٩٥.

(٢) تفسير الطبري : ١٣ / ١٠٦.

(٣) راجع تفسير القرطبي : ٩ / ٢٧٥ ، وزاد المسير ، تجد اختلاف في الأسماء فتأمّل.

٢٦٤

يجيئني فأتيته فلم أدعه حتى جاء ، قال : فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال : يا أبا عبد الله كيف تقرأ هذا الحرف فإنّي إذا أتيت عليه تمنّيت إنّي لا أقرأ هذه السورة : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قال : نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم ، وظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل كذّبوهم.

قال : فقال الضحّاك : ما رأيت كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكّأ ، لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا (١).

وقال بعضهم : معنى الآية على هذه القراءة (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) من إيمان قومهم وظنّت الرسل (أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) فيما وجدوا من النصرة. وهذه رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : كانوا دعوا فضعفوا ويئسوا وظنوا أنّهم أخلفوا ثمّ قوله تعالى : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) الآية ، ومن قرأ بالتشديد فمعناها ، (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) من قومهم أن يؤمنوا بهم وظنّت الرسل أي استيقنت أنّ أممهم قد كذبوهم (جاءَهُمْ نَصْرُنا) ، وعلى هذا التأويل يكون الظنّ بمعنى العلم واليقين كقول الشاعر :

فقلت لهم ظنوا بألفي متلبب (٢)

سراتهم في الفارسيّ المسرد (٣)

أي أيقنوا.

وهذا معنى قول قتادة ، وقال بعضهم : معنى الآية على هذه القراءة (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) ممّن كذّبهم من قومهم أن يصدّقونهم ، وظنّت الرسل أنّ من قد آمن بهم وصدّقوهم قد كذّبوهم فارتدوا عن دينهم لاستبطائهم النصر (جاءَهُمْ نَصْرُنا) وهذا معنى قول عائشة.

وقرأ مجاهد كذبوا بفتح الكاف والذال مخفّفة ولها تأويلان : أحدهما : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) أن يعذب قومهم ، وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا ، والثاني : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) من إيمان قومهم وظنّت الرسل أنّ قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم ، ويكون معنى الظنّ اليقين على هذا التأويل ، والله أعلم.

(فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) عند نزول العذاب وهم المطيعون والمؤمنون (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) عذابنا (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) يعني المشركين ، واختلف القرّاء في قوله فنجّي فقرأها عامّة القراء فننجّي بنونين على معنى فنحن نفعل بهم ذلك ، فأدغم الكسائي أحد النونين في الأخرى فقرأ : (فَنُجِّيَ) بنون واحدة وتشديد الجيم ، وقرأ عاصم بضمّ النون وتشديد الجيم وفتح الياء على مذهب ما لم

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٥١٦ ، والدرّ المنثور : ٤ / ٤١.

(٢) في المصدر : [محجج].

(٣) لسان العرب : ١٣ / ٢٧٢ ، تفسير الطبري : ٢٥ / ١٧٩.

٢٦٥

يسمّ فاعله ، واختار أبو عبيد هذه القراءة لأنّها في مصحف عثمان ، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة وقرأ ابن محيصن فنجا من نشاء بفتح النون والتخفيف على أنّه فعل ماض ويكون محلّه على قراءة عاصم وابن محيصن رفعا ، وعلى قراءة الباقين نصبا.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) أي في خبر يوسف وأخوته (عِبْرَةٌ) عظة (لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ) يعني القرآن (حَدِيثاً يُفْتَرى) يختلق (وَلكِنْ تَصْدِيقَ) يعني ولكن كان تصديق (الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ما قبله من الكتب (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) ممّا يحتاج إليه العباد (وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

٢٦٦

سورة الرعد

مدنية

قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : إنّها مكّيّة إلّا آيتين ، قوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) ، وقوله (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).

وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وست أحرف وثمان و [..........] (١) وخمسون كلمة وثلاث وأربعون آية.

سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ سحاب مضى وكلّ سحاب يكون إلى يوم القيامة ، وكان يوم القيامة من الموفين بعهد الله عزوجل» [١٣٠] (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))

(المر) قال ابن عباس : معناه : أنا الله أعلم وأرى (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) يعني تلك الأخبار التي قصصناها عليك آيات التوراة والإنجيل والكتب المتقدّمة (وَالَّذِي أُنْزِلَ) يعني وهذا القرآن الذي أنزل (إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هو (الْحَقُ) فاعتصم به واعمل بما فيه ، فيكون محلّ (الَّذِي) رفعا على الابتداء و (الْحَقُّ) خبره ، وهذا كلّه معنى قول مجاهد وقتادة ، ويجوز أن يكون محلّ

__________________

(١) كلمة غير مقروءة.

(٢) تفسير مجمع البيان : ٦ / ٥.

٢٦٧

(الَّذِي) خفضا يعني تلك آيات الكتاب وآيات الذي أنزل إليك ثم ابتداء الحقّ يعني ذلك الحقّ كقوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُ) يعني ذلك الحقّ.

وقال ابن عباس : أراد بالكتاب القرآن فيكون معنى الآية على هذا القول : هذه آيات الكتاب يعني القرآن ، ثمّ قال : وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربّك هو الحقّ ، قال الفرّاء : وإن شئت جعلت (الَّذِي) خفضا على أنّه نعت الكتاب وإن كانت فيه الواو كما تقول في الكلام : أتانا هذا الحديث عن أبي حفص والفاروق وأنت تريد ابن الخطّاب ، قال الشاعر :

أنا الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم (١)

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) قال مقاتل : نزلت هذه الآية في مشركي مكّة حين قالوا : إنّ محمّدا يقول القرآن من تلقاء نفسه ، ثمّ بين دلائل ربوبيّته وشواهد قدرته فقال عزّ من قائل : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) وهذه الآية من جملة مائة وثمانين آية أجوبة لسؤال المشركين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الربّ الذي تعبده ما فعله وصنيعه؟ وقوله : (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) يعني السواري والدعائم واحدها عمود وهو العمد والبناء ، يقال : عمود وعمد مثل أديم وأدم ، وعمدان ، وكذا مثل رسول ورسل ، ويجوز أن يكون العمد جمع عماد ، ومثل إهاب وأهب ، قال النابغة :

وخيس الجنّ إنّي قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصّفاح والعمد (٢)

واختلفوا في معنى الآية فنفى قوم العمد أصلا ، وقال : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) وهو الأقرب الأصوب ، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس : يعني ليس من دونها دعامة تدعهما ، ولا فوقها علاقة تمسكها ، وروى حمّاد بن سملة عن إياس بن معاوية قال : السماء مقبّبة على الأرض مثل القبر ، وقال آخرون : معناه : الله الذي رفع السماوات بعمد ولكن لا ترونها ، فأثبتوا العمد ونفوا الرؤية ، وقال الفرّاء من تأوّل ذلك فعلى مذهب تقديم العرب الجملة من آخر الكلمة الى أوّلها كقول الشاعر :

إذا أعجبتك الدهر حال من أمرى

فدعه وأوكل (٣) حاله واللياليا

تهين (٤) على ما كان عن صالح به

فان كان فيما لا يرى الناس آليا (٥)

معناه : وإن كان فيما يرى الناس لا يألو. وقال الآخر :

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ٢ / ١٣٧.

(٢) لسان العرب : ٤ / ٢٩١.

(٣) في المصدر : وواكل.

(٤) في المصدر : يجئن.

(٥) تفسير الطبري : ١٢٣.

٢٦٨

ولا أراها تزال ظالمة

تحدث لي نكبة وتنكرها (١)

معناه : أراها لا تزال ظالمة فقدّم الجحد.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) علا عليه وقد مضى تفسيره ، (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذلّلها لمنافع خلقه ومصالح عباده (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي كلّ واحد منهما يجري الى وقت قدّر له ، وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي عندها تكور الشمس ويخسف القمر وتنكدر النجوم ، وقال ابن عباس : أراد بالأجل المسمّى درجاتهما ومنازلهما التي ينتهين إليها لا يجاوزانها.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) قال مجاهد : يقضيه وحده (يُفَصِّلُ الْآياتِ) ينتهيان ، (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) لكي توقنوا بوعدكم وتصدّقوه (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) بسطها ، (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) جبالا ، واحدتها راسية وهي الثابتة ، يقال : إنّما رسيت السفينة ، وأرسيت الوتد في الأرض إذا أثبتّها ، قال الشاعر :

حبّذا ألقاه سائرين وهامد

وأشعث أرست الوليدة بالفهر

قال ابن عباس : كان أبو قبيس أوّل جبل وضع على الأرض ، (وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ) صنفين وضربين (اثْنَيْنِ) : قال أبو عبيدة يكون الزوج واحدا واثنين ، وهو هاهنا واحد ، قال القتيبي : أراد من كلّ الثمرات لونين حلوا وحامضا (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يستدلّون ويعتبرون (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أبعاض متقاربات متدانيات يقرب بعضها من بعض بالجوار ويختلف بالتفاضل ، ومنها عذبة ومنها طيبة ومنها طيبة منبت ؛ لأنها بجنته ومنها سبخة لا تنبت.

(وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) رفعها ابن كثير وأبو عمرو عطفا على الجنات ، وكسرها الآخرون عطفا على الأعناب. والصنوان جمع صنو ، وهي النخلات يجمعهن أصل واحد فيكون الأصل واحد ، ويتشعب به الرءوس فيصير نخلا ، كذا قال المفسرون ، قالوا : (صِنْوانٌ) مجتمع (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) متفرق.

قال أهل اللغة : نظيرها في كلام العرب ، (صِنْوانٌ) واحد ، واحدها صنو والصنو المثل وفيه قيل : شمّ الرجل صنوانه ولا فرق فيهما بين التثنية والجمع إلّا بالإعراب ؛ وذلك أن النون في التثنية مكسورة غير منونة وفي الجمع منونة تجري جريان الإعراب.

خالفوا كلهم على خفض الصاد من صنوان إلّا أبا عبد الرحمن السلمي فإنه ضم صاده.

__________________

(١) مغني اللبيب : ٢ / ٣٩٣ ، وتفسير الطبري : ١٣ / ١٢٣.

٢٦٩

(يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ). قرأ عاصم وحميد وابن الحسن وابن عامر : بالياء على معنى يسقى ذلك كله بماء واحد.

وقرأ الباقون : بالتاء لقوله (جَنَّاتٌ).

واختاره أبو عبيد قال : وقال أبو عمرو : مما يصدق التأنيث قوله (بَعْضَها عَلى بَعْضٍ) ولم يقل بعضه. (وَنُفَضِّلُ). قرأ الأعمش وحمزة والكسائي : بالياء ردا على قوله (يُدَبِّرُ) ويفضّل و (يُغْشِي).

وقرأها الباقون : بالنون بمعنى ونحن نفضل بعضها على بعض في الأكل.

قال الفارسي : والدفل (١) والحلو والحامض.

قال مجاهد : كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد.

عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لعلي كرم الله وجهه : «الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة» [١٣١] ثم قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) حتى بلغ (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) (٢).

قال الحسن : هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم ، كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فبسطها وبطحها فصارت الأرض قطعا متجاورة ، فينزل عليها الماء من السماء فيخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها ويخرج قاتها (٣) ويحيي موتاها ويخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاهما تسقى بماء واحد. فلو كان الماء مجا قيل : إنما هذه من قبل الماء ، كذلك الناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترقّ قلوب فتخنع وتخشع ، تقسوا قلوب فتلهو وتقسو وتجفو.

وقال الحسن : والله ما جالس القرآن أحد إلّا قام من عنده إلّا في زيادة ونقصان.

قال الله عزوجل (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ... إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرت (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللهُ

__________________

(١) هكذا في الأصل.

(٢) مستدرك الصحيحين : ٢ / ٢٤١ ، وكنز العمال : ١١ / ٦٠٨ ، ح ٣٢٩٤٤ ، وتاريخ دمشق : ٤٢ / ٦٤ ، ط. دار الفكر.

(٣) هكذا في المخطوط.

٢٧٠

يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠))

(وَإِنْ تَعْجَبْ) يا محمد من تكذيب هؤلاء المشركين واتخاذهم ما لا يضر ولا ينفع آلهة يعبدونها من دون الله ، وهم قراء تعبدون من الله وامره وما ضرب الله من الأمثال (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) فتعجب أيضا من قيلهم (إِذا كُنَّا تُراباً) بعد الموت (إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) فيعاد خلقنا جديدا كما كنا قبل الوجود.

قال الله : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) (١) يوم القيامة (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) جهنم (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) يعني مشركي مكة (بِالسَّيِّئَةِ) بالبلاء والعقوبة (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) الرخاء والعافية ، وذلك أنّهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن جاءهم العذاب فاستهزأ منهم بذلك.

وقالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) (٢) الآية (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) وقد مضت من قبلهم في الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها ، العقوبات المنكلات واحدتها : مثلة بفتح الميم وضم التاء مثل صدقة وصدقات.

وتميم : بضم التاء والميم جميعا ، وواحدتها على لغتهم مثلة بضم الميم وجزم الثاء مثل عرفة وعرفات والفعل منه مثلت به أمثل مثلا بفتح الميم وسكون الثاء.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ).

أحمد بن منبه عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال : ولما نزلت هذه الآية (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو لا عفو الله وتجاوزه ما هنأ لأحد العيش ، ولو لا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد» [١٣٢] (٣).

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ) يعني على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آيَةٌ) علامة وحجة على نبوته ، قال الله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) مخوف (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) داع يدعوهم إلى الله عزوجل إمام يأتمون به.

وقال الكلبي : داع يدعوهم إلى الضلالة أو إلى الحق.

__________________

(١) سورة الإسراء : ٨٢.

(٢) سورة الأنفال : ٣٢.

(٣) الدر المنثور : ٤ / ٤٥.

٢٧١

أبو العالية : قائد ، أبو صالح قتادة مجاهد : نبي يدعوهم إلى الله.

سعيد بن جبير : يعني بالهادي الله عزوجل.

وهي رواية العوفي ، عن ابن عباس قال : المنذر محمد ، والهادي الله.

عكرمة وأبو الضحى : الهادي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروى السدي عن عبد الله بن علي قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المنذر أنا ، الهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه» [١٣٣] (١).

وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على صدره فقال : «أنا المنذر» وأومأ بيده إلى منكب علي رضي‌الله‌عنه فقال : «فأنت الهادي يا علي ، بك يهتدي المهتدون من بعدي» [١٣٤] (٢).

ودليل هذا التأويل : ما روي عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن زيد عن ربيع عن حذيفة : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن وليتموها أبا بكر فزاهد في الدنيا راغب في الآخرة وفي جسمه ضعف ، وإن وليتموها عمر فقوي أمين لا تأخذه في الله لومة لائم ، وإن وليتموها عليا فهاد مهدي يقيمكم على طريق مستقيم» [١٣٥] (٣).

ردا على منكري البعث القائلين (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) فقال سبحانه : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) يعني تنقص.

قال المفسرون : غيض الأرحام الحيض على الحمل ، فإذا حاضت الحامل كان نقصانا في غذاء الولد وزيادة في مدة الحمل ، فإنها بكل يوم حاضت على حملها يوم تزداد في طهرها حتى يستكمل ستة أشهر ظاهرا. فإن رأت الدم خمسة أيام ومضت التسعة أشهر وخمسة أيام ، وهو قوله : (وَما تَزْدادُ).

روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : (ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) خروج الدم حتى تحض ، يعني حين المولد ، (وَما تَزْدادُ) استمساك الدم إذا لم تهرق المرأة تم الولد وعظم ، وفي هذه الآية دليل على أنّ الحامل تحيض وإليه ذهب الشافعي.

وقال الحسن : غيضها ما تنقص من التسعة الأشهر وزيادتها ما تزداد على التسعة الأشهر.

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ١٢٦.

(٢) الدر المنثور : ٤ / ٣٥.

(٣) كنز العمال : ١١ / ٦٣١ ، ٣٣٠٧٥.

٢٧٢

الربيع بن أنس : ما يغيض الأرحام يعني السقط (وَما تَزْدادُ) يعني توأمين إلى أربعة.

جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : (ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) يعني به السقط.

وروى عبيد بن سليمان عن الضحاك قال : الغيض النقصان من الأجل ، والزيادة ما يزداد على الأجل ، وذلك أنّ النساء لا يلدن لعدّة واحدة ولا لأجل معلوم وقد يولد الولد لستة أشهر فيعيش ويولد لسنتين ويعيش.

قال : وسمعت الضحاك يقول : ولدت لسنتين قد نبتت ثناياي ، وروى هيثم عن حصين قال : مكث الضحاك في بطن أمه سنتين.

وروى ابن جريح عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت : لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحو ظل المغزل ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وجماعة من الفقهاء (١).

وقال الشافعي وجماعة من الفقهاء : أكثر الحمل أربع سنين ، يدل عليه ما أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الحافظ ، أحمد بن إبراهيم بن الحسين بن محمد قال : سمعت أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الفرج الأحمري سمعت عباس بن نصر البغدادي سمعت صفوان ابن عيسى يقول : مكث محمد بن عجلان في بطن أمه ثلاث سنين فشق بطن أمه وأخرج وقد نبتت أسنانه.

وروى ابن عائشة عن حماد بن سلمة قال : إنما سمي هرم بن حيان هرما ؛ لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين.

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) بحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، والمقدار مفعال من القدر (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ) الذي كل شيء دونه (الْمُتَعالِ) المستعلي على كل شيء بقدرته (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) في ظلمته (وَسارِبٌ) ظاهر (بِالنَّهارِ) ضوءه لا يخفى عليه من ذلك.

وقال أبو عبيدة : (سارِبٌ بِالنَّهارِ) أي سالك في سربه أي مذهب ووجهة ، يقال : سارب سربه بفتح السين أي طريقه.

قال قيس بن الحطيم :

إني سربت وكنت غير سروب

وتقرب الأحلام غير قريب

الشعبي : (سارِبٌ بِالنَّهارِ) منصرف في حوائجه يقال : سرب يسرب.

قال الشاعر :

__________________

(١) راجع نصب الراية : ٣ / ٤٥٤ ، وسنن الدار قطني : ٣ / ٢٢١.

٢٧٣

أرى كلّ قوم قاربوا قيد فحلهم

ونحن خلعنا قيده فهو سارب (١)

أي ذاهب.

قال ابن عباس : في هذه الآية هو صاحب ريبة (مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) ، فإذا خرج بالنهار رأى الناس أنه بريء من الإثم.

وقال بعضهم : (مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي ظاهر ، من قولهم : خفيت الشيء إذا أظهرته ، (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أي متوار داخل في سرب.

(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤))

(لَهُ) أي لله تعالى (مُعَقِّباتٌ) ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار ، وإذا صعدت ملائكة النهار أعقبتها ملائكة الليل ، والتعقيب العود بعد المبدأ ، قال الله (وَلَمْ يُعَقِّبْ) وإنما ذكرها هنا بلفظ جمع التأنيث ؛ لأنّ واحدهما معقب وجمعه معقبة ، ثم جمع المعقبة معقبات فهي جمع الجمع. كما قيل أما قال قد حالات بكم وقوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) يعني من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار (وَمِنْ خَلْفِهِ) من وراء ظهره.

قال ابن عباس : ملائكة (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ... مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) فإذا جاء القدر خلوا عنه.

حماد بن سلمة عن عبد الله بن جعفر عن كنانه العمري قالوا : دخل عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أسألك عن العبد كم معه من ملك؟ قال : «ملك على يمينك يكتب حسناتك ، وهو أمين على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا ، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : أأكتب؟ قال : لا ، لعله يستغفر الله أو يتوب فإذا قال ثلاثا قال : نعم اكتب أراحنا الله منه فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله عزوجل وأقل استحياء منا يقول الله (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (٢) وملكان من بين يديك

__________________

(١) زاد المسير : ٤ / ٢٢٩ ، وفي لسان العرب : ١ / ٤٦٢ وفيه (كل أناس) بدل (أرى كل قوم)

(٢) سورة ق : ١٨.

٢٧٤

ومن خلفك يقول الله (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) وملك قابض على ناصيتك ، فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك ، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلّا الصلاة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآله ، وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحيّة في فيك ، وملكان على عينيك هؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار ؛ لأن ملائكة الليل أي ليسوا من ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس مع بني آدم بالنهار وولده بالليل» [١٣٦] (١).

قتادة وابن جريح : هذه ملائكة الله عزوجل يتعاقبون فيكم بالليل والنهار ، وذكر لنا أنّهم يجتمعون عند صلاة العصر وصلاة الصبح.

همام بن منبه عن أبي هريرة عن محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يتعاقبون فيكم ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي؟ قالوا : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون» [١٣٧] (٢).

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال : ذكر [أنّ] (٣) ملكا من ملوك الدنيا له حرس من دونه حرس فإذا جاء أمر الله لم ينفعوا شيئا.

عكرمة : هؤلاء ملائكة من بين أيديهم ومن خلفهم لحفظهم.

شعبة عن شرفي عن عكرمة قال : الجلاوزة (٤).

الضحاك : هو السلطان المحترس من الله وهم أهل الشرك ، وقوله (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) اختلفوا فيه فقال قوم : يعني : بأمر الله ، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض ، وهذا قول مجاهد وقتادة ورواية الوالبي عن ابن عباس ، وقال الآخرون : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) ما لم يجئ القدر (٥).

لبيد عن مجاهد : ما من عبد إلّا به ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس الهوام فما منهم شيء بأمره يريده إلّا قال فذاك لا يأتي بإذن الله عزوجل فيه فيصيبه.

وقال كعب الأحبار : لو لا وكل الله بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا يحيطكم الجن.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٩ / ٢٩٤.

(٢) صحيح مسلم : ٢ / ١١٣.

(٣) ما بين المعقوفتين زيادة اقتضاها السياق.

(٤) تفسير الطبري : ١٣ / ١٥٦.

(٥) راجع تفسير القرطبي : ٩ / ٢٩٢.

٢٧٥

وروى عمار بن أبي حفصة عن أبي مجلز قال : جاء رجل من مراد إلى علي رضي‌الله‌عنه وهو يصلي ، فقال : احترس فإنّ ناسا من مراد يريدون قتلك. فقال : إنّ مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإنّ الأجل جنة حصينة ، وقال أهل المعاني : إنّ أوامر الله عزوجل على وجهين أحدهما قضى حلوله ووقوعه بصاحبه ، فذلك ما لا يدفعه أحد ولا يغيره بشر ولا حتى الجن ولم يقض حلوله ووقوعه ، بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظة كقصة يونس عليه‌السلام ، وقال ابن جريج : معناه يكنصون من الله أمر الله يعني يحفظون عليه الحسنات والسيئات ، وقال بعض المفسرين أن هذه الآية أنّ الهاء في قوله : (لَهُ) راجعة إلى رسول الله عليه‌السلام.

جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : (لَهُ مُعَقِّباتٌ) يعني محمد عليه‌السلام من الرحمن حراس (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) ، يعني من شر الجن والإنس ومن شر طارق الليل والنهار ، وقال عبد الرحمن بن زيد : نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وزيد بن ربيعة وكانت قصتهما على ما روى محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : أقبل علينا زيد بن ربيعة هو وعامر بن الطفيل يريدان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس في نفر من أصحابه ، فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور ، وكان من أجمل الناس.

وقال رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل وهو مشرك.

فقال : دعه فإن يرد الله به خيرا بهذه ، فأقبل حتى قام عليه ، فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت؟ قال : لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين ، قال : تجعل لي الأمر بعدك. قال : ليس ذلك إليّ إنما ذاك إلى الله يجعله حيث يشاء.

قال : فجعلني على الوبر وأنت على المدر ، قال الرجل : فماذا يجعل لي؟ قال : أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها.

قال : أوليس ذلك لي اليوم؟ قال : لا. قال : قم معي أكلمك ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يوصي إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر من ورائه بالسيف فجعل يخاصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدار أربد بن ربيعة خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليضربه فاخترط من سيفه شبرا ثم حبسه الله عنه فلم يقدر على قتله وعامر يومئ إليه فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأى أربد وما منع بسيفه.

فقال : اللهم أكفنيهما بما شئت ، فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صاح صائف وولى عامر هاربا.

وقال : يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا.

٢٧٦

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة» [١٣٨] (١) يعني الأوس والخزرج ، فنزل عامر ببيت امرأة سلولية فأنشأ يقول :

بخير أبيت اللعن إن شئت ودّنا

فإن شئت حربا بأس ومصدق

وإن شئت فنسيا ما يكفي أمرهم

يكبون كبش العارفين متألق

فلما أصبح ضم إليه سلاحه وقد تغير لونه ، وهو يقول : واللات لئن أصحر محمد إلي وصاحبه ـ عني ملك الموت ـ لأنفذنهما برمحي ، فلما رأى الله تعالى ذلك منه أرسل ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التارب ، وخرجت على ركبته غدة في الوقت كغدة البعير فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول : غدة كغدة البعير وموت في السلولية ثم مات على ظهر فرسه (٢).

لعمري وما عمري علي بهين

لقد شأن حمر الوجه طعنة مسهر

قد علم المزنوق أني أكرّ

على جمعهم كرّ المنيح المشهر (٣)

وأزود من وقع السنان زجرته

وأخبرته أني امرؤ غير مقصر

وأخبرته أن الفرار خزاية

على المرء ما لم يبل عذرا فيعذر.

لقد علمت عليا هوازن أنني

أنا الفارس الحامي حقيقة (٤) جعفر

فجعل يركض في الصحراء ويقول : أبرز يا ملك الموت ، ثم أنشأ يقول :

لا قرب المزنوق ولتجد ما أرى لنفر

من يوم شره غير حامد.

إلا قرباه إن غاية حرمناه إذا

قرب المزنوق بين الصفائد هو من عامر قدن

إذا ما دعوتهم أجابوا

ولبى منهم كل ماجد

وكان بعضهم يعيّر بعضا النزول على سلولية ولذلك ركب فرسه ليموت خارجا من بيتها ما أحس بالموت ، ثم دعا بفرسه يركبه ثم أجراه حتى مات على ظهره.

فأجاب الله تعالى دعاء رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتل عامرا بالطاعون وأربد بالصاعقة ، فرثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد بجملة من المراثي فمنها هذه :

وانا لك فاذهب والحق

بأسرتك الكرام الغيب

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٩ / ٢٩٨.

(٢) أسباب النزول للواحدي ١٨٤.

(٣) المزنوق اسم فرسه ، والبيت في لسان العرب : ١٠ / ١٤٦.

(٤) الحقيقة : الراية والبيت في لسان العرب : ١٠ / ٥٢ ، وجعفر هذا أبو جده.

٢٧٧

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب (١) ،

يتآكلون مغالة وملاذة

ويعاب قائلهم وإن لم يشغب

فنعد في هذا وقل في غيره

واذكر شمائل من أخ لك معجب

إنّ الرزيئة لا رزيئة بعدها

مثلها فقدان كل أخ كضوء الكوكب

من معشر بنت لهم آباؤهم

والعز لا يأتي بغير تطلب

يا أربد الخير الكريم جدوده

أفردتني أمشري بقرن أعضب (٢)

ومنها قوله :

ما أن تعزي المنون من أحد

لا والد مشنق ولا ولد

أخشى على أربد الحتوف

أرهب نوأ السماك والأسد

فعين هلا بكيت أربد إذ

قمنا وقام النساء في كبد

فجعني البرق والصواعق

بالفارس يوم الكريهة النجد (٣)

فأنزل الله تعالى في هذه القصة (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) الآية (لَهُ مُعَقِّباتٌ) يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له معقبات يحفظونه (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) يعني تلك المعقبات من أمر الله وهي مقدم ومؤخر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معقبات يحفظونه (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) تلك المعقبات من أمر الله وقال الذين [آمنوا :] (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٤).

وقرأ (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) حتى بلغ (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ، ... إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من العافية والنعمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الحال لا [.........] (٥) فيعصون ربهم ويظلمون بعضهم بعضا.

(وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) عذابا وهلاكا (فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) علمها المخاوف (٦) بالله وقيل : وال ولي أمرهم ما يدفع العذاب عنهم (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً) يخاف أذاه ومشقته (وَطَمَعاً) للمقيم يرجو بركته وشفعته أن يمطر (وَيُنْشِئُ) بينهم (السَّحابَ

__________________

(١) تفسير الطبري : ٩ / ١٤٠.

(٢) تفسير القرطبي : ٩ / ٢٩٨.

(٣) الأبيات في ديوانه : ١٥٣ ، يرثي بها أخاه أربد وراجع معجم البلدان : ٥ / ٢٥٢ ، والبداية والنهاية : ٥ / ٧٠.

(٤) عن تفسير الطبري : ١٣ / ١٦٢.

(٥) كلمة غير مقروءة.

(٦) هكذا في الأصل.

٢٧٨

الثِّقالَ) يعني قال إن شاء الله السحابة فيشاء أي أبدأها فبدلت وأسحاب جمع واحدتها سحابة (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أقبلت اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا أبا القاسم نسألك خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك قال : فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قالوا : (اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ).

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هاتوا» ، قالوا : أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال : «ملك من الملائكة الموكلة بالسحاب معه مخاريف من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله».

قالوا : فما هذا الذي نسمع؟ قال : «زجر السحاب إذا زجر حتى ينتهي إلى حيث أمر».

قالوا : صدقت (١) [١٣٩].

قال عطية : الرعد ملك ، وهذا تسبيحه ، والبرق سوطه الذي يزجر به السحاب فقال : لذلك الملك رعد وقد ذكرنا معنى الرعد والبرق بما أغنى عن إعادته.

وقال أبو هريرة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إذا سمع صوت الرعد] قال سبحانه من (يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ).

عكرمة عن ابن عباس : إنه كان إذا سمع الرعد قال : سبحان الذي سبحت له.

وقال ابن عباس : من سمع صوت الرعد فقال سبحان الذي (يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ) في خيفته (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، فإن أصابته صاعقة فعلى ذنبه.

وروى مالك بن أنس عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال : سبحان من (يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) ويقول : إن هذا الوعيد لأهل الأرض شديد.

وروى حجاج بن أرطأة عن أبي مطر عن سالم يحدث عن أبيه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال : «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» [١٤٠] (٢).

(وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) يعني ويسبح الملائكة من خيفة الله وخشيته ، وقيل أراد هو أنّ الملائكة أعوان الرعد ، جعل لله تعالى له أعوانا فهم جميعا خائفون ، خاضعون طائعون به (يُرْسِلُ الصَّواعِقَ) (٣) عن الضحاك عن ابن عباس قال : الرعد ملك يسوق السحاب ، وإنّ بحور الماء لفي

__________________

(١) سنن الترمذي : ٤ / ٣٥٧ ح ٥١٢١ ، ومسند أحمد : ١ / ٢٧٤ ، وذكر تمام الحديث.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ١٠٠ ، وتفسير القرطبي : ١ / ١٨.

(٣) فتح القدير : ٣ / ٧٢.

٢٧٩

نقرة (١) إبهامه وإنه موكل بالسحاب يصرفه حيث ويؤمر وإنه يسبح الله فإذا سبح الرعد لم يبق ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر (٢) (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) أصاب أربد بن ربيعة.

قال أبو جعفر الباقر : الصواعق تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب ذاكرا.

(وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) وقد أصابت أربد وعامر ، وقيل نزلت هذه الآية في بعض كفار العرب (٣).

حديث إسحاق الحنظلي عن ريحان بن سعيد الشامي عن عماد بن منصور عن عباس بن الناجي قالت : سألت الحسن عن قوله : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) الآية.

فقال كان رجل من طواغيت العرب بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفرا يدعونه إلى الله ورسوله والإسلام ، فقال لهم : أخبروني عن رب محمد هذا الذي يدعوني إليه وما هو ، ومم هو أمن فضة أم حديد أم نحاس ، فاستعظم القوم مقالته وانصرفوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ما رأينا رجلا آخر أكفر منه ، ولا أعتى على الله منه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارجعوا إليه» ، فرجعوا إليه فجعل يزيدهم على مثل مقالته الاولى (٤) وقال : أجيب محمدا إلى ربّ لا أراه ولا أعرفه فانصرفوا إليه ، فقالوا : يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى إلّا قوله : أجيب محمدا إلى رب لا يعرفه ، فقال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجعوا إليه ، فرجعوا إليه فبينا هم عنده ينازعونه ويدعونه ويعظمون عليه ، وهو يقول : هذه المقالة إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم فرعدت ثم برقت فرمت بصاعقة فأحرقت الكافر وهم جلوس فجاؤوا يسعون ليخبروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستقبلهم بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا لهم : احترق صاحبكم.

قالوا : من أين علمتم؟ قال : أوحى الله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) فقال الحسن : ما (شَدِيدُ الْمِحالِ)؟

قال : شديد الحمل.

قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : شديد الأخذ (٥).

مجاهد : شديد القوة. أبو عبيدة : شديد العقوبة ، والمحال والمماحلة المماكرة والمغالبة.

__________________

(١) في المصدر : بخار.

(٢) تفسير القرطبي : ٩ / ٢٩٦.

(٣) راجع المصدر السابق.

(٤) جامع البيان للطبري : ١٣ / ١٦٥ ، وأسباب نزول الآيات : ١٨٣.

(٥) التفسير الطبري : ١٣ / ١٦٧.

٢٨٠