الكشف والبيان - ج ٥

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٥

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : كانوا يستغفرون لأمواتهم المشركين فنزلت هذه الآية فأمسكوا عن الاستغفار فنهاهم ولم ينتهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ، وقال قتادة : قال رجال من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم ألا نستغفر لهم؟

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلى ، وأنا والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» [٦٥] ، فأنزل الله تعالى (ما كانَ لِلنَّبِيِ) أي ما ينبغي للنبي (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ).

وقال أهل المعاني : ما كان في القرآن على وجهين أحدهما بمعنى النفي كقوله تعالى : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) (١) (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٢) والأخرى بمعنى النهي كقوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) (٣) ، وقوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) نهي.

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) بموتهم على الكفر ، وتأوّل بعضهم الاستغفار في هذه الآية على الصلاة. قال عطاء بن أبي رباح : ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة ، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلّا عن المشركين (٤) كقوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا) الآية ، ثم عذر خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) الآية.

قال علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : أنزل الله قوله تعالى خبرا عن إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (٥). [قال علي :] سمعت فلانا يستغفر لوالديه وهما مشركان فقلت له : أتستغفر لهما مشركان ، قال : أولم يستغفر إبراهيم لأبيه ، فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرويت ذلك له فأنزل الله تعالى هذه الآية (٦)، وأنزل قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) إلى قوله (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) (٧) وقوله : (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) يعني بعد موعده.

وقال بعضهم : الهاء في إيّاه عائدة إلى إبراهيم ، وذلك إن أباه وعده أن يسلم فعند ذلك

__________________

(١) سورة النمل : ٦٠.

(٢) سورة آل عمران : ١٤٥.

(٣) سورة الأحزاب : ٥٣.

(٤) تفسير الطبري : ١١ / ٦١.

(٥) سورة مريم : ٤٧.

(٦) تفسير الطبري : ١١ / ٦٠.

(٧) سورة الممتحنة : ٤.

١٠١

قال إبراهيم : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) وقال بعضهم : هي راجعة إلى إبراهيم وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه ، وهو قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) ، وقوله : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) الآية ، تدلّ عليه قراءة الحسن : وعدها أباه بالباء.

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) [بموت أبيه] (تَبَرَّأَ مِنْهُ) وقيل : معناه : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) في الآخرة (أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) ، وذلك على ما روى في الأخبار أن إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول يوم القيامة : رب والدي رب والدي ، فإذا كانت الثالثة يريه الله فيقول له إبراهيم : إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني ولست بتاركك اليوم لشيء فخذ [بحبري] فتعلق به حتى تريد الجواز على الصراط حتى إذا أراد أن يجاوزه به كانت من إبراهيم عليه‌السلام التفاتة فإذا هو بأبيه في صورة ضبع ، فتخلّى عنه وتبرأ منه يومئذ وعلى هذا التأويل يكون معنى الكلام الاستقبال ، تقديره : يتبيّن ويتبرأ (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) اختلفوا في معناه ، فروى شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد بن الهاد مرسلا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الأوّاه فقال : الخاشع المتضرع ، وقال أنس : تكلّمت امرأة عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء كرهه فنهاها عمر رضي‌الله‌عنه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعرض عنها فإنها أوّاهة» قيل : يا رسول الله وما الأوّاهة؟ قال : «الخاشعة» [٦٦].

وروى عبد الله بن رباح عن كعب في قول الله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) فقال : كان إذا ذكر النار قال : أوه.

وقال عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير : الأواه الدعّاء ، وقال الضحاك : هو الجامع الدعاء.

وروى الأعمش عن الحكم عن يحيى بن الجرار قال : جاء أبو العبيدي رجل من سواد وكان ضريرا إلى ابن مسعود قال : يا عبد الرحمن من يسأل إذا لم يسألك ، ما الأوّاه؟ فكأن ابن مسعود رق له فقال : الأواه الرحيم.

وقال الحسن وقتادة : الأواه الرحيم بعباد الله ، وقال أبو ميسرة : الأواه الرحيم يوم الحشر ، عطية عن ابن عباس الأواه المؤمن بالحبشية. علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الأواه المؤمن التواب ، مجاهد : الأواه المؤمن [الموقن ، وروي عن ......] (١) عن ابن عباس وعلي ابن الحكم عن الضحاك ، وقال عكرمة : هو المستيقن ، بلغة الحبشة ، ألا ترى أنك إذا قلت للحبشي الشيء فعرفه قال : أوّه ، ابن أبي نجيح : المؤتمن. الكلبي : الأواه : المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفرة الموحشة ، وقال عقبة بن عامر : الأواه الكثير الذكر لله ، وروى الحكم عن الحسن بن مسلم بن [ساق] أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنه أوّاه ، وقيل : هو الذي يكثر تلاوة القرآن.

__________________

(١) كذا في المخطوط.

١٠٢

وقال ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دفن ميّتا فقال : «يرحمك الله إن كنت لأواه» [٦٧] ، يعني تلاوة القرآن (١).

وقيل : هو الذي يجهر صوته بالذكر والدعاء والقرآن ويكثر تلاوته ، وكان إبراهيم عليه‌السلام يقول : آه من النار قبل أن لا تنفع آه (٢).

وروى شعبة عن أبي يونس الباهلي عن قاضي كان يجمع الحديث عن أبي ذر قال : كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه : أوه أوه ، فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «دعه فإنه أواه» [٦٨]. قال : فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح (٣).

وقال النخعي : الأواه : الفقيه ، وقال الفراء : هو الذي يتأوه من الذنوب ، وقال سعيد بن جبير : الأواه المعلم للخير ، وقال عبد العزيز بن يحيى : هو المشفق ، وكان أبو بكر رضي‌الله‌عنه يسمّى الأواه لشفقته ورحمته ، وقال عطاء : هو الراجع عن كلمة ما يكره الله ، وقال أيضا : هو الخائف من النار ، وقال أبو عبيدة : هو المتأوه شفقا وفرقا المتضرع يقينا ولزوما للطاعة. قال الزجاج : انتظم قول أبي عبيدة جميع ما قيل : في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوتا من تنفس الصعداء والفعل منه أوه وتأوه ، وقال المثقب العبدي :

إذا ما قمت ارحلها بليل

تأوه آهة الرجل الحزين (٤)

قال الراجز :

فأوه الراعي وضوضا كلبه

ولا يقال منه فعل يفعل

(حَلِيمٌ) عمن سبه وناله بالمكروه وقد قيل أنه عليه‌السلام استغفر لأبيه عند وعده إياه وشتمه ، وقوله : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (٥) فقال له : (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (٦) وقال ابن عباس : الحليم السيد.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما

__________________

(١) تفسير الطبري : ١١ / ٦٩.

(٢) تفسير القرطبي : ٨ / ٢٧٥.

(٣) تفسير الطبري : ١١ / ٦٩.

(٤) كتاب العين للفراهيدي : ٤ / ١٠٤.

(٥) سورة مريم : ٤٦.

(٦) سورة مريم : ٤٧.

١٠٣

كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١))

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) يقول : وما كان الله [ليحكم] عليكم بالضلال بعد استغفاركم للمشركين قبل أن يتقدم إليكم بالنهي.

وقال مجاهد : بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة ، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة ، فافعلوا أو ذروا.

وقال مقاتل والكلبي : لما أنزل الله تعالى الفرائض فعمل بها الناس [ثم] نسخها من القرآن وقد غاب [ناس] وهم يعملون للأمر الأول من القبلة والخمر وأشباه ذلك ، فسألوا عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) يعني وما كان الله ليبطل عمل قوم عملوا بالمنسوخ (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ) قال الضحاك : (ما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ... حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ) ما يأتون وما يذرون (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ثم عظّم نفسه فقال : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني يحكم فيهما بما يشاء (يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) قال ابن عباس : ومن تاب الله عليه لم يعذبه أبدا.

واختلفوا في معنى التوبة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أهل التفسير : بإذنه للمنافقين في التخلف عنهم ، وقال أهل المعاني : هو مفتاح كلام ما كان هو صنف توبتهم ذكر معهم كقوله (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) ونحوه (وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي في وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها. قال جابر : عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء.

قال الحسن : كان الناس من المسلمين يخرجون على بعير يعقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه ، كذلك كان زادهم التمر المسوس والشعير والأهالة المنتنة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم إلّا التمرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من الماء كذلك حتى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلّا النواة فمضوا [في قيض شديد] ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صدقتهم ويقينهم.

١٠٤

وقال ابن عباس : قيل لعمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ما في شأن العسرة؟ فقال عمر : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إلى قيض شديد] فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى قلنا أن رقابنا ستقطع ، حتى أن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، وحتى أنّ الرجل سينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه لرسول الله : إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا ، قال : «تحب ذلك»؟ قال : نعم ، فرفع يديه ولم يرجع بها حتى أظلت السماء بسحاب ثم سكبت فملأوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر (١).

(مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ) تميل (قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) لعظم البلاء ، وقرأ العامة : تزاغ ، بالتاء ودليله قراءة عبد الله قال : [زغيّهم] (٢) ، قراءة حمزة والأعمش والجحدري والعباس بن زيد الثقفي بالياء. قال الأعمش : قرأتها بالياء في نية التأخير وفيه ضمير فاعل (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) يعني تاب على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فلم يخرجوا ، وقيل : خلفوا عن توبة أبي لبابة وأصحابه وأرجى أمرهم وقد مضت السنة.

وقرأ عكرمة وحميد : خَلَفُوا بفتح الخاء واللام والتخفيف أي [فدله بعقب] رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي عن جعفر بن محمد الصادق رضي‌الله‌عنه انه قرأ : خالفوا ، وقراءة الأعمش : وعلى الثلاثة المخلفين ، وهم كعب بن مالك الشاعر ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية كلهم من الأنصار وروى عبيد عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري عن أبيه عبد الله بن كعب وكان قائد أبيه كعب حين أصيب بصره. قال : سمعت أن كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لم أتخلف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك غير بدر ولم يعاتب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغيثين لعيرهم فالتقوا من غير موعد كما قال الله عزوجل ، ولعمري أن أشرف مشاهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الناس لبدر ، وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام ، ثم لم أتخلف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد في غزوة غزاها إلى أن كانت غزوة تبوك وأذن الناس بالرحيل وذلك حين طاب الظلال وطابت الثمار ، وكان قلّ ما أراد غزوة إلّا [ورى غيرها] (٣) وكان يقول : الحرب خدعة فأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك أن يتأهّب الناس أهبتها وأنا أيسر ما كنت قد جهزت راحلتين ، وأنا أقدر شيء في نفسي الجهاد وأنا في ذلك أصغو إلى الظلال وطيب الثمار فلم أزل كذلك حتى قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاديا بالغداة وذلك يوم الخميس وكان يحب أن يخرج يوم الخميس فأصبح

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٣ / ٢٨٦.

(٢) كذا في المخطوط.

(٣) زيادة عن مسند أحمد : ٦ / ٣٨٧.

١٠٥

غاديا فقلت : أنطلق غدا إلى السوق أشتري جهازي ثم ألحق بهم فانطلقت إلى السوق من غد فعسر عليّ بعض شأني فرجعت فقلت : أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم ، فعسر عليّ بعض شأني أيضا فلم أزل كذلك حتى التبس بي الذنب وتخلّفت عن رسول اله صلى الله سلّم فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف بالمدينة فيحزنني أنّي لا أرى أحدا تخلف إلّا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء وكان الناس كثيرا لا يجمعهم ديوان وكان جميع من تخلّف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضعا وثمانين رجلا ولم يذكرني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو بتبوك جالس : «ما فعل كعب بن مالك؟» [٦٩].

فقال رجال من قومي : يا نبيّ الله خلّفه راحلته والنظر في عطفيه ، فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت والله يا نبي الله ما نعلم إلّا خيرا ، فبينما هم كذلك إذا همّ برجل مبيضا يزول به السراب فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كن أبا خيثمة الأنصاري وهو الذي تصدّق بصاع التمر فلمزه المنافقون ، فلما قضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزوة تبوك وقفل إلى المدينة [جعلت بما أخرج] من سخط النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي حتى إذا قيل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [مضى يصلي] بالغداة راح عني الباطل وعرفت أن لا أنجو إلّا بالصدق فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلّى في المسجد ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يحلفون له ويعتذرون إليه فيستغفر لهم فقبل منهم علانيتهم ووكّل سرائرهم إلى الله تعالى فدخلت المسجد فإذا هو جالس فلما رآني تبسّم تبسّم المغضب فجئت فجلست بين يديه فقال : «ألم تكن قد ابتعت ظهرك» [٧٠] قلت : بلى يا رسول الله قال : «فما خلّفك»؟ [٧١].

قلت : والله لو كنت بين يديّ أجد من الناس غيرك جلست لخرجته من سخطته بعذر ولقد أوتيت جدلا ، ولكن قد علمت يا نبي الله أني أن أخبرك اليوم بقول تجد علي فيه وهو حقّ فإنّي أرجو فيه عفو الله وإن حدّثتك اليوم حديثا ترضى عني فيه وهو كذب أو شك أن يطلعك الله عليه والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخف حاذا مني حين تخلفت عنك.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما هذا فقد صدقكم الحديث قم حتى يقضي الله فيك».

فقمت فإذا على أثري ناس من قومي فاتبعوني فقالوا : والله ما نعلمك أذنبت ذنبا قبل هذا فهلّا اعتذرت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يرضى عنك فيه وكان استغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لك كافيك من ذنبك ولم تقف نفسك موقفا ما تدري ماذا يقضي لك به؟! فلم يزالوا يؤنّبوني حتى صمّمت أن أرجع فأكذب نفسي فقلت : هل قال هذا القول أحد غيري؟ قالوا : نعم ، قالوا : هلال بن أمية الواقفي وأبو مرارة بن ربيعة العامري. فذكروا رجلين صالحين قد شهدوا بدرا لي فيهما أسوة فقلت : والله لا أرجع إليه في هذا أبدا ، ولا أكذب نفسي قال : ونهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس عن كلامنا [أيها الثلاثة من بين من تخلّف عنه قال : فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد وتنكّر لنا الناس حتى] ما هم بالذين نعرف ، وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي الحيطان التي نعرف وتنكرت

١٠٦

لنا الأرض حتى ما هي الأرض التي نعرف ، [وكنت أقوى أصحابي وكنت أخرج فأطوف بالأسواق وآتي المسجد فأدخل فآتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلّم عليه فأقول في نفسي : هل حرّك شفتيه بالسلام ، فإذا قمت فأقبلت فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ بمؤخر عينيه وإذا نظرت إليه ، واستكان أعرض عني فاستكانا صاحباي فجعلا يبكيان الليل لا يطلعان نفسيهما فلما طال علي ذلك المسلمين من جفوة حتى تسمّرت بظلّة حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه فو الله ما ردّ عليّ السلام فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلمنّ أني أحب الله ورسوله؟ قال : فسكت ، فعدت فناشدته فقال : الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسوّرت الجدران فبينا أطوف في السوق إذا برجل نصراني نبطي من نبط أهل الشام جاء بطعام له يبيعه ويقول : من سيدلّ على كعب بن مالك. فطفق الناس يشيرون له إليّ فأتاني فدفع إليّ كتابا من ملك غسّان فإذا فيه : أمّا بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك [ولست بدار مضيعة ولا هوان] فالحق بنا نواسيك ، فقلت : هذا من البلاء والشرف فسجّرت التنور فأحرقته فلما مضيت له بغضون ليلة إذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أتاني فقال : «اعتزل امرأتك» فقلت : أطلقها. قال : «لا ولكن لا تقربها» وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك ، فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك وكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ، قال : فجاءت امرأة هلال فقالت : يا نبي الله إنّ هلال بن أمية شيخ ضعيف فهل تأذن لي أن أخدمه قال : «نعم ولكن لا يقربك».

قالت : يا نبي الله والله ما به حركة لشيء ما زال مكبّا يبكي الليل والنهار. قد كان من أمره ما كان. قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه فقلت : لا أستأذن فيها رسول الله وما يدريني ماذا يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب. فلما مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كلامنا فصلّيت على ظهر بيت لمّا صلّى الفجر وجلست وأنا في المنزلة التي قال الله عزوجل : (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) وضاقت علينا أنفسنا إذ سمعت نداء من جبل سلع أن أبشر يا كعب بن مالك ، فخررت ساجدا وعلمت أن الله قد جاء بالفرج ثم جاء رجل يركض على فرس وكان الصوت أسرع من فرسه [فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي ، فكسوتها إياه ببشارته واستعرت ثوبين فلبستهما] (١) قال : وكانت توبتنا نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلثي الليل فقالت أم سلمة عشيّتئذ : يا نبي الله ألا تبشر كعب بن مالك. قال : إذا يحطمك الناس ويمنعونكم النوم بسائر الليل وكانت أم سلمة محسنة في شأني حزنى بأمري فاستطلت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقام إلي طلحة ابن عبيد الله يهرول حتى صافحني وقال : «ليهنك توبة الله عليك» ، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره وكان كعب لا ينساها لطلحة.

__________________

(١) عن تفسير الطبري ، وفي مسند أحمد : فأعطيته ثوبي بشارة ولبست ثوبين آخرين.

١٠٧

قال كعب : فلمّا سلمت على رسول الله وقلت : يا نبي الله من عند الله أم من عندك؟ قال : «بل من عند الله» ثم تلا عليهم : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ) إلى قوله (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) وقلت : يا نبي الله إن من توبتي ألّا أحدث الأصدقاء حتى أنخلع من مالي كلّه صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال : «أمسك عليك بعض مالك فهو أخير لك» [٧٢] ، قلت : فإني أمسك سهمي الذي من خيبر قال : فما أنعم الله عليّ نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين صدقته أنا وصاحباي أن لا يكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا وأني لأرجو أن لا يكون الله عزوجل أبلى أحدا في الصدق [منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما ابتلاني والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا] (١) وأني لأرجو أن يحفظني الله عزوجل فيما بقي ، هذا ما انتهى إلينا من حديث (الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) (٢).

(حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) المفسرون : أي ضاقت عليهم الأرض برمّتها (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) [ضاقت صدورهم بالهمّ والوحشة] (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) سمعت الحسن بن محمد بن جعفر النيسابوري وإبراهيم بن محمد بن زيد النيسابوري وعبد الله ختن والي بلد العراق يقول : سئل أبو بكر الوراق عن التوبة النصوح قال : أن تضيق علينا بما رحبت ويضيق عليه نفسه كتوبة كعب وصاحبه (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) إعادة تأكيد (لِيَتُوبُوا) فهذا بالتوبة منه.

سمعت أبا القاسم بن أبي بكر السدوسي ، سمعت أبا سعيد أحمد بن محمد بن رميح الزيدي ، سمعت الحسن بن علي الدامغاني يقول : قال أبو يزيد : غلطت في أربعة أشياء : في الابتداء مع الله سبحانه ظننت أني أحبه فإذا هو أحبّني قال الله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (٣) فظننت أني أرضى عنه فإذا هو رضي عني قال الله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) وظننت أني أذكره فإذا هو ذكرني قال الله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (٤) وشئت أن أتوب فإذا هو تاب عليّ قال الله تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) قال نافع : يعني مع محمد وأصحابه. سعيد بن جبير : مع أبي بكر وعمر ، ابن جريح وابن حبّان : مع المهاجرين دليله قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) إلى قوله (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٥).

أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد الله. محمد بن عثمان بن الحسن. محمد بن الحسين

__________________

(١) عن تفسير الطبري.

(٢) راجع تفسير الطبري : ١١ / ٨١. ٨٣ ، ومسند أحمد : ٦ / ٣٨٧. ٣٩٠.

(٣) سورة المائدة : ٥٤.

(٤) سورة العنكبوت : ٤٥.

(٥) سورة الحشر : ٨.

١٠٨

ابن صالح. علي بن جعفر بن موسى. جندل بن والق. محمد بن عمر المازني. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) قال : مع عليّ بن أبي طالب وأصحابه (١).

وأخبرني عبد الله محمد بن عثمان. محمد بن الحسن. علي بن العباس المقانعي. جعفر ابن محمد ابن الحسين. أحمد بن صبيح الأسدي. مفضل بن صالح. عن جابر عن أبي جعفر في قوله تعالى (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) قال : مع آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

يمان بن رباب : أصدقوا كما صدق الثلاثة (الَّذِينَ خُلِّفُوا).

ابن عباس : مع الذين صدقت نياتهم فاستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك. بإخلاص ونيّة.

قتادة : يعني الصدق في النية وقال : أو الصدق في الليل والنهار والسرّ والعلانية ، وكان ابن مسعود يقول : (كُونُوا مَعَ! الصَّادِقِينَ) وكذا كان يقرأها ، وابن عباس (ورضي عنه) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أخبرنا عبد الله بن حامد. عبد الله بن محمد بن الحسين. محمد بن يحيى ، وهب بن جرير عن شعيب بن عمرو بن زيد عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : إن الكذب لا يصلح منه جدّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيته شيئا ثم لا ينجز شيئا اقرءوا إن شئتم الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) هل ترون في الكذب [رخصة] (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) ظاهره خبر معناه نهي كقوله تعالى : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) (٢) (وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) سكان البوادي مزينة وجهينة وأسجح وأسلم وغفار (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) إذا غزا (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه.

قال الحسن : يعني لا يرغبون بأنفسهم أن تصيبهم من الشدائد مثل ما يصيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ) في سفرهم (ظَمَأٌ) عطش ، وقرأ عبد بن عمير ظماء بالمدّ وهما لغتان مثل خطا وخطأ (وَلا نَصَبٌ) ولا تعب (وَلا مَخْمَصَةٌ) مجاعة (فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً) أرضا (يَغِيظُ الْكُفَّارَ) وطيهم إياها (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) ولا يصيبون من عدوهم شيئا قتلا أو أسرا أو غنيمة أو عزيمة يقال : نلت الشيء فهو منيل (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) قال ابن عباس : بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنة (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) فإن أصابهم ظمأ سقاهم الله من نهر الحيوان ولا يصيبهم ظمأ بعد ، وإن أصابهم

__________________

(١) انظر : نظم درر السمطين ٩١ ، وشواهد التنزيل للحسكاني : ١ / ٣٤٢.

(٢) سورة الأحزاب : ٥٣.

١٠٩

نصب أعطاهم الله العسل من نهر الحيوان [ولا يصيبهم] فيهم النصب ، ومن خرج في سبيل الله لم يضع قدما ولا يدا ولا جنبا ولا أنفا ولا ركبة ساجدا ولا راكعا ولا ماشيا ولا نائما في بقعة من بقاع الله إلّا أذن الله له بالشهادة وبالشفاعة.

واختلفوا في حكم هذه الآية ، فقال قتادة : وهذه خاصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه خلافه إذا لم يكن للمسلمين اليه ضرورة وحاجة.

قال : وذكر لنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو لا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلف سريّة يغزو في سبيل الله لكني لا أجد سعة فانطلق بهم معي ويشق عليّ أن أدعهم بعدي». [٧٣] (١).

وقال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعي وابن المبارك والفزاري والسبيعي وابن جابر وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية : انها لأول هذه الأمة وآخرها.

وقال ابن زيد : هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها الله وأباح التخلف لمن شاء فقال : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الآية (وَلا يُنْفِقُونَ) في سبيل الله (نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) ولو علاقة سوط (وَلا يَقْطَعُونَ) ولا يتجاوزون (وادِياً) في مسيرهم مقبلين أو مدبرين (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) يعني آثارهم وخطاهم (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لهم بالثواب ويدخلهم الجنة بغير حساب.

قال ابن عباس : أخبرنا أبو عمر الفراتي بقراءتي عليه أخبرنا أبو موسى أخبرنا مسدّد عن هارون ابن عبد الله الجمّال أخبرنا ابن أبي فديك عن الخليل بن عبد الله عن الحسين عن علي ابن أبي طالب وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدّثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : ومن أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه وأنفق في وجه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم» ثم تلا هذه الآية (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (٢).

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٥٠٢.

(٢) سورة البقرة : ٢٦١ ، والحديث في سنن ابن ماجة : ٢ / ٩٢٢ ح ٢٧٦١.

١١٠

كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الآية قال ابن عباس في رواية الكلبي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خرج غازيا لم يتخلف إلّا المنافقون والمعذرون فلما أنزل الله تعالى عيوب المنافقين ومن نفاقهم في غزوة تبوك قال المؤمنون : والله لا نتخلّف عن غزوة بعدها يغزوها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا عن سرية أبدا.

فلما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسرايا إلى الجهاد ونفر المسلمون جميعا إلى الغزو وتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده بالمدينة فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) يعني ليس لهم أن يخرجوا جميعا إلى العدو ويتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده.

(فَلَوْ لا نَفَرَ) فهلّا خرج (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ) قبيلة (مِنْهُمْ طائِفَةٌ) جماعة (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) يعني الفرقة القاعدين فإذا رجعت السرايا وقد نزلت بعدهم قوله تعالى : (الْقاعِدُونَ). قالوا لهم إذا رجعوا : قد أنزل الله على نبيكم بعدكم قرآنا وقد تعلمنا فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيّهم من بعدهم ويبعث سرايا أخر فذلك (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) وليعلمونهم الأمر (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ولا يعملون خلافه.

وقال الحسن : هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة ومعنى الآية : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) أي ليتبصّروا ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) من الكفار (إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) من الجهاد فيخبروهم بنصر الله النبي والمؤمنين ، ويخبرونهم أنهم لا يدان (١) لهم بقتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) قتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار.

قال الكلبي : ولها وجه آخر : ذكر أن أحياء من بني أسد بن خزيمة أصابتهم [سنة شديدة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر فقدموا] حتى نزلوا بالمدينة فأفسدوا طرقها بالعذرات وأغلوا أسعارها فأنزل الله تعالى هذه الآية (٢).

وقال مجاهد : في أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا

__________________

(١) لا يدان : لا طاقة.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ٢٦٦ وما بين المعكوفين منه.

١١١

وخصبا ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى. قال الناس لهم : ما نراكم إلّا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرج وأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ويستمعوا ما أنزل إليهم (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) الناس كلهم (إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) ويدعوهم إلى الله (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) بأس الله ونقمته باتباعهم وطاعتهم ، وقعدت طائفة تريد المغفرة.

وقال عكرمة : لما نزلت (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) و (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) الآية قال المنافقون من أهل البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه وقد كان ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم ليفقهوهم ، فأنزل الله تعالى في المعذر لأولئك هذه الآية.

وروى عن عبد الرزاق بن همام في قوله (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) قال : هم أصحاب الحديث.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب.

قال ابن عباس : مثل قريظة والنضير وخيبر وفدك ونحوها.

ابن عمر : أراد بهم الروم لأنهم كانوا سكان الشام يومئذ ، والشام كانت أقرب إلى المدينة من العراق.

وكان الحسن إذا سئل عن قتال الروم والديلم تلا هذه الآية (١).

(وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) شدة وحمية ، وقال الضحاك : جفاء ، وقال الحسن : صبرا على جهادهم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالعون والنصر.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ) قراءة العامة : برفع الياء لمكان الهاء وقرأ عبيد بن عمير : أَيَّكُمْ بفتح الياء وكلّ صواب (زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) قال الله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) يقينا وإخلاصا وتصديقا.

وقال الربيع : خشية (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون بنزول القرآن. عن الضحاك عن ابن عباس : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) يعني سورة محكمة فيها الحلال والحرام (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) وتصديقا بالفرائض مع إيمانهم بالرحمن

__________________

(١) وقيل العرب قاله ابن زيد ، راجع زاد المسير : ٣ / ٣٥١.

١١٢

(وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) بنزول الفرائض (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك ونفاق (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) كفرا إلى كفرهم وضلالا إلى ضلالهم وشكا إلى شكهم.

وقال مقاتل : إثما إلى أثمهم (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) قال مجاهد في هذه الآية : الإيمان يزيد وينقص ، وقال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : لو وزن إيمان أبو بكر رضي‌الله‌عنه بإيمان أهل الأرض لرجحهم ، بلى إن الإيمان ليزيد وينقص ، قالها ثلاث مرات.

وروى زيد الشامي عن ذر قال : كان عمر يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول : تعالوا حتى نزداد إيمانا.

قال علي بن أبي طالب عليه‌السلام : إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب كلما ازداد الإيمان عظما ازداد ملك الناس حتى يبيض القلب كله ، وأن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب فكلما إزداد النفاق إزداد ذلك السواد فيسود القلب كله. فأيم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود.

وكتب الحسن إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : إن للإيمان تشاد شرائع وحدود وفرائض من استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان.

وقال ابن المبارك عن الحسن : إلّا قرابة بزيادة الإيمان أو أردّ كتاب الله تعالى.

(أَوَلا يَرَوْنَ) قرأ العامة بالياء خبرا عن المنافقين المذكورين ، وقرأ حمزة ويعقوب : أولا ترون بالتاء على خطاب المؤمنين ، وهي قراءة أبي بن كعب. قرأ الأعمش : أولم تر ، وقرأ طلحة : أولا ترى وهي قراءة عبد الله بن عمر (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) يختبرون (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) قال : يكذبون كذبة أو كذبتين يصلون فيه ، وقال مجاهد : (يُفْتَنُونَ) بالقحط والغلاء ، عطية : بالأمراض والأوجاع وهي روائد الموت.

قتادة : بالغزو والجهاد ، وقيل : بالعدوّ ، وقيل : (يُفْتَنُونَ) فيعرفون مرة وينكرون بأخرى. مرّة الهمداني : (يُفْتَنُونَ) يكفرون. مقاتل بن حيان : يفضحون بإظهار نفاقهم. عكرمة : ينافقون ثم يؤمنون ثمّ ينافقون كما أنهم ينقضون عهدهم في سنة مرة أو مرتين (١) (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) من نقضهم (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [بما صنع الله بهم] وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا انقضوا عهودهم بعث إليهم السرايا فيقتلونهم.

الحسن : (يُفْتَنُونَ) بالجهاد في سبيل الله مع رسوله ويرون تصديق ما وعده الله من النصر والظفر على من عاداه الله (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) لما يرون من صدق موعد الله ، ولا يتّعظون ، الضحاك : (يُفْتَنُونَ) بالغلاء والبلاء ومنع القطر وذهاب الثمار ثم لا يرجعون عن نفاقهم ولا يتفكرون في عظمة الله ، وفي قراءة عبد الله : وما يذكرون.

__________________

(١) يراجع زاد المسير : ٣ / ٣٥٣.

١١٣

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) فيها عيب المنافقين وتوبيخهم (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) كلام مختصر تقديره نظر بعضهم في بعض وقالوا أو أشاروا (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) إن قمتم فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أحدا يراهم قاموا فانصرفوا (ثُمَّ انْصَرَفُوا) عن الإيمان بها ، وقال الضحاك : (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) يعني أطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل قال الله (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الإيمان بالقرآن (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) قال ابن عباس : لا تقولوا إذا صليتم : انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم ، لكن قولوا قضينا الصلاة (١).

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) قراءة العامة بضم الفاء أي : من نسبكم تعرفون نسبه وحسبه وأي قبيلة من العرب من بني إسماعيل. قال ابن عباس : ليس في العرب قبيلة إلّا وقد ولدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضريها وربيعها ويمانيها (٢).

قال الصادق : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية.

أخبرنا عبد الله بن حامد ، حدثنا حامد بن محمد. علي بن عبد العزيز. محمد بن أبي هاشم حدّثني المدني عن أبي الحويرث عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية وما ولدني إلّا نكاح كنكاح الإسلام» (٣) [٧٤] فإن الله تعالى جعله من أنفسهم ، فلا تحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة.

قرأ ابن عباس وابن ثعلبة : عبد الله بن فسيط المكي وابن محيصن والزهري مِنْ أَنْفَسِكُمْ بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم من قولك : شيء نفيس إذا كان مرغوبا فيه. قال يمان : من أعلاكم نسبا (عَزِيزٌ) شديد (عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) ما صلة أي عنتكم وهو دخول المشقة والمضرّة عليكم. قال ابن عباس : ما ضللتم. قال الضحاك والكلبي : أثمتم ، وقال العتيبي : ما عنتكم وضرّ بكم ، وقال ابن الأنباري : ما هلكتم عليه (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي على إيمانكم وهداكم وصلاحكم ، وقال قتادة : حريص على ضالهم أن يهديه الله ، وقال الفراء : الحريص الشحيح أن تدخلوا النار.

(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ) رفيق (رَحِيمٌ) قيل : (رَؤُفٌ) بالمطيعين (رَحِيمٌ) بالمذنبين (رَؤُفٌ) بعباده (رَحِيمٌ) بأوليائه. (رَؤُفٌ) بمن يراه (رَحِيمٌ) بمن لم يره.

قال عبد العزيز بن يحيى : نظم الآية : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز حريص

__________________

(١) تفسير الطبري : ١١ / ٩٩. ١٠١.

(٢) تاريخ دمشق : ٣ / ٩٥ ط. دار الفكر.

(٣) المعجم الكبير : ١٠ / ٣٢٩ ح ١٠٨١٢.

١١٤

بالمؤمنين رحيم عليه ما عنتم لا يهمه إلّا شأنكم وهو القائم بالشفاعة فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته فإنه لا يرضيه إلّا دخولكم الجنة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ترك ما لا فلنؤتينه ومن ترك كلّا ودينا فعليّ وإلىّ» [٧٥].

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أعرضوا عن الإيمان وناصبوك (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) قراءة العامة بخفض الميم على العرش ، وقرأ ابن محيصن : الْعَظِيمُ بالرفع على نعت الربّ ، وقال الحسين بن الفضل : لم يجمع الله لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلّا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه قال : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١).

وقال يحيى بن جعدة : قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : لا تثبت آية في المصحف حتى يشهد عليها رجلان فجاء رجل من الأنصار بالآيتين من آخر سورة التوبة (لَقَدْ جاءَكُمْ) فقال عمر : والله لا أسألك عليها بيّنة ، كذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأثبتهما ، وهي آخر آية نزلت من السماء في قول بعضهم ، وآخر سورة كاملة نزلت سورة براءة.

أخبرنا أبو عبد الله بن حامد ، عن محمد بن الحسن عن علي بن عبد العزيز عن حجاج عن همام. عن قتادة قال : إن آخر القرآن عهدا بالسماء هاتان الآيتان خاتمة براءة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى قوله (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

أبي بن كعب : إن أحدث القرآن عهدا بالله تعالى (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ) إلى آخر السورة.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤٣.

١١٥

سورة يونس (ع)

مكية ، وهي عشرة آلاف وثمانمائة وتسع وثمانون حرفا ،

وألفان وخمسمائة كلمة غير واحدة ، ومائة وتسع آيات

حدثنا حامد بن أحمد وسعيد بن محمد ، ومحمد بن القاسم. قالوا : أخبرنا محمد بن مطر. إبراهيم بن شريك. أحمد بن يونس. سلام بن سليم. هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر ومن الحسنات بعدد من صدّق بيونس وكذّب به ، وبعدد من غرق مع فرعون» [٧٦] صدق رسول الله (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤))

(الر) قرئ بالتفخيم والإمالة وبين اللفظين ، وكلها لغات صحيحة فصيحة.

ابن عباس والضحاك : أنا الله أرى ، وقيل : أنا الرب لا رب غيري. عكرمة والأعمش والشعبي. (الر) و (حم) و (ن) حروف الرحمن مقطعة. فإذا وصلت كان (الرَّحْمنُ). قتادة : اسم من أسماء القرآن. أبو روق : فاتحة السورة ، وقيل : عزائم الله ، وقيل : هو قسم كأنّه قال : والله إنّ (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ).

قال مجاهد وقتادة : أراد به التوراة والإنجيل والكتب المقدسة ، وتلك إشارة إلى غائب مؤنث.

وقال الآخرون : أراد به القرآن وهو أولى بالصواب لأنه لم يخص الكتب المقدمة قبل ذكره

١١٦

ولأن الحكيم من بعث القرآن ، دليله قوله : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) (١) ونحوها فيكون على هذا التأويل (تِلْكَ) يعني هذه وقد مضى القول في هذه المسألة في أول سورة البقرة (الْحَكِيمِ) المحكوم بالحلال والحرام والحدود والأحكام.

وقال مقاتل : المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف وهو فعيل بمعنى فاعل كقول الأعمش في قصيدته :

وعزيمة تأتي الملوك حكيمة

قد قلتها ليقال من ذا قالها

وقيل : هو الحاكم فعيل بمعنى فاعل بأنه قرأ : نزل فيهم (الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (٢) وقيل : بمعنى المحكوم فيه فعيل بمعنى المفعول.

قال الحسن : حكم فيه (بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) ، وحكم فيه بالنهي (عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه.

وقال عطاء : حكيم بما حكم فيه من الأرزاق والآجال بما شاء.

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) الآية ، قال ابن عباس : لما بعث الله محمدا رسولا أنكرت الكفار وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد فأنزل الله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ) أهل مكة والألف للتوبيخ (عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا ... أَنْ) في محل الرفع و (أَوْحَيْنا) صلة له تقديره أكان للناس عجبا لإيحائنا (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) محمد ، وفي حرف عبد الله : عجيب ، بالرفع على اسم كان ، وأن في محل نصب على خبره (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) أن على محل نصب بقصد الخافض وكذلك الثانية.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

قال ابن عباس : أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم. قال الضحاك : ثواب صدق. مجاهد : الأعمال الصالحة ، علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : سبقت لهم السعادة في الذكر الأول.

سلف صدق ، زيد بن أسلم : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شفيع لهم. يمان : إيمانهم ، عطاء : مقام صدق لا زوال فيه ولا بؤس ، نعيم مقيم وخلود وخلود لا موت فيه ، الحسن : عمل صالح أسلفوه [فأثابهم] عليه ، الأعمش : سابقة صدق. أبو حاتم : منزل صدق نظيره (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) (٣) عبد العزيز بن يحيى : (قَدَمَ صِدْقٍ). قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) (٤). الزجاج : منزلة رفيعة ، وقيل : هو بعثهم وتقديم الله تعالى هذه الأمة في البعث يوم

__________________

(١) سورة هود : ١.

(٢) سورة البقرة : ٢١٣.

(٣) سورة الإسراء : ٨٠.

(٤) سورة الأنبياء : ١٠١.

١١٧

القيامة ، بيانه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، وقيل : عدة الله تعالى لهم ، والقدم : القدم كالنقص والقبض وأضيف القدم إلى الصدق وهو [علة] كما قيل : مسجد الجامع ، وحقّ اليقين.

قال ابن الأعرابي : القدم المتقدم في الشرف.

قال العجاج :

زل بنو العوام عن آل الحكم

وتركوا الملك لملك ذي قدم (١)

أي متقدم.

قال أبو عبيدة والكسائي : كل سابق في خير أو شر فهو عند العرب قدم. يقال : لفلان قدم في الإسلام ، وله عندي قدم صدق ، وقدم سوء ، وهو مؤنث يقال : قدم حسنة وقدم صالحة. قال حسان بن ثابت :

لنا القدم العليا إليك وخلفنا

لأوّلنا في طاعة الله تابع (٢)

قال ذو الرمّة :

لكم قدم لا ينكر الناس أنها

مع الحسب العاديّ طمت على البحر (٣)

وقال آخر :

قعدت بهم قدم الفجار وذكرت

أنسابهم من فضة من مالق

أي ما يقدّم لهم من الفجّار.

(قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) قال المفسرون : القرآن ، وقرأ أهل الكوفة : (لَساحِرٌ) يعني محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) قال مجاهد : يقضيه وحده (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أمره (ذلِكُمُ اللهُ) الذي فعل هذه الأشياء (رَبَّكُمُ) لا ربّ لكم سواه (فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) معادكم (جَمِيعاً) نصب على الحال (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) صدقا لا خلف فيه ، وهو نصب على المصدر ، أي وعد الله وعدا حقّا فجاء به حقّا ، وقيل : على القطع ، وقرأ ابن أبي عبلة : وعد الله حق على الاستئناف ، ثم قال : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي يحميهم ابتداء ثم يميتهم ثم يحييهم ، وقرأ العامة : (إِنَّهُ) ،

__________________

(١) لسان العرب : ١ / ١٠٣ ، وفيه : وشنئوا الملك لملك ذي قدم.

(٢) تفسير القرطبي : ٨ / ٣٠٧.

(٣) جامع البيان للطبري : ١١ / ١١٠.

١١٨

[بكسر الألف على الاستئناف. وقرأ أبو جعفر : أَنَّهُ ، بالفتح على معنى : لأنه وبأنه (١) ، كقول الشاعر :

أحقا عباد الله أن لست زائرا (٢)

بثينة أو يلقى الثريا رقيبها (٣)

(لِيَجْزِيَ) ليثيب (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) بالعدل ثم قال : مبتدئا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ) ماء حار قد انتهى حرّه (حَمِيمٍ) وهو بمعنى محموم فعيل بمعنى مفعول ، وكل مسخن مغلي عند العرب فهو حميم. قال المرقش :

وكل يوم لها مقطرة

فيها كباء معدّ وحميم (٤)

(وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ).

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤))

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) بالنهار (وَالْقَمَرَ نُوراً) بالليل. قال الكلبي : تضيء وجوههما لأهل السموات السبع وظهورهما لأهل الأرضين السبع.

[قرأ الأكثرون : (ضِياءً) بهمزة واحدة] وروي عن ابن كثير : ضئاء بهمزت الياء ، ولا وجه لها

__________________

(١) في زاد المسير (٤ / ٧) زيادة : وقرأت عائشة وأبو رزين وعكرمة وأبو العالية والأعمش بفتحها قال الزجاج : من كسر فعلى الاستئناف ومن فتح فالمعنى إليه مرجعكم.

(٢) في اللسان : لاقيا.

(٣) لسان العرب : ١ / ٤٢٥.

(٤) الكباء : ضرب من العود يتبخّر به ، والبيت في لسان العرب : ٥ / ١٠٧.

١١٩

لأن ياءه كانت واوا مفتوحة ، وهي عين الفعل أصله ضواء فسكنت وجعلت ياء كما جعلت في الصيام والقيام (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) أي قدر له بمعنى هيأ له وسوى له منازل لا يجاوزها ولا يقصر دونها.

وقيل : جعل قدر مما يتعدى لمفعولين ولم يقل قدرهما ، وقد ذكر الشمس والقمر وفيه وجهان : أحدهما أن يكون الهاء للقمر خاصة بالأهلة يعرف انقضاء الشهور والسنين لا بالشمس ، والآخر أن يكون قد اكتفى بذكر أحدهما من الآخر ، كما قال : (اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (١) وقد مضت هذه المسألة (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ) دخولها وانقضائها (وَالْحِسابَ) يعني وحساب الشهور والأيام والساعات (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ) مثل ما في الفصل والخلق والتقدير ، ولولا [وجود] الأعيان المذكور لقال : تلك (إِلَّا بِالْحَقِ) لم يخلقه باطلا بل إظهارا لصنعه ودلالة على قدرته وحكمته ، (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) فهذا الحق (يُفَصِّلُ الْآياتِ) يبيّنها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

قال ابن كثير وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم : (يُفَصِّلُ) بالياء ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله قبله (ما خَلَقَ اللهُ) وبعده (وَما خَلَقَ اللهُ) فيكون متبعا له ، وقرأ ابن السميقع بضم الياء وفتح الصاد ورفع التاء من الآيات على مجهول الفعل ، وقرأ الباقون بالنون على التعظيم.

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) يوقنون فيعلمون ويقرّون.

قال ابن عباس : قال أهل مكة : آتينا بآية حتى نؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) يعني لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا ، والرجاء يكون بمعنى الهلع والخوف (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) فاختاروها دارا لهم (وَاطْمَأَنُّوا بِها) وسكنوا إليها.

قال قتادة في هذه الآية : إذا شئت رأيت صاحب دنيا لها يفرح ولها يحزن ولها يرضى ولها يسخط.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا) أدلتنا (غافِلُونَ) لا يعتبرون. قال ابن عباس (عَنْ آياتِنا) محمد والقرآن (غافِلُونَ) معرضون تاركون مكذبون (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الكفر والتكذيب (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) فيه إضمار واختصار أي يهديهم ربهم بإيمانهم إلى مكان (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) قال أبو روق : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) إلى الجنة ، قال عطية : (يَهْدِيهِمْ) ويثيبهم ويجزيهم ، وقيل ينجيهم.

__________________

(١) سورة التوبة : ٦٢.

١٢٠