الكشف والبيان - ج ٥

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٥

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧))

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) اقرأ يا محمد على أهل مكة (نَبَأَ) خبر (نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) ولد وأهل (يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ) عظم وثقل وشق (عَلَيْكُمْ مَقامِي) فلو شق مكثي بين أظهركم (وَتَذْكِيرِي) ووعظي إياكم (بِآياتِ اللهِ) بحججه وبيناته فعزمتم على قتلي أو طردي (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) فبالله وثقت (فَأَجْمِعُوا) قرأه العامة بقطع الألف وكسر الميم أي فأعدوا وأبرموا وأحكموا (أَمْرَكُمْ) فاعزموا عليه. قال المؤرخ : أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه ، وأنشد :

يا ليت شعري والمنى لا تنفع

هل أغدون يوما وأمري مجمع (١)

وقرأ الأعرج والجحدري موصولة مفتوحة الميم من الجمع اعتبارا بقوله (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) ، وقال أبو معاذ : ويجوز أن يكون بمعنى وأجمعوا أي فأجمعوا واحد يقال : جمعت وأجمعت بمعنى واحد.

قال أبو ذؤيب : [عزم عليه كأنه جمع نفسه له ، والأمر مجمع] (٢) (وَشُرَكاءَكُمْ) فيه إضمار أي : وادعوا شركاءكم أي آلهتكم فاستعينوا ، وكذلك في مصحف أبي ؛ وادعوا شركاءكم ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وسلام ويعقوب : وشركاؤكم رفعا على معنى : فأجمعوا أمركم أنتم وشركاؤكم ، أي وليجمع معكم شركاؤكم ، واختار أبو عبيد وأبو حاتم النصب لموافقة الكتاب وذلك أنه ليس فيه واو.

(ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي خفيا مظلما ملتبسا مبهما من قولهم : غمّ الهلال على الناس إذا أشكل عليهم فلم يتبيّنوه ، قال طرفة :

لعمرك ما أمري عليّ بغمّة

نهاري وما ليلي عليّ بسرمد (٣)

وقيل : هو من الغمّ لأن الصدر يضيق فلا يتبين صاحبه لأمره مصدرا ينفرج عنه ما بقلبه ، قالت الخنساء :

وذي كربة راخى ابن عمرو خناقه

وغمته عن وجهه فتجلت (٤)

(ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) أي آمنوا إلى ما في أنفسكم أو افرغوا منه ، يقال : قضى فلان إذا مات ومضى وقضى منه إذا فرغ منه.

__________________

(١) لسان العرب : ٨ / ٥٧.

(٢) راجع تفسير القرطبي فقد فصّل ما أجمله المصنف : ٨ / ٣٦٣.

(٣) لسان العرب : ١٢ / ٤٤٢.

(٤) تفسير الطبري : ١١ / ١٨٦.

١٤١

وقال الضحاك : يعني انهضوا إليّ ، وحكى الفراء عن بعض القرّاء : افضوا إليّ بالفاء ، أي توجهوا حتى تصلوا إليّ ، كما يقال أنصت [الخلائق] إلى فلان وأفضى إلى الوجه (وَلا تُنْظِرُونِ) ولا تؤمرون ، وهذا إخبار من الله تعالى عن نبيه نوح عليه‌السلام أنه كان من نصر الله واثقا ومن كيد قومه وبوائقهم غير خائف علما منه بأنهم وآلهتهم لا تنفع ولا تضر شيئا إلّا أن يشاء الله ، وتعزية لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقوية لقلبه (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن قولي وأبيتم أن تقبلوا نصحي (فَما سَأَلْتُكُمْ) على الدعوة وتبليغ الرسالة (مِنْ أَجْرٍ) جعل وعوض (إِنْ أَجْرِيَ) ما جزائي وثوابي (إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَكَذَّبُوهُ) يعني نوحا (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) سكان الأرض خلفا عن الهالكين (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) يعني [أخزى] من الذين أنذرتهم الرسل ولم يؤمنوا (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد نوح (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالآيات والأمر والنهي (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) ليصدقوا (بِما كَذَّبُوا) بما كذبت (بِهِ) وأنّهم (مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ) نختم (عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) المجاوزين الحلال إلى الحرام (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد نوح (مُوسى) وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) يعني أفراد قومه (بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمُ) يعني فرعون وقومه (الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ. قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) تقدير الكلام : أتقولون للحق لما جاءكم سحرا سحر هذا الحذف السحر الأول ، فدلالة الكلام عليه كقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) (١) المعنى : يغشاكم ليسوؤا وجوهكم.

وقال ذو الرمّة :

فلما لبسن الليل أو حين نصبت

له من خذا آذانها وهو جانح (٢)

أي : أو حين أقبل (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ. قالُوا) يعني فرعون وقومه (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) لتلوينا وتصرفنا (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من الدين (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ) الملك والسلطان (فِي الْأَرْضِ) أرض [مصر] (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ. وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ. فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أي الذي جئتم به السحر.

وقراءة مجاهد وأبو عمر وأبو جعفر : آلسحر بالمد على الاستفهام ، ودليل قراءة العامة قراءة ابن مسعود : ما جئتم به سحر وقراءة أبيّ : ما أتيتم به سحر (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ. فَما آمَنَ لِمُوسى) لم

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧.

(٢) جامع البيان للطبري : ١١ / ١٨٩.

١٤٢

يصدق موسى مهما آتاهم من الحجج (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) فقال قوم : هي راجعة إلى موسى وأراد بهم مؤمني بني إسرائيل.

قال ابن عباس : كانوا ستمائة ألف وذلك أن يعقوب عليه‌السلام دخل مصر في اثني وسبعين إنسانا فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف.

وقال مجاهد : أراد بهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى إلى بني إسرائيل لطول الزمان هلك الآباء وبقي الأبناء ، وقال آخرون : الهاء راجعة إلى فرعون.

روى عطية عن ابن عباس : هم ناس يسير من قوم فرعون آمنوا منهم امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وماشطته.

وروي عن ابن عباس من وجه آخر : أنهم سبعون أهل بيت من القبط من آل فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل فجعل الرجل يتبع أمه وأخواله.

قال الفراء : وإنما سموا ذرية لأن آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل ، كما يقال لأولاد أهل فارس الذين انتقلوا إلى اليمن الأبناء ، لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم والذرية العقب من الصغار والكبار (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) يريد الكناية في قومه إلى فرعون ، ردّ الكناية في قوله : (وَمَلَائِهِمْ) ، إلى الذرية ، ومن رد الكناية إلى موسى يكون : إلى ملأ فرعون.

قال الفراء : وإنما قال : (وَمَلَائِهِمْ) بالجمع وفرعون واحد لأن الملك إذا ذكر ذهب الوهم إليه وإلى أصحابه (١).

[فيكون من باب حذف المضاف] وذكر وهب بن منبه ، [أنه] إليه وإلى عصابته كما يقال : قدم الخليفة تريد والذين معه ، ويجوز أن يكون أراد بفرعون آل فرعون [كقوله تعالى] : (سْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٢) و (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ) (٣) (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) بصرفهم عن دينهم ، ولم يقل : يفتنوهم ؛ لأنّه أخبر أنّ فرعون وقومه كانوا على [الضلال].

(وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) [من المجاوزين الحدّ في العصيان والكفر] لأنّه كان قد ادّعى الربوبية (وَقالَ مُوسى) لمؤمني قومه : (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا).

ثم دعوا فقالوا : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قال أبو مجلز : ربّنا لا تظهر فرعون وقومه علينا فيروا أنّهم خير منا فيزدادوا طغيانا. وقال عطية : لا تسلّطهم علينا فيسيئون

__________________

(١) راجع زاد المسير لابن الجوزي : ٤ / ٤٦.

(٢) سورة يوسف : ٨٢.

(٣) سورة الطلاق : ١.

١٤٣

ويقتلون. وقال مجاهد : لا تعذّبنا بأيدي قوم [ظالمين ولا تعذّبنا] بعذاب من عندك ، فيقول قوم فرعون : لو كانوا على حق لما عذّبوا ، ولا تسلّطنا عليهم فيفتتنوا (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ) [أمرناهما] (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) يقال : تبوّأ فلان لنفسه بيتا [والمبوأ المنزل ومنه بوّأه الله منزلا] (١) إذا اتخذه له.

(وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) قال أكثر المفسّرين : كانت بنو إسرائيل لا يصلّون إلّا في كنائسهم وبيعهم ، وكانت ظاهرة ، فلما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخرّبت ، ومنعهم من الصلاة ، فأمروا أن يتّخذوا مساجد لهم يصلّون فيها خوفا من فرعون ، وهذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وهي كذلك ، ورواية عكرمة عن ابن عباس.

قال مجاهد وخلف : [قال موسى] لمن معه من قوم فرعون أن صلّوا إلى الكنائس الجامعة ، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة للكعبة فيصلّون فيها سرّا. ومعنى البيوت هنا [يكون] المساجد.

وتقدير الآية : واجعلوا بيوتكم إلى القبلة. وهذا رواية ابن جريج عن ابن عباس ، قال : كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه. قال سعيد بن جبير : معناه : واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا ، والقبلة الوجهة.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) يا محمد.

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢))

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) من متاع الدنيا وأثاثها. مقاتل : شارة حسنة ، لقوله : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ... وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ).

اختلفوا في هذه اللام فقال بعضهم هي لام (كي) ومعناه [أعطيتهم لكي يضلّوا ويبطروا ويتكبّروا] لتفتنهم بها فيضلّوا ويضلّوا إملاء منك ، وهذا كقوله تعالى : (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) ،

__________________

(١) زيادة عن تفسير القرطبي : ٨ / ٣٧١.

١٤٤

وقيل : هي لام العاقبة ولام الصيرورة يعني أعطاهم ليضلّوا [......] (١) (آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) ، وقيل : هي لام أي آتيتهم لأجل ضلالهم عقوبة لهم كقوله : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي لأجل إعراضكم عنهم ، ولم يحلفوا لتعرض عنهم.

(رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) ، قال عطية ومجاهد : أعفها ، فالطمس : المحو والتعفية ، وقال أكثر المفسرين : امسخها وغيّرها عن هيئتها ، قال محمد بن كعب القرضي : جعل سكّتهم حجارة ، وقال قتادة : بلغنا أن زروعهم صارت حجارة ، وقال ابن عباس : إن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأثلاثا وأنصافا. قال ابن زيد : صارت حجارة ذهبهم ، ودراهمهم وعدسهم وكل شيء ، وقال السدّي : مسخ الله أموالهم حجارة ، النخل والثمار والدقيق والأطعمة ، وكانت احدى الآيات التسع.

(وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) يعني : واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان.

(فَلا يُؤْمِنُوا) قيل : هو نصب جواب الدعاء بالفاء ، وقيل : عطف على قوله : ([لِيُضِلُّوا]).

قال الفراء : هو دعاء ومحله جزم كأنه : اللهم فلا يؤمنوا وقيل : معناه فلا آمنوا.

(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) [وقرأ علي والسملي : «دعواتكما» بالجمع وقرأ ابن السميقع : قد أجبت دعوتكما] خبرا عن الله تعالى.

كقول الأعشى :

فقلت لصاحبي لا تعجلانا

بنزع أصوله واجتز شيحا (٢)

(فَاسْتَقِيما) على الرسالة والدعوة ، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم عقاب الله.

قال ابن جريج : مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة.

(وَلا تَتَّبِعانِ) نهي بالنون الثقيلة ومحله جزم ويقال في الواحد لا تتبعن ، فيفتح النون لالتقاء الساكنين ، وتكسر في التثنية لهذه العلة. وقرأ ابن عامر بتخفيف النون لأن نون التوكيد تثقّل وتخفف.

(سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) يعني : ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلان قضائي ؛ فإن قضائي ووعدي لا خلف لهما ، ووعيدي نازل بفرعون وقومه.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) الآية ، وذلك أن الله تعالى أمر موسى عليه‌السلام أن يخرج ببني إسرائيل من مصر و [تبعا] بنو إسرائيل من القبط [فأخرجهم] بعلة عرس لهم وسرى

__________________

(١) بياض بالمخطوط.

(٢) جامع البيان للطبري : ١١ / ٢٠٨ ، وفي الصحاح (لا تحبسانا) بدل (لا تعجلانا) الصحاح : ٣ / ٨٦٨.

١٤٥

بهم موسى وهم ستمائة ألف وعشرون ألفا لا يعدّ فيهم ابن سبعين سنة ولا ابن عشرين سنة ، [إلى البحر وقال لكما] (١) القبط تلك الليلة ، فتتبعوا بني إسرائيل حتى أصبحوا وهو قوله : (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) بعد ما دفنوا أولادهم ، فلمّا بلغ فرعون ركب [البحر] ومعه ألف ألف وستمائة ألف.

قال محمد بن كعب : كان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشهبان ، وكان [........] (٢) وكان هارون على مقدمة بني إسرائيل وموسى في الساقة ، فلمّا انتهوا إلى البحر وقربت منهم مقدمة فرعون مائة ألف رجل ، كل قد غطّى أعلى رأسه ببيضة وبيده حربة ، وفرعون خلفهم في الدميم ، فقالت بنو إسرائيل لموسى : أين ما وعدتنا؟ هذا البحر أمامنا [إن عبرناه] غرقنا وفرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا ، ولقد (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا).

فـ (قالَ) موسى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) ، و (قالَ : كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) ، فأوحى الله إليه (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) فضربه فلم ينفلق وقال : أنا أقدم منك وأشد خلقا ، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن كنه وقل : انفلق أبا خالد بإذن الله عزوجل ، ففعل ذلك فانفلق البحر وصار اثنا عشر طريقا لكل سبط طريق. وكشف الله عن وجه الأرض فصارت يابسة وارتفع بين كل طريقين جبل.

وكانوا بني عمّ لا يرى بعضهم بعضا ولا يسمع بعضهم كلام بعض ، فقال كل فريق : قد غرق أصحابنا فأوحى الله تعالى إلى الجبال من الماء تشبّكي فتشبكت وصارت فيه شبه الخروق فجعل ينظر بعضهم إلى بعض.

فلمّا وصل فرعون بجنوده إلى البحر ورأوا البحر بتلك الهيئة قال فرعون : هابني البحر ، وهابوا دخول البحر ، وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى ، فجاء جبرئيل على فرس وديق (٣) وخاض البحر وميكائيل يسوقهم ، لا يشذ رجل منهم إلّا ضمّه إليهم.

فلما شمّ أدهم فرعون ريح فرس جبرئيل ، وفرعون لا يراه انسلّ خلف فرس جبريل ولم يملك فرعون من أمره شيئا واقتضمت الخيول في الماء ، فلما دخل آخرهم البحر وهمّ أولهم أن يخرج انطبق الماء عليهم ، فلمّا أدرك فرعون الغرق : قال آمنت بالذي (آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) فدسّ جبرئيل في فيه من حمأة البحر ، وقال : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ).

قال أبو بكر الوراق : قال الله لموسى وهارون : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) حين لم ينفعه تذكّره وخشيته.

__________________

(١) هكذا في الأصل.

(٢) بياض في المخطوط.

(٣) وديق : تشتهي الفحل.

١٤٦

قال كعب : لمّا أمسك نيل مصر عن الجري قالت القبط لفرعون : [إن كنت ربّنا فأجر لنا الماء] ، فركب وأمر جنوده بالركوب وكان مناديه ينادي كل ساعة : ليقف فلان بجنوده قائدا قائدا فجعلوا يقفون على درجاتهم [وقفز] حتى بقي هو وخاصته ، فأمرهم بالوقوف حتى بقي في حجّابه وخدّامه ، فأمرهم بالوقوف وتقدّم وحده بحيث لا يرونه [ونزل عن دابته] ولبس ثيابا أخر وسجد وتضرع إلى الله ، فأجرى الله تعالى له الماء فأتاه جبرئيل وحده في هيئة مستفت وقال : ما يقول الأمير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سيد له غيره ، فكفر نعمته وجحد حقّه وادعى السيادة دونه؟ [فكتب فرعون : جزاؤه أن يغرق في البحر] (١).

فلمّا أخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه قالت بنو إسرائيل : ما مات فرعون ولا يموت أبدا ، فأمر الله تعالى بالبحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصير كأنه ثور فتراءاه بنو إسرائيل ، البحر حتى جازوه ، وقرأ الحسن [وجوزنا ، وهما لغتان].

(فَأَتْبَعَهُمْ) فأدركهم ، يقال : تبعه وأتبعه إذا أدركه ولحقه ، واتّبعه بالتشديد إذا سار خلفه [واقتدى به] (فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ).

(بَغْياً وَعَدْواً) ظلما واعتداء ، يقال : عدا يعدو عدوا مثل : غزا يغزو غزوا ، وقرأ الحسن (عُدُوّا) بضم العين وتشديد الواو مثل : علا يعلو علوّا. قال المفسرون : (بَغْياً) في القول (وَعَدْواً) في الفعل.

(حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) أي أحاط به (قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) قرأ حمزة والكسائي وخلف إنّه بالكسر أي آمنت وقلت : إنّه ، وهي قراءة عبد الله. وقرأ الآخرون : أنّ بالفتح لوقوع (آمَنْتُ) عليها ، وهي اختيار أبو عبيد وأبي حاتم.

(لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قال جبرئيل (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال لي جبرئيل : ما أبغضت أحدا من عباد الله إلّا أنا أبغضت عبدين أحدهما من الجنّ والآخر من الأنس ، فأما من الجنّ فإبليس حين أبى بالسجود لآدم وأما من الإنس ففرعون حين قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ، ولو رأيتني يا محمد وأنا أدسّ الطين في فيه مخافة أن تدركه الرحمة» [٨٦] (٢).

__________________

(١) زيادة عن تفسير القرطبي : ٨ / ٣٧٨.

(٢) جامع البيان للطبري : ١٩ / ١٠٢ بتفاوت يسير.

١٤٧

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) أي نجعلك على نجوة من الأرض وهي النجو : المكان المرتفع ، قال أوس بن حجر :

فمن بعقوته كمن بنجوته

والمستكنّ كمن يمشي بقرواح (١)

(بِبَدَنِكَ) بجسدك لا روح فيك. وقال مجاهد والكسائي : البدن هاهنا الدرع وكان دارعا.

قال الأعشى :

وبيضاء كالنهى موضونة

لها قونس فوق جيب البدى (٢)

وقرأ عبد الله : فاليوم ننجيك ببدنك ، أي نلقيك على ناحية البحر. وقيل : شعرك.

(لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) عبرة وعظة.

وقرأ علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه : لِمَنْ خَلَقَكَ [بالقاف] ، أي تكون آية لخالقك (٣).

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) قال مقاتل : يعني أهل مكة ، قال الحسن : هي عامة.

(عَنْ آياتِنا) عن الإيمان بآياتنا (لَغافِلُونَ).

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا) أنزلنا (بَنِي إِسْرائِيلَ) بعد هلاك فرعون (مُبَوَّأَ) منزل (صِدْقٍ) يعني خير ، وقيل الأردن وفلسطين وهي : الأرض المقدسة التي بارك الله فيها لإبراهيم وذريته. الضحاك : هي مصر والشام.

(وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) الحلالات.

(فَمَا اخْتَلَفُوا) يعني اليهود الذين كانوا على عهد النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) البيان بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول صدقا ودينه حق. وقيل : العلم بمعنى المعلوم لقولهم للمخلوق : خلق ، وللمقدور : قدر ، وهذا [....... فتم طرف الأمر ، قال الله .....] (٤) ، ومعنى الآية

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ١١ / ٢١٣ ، وفي الصحاح فمن بنجوته كمن بعقوته ، الصحاح : ١ / ٣٩٦.

(٢) تفسير القرطبي : ٨ / ٣٨٠.

(٣) تفسير القرطبي : ٨ / ٣٨١.

(٤) هكذا في الأصل.

١٤٨

فما اختلفوا في محمد حتى جاءهم المعلوم وهو كون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا لأنهم كانوا يعلمونه قبل خروجه.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من الدين.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) ، الآية ، وقد أكثر العلماء في تفسير معنى الآية ، قال مقاتل : قالت كفار مكة : إنما ألقى هذا الوحي على لسان محمد شيطان ، فأنزل الله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يعني القرآن.

(فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) يخبرونك أنه مكتوب عندهم في التوراة رسولا نبيا.

وقيل : الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به غيره من الشاكّين به ، كما ذهب العرب في خطابهم الرجل بالشيء ويريدون به غيره ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) كأن الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به المؤمنون ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) ولم يقل : تعمل.

قال المفسرون : كان الناس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : آمنا بالله بلسانهم ، ومنهم كافر مكذّب لا يرى إلّا أن ما جاء به باطل ، أو شاكّ في الأمر لا يدري كيف هو يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى ، فخاطب الله هذا الصنف من الناس فقال : (فَإِنْ كُنْتَ) أيها الإنسان (فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) من الهدى على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَسْئَلِ) الأكابر من علماء أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلّام ، وسلمان الفارسي ، وتميم الداري وأشباههم فيشهدوا على صدقه ، ولم يرد المعاندين منهم.

وقيل : إن بمعنى (ما) ، وتقديره : فما كنت في شك مما أنزلنا إليك ، فاسألوا يا معاشر الناس أنتم دون النبي. كما قال : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) بمعنى وما كان مكرهم.

وقيل : إنّ الله علم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشكّ ولكنّه أراد أن يأخذ الرسول بقوله لا أشك ولا [أماري] إدامة للحجة على الشاكّين من قومه كما يقول لعيسى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) وهو يعلم أنه لم يقل ذلك ، بدليل قوله : (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) إدامة للحجة على النصارى.

وقال الفرّاء : علم الله تعالى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير شاكّ ، فقال له : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) ، وهذا كما تقول لغلامك الذي لا تشك في ملكك (١) إياه : إن كنت عبدي فأطعني ، أو تقول لابنك : إن كنت ابني فبرّني.

__________________

(١) في المخطوط : لا يشك في ملكه إيّاه.

١٤٩

وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : الشاك في الشيء يضيق به صدرا ، فيقال لضيّق الصدر شاك ، يقول : إن ضقت ذرعا بما تعاين من تعنتهم وأذاهم فاصبر ، واسأل (الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) يخبروك كيف صبر الأنبياء على أذى [قومهم] وكيف كان عاقبة أمرهم من النصر والتمكين.

وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن حبيب سمعت أبا بكر محمد بن محمد بن أحمد القطان في [ذلك :] كان جائزا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسوسة الشيطان لأن المجاهدة في ردّها يستحق عليها عظيم الثواب والله [.........] (١) وكان يضيق صدره من ذلك والله أعلم. وقال الحسين بن الفضل مع [حيث] (٢) الشرط لا يثبت الفعل.

والدليل عليه ما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما نزلت هذه الآية : «والله لا أشك ولا أسأل» [٨٧] (٣).

ثم أفتى [وزوّدنا] (٤) بالكلام فقال : (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) القرآن.

(فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الذين تحبط أعمالهم] (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) لعنته إياهم [لنفاقهم] ، قال ابن عباس : ينزل بك السخط ، وقال : إن الله خلق الخلق [فمنهم شقي ومنهم] سعيد ، فمن كان سعيدا لا يكفر إلّا ريثما يراجع الإيمان ومن كان شقيا لا يؤمن إلّا ريثما يراجع الكفر ، وإنما العمل [...] (٥) وقرأ أهل المدينة : (كلمات) جمعا.

(لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) دلالة (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) قال الأخفش : أنّث فعل (كل) لأنها مضافة إلى مؤنث ، ولفظة كل للمذكر والمؤنث سواء.

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ

__________________

(١) كلمات غير مقروءة في المخطوط.

(٢) هكذا في الأصل.

(٣) الدرّ المنثور : ٣ / ٣١٧ ، وجامع البيان للطبري : ١١ / ٢١٨.

(٤) هكذا في الأصل.

(٥) بياض في الأصل.

١٥٠

يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) فَلَوْ لا) أي فهلّا ، وكذلك هي في حرف عبد الله وأبي ، قال الشاعر :

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم

[بني ضوطري] لولا الكميّ المقنعا (١)

أي فهلّا.

وقرأ في الآية : (فلا تكن قرية) لأن في الاستفهام ضربا من الجحد.

(آمَنَتْ) عند معاينتها العذاب (فَنَفَعَها إِيمانُها) في وقت اليأس (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) فإنّهم نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت لما علم من صدقهم. قال أهل النحو : قوم منصوب على الاستثناء المنقطع ، وإن شئت قلت من جنسها لأن القوم مستثنى من القرية ، ومنجون من الهالكين ، وتقديره : لكن قوم يونس كقول النابغة :

وقفت فيها أصيلانا أسائلها

أعيت جوابا وما بالربع من أحد

ألا الأواري لأيا ما أبينها

والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد (٢)

وفي يونس ست لغات ، ضم النون ، وقرأ [...] (٣) بضمّ الياء لكثرة من قرأ بها ، وقرأ طلحة والأعمش والحميري وعيسى بكسر النون ، وعن بعضهم بفتح النون ، وروى أبو قرظة الأنصاري عن العرب همزة مع الضمة والكسرة والفتحة.

(لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) وهو وقت انقضاء آجالهم ، قال بعضهم : إنّما نفعهم إيمانهم في وقت اليأس لأن آجالهم بقي منها بقية فنجوا لما بقي من آجالهم ، فأما إيمان من انقضى أجله فغير نافع عند حضور العذاب.

وقصة الآية على ما ذكره عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير والسدّي ووهب وغيرهم أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل فأرسل الله إليهم يونس يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه فدعاهم فأبوا ، فقيل له : أخبرهم أن العذاب يجيئهم إلى ثلاث ، فأخبرهم بذلك فقالوا : إنّا لم نجرّب عليه كذبا فانظروا ، فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم ، فلمّا كان في جوف الليل خرج ماشيا من بين ظهرانيهم فلمّا أصبحوا تغشّاهم العذاب كما يغشي الثوب القصير إذا أدخل فيه صاحبه.

__________________

(١) لسان العرب : ٤ / ٤٨٩.

(٢) الأواري : واحدها : آري وهو الحبل تشدّ به الدابّة ، واللأي : المشقّة ، والنؤي : حفرة حول البيت تحول دون وصول الماء ، والجلد : الأرض الصلبة ، والبيت في تفسير الطبري : ١ / ١١٧.

(٣) بياض في الأصل.

١٥١

قال مقاتل : كان العذاب فوق رؤوسهم قدر ميل. قال ابن عباس : قدر ثلثي ميل. قال وهب : غامت السماء غيما أسود هائلا يدخل دخانا شديدا ، وهبط حتى غشى مدينتهم واسودّت سطوحهم ، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا نبيّهم فلم يجدوه ، فقذف الله في قلوبهم التوبة فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابّهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وأخلصوا النية ، وفرّقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام ، فحنّ بعضهم إلى بعض ، وعلت أصواتهم واختلطت أصواتها بأصواتهم وحنينها بحنينهم ، وعجوا وضجوا إلى الله تعالى وقالوا : آمنّا بما جاء به يونس ، فرحمهم ربّهم واستجاب دعاءهم ، وكشف عنهم العذاب بعد ما أظلّهم وتدلّى إلى سمعهم ، وذلك يوم عاشوراء.

قال ابن مسعود : بلغ من توبة أهل نينوى أن ترادّوا المظالم بينهم حتى أن كان الرجل ليأتي الحجر وقد وضع عليه أساس فيقلعه ويردّه.

وروى صالح المري عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد ، قال : لما غشى قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم ، فقالوا له : قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال : قولوا : يا حيّ حين لا حي ويا حي [يا] محيي الموتى ، ويا حي لا إله إلّا أنت ، فقالوها ، فكشف عنهم العذاب ومتّعوا إلى حين.

قالوا : وكان يونس عليه‌السلام وعدهم العذاب فخرج ينتظر العذاب وهلاك قومه فلم ير شيئا ، وكان من كذب ولم تكن له بيّنة قتل ، فقال يونس لما كشف عنهم العذاب : كيف أرجع إلى قومي وقد كذبتهم؟ فانطلق عاتبا على ربه ، مغاضبا لقومه فأتى البحر [فإذ سفينة قد شحنت] فركب السفينة [لوحده] بغير أجر ، فلمّا دخلها وقفت السفينة ، والسفن تسير يمينا وشمالا قالوا : ما لسفينتكم؟ قال يونس : إنّ فيها عبدا آبقا ولا تجري ما لم تلقوه ، فقالوا : وأنت يا نبي العبد فلا نلقيك ، فاقترعوا فوقعت القرعة عليه ثلاثا فوقع في الماء ووكل عليه حوت فابتلعه.

قال ابن مسعود : فابتلعه الحوت وجرى به حتى أتاه إلى قرار الأرض ، وكان في بطنه أربعين ليلة فسمع تسبيح الحصى (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، فاستجاب الله له فأمر الحوت فنبذه على ساحل البحر [عريانا] ، فأنبت الله (عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) ، فجعل يستظلّ بها ، ووكل الله به سخلا يشرب من لبنها ، فيبست الشجرة فبكى عليها ، فأوحى الله إليه : تبكي على شجرة يبست ، ولا تبكي على مائة ألف إنسان أهلكهم! فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى ، فقال : من أنت يا غلام؟

قال : من قوم يونس ، قال : إذا رجعت إليهم فأخبرهم أنك لقيت يونس ، قال الغلام : إن كنت يونس فقد تعلم أنه لم يكن لي بينة ، [فإن] قلت : فمن يشهد لي؟ قال يونس : يشهد لك هذه البقعة وهذه الشجرة ، قال الغلام : أراهما؟ قال يونس : إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له ، قالا :

١٥٢

نعم. فرجع الغلام إلى قومه ، فقال للملك : إني قد لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام ، وكان له أخوة وكان في منعة فأمر الملك بقتله ، فقال : إنّ لي بينة فانسلّوا معه إلى البقعة والشجرة ، فقال الغلام : أنشدكما هل أشهدكما يونس؟ قالا : نعم ، فرجع القوم مذعورين ، وقالوا للملك : شهد له الشجرة والأرض ، فأخذ الملك بيد الغلام فأجلسه في مجلسه ، وقال : أنت أحق بهذا المكان مني ، قال ابن مسعود : فأقام لهم أميرا فيهم ذلك الغلام أربعين سنة (١).

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) يا محمد (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) قال الحسين بن الفضل : لأضطرّهم إلى الإيمان. قال الأخفش : جاء بقوله : (جَمِيعاً) مع (كل) تأكيدا كقوله : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ).

(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)قال ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على أن يؤمن جميع الناس ويبايعوه على الهدى ، فأخبره الله تعالى أنّه لا يؤمن إلّا من سبق له من الله سعادة في الكتاب الأول ، ولا يضلّ إلّا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ) قال الحسن : وما ينبغي لنفس. وقال المبرد : معناه وما كنت لتؤمن (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). قال ابن عباس : بأمر الله. وقال عطاء : بمشيئة الله ، كقوله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). وقال الكوفي : ما سبق من قضائه. وقال [الدّاني] : بعلمه وتوفيقه.

(وَيَجْعَلُ) أي ويجعل الله ، وقرأ الحسن وعاصم بالنون (الرِّجْسَ) العذاب والسخط.

وقرأ الأعمش الرجز بالزاي (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) حجج الله في التوحيد والنبوة.

(قُلِ) يا محمد لهؤلاء المشركين السائليك الآيات (انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ) من الشمس والقمر والنجوم (وَالْأَرْضِ) من الجبال والبحار والأنهار والأشجار وغيرها من الآيات ثم قال : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في علم الله.

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ) يعني مشركي مكة (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا) مضوا (مِنْ قَبْلِهِمْ) من الذين مضوا. قال قتادة : يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود ، والعرب تسمي العذاب والنعيم : أياما ، كقوله تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) وكل ما مضى عليك من خير أو شر فهو أيام.

(قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) معهم عند نزول العذاب ، كذلك كما أنجيناهم.

(كَذلِكَ حَقًّا) واجبا ، (عَلَيْنا) غير شك ، (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) بك يا محمد. وقرأ

__________________

(١) راجع زاد المسير : ٤ / ٥٦.

١٥٣

يعقوب : نُنْجِي رُسُلَنا بالتخفيف ، وقرأ الكسائي وحفص : (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) بالتخفيف وشدّدهما الآخرون ، وهما لغتان فصيحتان أنجى ينجي إنجاء ونجّي ينجّي تنجية بمعنى واحد.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) الذي أدعوكم إليه.

(فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأوثان التي لا تعقل ولا تفعل ولا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) تقدير أن يسلم ويقبض أرواحهم.

(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) قال ابن عباس : عملك. وقيل : نفسك ، أي استقم على الدين (حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر : «لم أعبد ربي بالرهبانية وأن خير الدين الحنيفية السهلة» [٨٨] (١).

(وَلا تَدْعُ) تعبد (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ) إن أطعته (وَلا يَضُرُّكَ) إن عصيته (فَإِنْ فَعَلْتَ) فعبدت غير الله (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) الضارّين لأنفسهم ، الواضعين العبادة في غير موضعها (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) يصبك الله ببلاء وشدّة (فَلا كاشِفَ) دافع (لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) رخاء ونعمة (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) فلا مانع لرزقه.

(يُصِيبُ بِهِ) واحد من الضر والخير (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني القرآن فيه البيان.

(فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) [أي له ثواب اهتدائه] (٢) (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) فعلى نفسه جنا (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) بكفيل وحفيظ يحفظ أعمالكم. قال ابن عباس : نسختها آية القتال.

__________________

(١) كنز العمّال : ٣ / ٤٧ ، ح ٥٤٢٢ بتفاوت.

(٢) زيادة عن زاد المسير : ٥ / ١٣.

١٥٤

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) من نصرك وقهر أعدائك وإظهار دينه (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

قال الحسن : لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصار وقد تجمع خيرتهم فقال : «إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» [٨٩] (١) قال أنس : فلم نصبر. فأمرهم بالصبر كما أمره الله به.

وقال عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب : لما قدم معاوية المدينة تلقّته الأنصار وتخلّف أبو قتادة ودخل عليه بعد فقال : ما لك لا تلقنا؟ قال : لم تكن عندنا دواب ، قال : فأين النواضح؟ قال : ربطناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاصبروا حتى تلقوني» [٩٠] (٢) ، قالوا : إذا نصبر ، ففي ذلك قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت :

ألا أبلغ معاوية بن حرب

أمير المؤمنين ثنا (٣) كلام

فإنّا صابرون ومنظروكم

إلى يوم التغابن والخصام (٤)

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٨ / ٣٨٩ ، وفي مسند أحمد (ستلقون) بدل (ستجدون) ، مسند أحمد : ٣ / ٥٧.

(٢) مجمع الزوائد : ١٠ / ٣٨.

(٣) ويروى : نبا ، ويروي : عني كلامي.

(٤) المصنّف لعبد الرزّاق : ١١ / ٦١ ، ح ١٩٩٠٩ ، تفسير القرطبي : ٨ / ٣٨٩.

١٥٥

سورة هود (ع)

مكية ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال : حدثني أبو بكر محمد بن إسحاق ، محمد بن علي بن محمد ، محمد بن علي بن صالح عن ابن إسحاق عن أبي جحيفة قال : قيل : يا رسول الله قد أسرع إليك المشيب ، قال : «شيبتني هود وأخواتها : الحاقة ، والواقعة ، و (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) ، و (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ)» [٩١] (١).

وعن زيد قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام فقرأت عليه سورة هود فلمّا ختمتها قال : يا زيد قرأت ، فأين البكاء؟.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦))

(الر كِتابٌ) قيل (الر) مبتدأ و (كِتابٌ) خبره ، وقيل : (كِتابٌ) رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره : هذا كتاب (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) قال ابن عباس : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) : لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بيّنت بالأحكام والحلال والحرام ، قال الحسن وأبو العالية : (فُصِّلَتْ) : فسّرت (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا) يحتمل أن يكون موضع أن رفعا على مضمر تقديره : وفي ذلك الكتاب أن لا تعبدوا ، ويحتمل أن يكون محله نصبا بنزع الخافض تقديره : ثم فصّلت أن لا تعبدوا (إِلَّا اللهَ) أو لئلّا تعبدوا إلّا الله.

(إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ) من الله (نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) وأن عطف على الأول (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٥ / ٢٣٩.

١٥٦

أي ارجعوا إلى الله بالطاعة والعبادة ، وقال الفرّاء : ثمّ هاهنا بمعنى (الواو) أي وتوبوا إليه لأنّ الاستغفار من التوبة ، والتوبة من الاستغفار (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) أي يعيشكم عيشا في [منن] ودعة وأمن وسعة [رزق] ، (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو الموت (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) ويؤت كل ذي عمل مبلغ أجره وثوابه [سمى فضله] باسم الابتداء.

قال ابن مسعود : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات ، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات ، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر ، واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم قال : هلك من غلبت آحاده عشراته.

وقال ابن عباس : من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة ، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار ، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أهل الأعراف ، ثم يدخلون الجنة بعد ، وقال أبو العالية : من زادت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنة ، لأن الدرجات تكون بالأعمال. وقال مجاهد : إن ما يحتسب الإنسان من كلام يقوله بلسانه ، أو عمل يعمله بيده ورجله ، أو ما يتصدّق به من حق ماله.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) وهو يوم القيامة.

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) قال ابن عباس : يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة ، نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام ، حلو المنظر ، يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره. مجاهد : (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) شكّا وامتراء ، السدّي : يعرضون بقلوبهم عنك من قولهم [..............] (١).

عن عبد الله بن شداد : نزلت في بعض المنافقين كان إذا مرّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثنى صدره وظهره ، وطأطأ رأسه ، وتغشّى ثوبه كي لا يراه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قتادة : كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله ولا ذكره. ابن زيد : هذا حين يناجي بعضهم بعضا في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال مجاهد : ليستخفوا من الله إن استطاعوا ، وقال ابن عباس : يثنون صدورهم على وزن يحنون ، جعل الفعل للصدور أي [يلقون].

(أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) يغطّون رؤوسهم بثيابهم ، وذلك أخفى ما يكون لابن آدم إذا حنى صدره وتغشّى ثوبه وأضمر همه في نفسه.

(يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَما مِنْ دَابَّةٍ) من بغلة وليس دابّة وهي كل حيوان دبّ على وجه الأرض ، وقال بعض العلماء : كل ما أكل فهو دابة.

__________________

(١) بياض في المخطوط.

١٥٧

(إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) غذاؤها وقوتها وهو المتكفّل بذلك فضلا لا وجوبا ، وقال بعضهم : (على) بمعنى (من) أي من الله رزقها ، ويدل عليه قول مجاهد ، قال : ما جاء من رزق فمن الله ، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعا ، ولكن ما كان من رزق فمن الله.

(وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) أي مأواها الذي تأوي إليه وتستقر فيه ليلا ونهارا ، (وَمُسْتَوْدَعَها) الموضع الذي تودع فيه أما بموتها أو دفنها ، قال ابن عباس : (مُسْتَقَرَّها) حيث تأوي ، (وَمُسْتَوْدَعَها) حيث تموت ، مجاهد : (مُسْتَقَرَّها) في الرحم (وَمُسْتَوْدَعَها) في الصلب ، عبد الله : (مُسْتَقَرَّها) الرحم ، (وَمُسْتَوْدَعَها) المكان الذي تموت فيه ، الربيع : (مُسْتَقَرَّها) أيام حياتها ، (وَمُسْتَوْدَعَها) حيث تموت ، ومن حيث تبعث.

وقيل : (يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) في الجنة أو في النار ، (وَمُسْتَوْدَعَها) القبر ، ويدلّ عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة والنار : (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) و (ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً).

(كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) قبل أن يخلق السماوات والأرض وذلك الماء على متن الريح. وقال كعب : خلق الله ياقوتة حمراء لا نظير لها [فنظر إليها بالهيبة] فصارت ماء ، [يرتعد من مخافة الله تعالى] ثمّ خلق الريح فجعل الماء [على قشرة] (١) ثم وضع العرش على الماء. وقال ضمرة : إنّ الله تعالى (كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) ثم

__________________

(١) في تفسير القرطبي : ٩ / ٨ ، على متنها.

١٥٨

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بالحق ، وخلق القلم وكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه ، ثم إن ذلك الكتاب سبّح الله ومجدّه قبل أن يخلق شيئا من الخلق.

(لِيَبْلُوَكُمْ) ليختبركم وهو أعلم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)

روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ليبلوكم أيّكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله» [٩٢] (١).

قال ابن عباس : أيّكم أعمل بطاعة الله. قال مقاتل : أيّكم أتقى لله ، الحسن : أيّكم أزهد في الدنيا زاهدا وأقوى لها تركا.

(وَلَئِنْ قُلْتَ) يا محمد (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) يعنون القرآن ، ومن قرأ : ساحر ردّه إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) إلى أجل معدود ووقت محدود ، وأصل الأمّة الجماعة ، وإنما قيل للحين : أمّة ، لأن فيه يكون الأمّة ، فكأنه قال : إلى مجيء أمّة وانقراض أخرى قبلها ، كقوله : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ).

(لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) يقولون استعجالا للعذاب واستهزاء ، يعنون أنه ليس بشيء. قال الله تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) العذاب (لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) خبر (ليس) عنهم. (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي رجع إليهم ونزل بهم وبال استهزائهم (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) سعة ونعمة (ثُمَّ نَزَعْناها) سلبناها (مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) قنوط في الشدّة (كَفُورٌ) في النعمة.

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) بعد بلاء وشدة (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) زالت الشدائد عني (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) أشر بطر ، ثم استثنى فقال : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فإنهم إن نالتهم شدّة وعسرة صبروا ، وإن نالوا نعمة شكروا (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهو الجنة ، وإنما جاز الاستثناء مع اختلاف الحالين لأن الإنسان اسم الجنس كقوله : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا).

(فَلَعَلَّكَ) يا محمد (تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) فلا تبلّغه إياهم ، وذلك أن مشركي مكة قالوا : آتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا.

(وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا) لأن يقولوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) ينفقه (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يصدّقه ، قال عبد الله بن أمية المخزومي قال الله : يا أيها النذير ليس عليك إلّا البلاغ (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ) مثله (مُفْتَرَياتٍ) بزعمكم (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) لفظه جمع والمراد به الرسول وحده كقوله : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) ويعني الرسول.

__________________

(١) الدرّ المنثور : ٤ / ٢١١.

١٥٩

وقال مجاهد : عنى به أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) يعني القرآن (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) لفظه استفهام ومعناه أمر.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي من كان يريد بعمله الحياة الدنيا (وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ) نوفر لهم أجور أعمالهم في الدنيا (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) لا ينقصون. قتادة يقول : من كانت الدنيا همّه وقصده وسروره وطلبته ونيّته جازاه الله تعالى ثواب حسناته في الدنيا ، ثم يمضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء ، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحسن من محسن (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) في عاجل الدنيا وآجل الآخرة» (١).

واختلفوا في المعنيّ بهذه الآية فقال بعضهم : هي للكفار ، وأما المؤمن فإنه يريد الدنيا والآخرة ، وإرادته الآخرة غالبة على إرادته للدنيا ، ويدل عليه قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) في الدنيا (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) قال مجاهد : هم أهل الربا.

وروى ابن المبارك عن حيوة بن شريح قال : حدثني الوليد بن أبي الوليد بن عثمان أن عقبة بن مسلم حدّثه أن شقي بن قابع الأصبحي حدّثنا أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس ، فقال : من هذا؟ قيل : أبو هريرة.

قال : فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدّث الناس ، فلما سكت وخلا ، قلت : وأنشدك الله لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [عقلته وعلمته] فقال : لأحدّثنّك حديثا حدثنيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في [هذا البيت] ثم غشي عليه ثم أفاق فقال : أحدثك حديثا حدّثنيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا البيت ، ولم يكن أحد غيره وغيري ، ثم شهق أبو هريرة شهقة شديدة ثم قال : [فأرى على وجهه ثمّ استغشى] طويلا ثم أفاق فقال : حدثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة دعا (٢) العباد ليقضي بينهم ، وكل أمة جاثية فأول من يدعو رجل جمع القرآن ، ورجل قتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال. فيقول الله للقارئ : ألم أعلّمك ما أنزلت على رسولي؟ قال : بلى يا رب.

قال : ماذا عملت فيما علمت؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ، فيقول الله تعالى له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، فيقول الله تعالى : بل أردت أن يقال : فلان قارئ ، فقد

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ١٢ / ١٨ ، وتاريخ دمشق : ٤٧ / ٢١٤. ٢١٦.

(٢) في المصدر : ينزل إلى.

١٦٠