الكشف والبيان - ج ٥

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]

الكشف والبيان - ج ٥

المؤلف:

أبو إسحاق أحمد [ الثّعلبي ]


المحقق: أبي محمّد بن عاشور
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٩

وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١))

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) يعني الحرم مأمونا فيه (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَ).

(أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ويقال جنبته أجنبه جنبا وأجنبته إجنابا بمعنى وأجنبّك وجنّبته تجنيبا.

قال الشاعر : وهو أمية بن الأشكر الليثي :

وتنفض مهده شفقا عليه

وتجنّبه فلا يصعي الصّعابا (١)

والأصنام جمع صنم وهو التمثال المصور قال الشاعر :

وهنانة كالزون يجلي ضمه

تضحك عن أشنب عذب ملثمه (٢)

وقال إبراهيم التيمي في قصصه : من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم عليه‌السلام حين يقول : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) يعني ضل بهن كثير من الناس عن طريق الهدى حتى عبدوهن وهذا من المغلوب. نظيره قوله (الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) (٣) أي يخوفكم بأوليائه.

(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) على ديني وملتي (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قال السدي : معناه (وَمَنْ عَصانِي) فتاب.

مقاتل بن حيان : (وَمَنْ عَصانِي) فيما دون الشرك.

روى عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول إبراهيم عليه‌السلام (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وقول عيسى عليه‌السلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) (٤) الآية ، فرفع يداه ثم قال : اللهم أمتي اللهم أمتي وبكى ، فقال الله : يا جبرئيل اذهب إلى محمد ـ وربك أعلم ـ فسأله ما بك ، فأتى جبرئيل فسأله فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال ، فقال الله : يا جبرئيل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا يسؤك.

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٣ / ٢٩٨.

(٢) تفسير الطبري : ١٣ / ٢٩٨.

(٣) سورة آل عمران : ١٧٥.

(٤) سورة المائدة : ١١٨.

٣٢١

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) إنما أدخل : «من» للتبعيض ومجاز الآية أسكنت من ذريتي ولدا (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) وهو مكة (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ).

قتادة : المحرم من المسجد محرم الله فيه ، والاستخفاف بحقه ، فإن قيل ما وجه قول إبراهيم (عِنْدَ بَيْتِكَ) وإنما بنى إبراهيم البيت بعد ذلك بمدة ، وقيل معناه (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) الذي كان قبل أن يرفعه من الأرض حتى رفعته في أيام الطوفان.

وقيل (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) الذي قد مضى في علمك أنه يحدث في هذا البلد.

وكانت قصة الآية على ما ذكره سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إنّ أول من سعى بالصفا والمروة هاجر أم إسماعيل ، وإنّ أول ما أحدثت جرّ الذيول لهي وذلك أنها لما فرت من ساره فأرخت من ذيلها ليعفى أثرها فجاء بها إبراهيم ومعها ابنها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت فوضعهما ثم رجع فأثبتته فقالت : إلى من تكلنا ، فجعل لا يرد عليها شيئا ، فقالت : الله أمرك بهذا؟ قال : نعم. قالت : إذا لا يضيعنا ، فرجعت ومضى [إبراهيم] حتى إذا كان على ثنية كداء أقبل على الوادي. فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) الآية (١).

قال : ومع الإنسانة شنّة فيها ماء فنفذ الماء فعطشت فانقطع لبنها فعطش الصبي ، فنظرت إلى الجبال أدنى من الأرض فصعدت الصفا فتسمّعت هل تسمع صوتا أو ترى أنيسا فلم تسمع شيئا فانحدرت فلما نزلت على الوادي سعت وما تريد السعي كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد بذلك السعي ، فنظرت أيّ الجبال أدنى من الأرض فصعدت المروة فتسمّعت هل تسمع صوتا أو ترى أنيسا ، فسمعت صوتا ، فقالت : كالإنسان الذي يكذب سمعه : صه حتى استيقنت ، فقالت : قد أسمعتني صوتك فأغثني فقد هلكت وهلك من معي ، فإذا هو الملك فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عينا فعجلت الإنسانة فجعلت تفرغ في شنتها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرحم الله أم إسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عينا معينا ، وقال لها الملك : لا تخافي الظمأ على أهل هذا البلد فإنما هي عين لشرب ضيفان الله وقال : إن أبا هذا الغلام سيجيء فيبنيان لله بيتا هذا موضعه.

قال : ومرت رفقة من جرهم تريد الشام فرأوا الطير على الجبل وقال : إن هذا الطير لعائف على ماء فأشرفوا فإذا هم بالإنسانة فأتوا هاجر وقالوا إن شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك فأذنت لهم فنزلوا معها وكانوا هناك حتى شبّ إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل (٢) ، وذكر الحديث في صفة مقام إبراهيم وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ١١٤.

(٢) تاريخ الطبري : ١ / ١٧٩. ١٨٠ وذكر بقية القصة.

٣٢٢

(رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي) تفزع وقيل تشتاق (إِلَيْهِمْ) وهذا دعاء منه عليه‌السلام لهم بأن يرزقهم حجّ بيته الحرام.

قال سعيد بن جبير : لو يقال أفئدة الناس تهوى إليهم لحجت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال (أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) منهم المسلمون.

وقال مجاهد : لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند ولكنه (أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ ... وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) ما رزقت سكّان القرى ذوات المياه (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) من جميع أمورنا.

وقال ابن عباس ومقاتل من الوجد إسماعيل وأمه حيث أسكنها (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ... وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ).

قال بعضهم : هذه صلة فولد إبراهيم عليه‌السلام.

وقال الآخرون : قال الله عزوجل (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ) وهو قول الله عزوجل (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي) أعطاني (عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ).

قال ابن عباس : ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.

وقال سعيد بن جبير : بشر إبراهيم بإسحاق بعد اثنتي عشرة ومائة سنة.

(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أيضا واجعلهم مقيمي الصلاة (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ).

قال المفسرون : أي عبادتي. نظيره قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدعاء مخ العبادة» [١٦٨] (١) ثم قرأ (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) (٢) فسمى الدعاء عبادة.

(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) إن آمنا وتابا ، وقد أخبر الله عن عذر خليله في استغفاره لأبيه في سورة التوبة.

(وَلِلْمُؤْمِنِينَ) كلهم.

قال ابن عباس : من أمة محمّد (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أي يبدو ويظهر. قال أهل المعاني : أراد يوم يقوم الناس للحساب فاكتفى بذكر الحساب عن ذكر الناس إذ كان مفهوما.

__________________

(١) كنز العمال : ٢ / ٦٢ ح ٣١١٤.

(٢) سورة غافر : ٦٠.

٣٢٣

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ). قال ميمون بن مهران : فهذا وعيد للظالم وتعزية المظلوم (١) (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) يمهلهم ويؤخر عذابهم.

وقرأه العامة : بالتاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ) ، وقرأ الحسن والسّلمي : بالنون.

(لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي لا تغمض من هول ما ترى في ذلك اليوم قاله الفراء.

(مُهْطِعِينَ) قال قتادة : مسرعين. سعيد بن جبير عنه : منطلقين.

عابد بن الأوزاعي وسعيد بن جبير : الإهطاع سيلان كعدو الذئب.

مجاهد : مديمي النظر.

الضحاك : شدّة النظر من غير أن يطرف ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، الكلبي : ناظرين. مقاتل : مقبلين إلى النار.

ابن زيد : المهطع الذي لا يرفع رأسه ، وأصل الإهطاع في كلام العرب البدار والإسراع ، يقال : أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع (٢).

قال الشاعر :

وبمهطع سرح كأنّ زمامه

في رأس جذع من أراك مشذب

وقال آخر :

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٣ / ٣١٠.

(٢) تفسير القرطبي : ٩ / ٢٧٩.

٣٢٤

بمستهطع رسل كأن جديله

بقدوم رعن من صوام ممنع (١)

وقال آخر :

تعبدني نمر بن سعد ، وقد أرى

ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع (٢)

(مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) رافعيها.

قال القتيبي : المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه ، ومنه الإقناع في الصلاة.

قال الحسن : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد وأصل الإقناع في كلام العرب رفع الرأس.

قال الشماخ

يباكرن العضاه بمقنعات

نواجذهن كالجدا الوقيع (٣)

يعني برءوس مرفوعات إليها ليتناولها.

قال الراجز :

أنغض نحوي رأسه وأقنعا

كأنما أبصر شيئا أطمعا (٤)

(لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) لا يرجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) قال ابن عباس : خالية من كل خير.

مجاهد ومرة بن شرحبيل وابن زيد : منخرقة خربة ليس فيها خير ولا عقل ، كقولك في البيت الذي ليس فيه شيء : إنما هو هواء. هذه رواية العوفي عن ابن عباس (٥).

سعيد بن جبير : تمور في أجوافهم ليس لها مكان يستقر فيه.

قتادة : انتزعت حتى صارت في حناجرهم لا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أمكنتها.

الأخفش : جوفاء لا عقول لها.

والعرب تسمي كلّ أجوف نخبا وهواء ، ومنه أهواء وهو الخط الذي بين الأرض والسماء.

قال زهير يصف ناقه :

__________________

(١) بغية الطلب : ٤ / ٢٠١٥ وهي في ديوانه : ٦٤. ٧٣.

(٢) لسان العرب : ٣ / ٢٧٤.

(٣) تفسير الطبري : ١٣ / ٣١٣.

(٤) فتح الباري : ٥ / ٦٩.

(٥) لسان العرب : ٩ / ٣٥.

٣٢٥

كان الرجل منها فوق صعل

من الظلمان جؤجؤه هواء (١)

وقال حبان

ألا أبلغ أبا سفيان عنّى

فأنت مجوف نخب هواء (٢)

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) وهو يوم القيامة (فَيَقُولُ) عطف على يوم يأتيهم وليس بجواب فلذلك وقع (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أشركوا (رَبَّنا أَخِّرْنا) أمهلنا (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) وهو الدنيا يعني أرجعنا إليها (نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) فيجابون (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ) حلفتم (مِنْ قَبْلُ) في دار الدنيا (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) فيها أي لا يبعثون ، وهو قوله (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) (٣) ، (... وَسَكَنْتُمْ) في الدنيا (فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعصية قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أي جزاء مكرهم (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ).

قرأه العامة : بالنون.

وقرأ عمر وعلي وأبن مسعود : وأبيّ : وإن كان مكرهم ما يزال.

(لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ). قرأه العامة : بكسر اللام الأول وفتح الثانية.

وقرأ ابن جريج والكسائي : بفتح الميم الأولى وضم الثانية بمعنى قراءة العامة الزجاج في قوله (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) ، أي ما كان مكرهم لتزول.

أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر الإسلام وثبوته كثبوت الجبال الراسخة ؛ لأن الله وعده إظهار دينه على الأديان كلّها ، وقيل معناه : كان مكرهم.

قال الحسن : إن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن يزول منه الجبال ، وقال خمس مواضع في القرآن (إن) بمعنى (ما) قوله (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) ، وقوله : (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) (٤) وقوله : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٥) (فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) (٦) وقوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) (٧) ومن فتح اللام الأولى فعلى استعظام مكرهم (٨).

__________________

(١) الصحاح : ١ / ٣٤.

(٢) لسان العرب : ٩ / ٣٥.

(٣) سورة النحل : ٣٨.

(٤) سورة الأنبياء : ١٧.

(٥) سورة الزخرف : ٨١.

(٦) سورة الأحقاف : ٢٦.

(٧) سورة يونس : ٩٤.

(٨) تفسير القرطبي : ٩ / ٣٨٠.

٣٢٦

قال ابن جرير : الاختيار القراءة الأولى ؛ لأنها لو كانت قالت لم يكن ثابتة وكان مكرهم ما ذكره علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه وغيره قالوا : نمرود الجبار (الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) قال : إن كان ما يقوله إبراهيم حقا فلا انتهي حتى أعلم ما في السماء ، فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور وعلفها اللحم وربّاها حتى شبت واستعلجت ثم قعد في تابوت وجعل معه رجلا آخر (١) ، وجعل له بابا من أعلى وبابا من أسفل وربط التابوت بأرجل النسور وعلق اللحم فوق التابوت على عصا ثم خلى النسور فطرن وصعدن طمعا في اللحم حتى بعدن في الهواء.

قال نمرود لصاحبه افتح الباب الأول وانظر في السماء هل ترى منه شيئا ففتح ونظر ، فقال : إن السماء كهيئتها ثم قال : افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض كيف تراها ففعل ذلك فقال أرى الأرض مثل اللجة البيضاء ، والجبال مثل الدخان ، وطارت النسور وارتفعت حتى حالت بينها وبين التابوت فقال لصاحبه افتح البابين ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة ، ونودي : أيها الطاغية أين تريد.

قال عكرمة : كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب فرمى عليهم فعاد إليه السهم متلطخا بدم. فقال : كفيت نفسك إله السماء واختلفوا في ذلك السهم من أي شيء تلطخ.

قال عكرمة : سمكة فدت نفسها لله من بحر في الهواء معلق.

وقال بعضهم : من طائر من الطيور أصابه السهم.

قالوا : ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم ففعل ذلك فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال حفيف التابوت في النسور ففزعت وظنت أن قد حدث بها حدث في السماء أو أن القيامة قد قامت فذلك قوله (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ).

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) بالنصر لأوليائه وهلاك أعدائه وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره : ولا يحسبن الله مخلف رسله وعده ؛ لأن الخلف يقع بالوعد.

يقول الشاعر :

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه

وسائر باد إلى الشمس أجمع (٢)

وقال القتيبي : هو من المقدم الذي يوضحه التأخير والمؤخر الذي يوضحه التقديم ، وهو قولك يخلف وعده رسله ، ومخلف رسله وعده ؛ لأنه الخلف يقع بالوعد كما يقع بالرسل.

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٣ / ٣٢٠ ، بتفاوت.

(٢) فتح القدير : ٣ / ١١٨ ، وتفسير الطبري : ١٣ / ٣٢٦.

٣٢٧

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) وروى عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال : البدل عرض كالفضة نبضا نقية لم يسل فيها دم ولم يعمل عليها خطيئة (١).

وقال علي رضي‌الله‌عنه في هذه الآية : الأرض من فضة والسماء من ذهب.

وروى سهل بن سعيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد» [١٦٩] (٢).

فقال سعيد بن جبير ونجد ومحمد بن كعب القرظي : تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه (٣).

روى خيثمة عن ابن مسعود قال : تبدل الأرض نارا يصير الأرض كلها يوم القيامة نارا والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها وتلجم الناس العرق ولم يبلغوا الحساب بعد.

قال كعب : يصير السماوات جنانا ويصير مكان البحر نارا وتبدل الأرض غيرها.

ابن عباس : الأرض هي تلك الأرض وإنما تبدل كلها وجبالها وأنهارها.

ثم أنشد :

فما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا بالدار الدار التي كنت أعرف (٤)

وتصديق قول ابن عباس ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «(تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي (لا تَرى فِيها عِوَجاً) وأمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في الثانية في مثل مواضعهم من الأولى من كان في بطنها كان في بطنها وما كان على ظهرها كان على ظهرها» [١٧٠] (٥).

وقيل : (تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) بأرض [بيضاء كالفضة].

الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى : (تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) أين يكون الناس يومئذ قال : «على الصراط» [١٧١] (٦).

وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي أسماء عن ثوبان قال : سأل نفر من اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أين الناس (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ)؟

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٣ / ٣٢٧.

(٢) تفسير الطبري : ١٣ / ٣٢٩ ، وصحيح البخاري : ٧ / ١٩٤.

(٣) تفسير ابن كثير : ٢ / ٥٦٤.

(٤) تفسير القرطبي : ٥ / ٢٥٤.

(٥) تفسير القرطبي : ٩ / ٣٨٣.

(٦) مسند أحمد : ٦ / ٣٥.

٣٢٨

قال : «هم في الظلمة دون الحشر» [١٧٢] (١).

وروى حكيم بن ثوبان الكلابي عن أبي أيوب الأنصاري قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر من اليهود فقال : أرأيت إذ يقول الله عزوجل في كتابه : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فأين الخلق عند ذلك؟ فقال : أضياف الله فلم يعجزهم ما لديه.

(وَبَرَزُوا) ظهروا وخرجوا من قبورهم (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) الغلاب الذي يفعل ما يشاء وقهر العباد بالموت (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) المشركين (يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ) مشدودين بعضهم ببعض ، وقيل مقرنين بالشياطين. بيانه قوله (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) (٢) وهم الشياطين ، فقال ابن زيد : مقرّنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم في الأصفاد بالقيود والأغلال ، واحدها صفد والصفاد أيضا القيد وجمعه صفد يقال : صفدته صفدا وأصفادا التكثر ، قلت : صفدته تصفيدا.

قال عمرو بن كلثوم :

فأتوا بالنهاب وبالسبايا

وأبناء الملوك مصفدينا (٣)

(سَرابِيلُهُمْ) قمصهم واحدها سربال والفعل منه تسربلت وسربلت غيري (مِنْ قَطِرانٍ) وهو الذي تهنأ به الإبل ويقال له الخضخاض (٤).

قال الحسن وقرأ عيسى بن عمر : قَطْرانٍ بفتح القاف وتسكين الطاء ، وفيه لغة ثالثة قطران بكسر القاف وجزم الطاء ، ومنه قول أبي النجم :

جون كأن العرق المنتوحا

لبسه القطران والمسوحا (٥)

وقرأ عكرمة : برواية زيد : قَطْرٍ آنٍ على كلمتين منونتين قَطْرٍ آنٍ والقطر النحاس الصفر المذاب. قال الله (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (٦) والآن الذي انتهى خبره قال الله تعالى (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) (٧) (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) إلى قوله (هذا) أي هذا القرآن (بَلاغٌ) تبليغ وعظة (لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا) حجج الله التي أقامها فيه (أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ).

__________________

(١) المستدرك : ٣ / ٤٨٢.

(٢) سورة الصافات : ٢٢.

(٣) تفسير الطبري : ١٣ / ٣٣٤.

(٤) راجع الصحاح : ٣ / ٧٤.

(٥) كتاب العين للفراهيدي : ٣ / ١٩٣.

(٦) سورة الكهف : ٩٦.

(٧) سورة الرحمن : ٤٤.

٣٢٩

سورة الحجر

مكية ، وهي ألفان وسبعمائة وستون حرفا ،

وستمائة وأربع وخمسون كلمة وتسع وتسعون آية

روى حبيش عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد» [١٧٣] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥))

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) يعني وآيات قرآن. (رُبَما يَوَدُّ).

قرأ عاصم وأهل المدينة : بتخفيف الباء.

وقرأ الباقون : بتشديده ، وهما لغتان.

قال أبو حاتم وأهل الحجاز : يخففون (رُبَما).

وقيس وبكر وتميم : يثقّلونها وإنما أدخل ما على رب ليتكلم بالفعل بعدها.

(يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ٦ / ٩٧.

٣٣٠

روى أبو موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار ومعهم من يشاء الله من أهل القبلة. قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة : ألستم مسلمين؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم شيئا؟ وقد صرتم معنا في النار. قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فغضب الله لهم بفضل رحمته فأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار يخرجون منها فحينئذ (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ)» [١٧٤] (١) وقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية.

وروى مجاهد عن ابن عباس قال : ما يزال الله يدخل الجنة ويرحم ويشفع حتى يقول لمن كان من المسلمين : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) فحينئذ (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ) يا محمد يعني الذين كفروا (يَأْكُلُوا) في الدنيا (وَيَتَمَتَّعُوا) من لذاتها (وَيُلْهِهِمُ) ويشغلهم (الْأَمَلُ) عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) بما وردوا القيامة ونالوا وبال ما صنعوا فنسختها آية القتال (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي من أهل قرية (إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أجل مؤقت قد كتبناها لهم لا يعذبهم ولا يهلكهم حتى يلقوه (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) من ملة (أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ونظيرها (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٢) (وَقالُوا) يعني مشركي مكة (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) يعني القرآن وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما) هلّا (تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) شاهدين لك على صدق ما تقول (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

قال الكسائي : لولا ولو ما سواء في الخبر والاستفهام.

ومنه قول ابن مقبل :

لوما الحياء ولوما الدين عبتكما

ببعض ما فيكما إذا عبتما عودي (٣)

يريد لولا الحياء (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ).

قرأ أهل الكوفة : (نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) بضم النون ورفع اللام ، (الْمَلائِكَةَ) نصبا ، واختاره أبو عبيد.

وقرأ الباقون : بفتح التاء ورفع اللام في الْمَلائِكَةُ رفعها ، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقوله (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ).

(إِلَّا بِالْحَقِ) بالعذاب ولو نزلت (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) القرآن (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من الباطل ومن الشياطين وغيرهم أن يزيدوا فيه وينقصوا منه ويبدلوا حرفا ، نظيره قوله : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) (٤) الآية.

__________________

(١) جامع البيان للطبري : ١٤ / ٥ ، بتفاوت يسير.

(٢) سورة الأعراف : ٣٤.

(٣) تفسير الطبري : ١٤ / ١٠.

(٤) سورة فصّلت : ٤٢.

٣٣١

وقيل بأن الهاء في قوله (لَهُ) راجعة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني وإنا لمحمد لحافظون ممن أراده بسوء نظيره (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (١).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) في الآية إضمار ، مجازها ولقد أرسلنا من قبلك في شيع أمم من الأولين.

قاله ابن عباس وقتادة ، وقال الحسن : فرق الأولين وواحدتها شيعة وهي الفرقة والطائفة من الناس (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كما فعلوا بك يعزي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) يعني كما أسلكنا الكفر والتكذيب والاستهزاء بالرسل في قلوب شيع الأولين كذلك نسلكه أي نجعله وندخله (فِي قُلُوبِ) مشركي قومك (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعني حتى لا يؤمنوا بمحمد ، وفي هذه الآية ردّ على المعتزلة ، فقال سلكه يسلكه سلكا وسلوكا وأسلكه إسلاكا.

قال عدي بن زيد :

وكنت لزاز خصمك لم أعرّد

وقد سلكوك في قوم عصيب (٢)

(وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) وقائع الله لا من خلا من هكذا في الأمم نخوف أهل مكة.

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) يعني ولو فتحنا على هؤلاء القائلين (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ ... باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) فظلت الملائكة تعرج فيه وهم يرونهم عيانا ، (لَقالُوا : إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) ، هذا قول ابن عباس وأكثر العلماء (٣).

قال الحسن : هذا العروج راجع إلى بني آدم يعني فظل هؤلاء الكافرون (فِيهِ يَعْرُجُونَ) أي يصعدون ومنه المعراج (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ) سدّت (أَبْصارُنا) قاله ابن عباس ، وقال الحسن : سحرت.

قتادة : أخذت.

الكلبي : أغشيت وعميت.

وكان أبو عمرو وأبو عبيدة يقولان : هو من سكر الشراب ومعناه قد عش أبصارنا السكر (٤) ، المؤرخ : دير بنا (٥).

وقرأ مجاهد وابن كثير : سُكِرَتْ بالتخفيف أي حبست ومنعت بالنظر كما سكر النهر ليحبس الماء (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) سحرنا محمد.

__________________

(١) سورة المائدة : ٦٧.

(٢) لسان العرب : ١٠ / ٤٤٢ ، وتفسير الطبري : ١٢ / ١٠٧.

(٣) راجع المصدر السابق : ١٤ / ١٧.

(٤) تفسير الطبري : ١٤ / ١٧.

(٥) تفسير القرطبي : ١٠ / ٨.

٣٣٢

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١))

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أي قصورا ومنازل وهي كواكب وبروج الشمس والقمر والكواكب السيارة وأسماؤها الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت.

(وَزَيَّنَّاها) يعني السماء (لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) لكن من استرق السمع ، (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ) نار (مُبِينٌ) بيّن.

قال ابن عباس : تصعد الشياطين أفواجا يسترق السمع فينفرد المارد منها فيعلو فيرمي بالشهاب فيصيب جبهته أو جبينه أو حيث شاء الله منه فيلتهب فيأتي أصحابه وهو ملتهب فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليه تسعا فيحدثون بها أهل الأرض الكلمة حق والتسع باطل فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاءوا به من كذبهم (١).

وقال ابن عباس أيضا : كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات فكانوا يدخلونها فيأتون بأخبارها فيلقون على الكهنة بأن ولد عيسى ، ومنعوا عن ثلاث سماوات فلما ولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا من السماوات أجمع فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلّا رمي بشهاب ، فلما منعوا بتلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال لقد حدث في الأرض حدث.

قال : فبعثهم فوجدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو القرآن فقالوا : هذا والله حديث وإنهم ليرمون فإذا نوّر النجم عنكم فقد أدركه لا يخطئ أبدا ولكن لا يقتله بحرق وجهة جنبه ويده ، وبعضهم من يخبّله فيصبر حولا ، يضل الناس في البوادي.

قال يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق : إن أول من فزع للرمي بالنجوم حين رما بها هذا الحي من ثقيف ، وإنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أدهى العرب وأمكرها رأيا فقالوا له : ألم تر ما حدث في السماء في القذف بهذه النجوم؟ قال : بلى ، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر ويعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء؟ لما يصلح الناس من معايشهم هي التي يرمى بها فهو والله طيّ الدنيا

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٠ / ١١.

٣٣٣

وهلاك الخلق الذي فيها ، وإن كانت نجوم غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا الأمر أراد الله به هذا في الخلق (١).

وروى عمارة بن زيد عن عبد الله بن العلا عن أبي الشعشاع عن أبيه عن أبي لهب بن مالك قال : حضرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ذكرت عنده الكهانة فقلت : بأبي أنت وأمي نحن أول من تطوع لحراسة السماء وزجر الشياطين ومنع الجن من استراق السمع عند قذفها بالنجوم ، وإنا لما رأينا ذلك اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه ثلاثمائة وستون سنة هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمى بها فأنا قد فزعنا وخفنا سوء عاقبتها ، فقال لنا : اعدوا عليّ في السحر ، ائتوني بسحر أخبركم الخبر إما بخير أو ضرر ، قال : فانصرفوا عنه يومنا فلما كان في وقت السحر أتينا فإذا هو قائم على قدميه شاخص بعينيه إلى السماء فناديناه يا خطر فأومأ إلينا أن أمسكوا فأمسكنا فانقض من السماء نجم عظيم وصرخ الكاهن بأعلى صوته : أصابه أصابه خامره عاقبه عاجله عذابه أحرقه شهابه ، زايله جوابه ، يا ويله ما حاله ، تغيرت أحواله (٢).

ثم أمسك وطفق يقول يا معشر بني قحطان :

أخبركم بالحق والبيان

أقمت بالكعبة والأركان

والبلد المؤتمن السدان

قد منع السمع عتاة الجان

بثاقب بكف ذي سلطان

من أجل مبعوث عظيم الشان

يبعث بالتنزيل والفرقان

وبالهدى وفاضل القرآن

تبطل به عبادة الأوثان

قال : فقلت : ويحك يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما فماذا ترى لقومك؟

فقال :

أرى لقومي ما أرى لنفسي

أن يتبعوا خير بني الإنس

برهانه مثل شعاع الشمس

يبعث في مكة دار الحمس

بمحكم التنزيل غير اللبس

قال : فقلنا له : من هو وما اسمه وما مدته؟ قال : الحياة والعيش إنه لمن قريش ما في حكمه من طيش ولا في خلقه هيش ، تكون في جيش وأي جيش من آل قحطان وآل أيش ،

__________________

(١) البداية والنهاية : ٢ / ٣٧٦.

(٢) في المصدر : بلبله بلباله.

٣٣٤

والأيش الأخلاط من كل قوم ، فقلنا له من أي البطون هو فقال : بطن إسماعيل ولد إبراهيم ، فقلنا له بيّن لنا من أي قريش هو؟ قال :

والبيت ذي الدعائم

والسدير والحمائم

إنه لمن نسل (١) هاشم

من معشر أكارم يبعث بالملاحم

وقتل كل ظالم

ثم قال : الله أكبر الله أكبر جاء الحق وأظهره وانقطع عن الإنس الخبر هذا هو البيان أخبرني به رأس الجان ، ثم قال هذا وسكت وأغمي عليه فما أفاق إلّا بعد ثلاثة أيام فلما أفاق قال : لا إله إلّا الله محمد رسول الله ثم مات.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان الله سبحان الله لقد نطق عن مثل نبوة وإنه ليحشر يوم القيامة أمة وحده» [١٧٥] (٢).

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) بسطناها على رحبة الماء (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت (وَأَنْبَتْنا فِيها) أي في الأرض (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) مقدر معلوم وقيل : بغى به في الجبال وهو جواهر من الفضة والذهب والحديد والنحاس وغيرها حتى الزرنيخ والكحل كل ذلك يوزن وزنا.

قال ابن زيد هي الأشياء : التي توزن.

(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) جمع معيشة (وَمَنْ لَسْتُمْ) يعني ولمن لستم (لَهُ بِرازِقِينَ) هي الدواب والأنعام.

عن شعبة قال : قرأ علينا منصور : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) قال الوحش.

قال أبو حسن : «مَنْ» في محل الخفض عطفا على الكاف والميم في قوله (لَكُمْ).

وقد يفعل العرب هذا كقول الشاعر :

هلا سألت بذي الجماجم عنهم

وأبي نعيم ذي اللوا المخرق

فعطف بالظاهر على المكنى و (مَنْ) في هذه الآية بمعنى : ما ، كقوله (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ... وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ (٣) ... وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) وما من شيء من أرزاق الخلق (٤) (إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ) من السماء (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) لكل أرض حد مقدر.

__________________

(١) في المصدر : نجل.

(٢) الإصابة : ٥ / ٥١٢ ، وعيون الأثر : ١ / ١٠٧.

(٣) سورة النور : ٤٥.

(٤) زيادة عن تفسير القرطبي : ١٠ / ١٤.

٣٣٥

قال ابن مسعود : وما من أرض أمطر من أرض ، وما عام أمطر من عام ولكن الله يقسمه ويقدره في الأرض كيف يشاء عاما هاهنا وعاما هاهنا ثم قرأ هذه الآية.

وروى إسماعيل بن سالم عن الحكم بن عيينة في هذه الآية : ما من عام بأكثر مطرا من عام ولكن يمطر قوم ويحرم آخرون وربما كان في البحار والقفار قال : وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم يحصون كل قطرة حيث يقع وما ينبت.

جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال : «في العرش مثال كل شيء خلقه الله في البر والبحر. وهو تأويل قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ)» [١٧٦] (١).

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦))(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧))

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ) قرأ العامّة بالجمع لأنها موصوفة وهو قوله : (لَواقِحَ) ، وقرأ بعض أهل الكوفة : الريح على الواحد وهو في معنى الجمع أيضا وإن كان لفظها لفظ الواحد ، لأنه يقال : جاءت الريح من كل جانب ، وهو مثل قوله : أرض سباسب وثوب أخلاق ، وكذلك تفعل العرب في كل شيء اتّسع ، وقول العلماء في وجه وصف الرياح : باللقح ، وإنما هي ملقّحة لأنها تلقح السحاب والشجر.

فقال قوم : معناها حوامل ؛ لأنها تحمل الماء والخير والنفع لاقحة كما يقال : ناقة لاقحة إذا حملت الولد ، ويشهد على هذا قوله : (الرِّيحَ الْعَقِيمَ) فجعلها عقيما إذا لم تلقح ولم يكن فيها ماء ولا خير ، فمن هذا التأويل قول ابن مسعود في هذه الآية قال : يرسل الله الريح فتحمل الماء فيمري السحاب فتدرّ كما تدرّ اللقحة ثمّ يمطر.

قال الطرماح :

لأفنان الرياح للاقح

قال منها وحائل (٢)

وقال الفراء : أراد ذات لقح. كقول العرب : رجل نابل ورامح وتامر.

قال أبو عبيدة : أراد ملاقح جمع ملقحة كما في الحديث «أعوذ بالله من كل لامّة» أي ملمّة.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٠ / ١٥.

(٢) انظر : زاد المسير : ٤ / ٢٨٨.

٣٣٦

قال النابغة :

كليني لهمّ يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب (١)

أي منصب.

قال زيد بن عمر : يبعث الله المبشرة فتقمّ الأرض قمّا ، ثمّ يبعث الله المثيرة فتثير السحاب ، ثمّ يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب ، ثمّ يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر ، ثمّ تلا : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ).

وقال أبو بكر بن عياش : لا يقطر قطرة من السحاب إلّا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيه : فالصبا تهيّجه ، والدبور تلقحه ، والجنوب تدرّه ، والشمال تفرقه.

ويروي أبو المهزم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الريح الجنوب من الجنة وهي الرياح اللواقح التي ذكر الله في كتابه وفيها منافع للناس»(٢).

(فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي جعلنا المطر لكم سقيا ، ولو أراد أنزلناه ليشربه لقال : فسقيناكموه ، وذلك أن العرب تقول : سقيت الرجل ماء ولبنا وغيرهما ليشربه ، إذا كان لسقيه ، فإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته قالوا : أسقيته وأسقيت أرضه وماشيته ، وكذلك إذا استسقت له ، قالوا : أسقيته واستسقيته ، كما قال ذو الرمة :

وقفت على رسم لميّة ناقتي

فما زلت أبكي عنده وأخاطبه

وأسقيه حتّى كاد مما أبثّه

تكلمني أحجاره وملاعبة (٣)

قال المؤرخ : ما تنال الأيدي والدلاء فهو السقي وما لا تنال الأيدي والدلاء فهو الإسقاء.

(وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) يعني المطر. قال سفيان : بما نعين.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) بأن نميت جميع الخلق فلا يبقى من سوانا ، نظيره قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٤).

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ).

ابن عبّاس : أراد بـ (الْمُسْتَقْدِمِينَ) : الأموات ، و (الْمُسْتَأْخِرِينَ) : الأحياء.

__________________

(١) الصحاح : ٣ / ٩٠٤.

(٢) تفسير الطبري : ١٤ / ٣٠.

(٣) المصدر السابق.

(٤) سورة مريم : ٤٠.

٣٣٧

عكرمة : (الْمُسْتَقْدِمِينَ) : من خلق ، و (الْمُسْتَأْخِرِينَ) : من لم يخلق ، قد علم من خلق إلى اليوم وقد علم من هو خالقه بعد اليوم.

قتادة : المستقدمون : من مضى ، والمستأخرون : من بقي في أصلاب الرجال.

الشعبي : من استقدم في أول الخلق ، ومن استأخر في آخر الخلق.

مجاهد : المستقدمون : القرون الاولى ، والمستأخرون : أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الحسن : المستقدمون بالطاعة والخير ، والمستأخرون المبطئون عن الطاعة والخير.

وقيل : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) في الصفوف في الصلاة ، و (الْمُسْتَأْخِرِينَ) فيها بسبب النساء.

وروى أبو الجوزاء وابن أبي طلحة عن ابن عبّاس قال : كانت النساء يخرجن إلى الجماعات فيقوم الرجال صفوفا [خلف] النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والنساء صفوفا خلف صفوف الرجال ، وربما كان في الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى الصف الأخير من صفوف الرجال ، وربما كان في النساء من في قلبها ريبة فتتقدّم إلى أول صف النساء لتقرب من الرجال ، وكانت امرأة من أحسن الناس لا والله ما رأيت مثلها قط ، تصلي خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان بعض الناس ويتقدّم في الصف الأوّل لئلا يراها ، ويستأخر بعضهم حتّى يكون في الصف المؤخر ، فإذا ركع وسجد نظر إليها من تحت يديه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير صفوف الرجال أوّلها وشرّها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أولها» (١).

وقال الربيع بن أنس : حضّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصف الأوّل في الصلاة فازدحم الناس عليه ، وكانت بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد. فقالوا : نبيع دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وفيهم نزلت : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) (٢).

الأوزاعي : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) يعني المصلين في أوّل الأوقات ، (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) يعني المؤخرين صلاتهم إلى آخر الأوقات.

مقاتل بن حيان : يعني المستقدمين والمستأخرين في صف القتال. ابن عيينة : يعني من يسلم ومن لا يسلم.

__________________

(١) مسند أحمد : ٢ / ٢٤٧ ، صحيح مسلم : ٢ / ٣٢.

(٢) سورة يس : ١٢.

٣٣٨

(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ). قال ابن عبّاس : وكلهم ميت ثمّ يحشرهم ربهم جميعا الأوّل والآخر (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني آدم عليه‌السلام ، قال إنسانا لأنه عهد إليه فنسي. وذهب إلى هذا قوم من أهل اللغة وقالوا : وزنه إنسيان على وزن إفعلان فأسقط الياء منه لكثرة جريانه على الألسن ، فإذا صغّر ردت الياء إليه فيقول أنيسان على الأصل لأنه لا يكثر صغرا كما لا يكبر مكبرا.

وقال آخرون : إنما سمّي إنسانا لظهوره وإدراك البصر إياه وإليه ذهب نحاة البصرة وقالوا : هو على وزن فعلان فزيدت الياء في التصغير كما زيدت في تصغير رجل فقالوا : رويجل وليلة فقالوا : لويلة.

(مِنْ صَلْصالٍ) وهو الطين اليابس إذا نقرته سمعت له صلصلة أي صوتا من يبسه ، قيل : أن تمسه النار فإذا أصابته النار فهو فخار ، هذا قول أكثر المفسرين.

وروى أبو صالح عن ابن عبّاس : هو الطين الحرّ الطيب الذي إذا نضب عنه الماء تشقق وإذا حرّك تقعقع.

وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : هو الطين المنتن ، واختاره الكسائي وقال هو من قول العرب : صل اللحم وأصلّ إذا أنتن.

(مِنْ حَمَإٍ) جمع حمأة (مَسْنُونٍ).

قال ابن عبّاس : هو التراب المبتل المنتن ، يجعل صلصالا كالفخار ومثله ، قال مجاهد وقتادة : المنتن المتغير.

قال الفرّاء : هو المتغير وأصله من قول العرب : سننت الحجر على الحجر أي أحككته وما يخرج من بين الحجرين يقال له السنن والسنانة ومنه المسن.

أبو عبيدة : هو المصبوب ، وهو من قول العرب : سننت الماء على الوجه وغيره إذا صببته.

[سيبويه] : المسنون : المصور ، مأخوذ من سنة الوجه وهي صورته.

قال ذو الرمة :

[تريك] سنة وجه غير مقرفة

ملساء ليس بها خال ولا ندب (١).

(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ).

قال ابن عبّاس : هو أب الجن.

__________________

(١) لسان العرب : ٩ / ٢٨١.

٣٣٩

قتادة ومقاتل : هو إبليس ، خلق قبل آدم.

(مِنْ نارِ السَّمُومِ).

قال ابن عبّاس : السموم : الحارة التي تقتل.

الكلبي عن أبي صالح عنه : هي نار لا دخان لها والصواعق تكون منها ، وهي نار بين السماء وبين الحجاب ، فإذا أحدث الله له أمرا خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت ، فالهدّة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب.

أبو روق عن الضحاك عن ابن عبّاس قال : كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن (مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ).

روى سعيد عن أبي إسحاق قال : دخلت على عمرو بن الأصم أعوده فقال : ألا أحدثك حديثا سمعته من عبد الله [قال : بلى ، قال :] سمعت عبد الله يقول : هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان وتلا : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ).

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠))

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ) سأخلق (بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ) عدلت صورته وأتممت خلقه (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) فصار بشرا حيا (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) سجود تحية وتكرمة لا سجود صلاة وعبادة (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ) المأمورون بالسجود (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) على التأكيد (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ).

٣٤٠