ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

الكسندر أداموف

ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٣
  الجزء ١ الجزء ٢

كان قريباً لاخر بيكات اسرة بابان (١). ولهذا فقد توغل فصيل فارسي في كردستان لاعادة محمود باشا إلى حكم السليمانية بقوة السلاح ولكن حاكم المدينة الجديد تمكن من القضاء عليه ، وعندها امر الشاه بتجميع القوات في همدان وطلب من التجار الفرس مغادرة الاراضي العثمانية. وهكذا بدا ان الحرب بين السلطان والشاه اصبحت امراً حتمياً.

وحاول الباب العالي الذي كان مشغولاً بالاصلاحات الداخلية بدرجة لا تقل عن انشغاله بالاضطرابات القائمة في ممتلكاته الاوربية ان يتجنب الصدام المسلح مع جارته الشرقية فارسل إلى طهران مبعوثاً خاصاً لازالة سوء التفاهم غير ان مبادرته هذه لم تصادف أي نجاح (٢) ، فدخلت القوات الفارسية في السنة التالية أي في ١٨٢٤ إلى الاراضي العثمانية مرتين اجتاحت في المرة الاولى السليمانية وكربلاء احتلت هذه المدينة الاخيرة مؤقتاً. اما في المرة الثانية فقد اصطدم الفرس عند هجومهم على منطقة بايزيد بالجيش العثماني الذي كان يقوده حافظ باشا فاصيبوا على يده باندحار كبير. وهكذا كانت العمليات العسكرية قد بدأت بالفعل عندما عرضت روسيا وبريطانيا واسطتهما فقبلها الطرفان ، ولكن قبل ان يتمكن مبعوثو الدولة العثمانية وفارس ومندوبو الدولتين الوسيطتين من الاجتماع في ارضروم جرى حادث كان ان يقضي على جهود الدولتين الوسيطتين الصادفة إلى تلافي استمرار اراقة الدماء بين الدولتين المسلمتين الجارتين (٣).

__________________

(١) Watson, OP, Cit. p. ٣٣٥ Ff

(٢) .٢٩٨Von Sax, OP. Cit. S.

(٣) هل يمكن ان يصدق هذا وهل كان من نية الدولتين ايقاع الصلح لهذا الغرض (حميد الدراجي).

٢٤١

كانت كربلاء التي احتلتها قبل ذلك بقليل حامية فارسية قد جذبت منذ وقت طويل انتباه حاكم بغداد علي رضا باشا الذي لم يستطع ان يستوعب كون العتبات المقدسة ملاذاً يتمتع بالحصانة لا يمكن المساس بمن يلجأ اليه ، فقد عَدّ ذلك محاولة من سكان كربلاء للخروج من تبيعتهم للسلطات العثمانية وانشاء طائفة تتمتع بالحكم الذاتي. وهكذا بادر علي رضا باشا (١) الذي بذل كل جهده لكي يخضع العراق للسلطان خضوعاً تاماً ، فاغار في بداية ١٨٤٣ بقواته فجأة على المدينة. وقد ابدى السكان مقاومة عنيفة لقوات الباشا الامر الذي حتم على تلك القوات ان تقتحم المدينة وتأخذ بالتقدم في شوارعها خطوة إلى ان وصلت الصحن الذي اختبأ فيه ثمانمائة شخص من الفرس واخذوا يصدون هجمات الجنود العثمانيين فعمد هؤلاء إلى اجتياز سياج الصحن وقتلوا جميع من كان يدافع عنه ثم

__________________

(١) الحقيقة ان حامية فارسية لم تحتل كربلاء انذاك وانما اعتصم بعض العصاة من الفرس وغيرهم في البساتين المحيطة بالمدينة واخذوا يفرضون الاتاوات على المدينة والزوار منذ عهد داود باشا وكذلك في عهد علي رضا باشا وقد حاول هذا الاخير القضاء عليهم فحاصر المدينة بقصد اخضاع العصاة لكنه فك الحصار اثرت عهدات قدمها وجهاء المدينة وعلماؤها. اما الذي حاصر المدينة واقتحمها فهو نجيب باشا الذي قتل من المتمردين قرابة اربعة الاف شخص لا كما ورد في رواية المؤلف الذي نسب الحادثة إلى علي رضا باشا مع ان هذا الوالي عزل من العراق في نيسان ١٨٤٢ في حين وقعت هذه الاحداث في بداية ١٨٤٣ كما يشير إلى ذلك المؤلف نفسه. وتأسيساً على ذلك يكون ما يذكره المؤلف من عزل علي رضا باشا ترضية لايران غير صحيح. انظر : عباس العزاوي ، تاريخ العراق بين احتلالين ، ح ٢ ، (بغداد ١٩٥٥) ، ص ٦٤ ـ ٦٨.

٢٤٢

واصلوا المذبحة في انحاء المدينة فكانوا يقتلون كل من يقع في ايديهم (١). ويؤكد من عاش هذه الاهوال الدموية ان عدد من مات في كربلاء انذاك بلغ ما بين ١٥ - ١٨ ألف نسمة.

لقد اثارت اخبار هذه المذبحة غضباً عاصفاً في طهران وفي جميع انحاء فارس حيث اخذ الشعب يطالب بالثأر لاخوانهم في المعتقد وباعلان الحرب على الدولة العثمانية فوراً حتى ان وزير الشاه الاول حجي ميرزا تحتم عليه ، برغم نزعته السلمية الاستجابة لغضب الشعب فأخذ يستعد للحرب ، لكن هذه الاستعدادات طالت بحيث فاتت اللحظة المناسبة ولذا فقد تمكنت روسيا وبريطانيا اللتان اخذتا على عاتقهما دور الوسيط ، من اقناع الحكومة الفارسية بصعوبة كبيرة بقبول الاستعداد الذي أظهره الباب العالي لترضية فارس. وهكذا كان أول عمل للحكومة العثمانية تجاه تلبية مطاليب فارس ، على أساس هذا الوعد ، هو عزل علي رضا باشا المسؤل عن مذبحة كربلاء بوال اخر هو نجيب باشا الذي وصل إلى بغداد في السنة نفسها أي في ١٨٤٣.

لقد حكم علي رضا باشا العراق طيلة اثنتي عشرة سنة تمتد من ١٨٣١ إلى ١٨٤٣ أي ان نشاطه باجمعه ، باستنثاء السنوات الاخيرة ، يقع ضمن فترة حكم السلطان محمود الثاني الذي توفي في ١٨٣٩ ولهذا السبب فان ذلك النشاط يعكس الصفات المميزة لحكم هذا السلطان. لقد كانت المهمة الاساسية للسلطان المذكور هي تحطيم النظام القديم وتمهيد الطريق امام الاصلاحات المقبلة مع المحافظة على النظام والهدوء الداخلي في الامبراطورية بمساعدة الاجراءات القديمة للاستبداد الشرقي. وكان هذه

__________________

(١) Watson, IO. Cit. ٣٤٠ - ٣٤١.

٢٤٣

هو ايضاً طابع حكم علي رضا باشا الذي جهد طيلة الاثنتي عشرة سنة التي قضاها في العراق لان يقضي على اثار الاستقلال الذي كانت تتمتع به هذه المنطقة واخضاعها لاسطنبول اخضاعاً تاماً ولم يتعفف في سبيل هذا الامر عن اللجوء في الحالات الضرورية ، إلى اساليب التي ابتدعها أسلافه حكام العراق شبه المستقلين. وهكذا فان علي رضا باشا لم يكن يشبه اسلافه اطلاقاً ، ففي الوقت الذي كان فيه اولئك الاسلاف يقفون على الدوام موقف المعارضة من الحكومة ويركزون كل اهتمامهم لتعزيز استقلالهم الشخصي كان هو منفذاً مطيعاً لكل ما يخططه الباب العالي ولم يظهر أي نية مهما كانت للانفصال عن السلطان. ويبدو الاختلاف بين علي رضا باشا وحكام العراق السابقين في هذا المجال اكثر وضوحاً اذا علمنا انه لم تحدث في وضعه بالمقارنة مع اولئك الحكام أي تغيرات جوهرية فقد ظلت تتركز في يده كالسابق جميع السلطات العسكرية والادارية والقضائية والمالية الامر الذي اتاح له ان يكون المتحكم غير المقيد بمصير المنطقة التي وضعت تحت تصرفه.

لقد كان علي رضا باشا اخر حاكم عراقي يتمتع بمثل هذه الاصلاحات الواسعة ذلك ان الحكومة التي كانت تسعى إلى تقوية السلطة المركزية على حساب الولاة الاقليميين والى تحويل هؤلاء الولاة إلى مجرد موظفين لدى الباب العالي كانت قد بدأت باجراء اصلاحات بهذا الاتجاه منذ اواخر عهد السلطان محمود الثاني. وقد حصلت الخطوة الاولى في هذا السبيل في عام ١٨٣٨ حين عقدت معاهدات تجارية مع النمسا وبريطانية وفرنسا تقررت بموجبها ضريبة كمركية محددة على البضائع المستوردة والمصدرة الامر الذي ادى إلى ان تتخلص التجارة من تعسف الولاةالاقليمين الذين. كانوا يعتمدون اسلوب الالتزام في هذا المرفق كل

٢٤٤

في حدود المنطقة الموضوعة تحت حكمه. وفي السنة نفسها أي في ١٨٣٨ صدر مرسوم اقر تخصيص راتب يحدده القانون لجميع الاشخاص العاملين في خدمة الحكومة ، وكان الهدف من ذلك هو وضع حد لسوء الاستغلال الناجم عن منح الموظفين الحرية في ان يبحثوا بانفسهم عن وسائل عيشهم. كذلك الغيب بعض الاحتكارات الحكومية التي كانت اداة بيد الولاة لتحقيق الانانية الطموحة (١). بهذه الاجراءات المتواضعة اختتم عهد السلطان محمود الثاني ، اما اخراج الامور العسكرية والمالية والقضائية من ايدي الولاة نهائياً وتحديد سلطاتهم في نطاق النشاط الاداري الضيق فقد حدثت في عهد السلطان عبد المجيد الذي حكم الامبراطورية العثمانية من عام ١٨٣٩ إلى ١٨٦١.

لقد بادر السلطان الجديد بمجرد ان ارتقى العرش في ١٨٣٩ وكان عمره انذاك ست عشرة سنة فاصدر في خريف السنة نفسها مرسومه الشهير «خطي شريف كولخانه» الذي اصبح حجر الزواية في جميع الاصلاحات المقبلة في انحاء الدولة العثمانية كافة. لقد كان السبب في اصدار هذا المرسوم ، إلى حد معلوم ، هو رغبة رشيد باشا وزير الخارجية الليبرالي في ان يستثير تعاطف اوربا مع السلطان العثماني في صراعه مع تابعه حاكم مصر. فمن هذا المنطقة اعيد تنظيم العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في الامبراطورية العثمانية وذلك بأن اعلن «خطي شريف كولخانه» المساواة في الحقوق بين هؤلاء واولئك كما ان السلطان وعد «بأن يؤمن للرعاية العثمانيين جميعاً دون تفريق في الدين حصانة ممتلكاتهم وحياتهم وشرفهم».

__________________

(١) Ed. Engelhardt, La Turquie et Tanzinmat, T, l, (paris, ١٨٨٢) p. ٣٠.

٢٤٥

لقد اشرت هذه الكلمات التي وردت في المرسوم السلطاني اصلاحات جذرية في الشؤون القضائية للدولة العثمانية حيث كانت تسود حتى ذلك الوقت الشريعة أي التشريع الديني القائم على القرآن ، ولهذا فلم يكن هناك وجود للمحاكم من النمط الاوربي أو للقوانين الموضوعة بروح اوربية. لقد بحثنا التغييرات التي اجريت في القضاء العثماني في روح «خطي شريف كولخانه» والتي كان هدفها ان يؤمن للرعية المسيحية في الامبراطورية العثمانية محاكمة نزيهة ، في الفصل الثاني من كتابنا هذا (١). ولذلك فاننا سنقتصر هنا على الاشارة إلى حقيقة واحدة فقط هي ان الاصلاح القضائي كان في الوقت نفسه خطوة مهمة على طريق تحديد سلطة الباشوات ولاة الاقليم وذلك لانه أخرج شؤون التشريع والقضاء بأجمعها من دائرة صلاحياتهم.

لقد ادى «خطي شريف كولخانه» إلى تغييرات في النظام الضرائبي وفي الخدمة العسكرية نتج عنها تحديد صلاحيات ولاة الاقليم في مجالات نشاطهم المالية والعسكرية وقد انشأ رشيد مجلساً خاصاً من كبار الاعيان مهمته وضع الاصلاحات الداخلية هذه في الامبراطورية العثمانية ، وقد عرفت هذه الاصلاحات في مجالها بأسم «التنظيمات» وهو اسم متأت من الفعل العربي «نظم».

لقد جرى اولاً اصلاح الضرائب ، التي كانت في مبتدأ قيام الدولة العثمانية تؤخذ عيناً الامر الذي وضع مالية الامبراطورية باجمعها في تبعية تامة للظروف الطبيعية التي قد تكون ملائمة أو غير ملائمة ، كما جعلها ، بدرجة لا تقل عن ذلك تابعة لمدى نزاهة الحكوميين الذين كانت مهمتهم

__________________

(١) انظر الجزء الاول ص ٨١ - ٨٤.

٢٤٦

تحويل الانتاج الزراعي إلى نقود. ومن اجل القضاء على المصاعب التي يسببها هذا النظام للخزينة وبهدف تأمين ورود الضرائب بشكل منظم اقر منذ عهد السلطان محمد الثاني (الفاتح) أي في القرن الخامس عشر اسلوب «الالتزام» أي أعطاء جميع الضرائب الحكومية تقريباً بالالتزام. وكان الالتزام في البداية لمدة معينة ثم اصبح يعطي مدى الحياة. وقد ادى هذا النظام إلى اخضاع دافعي الضرائب في كل اقليم للولاة المحليين الذي كانوا يتمتعون بالسلطة المطلقة في المنطقة التي يحكمونها بما في ذلك التصرف بحياة سكانها ولهذا فانهم يقضون على اية امكانية مهما كانت صغيرة لمنافستهم من جانب الاشخاص العاديين فتحولوا لهذا السبب إلى ملتزمين يحتكرون ايرادات المنطقة المعينة (١). ولهذا فقد تركزت في ايدي الباشوات الملتزمين الادارة المالية للاقليم باجمعها علماً بانهم كانوا مطلقي الصلاحية في اعتماد وسائل جباية الضرائب التي يحتكرون التزامها ، وفي اصدار ضرائب جديدة أو استبدال الضرائب القديمة باخرى غيرها وفي اتخاذ مايرونه من تدابير لحماية مصالحهم. ثم جاء «خطي شريف كولخانه» فحرم بجرة قلم ولاة الاقاليم من هذه الامتياز المالي وذلك بان استحدث في ١٨٤٠ في الاقاليم المختلفة وظيفة جديدة هي وظيفة «جامع ضرائب عام» انيطت بمن يشغلها مهمة جباية ايرادات الخزينة. ومع ان الحكومة لم تلبث ان اضطرت إلى العودة إلى اسلوب الالتزام القديم في كثير من ابواب ايرادات الدولة فقد سمح للاشخاص العاديين باخذ الالتزام فوضع بذلك حد للاحتكار الاستثنائي الذي كان الباشوات يتمتعون به في التزام الضرائب في المناطق التي يحكمونها وكذلك لتصرف اولئك الباشوات بشكل غير مقيد بمالية

__________________

(١) A. du Velay, Essai sur l, Histoire Financiere se la Turquie (Paris, ١٩٠٣), p. ٦٤.

٢٤٧

اقاليمهم نظراً لان السيطرة المباشرة على المالية هناك اصبحت بيد موظفي الخزينة من مختلف الرتب.

اما بخصوص سلطة الولاة الاقليميين العسكرية فقد انهاها القانون الذي صدر في ١٨٤٣ وقوانين ١٨٤٦ بشأن الادارة المدنية والعسكرية. لقد نظم القانون الاول الجيش النظامي والتجنيد على النمط الاوربي فقسمه إلى خمسة فيالق اضيف اليها في ١٨٤٨ فيلق سادس في العراق أو بغداد تشمل منطقتة في الوقت الحاضر ولايات الموصل وبغداد والبصرة (١). اما مجموعة قوانين ١٨٤٦ فقد وضعت على رأس كل منطقة عسكرية قائداً خاصاً أو «محافظاً» تتركز في يديه السلطة العسكرية باجمعها بحيث اصبح الوالي مبعداً تماماً عن قيادة قوات المنطقة التي يقوم بادارتها. وهكذا لم يبق للولاة الاقليميين الا مجال نشاط اداري ضيق.

ولم تكتف الحكومة وفي سعيها الحثيث نحو المركزية الصارمة ، بالتحديدات المذكورة اعلاه التي فرضتها على سلطة الولاة الاقليميين بل جعلتهم حتى في نشاطهم الاداري تابعين لما يسمى بـ «المجلس الاداري» في الولاية ووضعتهم تحت السيطرة. فلم يكن بمقدور قادة المنطقة ، بدون مصادقة هذا المجلس ، القيام باي مبادرة كبيرة ولم يكن لهم الحق في ان يتخذوا بمفردهم التدابير اللازمة للمحافظة على الهدوء والامن في المنطقة التابعة لهم لانهم كانوا ملزمين بان يرسلوا إلى اسطنبول حتى المجرمين الذين يجري القبض عليهم لغرض محاكمتهم هناك (٢). وكانت النتيجة المباشرة لتجريد السلطات الاقليمية من الصلاحيات بهذا الشكل

__________________

(١) Ed. Engelhardt, OP. Cit. T. l p. ٩٨.

(٢) Ibid. T. l, p. ١٠٩.

٢٤٨

الكامل قيام اضطرابات شاملة لم يتمكن الولاة من اخمادها ابداً.

ولم يكن الوضع في العراق بافضل من ذلك. فمع ان الانقلاب الكبير الذي حدث في وضع الولاة الاقليميين لم يتضح بشكل ملموس في العراق في عهد الوالي علي رضا باشا ، فان هذه المنطقة اخذت في عهد خلفه محمد نجيب باشا تتحول تدريجياً إلى المنط الجديد الذي املته التنظيمات. ومع ذلك فان تطيبق المركزية بكل ابعادها لم يتم في العراق قبل بداية ١٨٤٨ حين شُكِل الفليق السادس الخاص ببغداد وانتقلت السلطة العسكرية من يد والي بغداد محمد نجيب باشا إلى قائد هذا الفليق عبد الكريم نادر باشا ولم يلبث تجريد حاكم هذه المنطقة الذي كان إلى عهد قريب يتمتع بصلاحيات استثنائية من الكثير من صلاحياته ان ادى في العراق إلى نتائج لاتقل في سوئها عما حصل في اقاليم الامبراطورية العثمانية الاخرى وقد انعكس ذلك على طبيعة نشاط محمد نجيب باشا الذي ينقسم إلى مرحلتين متميزتين عن بعضهما غاية التميز ، تمتد الاولى من ١٨٤٣ إلى ١٨٤٨ وتستمر الاخرى من ١٨٤٨ حتى استقلاله في ١٨٤٩.

لم يكن نجيب باشا في الفقرة الاولى من حكمه قد فقد بعد كل الامتيازات التي كان اسلافه يتمتعون بها فاظهر نفسه مواصلاً نشطاً لسياسة سلفه علي رضا الذي سعى لان يجعل هذه المنطقة العاصفة والثائرة على الدوام خاضعة لاسطنبول خضوعاً تاماً. فقد تمكن بعد وصوله إلى بغداد مباشرة من الاقتصاص من عشائر الخزاعل الثائرة التي كانت تقطن في الاهوار الواقعة على جانبي الفرات بين السماوة والهندية ، ومن الدليم في ضواحي الفلوجة (١) ، كما انه اقتص بدرجة لا تقل شدة عن ذلك من بني لام

__________________

(١) خورشيد افندي ، المصدر السابق ، ص ١٦٥.

٢٤٩

الذين جربوا الخروج على طاعة باشا بغداد بقيادة شيخهم المذكور ، وكشفوا عن تمردهم بالقيام بالنهب والسلب في المنطقة المتاخمة لنهر دجلة. واخيراً تمكن من ان يروّض لدرجة لا يستهان بها عشيرة شمر جربة ، مستغلاً الاضطرابات التي قامت فيها بينهم بسبب التنافس بين شيخهم المشهور صفوك ونجرس الذي كان قد نصبه حاكم بغداد السابق علي رضا باشا. فقد ظهر ان صنيعة الباشا هذا شخص حاذق بحيث استطاع ان يستميل الجزء الاغلب من ابناء عشيرته ، الامر الذي دفع صفوك إلى اغتياله غدراً بعد ان دعاه إلى معسكره زاعماً انه يريد ان يصطلح معه. وقد ابعدت هذه الخيانة عن صفوك جميع من كان ما يزال مخلصاً له من ابناء عشيرته ، الامر الذي استغله نجيب باشا للتخلص منه فقتل على يد افراد من الباش بزغ ونصب شيخاً لشمر بدلاً منه فرحان بن صفوك الذي تربى في اسطنبول وكان مناصراً للدولة العثمانية (١).

ولم يعق هذا النشاط الفعال في اخماد اضطرابات القبائل العربية ، نجيب باشا عن المشاركة ، بصورة غير مباشرة في الاقل ، في تهدئة الاكراد الذين ثاروا على العثمانيين بزعامة بيكيهم : امير الجزيرة بدرخان بيك وامير حكياري نور الله بيك ، لقد كان هذا الاخير يثقل على النساطرة المسيحيين القاطنين في المنطقة التي يحكمها بالضرائب والمضايقات ، مما اضطرهم إلى التوجه إلى باشا الموصل محمد اينجه بيرقدار طالبين الحماية وغزل نور الله بيك (٢). وقد انتقم امير حكياري من النساطرة في ١٨٤٣ باجتياح منطقة برواري التي يسكنونها فقتل الكثير من اتباع نسطور أو استعبدهم. وقد استمرت مذابح الاكراد للنساطرة طيلة السنوات الثلاث التالية مرة

__________________

(١) L ayard, OP. Cit. vol. l, pp. ١١٢ - ١١٤.

(٢) G. P. Badger, the Nistorians and their Rituals, vol. l, (London, ١٨٥٢), p. ٢٦٤ FF.

٢٥٠

تتوقف ومرة اخرى تتجدد بقوة اشد إلى ان تدخلت الدول الاوربية في القضية واصر ممثلوها في اسطنبول على الباب العالي على ايقاف المذابح. وتحت تأثير هذه المطاليب جهز في ١٨٤٧ جيش قوي تألف من قوات ارسلها باشوات خربوط واورفا وديار بكر وارضروم ، كذلك استجاب باشا بغداد لطلب الباب العالي فامر تابعه الموصل بالانضمام إلى ذلك الجيش الذي عين عثمان باشا قائداً عاماً له. وقد اندحر البيكات الاكراد الذين رفضوا القاء السلاح طوعاً في عدة معارك متتالية استسلم بعدها بدرخان بيك ونورا لله بيك فطردا من كردستان إلى الابد واخضع الاقليم للدولة العثمانية وعين لادارته موظفون عثمانيون بدلاً من الذين البيكات كانوا يحكمونه في السابق حكماً وراثياً شبه مستقل (١).

تؤشر السنة التي اخمدت فيها الانتفاضة الكردية انعطافاً في نشاط والي بغداد محمد نجيب باشا الذي كانت سلطته قد تعرضت منذ قليل لجميع القيود المرتبطة بتطبيق المركزية في العراق ، فلم يعد بمقدور والي بغداد الذي جُرد من وظائفه القضائية السابقة بما فيها الوظائف البوليسية وكذلك من سلطته العسكريةَ ، مكافحة الفوضى المتزايدة في العراق. كما ادى استحداث منصبي المراقب المالي العام وقائد الفليق السادس في بغداد ومنح الوالي الادارة المدنية احتكاراً ، إلى تعدد مراكز السلطة وقد تجسد ذلك بشكل اوضح بسبب من ان جميع هؤلاء الاداريين كانوا مستقلين بعضهم عن البعض الاخر ولم يكن الواحد منهم مسؤولاً إلا امام الادارة التي ينتسب اليها أي وزارات المالية والحربية والداخلية (٢). وهكذا لم يعد بامكان محمد نجيب باشا الذي شلّ نشاطه بهذا الشكل ان يقتص لامن بني

__________________

(١) Badger, OP. Cit. vol. l, l, pp. ٢٧٢ - ٢٧٤.

(٢) Ed. Engrlhardt, OP. Cit. T. l. p, ١٠٧.

٢٥١

لام عندما ثارت هذه القبيلة القوية فقطعت ـ بغاراتها على السفن والقوافل ـ المواصلات البرية والنهرية بين بغداد والبصرة ، ولا من الخزاعل الذين تمردوا مرة اخرى واستمالوا إلى جانبهم اغلبية القبائل العربية القاطنة في الاهوار المتاخمة للفرات ، ولا كذلك من البدو الذين استغلوا اضطراب النظام الداخلي في الولاية فباشروا باجتياح العراق ونهبه دون رحمة (١). وقد عَدّ الباب العالي محمد نجيب باشا غير اهل للتغلب على العرب ، لعزله في ١٨٤٩ وعين بدلاً منه في منصب والي بغداد قائد الفليق السادس فيها عبد الكريم نادر باشا الذي اشتهر اكثر باسمه المصغر : عبد باشا.

غير ان الوالي الجديد الذي برهن منذ البداية على مهارة مشهورة لتمكنه من اخضاع القبائل بسرعة وبدون اراقة دماء تقريباً ، لم يلبث ان وجد نفسه في وضع ليس بافضل من وضع سلفه ، فلم يكن بمقدوره ايضاً التخلص من الفوضى التي شملت العراق لأنّ سلطة الوالي التي اضعفتها المركزية الزائدة عن الحد لم تعد الا سلطة وهمية. لقد ظل عبد باشا في منصبه مدة تربو قليلا على السنة كما ان حكم الواليين اللذين حكما بعده مباشرة كان اقل من هذه المدة ، وهكذا بلغ عدد الولاة الذين حكموا العراق في السنوات الاربعة التي تلت ١٨٤٨ وهي السنة التي انجز فيها تطبيق المركزية ، اربعة ولاة.

كان ابرز حدث في حياة العراق في المرحلة المذكورة هو وجود لجنة تخطيط الحدود بين الدولة العثمانية وفارس في هذه المنطقة ، ونعني اللجنة التي شارك في اعمالها المندوب الروسي عقيد الاركان العامة تيشير كوف وزميله الانجليزي المقدم وليامز. وكانت هذه اللجنة قد تألفت بالحاح من روسيا وبريطانية اللتين امكن بفضل جهودهما تلافي الصدام

__________________

(١) W.K. Lofus Trabels and Researches in chsldea and susisina, (New York, ١٨٥٧), pp:

٢٥٢

المسلح بين الفرس والدولة العثمانية في ١٨٤٢ ، فوصلت محادثات صلح بين هاتين الدولتين المسلمتين إلى نهايتها الناجحة بعد ان طالت المدة اربع سنوات كاملة. لقد تضمنت معاهدة ارضروم التي قطعتها الدولتان في ١٨٤٦ وجرت المصادقة عليها نهائياً في السنة التالية ، تنازلات اقليمية متبادلة فقد احتفظت فارس بالجزء الشرقي من منطقة زهاب مع وادي كرند ، وتنازلت عن جزئها الغربي للدولة العثمانية كما تخلت نهائياً عن ادعاءاتها بسنجق السليمانية. اما الدولة العثمانية فقد تخلت لفارس عن مدينة ميناء المحمرة وجزيرة خضر [عبادان] مع منطقة على الضفة الشرقية لشط العرب واعترفت للفرس بحرية الملاحة في هذا النهر إلى النقطة التي تلتقي عندها حدود الدولتين. ولكي تعين هذه التنازلات الاقليمية بشكل دقيق ، التزمت الدولة العثمانية وفارس في المادة الثالثة من معاهدة ارضروم بان ترسل كل منها إلى المنطقة المذكورة لجنة خاصة واضيف اليهما مندوبان احدهما روسي والاخر انجليزي على هيئة مستشارين (١).

لقد تحتم على هذين المستشارين بعد ان وصلا إلى بغداد في ايار ١٨٤٩ ، انتظار ممثل الدولة العثمانية درويش باشا الذي قام مسبقاً بجولة في الحدود ثم احتل بقوة عثمانية في ١٨٤٨ قرية قطور الواقعة عند ممر جبلي يؤدي الى مدينة خوي ، التي يفضي الطريق منها إلى تبريز واورميا (٢).

ونظراً إلى حلول حرارة الصيف وسبب الظروف المناخية التي لا تحتمل في العراق ، فقد تقرر ان يبدأ تخطيط الحدود من المحمرة فبدأت فيها في كانون الثاني ١٨٥٠ جلسات اللجنة المختلطة لتخطيط الحدود. وقد اقترح المندوبان الاوربيان في هذه الجلسات ان تكون حدود منطقة

__________________

(١) تشير كوف ، المصدر السابق ، انظر المقدمة ابتداءً من ص xxI حتى ص LxxxI.

(٢) اعيدت قطور إلى فارس بموجب المادة ٦٠ من مقررات مؤتمر برلين

٢٥٣

المحمرة التي جرى التنازل عنها لفارس عبارة عن خط يبدأ من مخرج قناة ابي جودي من شط العرب (على بعد ساعة في النهر إلى الاعلى من المحمرة ويتجه عبر الصحراء إلى موقعين للاطلال القديمة يُعرفان بقصري : البصرة والحويزة ، غير ان المندوب العثماني لم يقبل بهذا الخط فَتَحَتّمَ تأجيل جلسات اللجنة إلى ان تأتي موافقة الحكومتين المعنيتين على الحدود المقترحة. ولم تجتمع اللجنة مرة اخرى في المحمرة إلاّ في شباط ١٨٥١ ، ولكنها في هذه المرة ايضاً لم تتوصل إلى اية نتائج ايجابية ، بسبب رفض المندوب العثماني باصرار جميع المقترحات التي قدمها المندوب الروسي والانجليزي بشأن تعيين الحدود.

ونظراً لتهرّب الواضح من جانب دروي باشا (١) من قضية تعيين خط الحدود بدقة بين الدولتين العثمانية والفارسية ، اضطر المندوبان إلى الاكتفاء بالقيام بجولة في الشريط الحدودي موضوع النزاع باشرا بها في تشرين الثاني ١٨٥١ ابتداءً من منطقة زهاب التي كان حاكم كرمنشاه الامير محمد علي ميرزا قد اقتطعها من العثمانيين في ١٨٢١. لقد جاب مندوب بريطانيا وفارس وروسيا كل نواحي الحدود إلى الجنوب من المنطقة المذكورة حتى الحويزة وتعقبوا بالطريقة نفسها الحدود إلى الشمال من زهاب حتى

__________________

(١) كان السبب في هذا التهرّب هو ان المقترحات المطروحة تنطوي على محاباة فارس على حساب الدولة العثمانية ، وان الاخذ بها من شأنه غمط الحقوق العثمانية لصالح فارس. للتفصيل حول لجنو تخطيط الحدود ومعاهدة ارضروم الثانية هذه انظر : نزار عبد اللطيف الحديثي واخرون ، الحدود الشرقية للوطن العربي ، دار الحرية للطباعة ، (بغداد ، ١٩٨١) ، ص ١٣٤ - ١٤٠ ، ٢٠٧ - ٢٢٤. (المترجم).

٢٥٤

ارارت الكبير والصغير وانتهت رحلتهم في آب ١٨٥٢. وهكذا لم يستطع اللجنة المختلطة لتعيين الحدود خط فعلي لحدود بين فارس والدولة العثمانية بسبب المعارضة المتعمدة من جانب المندوب العثماني ولم تؤدِ استقصاءاتها التي دامت ثلاث سنوات الا إلى وضع خارطة لمناطق الحدود عُين عليها شريط يتراوح عرضه ما بين ٢٥ إلى ٤٠ ميلاً ينبغي ان يسير في داخله خط الحدود النهائي في المستقبل (١). لقد ادى عدم تحديد خط الحدود إلى صدامات حدودية جديدة ولهذا فقد وقع في ١٨٦٩ مفوضون عن الدولة العثمانية وفارس وبمبادرة من روسيا وبريطانيا على بروتوكول يقضي بالمحافظة على الوضع القائم على الحدود بين الدولتين إلى ان يتم تعيين خط الحدود الذي كان يتأجل باستمرار ، نتيجة لعدم رغبة الدولة العثمانية في ان تنتهي مشكلة الحدود نهائياً.

توافق انتهاء عمل لجنة الحدود مع صدور قانون جديد للولايات تعززت بوجبه بعض الشيء سلطة الولاة الاقليميين بعد ان اقتنعت الحكومة اخر الامر بضرر المركز الزائد عن الحد (٢). لقد اصبح موظفو الادارة المالية وكذلك المجالس الادارية في السناجق والاقضية بموجب هذا القانون تابعين للوالي الذي اخضع له في الوقت نفسه البوليس والجندرمة فمكنه ذلك بالارتباط مع اعادة سلطتة في تنفيذ احكام الموت التي تصدرها محاكم الاقاليم ، من المحافظة على الامن والاستقرار بشكل جدي في المنطقة التي يديرها. وقد منح الوالي بالاضافة إلى ذلك بعض الاشراف على نشاط القيادة العسكرية في الولاية بعد ان كانت قبل ذلك

__________________

(١) Aitchison, OP. Cit. vol. x p. ٢٣ - ٢٤.

(٢) Du velay, OP. Cit. p. ١٠٩. ١٠١ Ed. Engrlhardt, OP. Cit. T. l. p.

٢٥٥

مستقلة تمام الاستقلال عن الحاكم المدني ، ولم تكن الاجراءات باجمعها الا تدابير تمهيدية فقط لاعادة تنظيم الولايات جّنرياً وهو ما حصل بموجب قانون ١٨٦٤ الذي اقر انتظيم القائم في مختلف اقاليم الامبراطورية العثمانية.

وعلى الرغم من ان قانون ١٨٥٢ لم يعزز سلطة حاكم العراق الا بمقدار ضئيل فقد اتيح لتأثيره الايجابي ان يظهر على الكفاح الذي كان يخوضه ذلك الحاكم ضد الفوضى والاضطرابات التي شملت العراق في فترة تطبيق المركزية الشديدة. لقد كانت اكثر العناصر قلقاً في هذه المنطقة هي القبائل العربية طبعاً التي لم يعد الجيل الجديد من حكام العراق - بعد ان تحولوا إلى مجرد موظفين لدى الباب العالي - بحاجة إلى تملقها كما كان يفعل الولاة السابقون شبه المستقلين الذين لم يكونوا يستغنون عن اسناد القبائل في صراعهم مع الحكومة العثمانية. ولما كان الولاة العراقيون ابتداءً من محمد رشيد باشا الكوزلكاي الذي اشغل هذا المنصب في ١٨٥٢ وانتهاءً بتقي الدين باشا الذي بدأ حكمه للعراق في ١٨٦٧ تهمهم بدرجة لاتقل عن الحكومة العثمانية ، المحافظة على النظام والهدوء في المنطقة التي يحكمونها فانهم باشروا عملية تهدئة العشائر العربية بهمة كبيرة. وكان هؤلاء الولاة يستطيعون بالاستناد إلى قوات الفيلق السادس في بغداد المدرية على النمط الاوربي والمسلح بشكل افضل من العرب ان يقتصوا دون صعوبة ، من سكنة هذه المنطقة من القبائل العربية التي لا تريد الخضوع للنظام العثماني الجديد طوعاً. وبالمقابل كان الولاة يمنحون القبائل ، التي قبلت الخضوع ، كل حماية ممكنة ويسندون شيوخها بكل الوسائل ويفوضونهم مهمة المحافظة على النظام والهدوء بين القبائل المجاورة لهم. وفي الوقت نفسه لم تهمل اساليب التهدئة الاخرى فقد

٢٥٦

قامت السلطات بنشاط مكثف لتشجيع العشائر على الاشتغال بالزراعة ، وانشأت بنايات خاصة اقامت فيها مراكز عسكرية لحماية طرق المواصلات الرئيسة ، وتعاقد محمد رشيد باشا الكوزلكلي في ١٨٥٥ على باخرتين لمكافحة «القراصنة» في الانهار ، وقد ساعدت هاتان الباخرتان كثيراً على اشاعة الا من بالنسبة إلى الملاحة في انهار العراق.

والى جانب تهدئة القبائل العراقية العصية كان يجري عمل ثقافي لنشر الحضارة الاوربية في هذه المنطقة ، وكانت الخطوة الاولى في هذا السبيل هي اصلاح الملاحة النهرية التي كانت ، كالسابق بيد اصحاب الزوارق العرب وكانت متأخرة جداً بحيث لا تفي بمتطلبات التطور اللاحق لتجارة العراق. فقد انشأت حكومة الهند في هذا الوقت بالذات أي قبل ١٨٦٢ رحلات منتظمة للبواخر بين الهند ومواني الخليج وكانت هذه الرحلات في البداية رحلة في كل ستة اسابيع ، ثم اصبحت رحلة في كل شهر واخيراً اصبحت رحلة واحدة في كل اسبوعين. وبالارتباط مع هذه التطورات أنشأ البيت التجاري الانجليزي في بغداد : C Stephen Lynch and (١) بموافقة الحكومة العثمانية سفرات منتظمة للبواخر بين البصرة وبغداد فقد انزل إلى دجلة ، عوضاً عن الملاحة الانجليزية التي كانت قد توقفت في نهر الفرات ، باخرتين هما : «لندن» و «دجلة» (٢). وقد اصبحت هاتان الباخرتان تقومان بعدة رحلات في الشهر تنقلان خلالها البريد والمسافرين والبضائع ذات المنشأ الاجنبي والمحلي على السواء. ومن الناحية الاخرى كانت الباخرتان «بغداد» و «البصرة» اللتان استوردهما الباشا محمد الكوزلكاي بهدف

__________________

(١) ستيفن لنج وشركاؤه. (المترجم).

(٢) T. M. Lycklama a Nijholt, voyage on Russie, au Caucase en perse etc. T. III, (paris, ١٩٠ - ١٩١.

٢٥٧

مكافحة «قراصنة» الانهار قد انهتا مهمتهما تلك فاستخدمها لمحمد نامق باشا والي بغداد آنذاك لاغراض تجارية. وهكذا فقد قامت في دجلة منذ ١٨٦٢ مواصلات منتظمة ، لنقل البريد والمسافرين والبضائع بين بغداد والبصرة ، حيث عملت أربع بواخر اثنتان منهما انجليزية واثنتان عثمانيتان. وقد تم في ١٨٦٣ في عهد نامق باشا هذا تأسيس مدينة العمارة بهدف حماية الملاحة من القبائل العربية القاطنة على ضفاف دجلة ، وقد تحدثنا عن ذلك بالتفصيل في الفصل الاول من هذا الكتاب (١).

وكانت المبادرة الحضارية الاخرى التي اعقبت اصلاح الملاحة النهرية مباشرة هي ربط العراق مع اوربا والهند بخطوط للتلغراف. لقد اصبحت بغداد منذ نهاية خمسينات القرن التاسع عشر على صلة مباشرة بالعاصمة العثمانية بواسطة خط تلغرافي يمر عبر سكوتاري وسيواس وديار بكر. وقد مدد هذا الخط في ١٨٦٤ إلى البصرة ثم إلى الفاو وهناك ربط التغراف العثماني بالهند بواسطة قابلو مُدَ في قاع الخليج لقد مُدَ الخط التلغرافي الذاهب إلى البصرة براً حيث كان يتجه من بغداد إلى كوت الامارة ثم العمارة فالقرنة بمحاذاة نهر دجلة. وقد مُدَ من القرنة بعد مضي وقت قليل خط اخر هو خط الفرات الذي يذهب إلى سوق الشيوخ والناصرية. وكان هناك ايضاً فرع اخر للخط التلغرافي يتجه من بغداد إلى خانقين الواقعة على الحدود مع فارس وهناك يرتبط بخط التلغراف الذي يربط الهند باوربا عبر فارس والذي يمر بكرمنشاه وهمدان وطهران ثم اصفهان وشيراز وبندر بوشهر (٢). وهكذا غطي العراق الجنوبي بشبكة من اسلاك التلغراف ادت إلى ربط هذه المنطقة العثمانية التي كانت حتى

__________________

(١) انظر الجزء الاول ص ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) Aitchison, OP. cit. vol. Xl. P. ٢٧ - ٢٨.

٢٥٨

ذلك الوقت معزولة عن بقية العالم ، باسطنبول وكذلك باوربا والهند الأمر الذي كان له أهمية كبيرة لا من وجهة النظر السياسية فحسب بل من ناحية تأثيره الايجابي على تطور علاقات العراق التجارية باسواق الهند واوربا.

لقد كان انشاء الملاحة في دجلة وبناء خطوط التلغراف اضافتين ضروريتين للاجراء المهم الاخر الذي تم بموجب الاتفاقات التجارية الجديدة التي عقدتها الدولة العثمانية مع الدول الاجنبية ابتداء من نيسان ١٨٦١ ونعني الغاء الضرائب الداخلية جميعاً. فقد عمد الباب العالي ، بعد ان حصل على موافقة الدول على ذلك ، إلى رفع الضريبة المفروضة على البضائع الاجنبية المستوردة من ٥% إلى ٨% من قيمة البضاعة والتزم في مقابل ذلك بالغاء جميع الحواجز والضرائب الكمركية الداخلية أو ما يسمى بـ «قره كمرك» وهي ضرائب كانت تؤدي إلى فرض تكاليف اضافية على البضاعة المستوردة تتراوح ما بين ١٥% - ٥٠% من قيمتها. وقد اعتبر هذا الاجراء مفيداً للعراق الجنوبي بشكل خاص لان جباية الضرائب الداخلية فيه كانت في الغالب تمنح بالالتزام للشيوخ العرب المحلين الذين كانوا يسببون للتجارة الكثير من المضايقة (١).

وفي نفس الوقت الذي كان العراق الجنوبي يشهد فيه انقلاباً حاسماً باتجاه الاصلاحات الحضارية كان السلطان الجديد عبدالعزيز الذي خلف السلطان عبد المجيد بعد وفاته في حزيران ١٨٦١ يواصل اقتفاء اثر سلفه صاحب الميثاقين العثمانيين الليبراليين المشهورين خطي شريف كلخانه وخطي همايون ، وكان قانون الولايات لسنة ١٨٦٤ اولى مظاهر النشاط الاصلاحي للعهد الجديد. وقد اعطى القانون المذكور لاقاليم الدولة

__________________

(١) تيشير كوف ، المصدر السابق ص ٤٧.

٢٥٩

العثمانية المختلفة التنظيم الذي ظل قائماً فيها منذ ذلك الوقت حتى الوقت الحاضر مع بعض التغييرات الطفيفة وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في الفصل الثاني من هذا الكتاب (١). وكان الاساس الذي قام عليه هذا القانون هو المبدأ الليبرالي القضائية والتنفيذية ، فقد انيطت الاولى بمحاكم خاصة منتخبة مختلطة في حين منحت الثانية للولاة. وبعد ان جربت القانون الجديد في ولاية الدانوب التي استحدثت خصيصاً لهذا الغرض من دمج مناطق سيليستيريا وفيدين ونيش ، بدأ تنفيذه بالتدريج في ولايات الدولة العثمانية المختلفة بحيث اصبح في ١٨٦٨ نافذاً في جميع انحاء الامبراطورية باستثناء اليمن والعراق الجنوبي. وكان تنفيذه ي هذا الاخير من نصيب مدحت باشا الذي كان قد برهن قبل ذلك بقليل على مقدرة ادارية متميزة وذلك بتجربته الناجحة لتطبيق هذا القانون في ولاية الدانوب.

ولهذا فان هذه القضية لم تكن جديدة على مدحت باشا عندما عين في بغداد عام ١٨٦٩ وانكب بحماس على اصلاح العراق جذرياً. وقد سهلت له تنفيذ هذه المهمة لحد لا يستهان به الصلاحيات الواسعة التي منحته اياها الحكومة التي لم تحجم حتى عن ان تجمع في يديه مجدداً للسلطتين المدنية والعسكرية فعينته والياً للعراق وقائداً في الوقت نفسه للفيلق السادس في بغداد. وكان مدحت باشا واضع دستور ١٨٧٧ (٢) واحداً من رجال الدولة الذين ينتمون إلى المدرسة الليبرالية والذين يناصرون «التنظيمات» ويتحمسون لادخال الحضارة الاوربية الى الدولة العثمانية ، ولهذا فقد تميزت السنوات الثلاث التي حكم فيها العراق بعدد كبير من

__________________

(١) انظر الجزء الاول ص ٧٥ ـ ٨١.

(٢) الصحيح دستور ١٨٧٦ لانه اعلن في ٢٣ كانون الاول ١٨٧٦. (المترجم).

٢٦٠