ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

الكسندر أداموف

ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٣
  الجزء ١ الجزء ٢

قد ارسله لهذا الغرض والي بغداد اسماعيل باشا ، ولهذا ارتاى هذا الاخير بأنه من الممكن تفويض شيخ الحويزة - وكان يعتبر من رعايا فارس - بطرد الشيخ مانع من البصرة واعادتها إلى الدولة العثمانية. وقد نفذ الشيخ فرج الله الذي تظاهر بالولاء الاوامر بحذافيرها ، ولكن بدلاً من ان يعيد المدينة إلى باشا عين هناك حاكماً من صنائعة يدعى داود خان ، لكن الشيخ مانع استطاع ان يلجأ إلى العرجة والسماوة في الفرات الادنى ومن هناك بدأ باجتياح العراق وكان انصاره يتزايدون باستمرار لانه كان يمنيهم بالغنائم الوفيرة. وازداد الخطر الذي يهدد العراق (١) اكثر عندما تصالح الشيخ مانع مع فرج الله وبدأ هذا الاخير يستعد للانضمام مع جيشه البالغ عدده اربعين الف مقاتل إلى قوات عدوه السابق مانع (٢). وهكذا كانت انتفاضة العراق تتسع في الوقت الذي كان فيه التمرد في الحجاز اخذاً في الاتساع هو الاخر. وقد وصلت الاحداث في القطرين إلى ذروة تطورها في نفس اللحظة التي تحررت فيها ايدي الدولة العثمانية في الغرب بفضل عقد صلح كارلوفتس (٣) عام ١٦٩٩م فاصبح بامكانها ان تركز كل اهتمامها على الشرق وان تعمل بشكل جدي على قمع الأضطرابات التي شملت اجزاء

__________________

(١) يقصد الخطر الذي يهدد السلطة العثمانية في العراق. (المترجم).

(٢) De Hammer, OP. Cit. T. II, P. ٣٠٠.

(٣) وقعت في مؤتمر كارلوفتس الذي عقد في ١٦٩٩م معاهدات للصلح وانهاء الحرب بين الدولة العثمانية من جهة وكل دول العصية المقدسة : النسما والبندقية وبولندا. اما روسيا التي كانت من دول العصية ايضاً فانها لم توقع مع دولة العثمانية معاهدة صلح مع كارلوفتس ولكنها عقدت معها في السنة التالية أي في ١٧٠٠م معاهدة صلح القسطنطنية على اساس الهدنة التي كانت قد عقدت بين البلدين في ١٦٩٩م. (المترجم).

١٢١

كبيرة من ممتلكاتها العربية. وهكذا تم في عام ١٧١٠م تجهيز جيشين قويين في آن واحد ، احدهما بقيادة ارسلان باشا وهدفه القضاء على الاضطرابات في الحجاز ، والاخر بقيادة مصطفى باشا دلتبان الذي عين والياً على بغداد للمرة الثانية وهدفه القضاء على الشيخ مانع وحلفائه. وقد حققت الحملتان كلتاهما النجاح ، ففي نفس الوقت الذي اعاد فيه ارسلان باشا النظام والهدوء إلى منطقة المدينة المقدسة مكة هزم مصطفى دلتبان الثوار العراقيين هزيمة حاسمة في موضع الرماحية بالقرب من النجف. كذلك استسلمت القرنة التي كان الشيخ فرج الله قد احتلها مرة اخرى قبل ذلك بقليل للمنتصر طوعاً ، وبادر سكان البصرة إلى طرد داود خان صنيعة شيخ الحويزة وفتحوا ابواب المدينة لعلي باشا الذي نقله الباب العالي من حلب إلى منصب والي البصرة. وهكذا انتهت حملة مصطفى باشا دلتبان التي تعرف لدى المؤرخين الاتراك باسم «حملة ذياب» نسبة إلى قناة ذياب التي خربها الشيخ مانع لكي يغرق المنطقة فيعيق بذلك تقدم الجيش العثماني باتجاه العراق (١).

لم يمكث مصطفى دلتبان في بغداد طويلاً وذلك لتعيينه صدراً اعظم فحل محله في منصب والي بغداد عام ١٧٠٢م حسن باشا وهو شخص الباني الاصل سبق له ان شغل هذا المنصب في الفترة من ١٦٨٨ إلى ١٦٩٠م. وبتعيين حسن باشا والياً للمرة الثانية على عاصمة العباسيين السابقة ، انتهت الاستقلالية التي كان يتمتع بها جنوب العراق وعاصمته البصرة عن بغداد ، حيث وقعا من الان فصاعداً تحت سلطة ولاة بغداد واصبح تاريخهما مرتبطاً بشكل لا ينفصم بمصير بغداد.

__________________

(١) يقصد باتجاه القسم الجنوبي من العراق. (المترجم).

١٢٢

الفصل الثامن

يؤشر ظهور حسن باشا في بغداد للمرة الثانية بداية الفترة الثانية من تاريخ العراق تحت السيطرة العثمانية وهي الفترة التي وحد فيها باشوات بغداد تحت سلطتهم شمال العراق وجنوبه (١) وكذلك مابين النهرين باجمعه بالاضافة إلى جنوب كردستان ، وغدوا مستقلين عن اسطنبول تقريباً يقررون مصير هذه المنطقة الواسعة بانفسهم.

لقد كان العامل الاساس الذي ساعد على تكوين هذا الوضع الاستثنائي هو رغبة الدولة العثمانية في ان تعوّض ، على حساب فارس ، عن التنازلات التي قامت بها لصالح النسما والبندقية وبولندة بموحب معاهدة كارلوفتس ١٦٩٩م. وكانت فارس تعاني من اضطرابات اخذت تتسّع اكثر فتزيد من اضعافها ولهذا فانها لم تعد مؤهلة لان تصد التطاولات العثمانية بحزم. وبعد ان قرر رأي الباب العالي على الاستيلاء على الاقاليم الفارسية : اذربيجان واردلان ولورستان كان عليه ان يفكر مسبقاً بتعزيز وضعه في هذه المنطقة القصية ، ولكن ان تحقيق هذا الهدف لم يكن ممكناً دون تقوية السلطة ونفوذ باشوات بغداد لان مجد الحركة العربية في العراق كان يتطلب يداً قوية تستطيع ان تحافظ على هدوء

__________________

(١) يقصد المؤلف هنا جزء العراق الواقع إلى الجنوب من بغداد. (المترجم).

١٢٣

العرب بعد ان تتوغل القوات العثمانية في داخل فارس لكي لا تكون الانتفاضات التي سيقومون بها لصالح الفرس. وهكذا تطابقت مساعي حسن باشا الرامية إلى ترسيخ وضعه في المنصب عن طريق تقوية سلطته مع نوايا الباب العالي الهادفة إلى تقوية هذا الحاكم الحدودي بسبب متطلبات الصراع المقبل مع فارس. وكانت النتيجة ان جميع اجراءات حسن باشا الموجهة نحو زيادة قوته واهميته كانت تصادف العطف والموافقة من جانب الحكومة العثمانية الامر الذي مكنه من تركيز قوة استثنائية في يده. ان السياسة البارعة التي اتبعها حسن باشا وكذلك ابنه احمد باشا والقائمة على اخافة الباب العالي تارة بثورات العرب التي يصطغانها اذ يصوران العرب مستعدين للاستسلام لفارس وطوراً بنية الباشوين المزعومة في الانتقال إلى صف الشاه ، ساعدتهما على الاحتفاظ بالسلطة في العراق بشكل راسخ إلى درجة ان ولاية بغداد اصبحت ارثاً في اسرتهما التي حكمت المنطقة لمدة طويلة استغرقت ثلاثة ارباع القرن الثامن عشر.

لم يكن السبب في تعيين حسن باشا في منصب والي بغداد هو العلاقات التي تربطه بالبلاط لكونه متزوجاً من ابنة احد اصحاب الحظوة لدى السلطان محمد الرابع فقط ، وانما كان السبب ايضاً الخدماته الشخصية فقد استطاع ان يظهر مواهبه العسكرية حتى في الحرب غير الموفقة مع النمسا وهي الحرب التي انتهت بعقد صلح كارلوفتس المهين. ولهذا كرّم بعد انتهاء الحرب بالاطواغ الثلاثة وعين في اول الامر والياً على قرمانيا ثم لم يلبث ان نقل إلى بغداد التي بقى فيها احدى وعشرين سنة أي إلى ان توفي في عام ١٧٢٣.

كانت القضية الاولى التي انشغل فيها حسن باشا بعد وصوله إلى بغداد عام ١٧٠٢ م هي ضرورة ايقاف الانكشارية عند حدهم ، فاذا ما علمنا

١٢٤

بان هؤلاء الجنود المشاغبين كانوا قد استحوذوا في عاصمة الامبراطورية نفسها على سلطة واسعة الى درجة انهم كانوا لا يطيحون بكبار موظفي الدولة والسلاطين انفسهم فحسب بل انهم لم يكونوا يحجمون عن قتل هؤلاء السلاطين ، فبامكاننا ان نتصور كيف سيكون جموحهم مع حكام اللاقاليم ولا سيما القاصمية البعد كالعراق ، ولكي نتمكن من توضيح الدور الذي لعبه الانكشارية في هذه المنطقة العثمانية لابد من التعوض بشكل مقتضب للحديث عن القوات الانكشارية آنذاك.

ان مؤسس ألـ «يني تشري» أي القوات الجديدة هو السلطان اور خان ابن السلطان عثمان مؤسس السلالة العثمانية وباني القوة العثمانية ، الفها كلياً من الاطفال المسيحيين الذين كانوا يؤخذون من ذويهم صبياناً فيجري تحويلهم إلى الاسلام ويخضعون لتربية عسكرية صارمة. لقد بعد هؤلاء الانكشارية عن وطنهم وفقدوا عقيدتهم وجردوا من أي ارتباطات اذ لم يسمح لهم بالزواج وتكوين اسر فيما بعد ، ولهذا فمن الطبيعي ان يعيشوا كلياً لمهنتهم العسكرية ويخلصوا لثكناتهم. وهكذا فليس هناك ما يدهش في ان تؤلف هذه القوات زهرة الجيش العثماني وان تظل لوقت طويل السبب الرئيس في كون السلاح العثماني سلاحاً لا يقهر. ولكن هذا التنظيم اخذ يفقد طابعه الاول بالتدريج اذ اصبح يقبل في الصفوف الانكشارية ابناء الانكشارية انفسهم في بداية الامر ثم اشخاصاً غرباء بل وجميع الراغبين فيما بعد. وكان الانكشارية في العراق يؤلفون حاميات المدن التي يقود كلاً منها اغا يرسل من اسطنبول مباشرة. وكانوا مخصصين كلياً لحماية المدن بحيث يستطيع الباشوات المحليون ان يستخدموهم ضد العرب والاكراد ولكن بعد اخذ موافقة الباب العالي أو الصدر الاعظم. غير ان الباشوات لم يكونوا يستطيعون اعتقال أو معاقبة المذنبين أو مرتكبي

١٢٥

الجرائم من الانكشارية لان هؤلاء لم يكونوا مسؤولين الا امام قائدهم فقط. وبفضل هذا التحديد سلطة الباشوات تجاه الانكشارية وخروج هؤلاء خروجاً تاماً من صلاحيات حكام العراق لم يكن الانكشارية لوحدهم بمنأى عن العقاب بل كان جميع من سجل نفسه في صفوفهم ممن يهدده القصاص القانوني يتجنب التحقيق معه ومحاكمته بهذه الوسيلة. ولم يكن التسجيل في صفوف الانكشارية يلزم الراغب في ذلك بتحمل اعباء الخدمة العسكرية وانما كان لكل من يدخل في القائمة الحربية في ان يزاول اعماله الاعتيادية وليس عليه الا ان يدفع ضريبة سنوية خاصة مقابل الحق في استخدام اسم انكشاري. واذا ما كان رجال الاعمال الذين لا يتصفون النزاهة النصابون يسعون للانضمام إلى الانكشارية لتجنب الملاحقة القضائية فان المواطنين المسلمين ولا سيما الموسرين منهم كانوا ينضمون إلى صفوف هذه القوات لكي يضمنوا الامن لانفسهم وممتلكاتهم ذلك ان الانكشارية لم يكونوا يتورعون عن التطاول على الاثرياء والوجهاء غير المنضمين إلى صفوفهم واستخدام العنف ضدهم (١). وهكذا كان سكان المدن بكليتهم تقريباً مسجلين لهذه الاعتبارات أو تلك في صفوف الانكشارية وكان هؤلاء بفضل ذلك يمتلكون تأثيراً استثنائياً على سير الاحداث المحلية ويخضعون بدورهم لتأثير الاحزاب والاتجاهات المحلية. ولهذا لم يكن بمقدور الولاة ان يفعلوا شيئاً للانكشارية لانهم لم يكونوا اكثر من ادوات طبيعة في ايدي هؤلاء الجنود المشاغبين الجامحين. وكان عدد الانكشارية الحقيقيين في العراق يزيد على ١٥ الف شخص ، ما يقرب

__________________

(١) L Niebuhr. Reisberchreibunh nach Arabien und andern umliegenden T. II, Landern (kopenhag S. en, ١٧٧٨), S. ٢١٦ - ٢١٧.

١٢٦

من ثمانية الاف منهم في بغداد وما لا يقل عن خمسمائة في البصرة ، اما البقية فكانوا موزعين بشكل حاميات صغيرة على مختلف القلاع.

من كل ذلك يكون من المفهوم ان يباشر حسن باشا الذي كان هدفه ترسيخ وضعه في العراق بانشاء قوة تجابه الانكشارية قبل ان يفعل أي شيء اخر ، فاسس لهذا الغرض بموافقة الصدر الاعظم - الذي خصص لذلك مبلغاً كبيراً من المال ـ فيلقاً خاصاً من «اللاوند» أي الخيالة النظاميين الذين كانوا يؤلفون مع حرس الباشا الخاص وقواته غير النظامية ، قوة عسكرية تتعادل مع الانكشارية فتحتم على هؤلاء ان يستكينوا لحسن باشا ويتحولوا إلى منفذين مطيعين لاوامره.

وكان الاجراء التالي الذي اتخذه حسن باشا بهدف تثبيت حكمه لولاية بغداد هو اخضاع القبائل العربية المحلية وقد استخدم لذلك وسائل مختلفة ابتداءً من ارسال الحملات التأديبية ضد القبائل التي ترفض الخضوع وانتهاء بالرشاوي والهدايا وكان هذا الوالي اول من استخدم مع العرب بنجاح مبدأ «فرق تسد» الذي اصبح منذ ذلك الوقت حجر الزاوية في السياسة العثمانية في هذه المنطقة. وقد انعكس استخدام هذا المبدأ بالدرجة الاولى في اخذ المراعي والاراضي الحكومية من احدى القبائل واعطائها إلى اخرى وفي اسناد قريب طموح لهذا الشيخ النافذ أو ذاك وذلك من اجل زرع الخلافات في عائلة هذا الاخير ، وكذلك في منح الرتب والقاب الشرف والهدايا النقدية الكبيرة بهدف الحصول على صداقة اولئك الشيوخ الذين كان اسنادهم له ضرورياً للكفاح ضد القبائل المعادية. ولم يتوصل حسن باشا بهذه الاجراءات إلى اخضاع عرب العراق اخضاعاً تاماً فقط وانما حصل ايضاً على سلطة استثنائية عليهم تسمح له بان يحول القبائل المحلية إلى اداة لتحقيق نواياه الطموحة ، وقد تعزز الحلف بين

١٢٧

حسن باشا والعرب بزواج ابنه احمد من ابنة احد اكثر شيوخ العراق العرب ونفوذاً وهو امير الحلة.

بعد ان امن حسن باشا طاعة الانكشارية وخضوع العرب اصبح بامكانه ان يفكر بتوسيع وزيادة قوته وهو امر كان يحتم عليه ان يحصل على موافقة الباب العالي على ان تلحق بباشوية بغداد التي فوض حكمها المناطق والاقاليم المجاورة لها ونعني شهروز أو الاجزاء الجنوبية من مناطق كردستان التي كانت في حوزة العثمانيين والتي كان يحكمها باشا من مرتبة الاطواغ الثلاثة وماردين التي يديرها حاكم خاص ثم البصرة التي كان يعيش بها باشا من مرتبة الطوغين يعينه السلطان مباشرة (١). وقد استغل لتحقيق هدفه هذا الاعداد للحرب ضد فارس اذ قدم للباب العالي تصورات مدعومة بالحجج والبراهين تدلل على عدم امكانية والي بغداد مجابهة الفرس بنجاح بالاستناد إلى قوات منطقته فقط وتعذر تسديد المصاريف الحربية بالاستناد إلى ايرادات هذه الاخيرة لوحدها. ولم يتسطيعوا في استطنبول الا الموافقة على وجهة نظره هذه وهكذا تقرر ان تكون كردستان وماردين تابعة له تبعية تامة.

اما ضم البصرة فكان اصعب من ذلك بكثير ولكن ظروفاً ملائمة ساعدت هذا الرجل الطموح. وخلاصة القضية ان خليل باشا الذي عين في ١٧٠٦م والياً للبصرة ارسل إلى هناك كهية ، أي مسؤول التموين في الجيش (٢) قبله فاثار هذا باعماله التي تفتقر إلى الحذق والخبرة ثورة جدية

__________________

(١) G. Olivier, voyage dans I Empire othoman, Pegypte etLa perse, T. IV (Parisgn ١٢) P. ٣٣٧.

(٢) الكهية هو نائب الوالي أو مساعده. (المترجم).

١٢٨

قام بها المنتفقيون بزعامة ابن مانع المعروف. فبعد ان وصل خليل باشا إلى البصرة عزل ابن مانع وعين بدلاً منه شيخاً اخر رفض المنتفقيون الاعتراف به ، وعندما جرب والي البصرة اجبارهم على ذلك بالقوة وجرد عليهم حملة قادها بنفسه انتصر عليه المنتفقيون انتصاراً ساحقاً ثم نهبوا البصرة نفسها. عند ذلك فوض حسن باشا والي بغداد مهمة تهدئة الثوار فارسل لهذه المهمة كهيته مصطفى اغا ، واستحصل ـ بعد ان نفذ المهمة الموكلة اليه بنجاح ـ موافقة الباب العالي على تعيينه والياً للبصرة. وقد ساد المنتفقيين الهدوء طيلة حكم الكهية المشار اليه الذي استمر من ١٧٠٨ إلى ١٧١٢ م ولكن بمجرد ان فكر الباب العالي بتعيين شخص اخر هو عثمان باشا تجددت الاضطرابات بنفس القوة السابقة ، وهكذا فان جميع الولاة الذين اتوا بعد ذلك معينين من اسطنبول اما انهم لم يصلوا إلى البصرة ابداً لان العرب كانوا يهاجموهم وينهبون قوافلهم بلو يقتلونهم في بعض الاحيان واما انهم تحتم عليهم ان يغادروا المدينة بعد الوصول اليها مباشرة بسبب الانتفاضات العربية المتواصلة التي كان اخمادها يتطلب جهوداً مضنية ومصاريف باهضة. ولهذا لم يعد يوجد راغبون في تولي حكم البصرة ولا سيما بعد ان فشل اخر والي معين في البصرة وهو حسن يوروك في القضاء على الاضطرابات التي قام بها المنتفقيون في عام ١٧١٥ م وشارك فيها ايضاً بنو لام الاقوياء. وهكذا تحتم على الباب العالي ان يستدعي يوروك باشا ويفوض والي بغداد حسن باشا مرة اخرى مهمة تهدئة الانتفاضة التي كانت تهدد في حالة التباطؤ باخمادها بالتوسع لدرجة خطرة نتيجة لان قسماً من بني لام وهو القسم الذي كان قبل ذلك بقليل ينتقل داخل الحدود الفارسية كان يستعد للتوغل في الاراضي العراقية مع فصيل من عرب الحويزة تعداده الفاً. وبعد ان نجح حسن باشا في

١٢٩

تهدئة العرب دون اراقة دماء تقريباً اقترح على الحكومة ان تعين لولاية البصرة ابنه احمد متكفلاً بان يحافظ على الهدوء التام في جنوب العراق وان يرسل إلى الخزينة بشكل منظم الايرادات المحسوبة على تلك المنطقة ايضاً. ولم يبق امام الباب العالي الا الموافقة على هذا الاقتراح وهكذا عين احمد باشا ابن حسن باشا في ١٧١٥م والياً للبصرة (١).

وبهذا الشكل استطاع والي بغداد ان يضم إلى الباشوات التي يحكمها جنوب العراق ايضاً ومعه البصرة مدينته الرئيسة التي اصبح مصيرها ، بفضل ذلك مرتبطاً بشكل اوثق بسير الاحداث العام في بغداد وبنشاط الولاة هناك. وفقدت البصرة منذ ذلك الوقت استقلالها الاداري ، ذلك ان ولاة بغداد اصبحوا هم الذين يرسلون اليها حاكمها اذ يختارونه من بين الموظفين الذين يثقون بهم ، وكان لقبه «المتسلم». وحتى «القبودان» باشا الذي كان السلطان حتى ذلك الوقت يختاره من بين كبار البحارة ويرسله إلى هناك تحول إلى ضابط بسيط يخدم لدى والي بغداد ، وبذلك اصبح هذا الاخير الرئيس الفعلي لاسطول البصرة الذي كان يتألف من بضعة عشرات من السفن المسطحة القاع مخصصة لمكافحة القراصنة في انهار وقنوات جنوب العراق وللمحافظة على النظام والامن في الطرق المائية في المنطقة.

لقد اصبحت تحت سلطة حسن باشا بعد ضم العراق منطقة لاتقل في مساحتها عن مصر تشمل كل الاقاليم الواقعة بين الخليج والحدود السورية من جهة وحدود فارس من جهة اخرى. ولهذا كاد والي بغداد ان يصبح اقوى الولاة الاقليميين في الامبراطورية العثمانية جميعاً لا سيما اذا

__________________

(١) N iebuber, OP. Cit. T. II. S. ٢١٢.

١٣٠

اخذنا بنظر الاعتبار انه يتصرف بكل ايرادات هذه المنطقة الواسعة وهي ايرادات تصل إلى مبالغ طائلة. فايرادات الكمارك وحدها كانت تدر مبلغ لايستهان بها بسبب ازدهار التجارة بين اوروبا والهند عبر فارس وعبر البصرة وبغداد ايضاً. لقد كانت قوة الوالي العسكري تتألف من جيش تعداده اربعين الفاً اختير نصفهم من العرب ، بالاضافة إلى عدة الاف من الخدم والوصفاء والحرس الشخصي وغيرهم من الافراد الذين يخدمون لديه شخصياً. ولم يكن لبلاط بغداد في عظمته وترفه نظير في الامبراطورية ولا يمكن ان يساويه الا بلاط السلطان نفسه ، ففي بغداد البعيدة كانت توجد الوظائف ذاتها الموجودة في اسطنبول كما ان الباشا انشأ حريماً لا يكاد يختلف في شيء عن حريم السلطان ، واخيراً كان هناك ، كما هي الحال في العاصمة ، الكثيرة من الوصفاء الذين يجلبون من القفقاس ولا سيما جورجيا حيث يلتقي الذين يجلبون منها تعليماً عثمانياً يعتبر عالياً بمقاييس ذلك العصر وذلك خصيصاً لكي يتولّى مناصب مسؤولة في ولاية بغداد. وقد برز من بين هؤلاء الوصفاء فيما بعد عدد من الشخصيات المرموقة التي وصل بعضها بجهده الخاص إلى منصب والي المنطقة. وقد شُكِلَ «الديوان» أو مجلس الباشا وكذلك مكتبه على غرار ما هو قائم لدى الباب العالي بحيث ان دور الصدر الاعظم كان يقوم به في بغداد «كهية» الباشا أي مساعده ومستشاره الموثوق الاقرب. وكانت اوامر الباب العالي تناقش فقط في هذا «الديوان» لكنها نادراً ما كانت تنفذ (١). وخلاصة الامر بدا كما لو ان ولاة بغداد كان هدفهم تذكير اهاليها بالفخامة والروعة التي كان عليها بلاطهم في ايام عظمة الخلفاء العباسيين.

__________________

(١) Ritter OP. Cit. T. VII Abt. II, S, ٨١٤ FF.

١٣١

ولم يدخل مثل هذا الجهد المكثف من جانب حسن باشا بالطبع في حسابات الحكومة التي حاولت عزل هذا الباشا القوي عدة مرات ولكنه كان يتمكن في كل مرة من تأجيل اقالته. وهكذا طالت القضية إلى ان بدأت الحملة على فارس وعندما لم يعد عزل باشا بغداد والقائد العام للقوات العراقية المسلحة متأخراً فحسب ، بل اصبح خطراً ايضاً فلربما اجبره ذلك على التحول إلى فارس خوفاً على حياته. ولهذا لم يبق امام الباب العالي الا استغلال قدرة والي بغداد وقوته ضد الجارة الشرقية. وقد بدأت الحملة بالفعل في عام ١٧٢٣م عندما عبرت الحدود وتوغلت في تخوم فارس ثلاثة جيوش عثمانية خصص احدها وهو الجيش الذي كان يقوده حسن باشا والي بغداد للعمل ضد كرمنشاه وعموم المنطقة الجنوبية القريبة من فارس.

لقد كان الوقت الذي اختبره لبداية الحملة في غاية الملاءمة ذلك ان فارس كانت تعيش انذاك اخر فصول الدراما الصفوية فقد قام الافغان الذين كانوا قد تحرروا من السلطة الفارسية في ١٧١٧م بغزو فارس بقيادة السلطان محمود (١). ولم يكن الشاه سلطان حسين الذي ارتقى العرش في ١٦٩٤م والذي كتب عنه فولينسكي مبعوث بطرس الكبير إلى الامبراطورية يقول : «يوجد هنا الان رئيس لا يقف فوق الرعية ولكنه رعية لرعيته ....» (٢) لم يكن ابداً في حالة تمكنه من صدّ محمود الذي احتل العاصمة اصفهان في ١٧٢٢م واطاح بالشاه واستحوذ على تاج فارس. ولم تعترف اغلبية

__________________

(١) Malcoim, OP. Cit. T. II, p. ٣٩٩ FF.

(٢) س. سولفيوف ، تاريخ روسيا منذ اقدم العصور ، الجزء ١٨ و (سانت بطرسورغ) ص ٦٦٦. [بالروسية].

١٣٢

مناطق فارس واقاليمها بالمغتصب فهب سكانها للنضال ضد الافغان بقوة السلاح الامر الذي ادى إلى حدوث اضطرابات وفوضى داخلية سيطرت على الدولة طيلة عقد كامل من السنين.

لم يكن الوضع الحرج الذي كانت تعاني منه فارس هو وحده الذي دفع الدولة العثمانية إلى التعجيل بفتح العمليات العسكرية ضد منافسيها وانما الذي دفعها إلى ذلك ايضاً هو موقف روسيا التي عانى رعاياها وتأثرت تجارتها بشدة من الفوضى التي عمت فارس ، ولهذا فانها لم تستطع الا ان تهب دفاعاً عن مصالحها لاسيما وان تمكن الدولة العثمانية من تحقيق مأربها تجاه الاقاليم الشمالية من فارس العاجزة سيؤدي إلى تقدم الحدود العثمانية حتى تصل إلى شرق بحر قزوين أي إلى عتبة شرق روسيا ذاتها. وهكذا اراد الامبراطور (١) ان يبادر العثمانيين وتحرك بنفسه إلى داغستان واحتل في ربيع ١٧٢٢م مدينة دربند. وهناك التقى برسول من الشاه طهماسب (٢) يتقرح عليه مساعدة الشاه عسكرياً ضد المغتصب والمنافق مقابل تخلي الشاه لروسيا طوعاً عن داغستان والمناطق الاخرى المتاخمة لقزوين مما اثار احتمال اتخاذ بطرس الكبير دور المدافع من فارس اشد المخاوف جدية لدى الباب العالي الذي خشي على نجاح خططه التوسعية تجاه فارس ولهذا اعلنت الحكومة العثمانية حمايتها على داود بيك امير ليزيكيا الذي كان يتمتع بسلطة وراثية ويعيش في شيماخ ويعتبر تابعاً لفارس ، واخذت تطالب القيصر باخلاء داغستان التي تحتلها القوات الروسية مدعية انها تؤلف ملكاً اقطاعياً للامير المذكور. وهكذا

__________________

(١) الامبراطور بطرس الاول بطرس الكبير. (المترجم).

(٢) طهماسب الثاني. (المترجم).

١٣٣

كانت الدولة العثمانية تنوي الحرب وهو امر لم يدخل اطلاقاً في خطط بطرس الكبير الذي اسرع بتقديم تأكيدات مهدئة للدولة العثمانية تؤكد عم تدخل روسيا في مسألة ضم جزء كبير من غرب فارس إلى ممتلكات السلطان. ولكن هذه التأكيدات لم تقنع الدولة العثمانية التي بادرت فأمنت لنفسها وضعاً مساوياً لروسيا. ونعني قيامها بدور المدافع عن الشاه طهماسب ، وبعدها رأت ان الضرورة تقضي ان تعقد في ١٧٢٤ م اتفاقية خاصة مع الحكومة الروسية احتفظت بموجبها بالحق في ان تستولي دون عائق على جميع الاراضي الفارسية الواقعة إلى الغرب من خط يمتد من مجرى نهر كورا واراكس إلى مدينة همدان (١).

كانت القوات العثمانية قبل توقيع هذه الاتفاقية قد اجتازت حدود فارس واحتلت تفليس (٢) وجزءاً من اذربيجان ثم كرمنشاه. وقد جرى الاستيلاء على هذه الاخيرة في عام ١٧٢٣م من قبل القوات العراقية بقيادة حسن باشا والي بغداد الذي تحرك بعد ذلك نحو همدان ولكنه توفي اثناء حصارها فسارع الباب العالي من اجل ان لاتتوقف الحملة إلى تعيين احمد باشا الذي كان يرافق اباه في الحملة خلفاً لهذا الاخير فتسلم ولاية بغداد والقيادة العامة للقوات العراقية في آن واحد. وقد سعى احمد باشا لان يثبت كفاءته امام الحكومة فاستولى في ١٧٢٤ م على همدان وتوغل في السنة التالية في لورستان واستولى على خرم آباد المدينة الرئيسة فيها ثم تغلب على البختياريين. وهكذا فآنه لم يضم إلى الدولة العثمانية كل الجزء

__________________

(١) سولوفيوف ، المصدر السابق الجزء ١٨ ص ٦٧٤ وما بعده احتى نهاية الفصل والجزء ١٩ الفصل الاول.

(٢) تبليسي عاصمة جمهورية جورجيا السوفيتية حالياً. (المترجم).

١٣٤

الجنوبي من المنطقة التي حددتها المعاهدة مع روسيا فقط ، وانما ضم اليها ايضاً اراضي اللوريين والبختياريين المجاورة التي تقع خارج الخط المتفق عليه.

كان العرش الفارسي حتى هذا الوقت قد انتقل إلى السلطان اشرف الذي اطاح بابن عمه السلطان محمود. وقد عزم اشرف هذا على ان يصبح نداً للسلطان العثماني ويعلن نفسه خليفة للنصف الشرقي من العالم الاسلامي أي لفارس وافغانستان فبادر إلى اخبار السلطان العثماني بذلك في بداية ١٧٢٦ م عن طريق مبعوث خاص طلب من الباب العالي باسم اشرف اعادة جميع الاراضي الفارسية التي استولى عليها العثمانيون مؤخراً باعتبارها ملكاً للخليفة الجديد الذي زعم انه احق بالخلافة من السلطان العثماني لانه ينحدر من قريش قبيلة الرسول (ص) (١). وطبيعي انه لم يكن بمقدور الدولة العثمانية السماح بوجود خليفتين لذا فقد قررت اجبار اشرف على التخلي عن مطامعه بقوة السلاح رغم اتضاح عدم رغبة الجنود العثمانيين في محاربة الافغان شركائهم في العقيدة.

غير ان احمد باشا الذي توغل في فارس مرة اخرى في ١٧٢٦ م لم يصب النجاح في هذه المرة فقد اندحر في اول صدام جدي مع الافغان وقع بالقرب من همدان. لذا فقد تحتم عليه ان يعجل بالتراجع إلى بغداد التي دعته للعودة اليها ـ بالاضافة إلى ذلك ـ خطورة الوضع في العراق الذي كان قد تعرض إلى غزو ماحق قام به اللوريون والبختياريون وسكان خوزستان وادى هذا الغزو إلى انعاش الرغبة في الاستقلال لدى القبائل العربية المحلية التي كانت حتى قبل ذلك قد مالت إلى اشرف ، بفضل

__________________

(١) Jonas Hanway. Bescbreihung Seiner Reisen von London durch Russiand und (٨) persien. T, ١, AbT. VIII, (Hamburg und Leipzig, ١٧٥٤) S. ١٨٣ FF.

١٣٥

ادعاءاته بأصله القرشي. ولذلك فقد كان لدى الباب العالي اساس قوي في خشيته من ان يقوم عرب العراق بانتفاضة شاملة وان يستولي اشرف بمساعدتهم على مكة والمدينة لكي يعزز حقه بالخلافة. ولم يكن هناك من يستطيع امساك العراقيين عن الانتقال إلى صف الافغاني سوى احمد باشا الذي كان متزوجاً من ابنة شيخ الحلة النافذ ولذلك فقد ابقي في منصبه بالرغم من الفشل الذي حاق به. وفضلاً عن ذلك فقد اقتنع الباب العالي بعدم امكانية مواصلة الصراع مع الافغان بسبب التهديدات التي اخذ يتعرض لها من جانب النمسا والبندقية وبسبب الاستياء الذي عم الامبراطورية العثمانية نفسها نتيجة للحرب ضد الشركاء في المعتقد ، ولهذا علّه قرر البابا العالي تكليف احمد باشا بمهمة أجراء مفاوضات الصلح مع اشرف. ولكن أحمد كان يتحرق رغبة في الثأر من أشرف للهزيمة التي لحقت به ولذا فقد اجتاز الحدود الفارسية مرة اخرى بجيش تعداده ٦٠ الفاً من الجنود ولم يستطع مبعوث السلطان اللحاق بجيش بغداد هذا الا بالقرب من همدان وهناك عقدت بين احمد باشا ومبعوث من قبل الافغان معاهدة صلح عرفت باسم معاهدة همدان ، تخلى اشرف بموجبها عن مطالبته بالخلافة واعترف بالسلطان خليفة اوحد للمؤمنين ورئيساً للعالم الاسلامي باجمعه ووعد بذكر أسمه قبل أسم اشرف نفسه عند صلاة الجمعة في جميع انحاء فارس ، وتنازل للدولة العثمانية تنازلاً ابدياً عن اذربيجان وكرمنشاه ومعها همدان وخوزستان وزنجان وسلطانية وابخير وطهران. وفي مقابل ذلك اعترف به الباب العالي حاكماً شرعياً لفارس ووعد بعدم اسناد الشاه الصفوي طهماسب (١).

__________________

(١) De Hammer : OP. Cit. T. III, P. ٤١٢ FF.

١٣٦

وقد ثارت لدى الباب العالي بعد عقد الصلح مخاوف جديدة من ان يجعل احمد باشا الاقاليم التي تنازل عنا اشرف وهي اقاليم متاخمة لباشا بغداد مباشرة مناطق تابعة له مما سيوسع ولاية بغداد بحيث تصبح بحجم دولة كاملة ولهذا تقرر نقل احمد باشا إلى ولاية اخرى ولكن احمد هذا الذي كان قد حذره انصاره المقربون في اسطنبول في الوقت المناسب من نوايا الحكومة عمد إلى اثارة عرب المنتفق فقاموا في بداية ١٧٢٨ م باضطرابات شديدة في جنوب العراق مما اجبر الباب العالي على ابقاء الباشا الحاذق في بغداد لحين تهدئة العرب الثائرين نهائياً.

وفي هذه الاثناء جرت في فارس أحداث جاءت لصالح أحمد باشا إذ مكنته من البقاء في العراق لمدة ربع قرن أي حتى وفاته ، فقد ظهر لدى الشاه المطرود طهماسب قائد عسكري بارز وهو شخص تركماني من قبيلة الافشار يدعى نادر قلي خان الذي باشر بطرد الافغانيين من فارس فاستولى في وقت قصير نسبياً على خراسان وهرات ومن ثم حطم جيش اشرف في دامغان واستطاع في نهاية الامر ان يجبره على الاختباء في بلوجستان حيث لم يلبث ان قتل على يد شخص مجهول من اهالي المنطقة (١). وبعد ان طهر نادر قلي البلاد من الافغان ادخل في نهاية عام ١٧٢٩ م الشاه طهماسب إلى اصفهان بشكل مهيب واقنعه بان يرسل إلى السلطان على الفور سفارة تطالب باعادة الاراضي التي اخذت من فارس. وفي ربيع ١٧٣٠م تحرك الجيش الفارسي بقيادة نادر قلي لتحرير همدان وبعدهما استعيدت من العثمانيين كرمنشاه وتبريز وغيرها من المدن بحيث سارعت الدولة العثمانية التي لم تتمكن من تهيئة الرد المطلوب إلى عقد الهدنة وقد وافق

__________________

(١) Malcolm, Op. cit. T. III, pp. ٤٧ - ٥٩.

١٣٧

نادر شاه على الهدنة عن طيب خاطر لاسيما ان انتفاضة الافغان في هرات كانت تستدعي منه الذهاب إلى هناك.

وهكذا ظهر على مقربة من الدولة العثمانية وبشكل غير متوقع عدوّ قوي وشجاع سيجري معه صراع عنيف ذلك ان حماية المناطق الشرقية من الدولة منه لم تكن امراً سهلاً. لقد ادرك الباب العالي تمام الادراك بان الوقت الراهن هو انسب الاوقات لاستخدام قوة احمد باشا ضد نادر قلي خان ، ولكنه لم يكن يثق باحمد باشا بل كان يخشاه وذلك بسبب الوشايات التي قام بها اعداء احمد. ولهذا فلقد كلف احمد باشا البقاء في منصبه جهوداً كبيرة فهو لم يتمكن من ذلك الا بفعل سياسته الحاذقة القائمة على التوازن الموفق ما بين السلطان ونادر. ففي الوقت الذي كان فيه يمنع الاول من اتخاذ تدابير صارمة ضده عن طريق تخويفه باحتمال تحوله إلى صف فارس ، كان يخدع الثاني واعداً اياه بالاعتراف الطوعي بسيادته. وكانت هذه السياسة تثير اعداء احمد بمقدار ما كان هو يوسع من حيله وخدعه للمحافظة على حياته ومنصبه. والواقع ان احمد باشا لم يكن يشعر بالامان الا في العراق الذي كان وضعه فيه قد توطد بشكل راسخ. وهكذا فان تاريخ احمد باشا المقبل ماهو الا صراع قام به احمد على جبهتين الاولى ضد نادر شاه من اجل العراق والثانية ضد اعدائه في اسطنبول.

لقد كانت اهمية العراق بالنسبة إلى الدولة العثمانية تزداد بمقدار ما كانت سلطة نادر قلي تتوطد في فارس المجاورة التي كانت تشهد احداثاً سريعاً متعاقبة. وبينما كان نادر شاه منهمكاً في قهر الافغان في المناطق الشرقية من فارس جهز أحمد باشا في ١٧٣١ م حملة على كرمنشاه بهدف اعادتها إلى الدولة العثمانية (١). ومع ان الشاه طهماسب تحرك بنفسه لنجدة

__________________

(١) De Hammer : OP. Cit. T. III, p. ٤٣٧.

١٣٨

المدينة إلا انه سارع بعد ان أصيب بعدة اندحارات على يد باشا بغداد إلى عقد الصلح متنازلاً للدولة العثمانية عن أرمينيا وقره باغ وجورجيا. وقد اعطى فقدان هذه الاقاليم لنادر شاه الحجة التي كان يبحث عنها منذ وقت طويل لعزل الشاه طهماسب. وبالفعل فقد قام بعزله محتجاً بعدم اهليته ونصب بدلاً منه على العرش الفارسي ابن الشاه الذي كان عمره ستة اشهر باسم عباس الثالث وعين نفسه وصياً على الشاه الجديد فأخذ بذلك زمام الامور بيده.

كان أول عمل قام به رئيس الحكومة الفارسية الجديد هو انه أرسل إلى الدولة العثمانية ، بواسطة أحمد باشا ، يهددها بالحرب اذا لم تتخل طوعاً عن الاقليم التي تنازل لها عنها الشاه طهماسب. وقد اجاب الباب العالي على نزوة نادر شاه هذه بارسال جيش قوي يتألف من قوات الانضول وقوات مصر بقيادة والي طرابزون طوبال عثمان باشا. غير ان الوصي الفارسي كان قد بدأ العمليات العسكرية ضد العثمانيين قبل وصول طوبال عثمان فاستعاد كرمنشاه في ١٧٣٣ م ثم حاصر بغداد. وقد قاومت عاصمة العباسيين السابقة الفرس بصلابة طيلة ثلاثة اشهر إلى ان تمكن طوبال عثمان الذي قدم للنجدة من ان يجتذب ، بحيلة عسكرية ، الجزء الرئيس من جيش نادر ويحطمه في معركة عنيفة ودامية. اما الجزء الذي بقي تحت اسوار بغداد فقد حطمته الحماية العثمانية المحاصرة بصولة قامت بها عليه. لكن هذا الخلاف لم يكسر اصرار نادر شاه الذي تحرك ضد بغداد مجدداً في شتاء ١٧٣٣ م وقابل في وادي مندلي ، على بعد خمسين ميلاً من بغداد ، طوبال عثمان والحق به هزيمة ساحقة. وفي هذه المعركة مات القائد العثماني الذي كان قد تقادم به العمر (١) وبعد هذا النصر

__________________

(١) Hanway : OP. Cit. T. II, Abt. IIS. ٢٥٠ ـ ٢٥٨ ، ٢٥٦ ـ ٢٧٣.

١٣٩

اقترب نادر قلي خان مرة اخرى من بغداد واتصل باحمد باشا طالباً تسليم المدينة طوعاً غير ان والي بغداد اطال المفاوضات عمداً إلى ان اجبرت انتفاضة قامت في اقليم فارس الوصي على الاسراع بالعودة إلى فارس (١).

لقد صور اعداء احمد باشا وعلى رأسهم الصدر الاعظم على باشا تحطيم نادر شاه للجيش العثماني عند مندلي للسلطان على انه نتيجة لخيانة والي بغداد فأقيل احمد باشا لهذا السبب من حكم العراق في بداية ١٧٣٤م وطيلة سنتين من هذا التاريخ ظل الولاة هناك يعينون من اسطنبول مباشرة وقام احدهم وهو اسماعيل باشا عندما عين صدراً اعظم في بداية ١٧٣٦م بالتوسط لاعادة احمد باشا والياً على بغداد. وكان السبب في هذا العطف المفاجئ هو ان النجاحات غير الاعتيادية التي حققها الوصي الفارسي في مسرح العمليات العسكرية في القفقاس واندحار العثمانيين مجدداً في ١٧٣٥م بالقرب من يرفان جعلت الدولة العثمانية تقرر عقد الصلح وعلقت على علاقات الصداقة التي تربط احمد باشا بنادر قلي خان امالاً خاصة في عقده. ولهذا فقد انيطت مهمة اجراء مفاوضات الصلح بوالي بغداد الذي اعيد إلى منصبه فارسل هذا مندوباً عنه إلى معسكر موغان الذي كان نادر شاه موجوداً فيه انذاك ، وكان هذا الاخير قد نصب في السنة نفسها أي في ١٧٣٦م في موغان شاهاً لفارس بسبب موت عباس الثالث فجأة ، الامر الذي دفع الباب العالي إلى التعجيل بتوقيع معاهدة الصلح. ولم يستطع الشاه الجديد ان يعيد لصالح فارس الحدود التي كانت قائمة في زمن مراد الرابع مما يعني تنازل الدولة العثمانية عن جميع ما استولت عليه من الاراضي الفارسية منذ ذلك الوقت فحسب ، بل حصل ايضاً للحجاج الفرس

__________________

(١) Malcolm, OP. Cit. T. III, P٨٥.

١٤٠