ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

الكسندر أداموف

ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٣
  الجزء ١ الجزء ٢

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

تحمل الدراسة الموسومة بـ (ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها) والتي عرّبها الدكتور هاشم صالح التكريتي أهمية خاصة ؛ لأن مؤلفها الكسندر أداموف أحد دبلوماسي روسيا القيصرية المعروفين ، وقد عمل في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قنصلاً للبلاده في البصرة ، وصدر كتابه هذا عام (١٩١٢ م) فى مدينة سانت بطرسبورغ.

تكمن أهمية هذا الكتاب في عدة أوجه ، أبرزها أن مؤلفه كان معاصراً وشاهد عيان على معظم الحوادث التي دوّنها في كتابه عن ولاية البصرة بصورة خاصة وعن العراق والدولة العثمانية بصورة عامة ، كما أنّ المؤلف كان مطلعاً على عدد كبير من المصادر المتنوعة : الروسية والفرنسية والألمانية والإنجليزية ذات الأهمية الكبيرة ، بالإضافة إلى المصادر العثمانية بالسالنامات الخاصة بولايتي البصرة وبغداد.

ويسرُّ قسم الدراسات التاريخية والجغرافية للخليج في مركز دراسات الخليج أنّ يقدّم للباحثين والمتهمين بأحوال ولاية البصرة خاصة والعراق والدولة العثمانية عامة هذا الكتاب ، وهو الجزء الثاني الذي يكمل الجزء الأول الذي نشره مركزنا عام (١٩٨٢ م) ، للمعرّب نفسه ، ولذلك جاءت فصول هذا الجزء مكملة لفصول الجزء الأول ، وابتدأت هذه الفصول بالفصل السادس.

جاء تقسيم الكتاب على جزأين منسجماً مع طبيعة الموضوعات التي احتواها كل جزء من الكتاب الأصلي وهو واحد ، فقد تضمّن الجزء الأول

٣

خمسة فصول تناول فيها موضوعات جغرافية واقتصادية وإدارية وبشرية عامة ، أما هذا الجزء الذي نقدمه للقارئ الكريم فقد تضمّن خمسة فصول أيضاً ، ركز فيه مؤلفه على التطورات التأريخية لولاية البصرة.

لقد أبرز الكتاب أهمية ولاية البصرة بحكم موقعها الجغرافي الاستراتيجي ودورها في التجارة الدولية وأهم التطورات الإدارية التي شهدتها ، وقد استعان المؤلف يجداول وسالنامات ولاية البصرة لتوضيح التطورات التي شملت قطّاع النقل بالبواخر والإنتاج والرسوم وكمية الحاصلات الزراعية الصدّرة بواسطة ميناء البصرة.

يعدّ هذا الكتاب موسوعة شاملة للبصرة من خلال الموضوعات المتنوعة التي احتواها ، وقد حافظ السيد المعرّب الفاضل على أصل النص ، لكنه تصرّف في تغيير اسماء بعض المصطلحات والأعلام وأشار في تعليقاته التي ثبتها في هوامش الكتاب إلى تلك التغييرات والتصحيحات التي أجراها على الأخطاء التي وقع فيها المؤلف سهواً ، وهذا من صميم الأمانة العلمية.

نأمل أن يسهم هذا الكتاب في خدمة المكتبة العرفية ، والذي جسّد الدور المتميز لمدينة البصرة عبر مراحل تاريخها الماضي والحاضر ، وكذلك برّر عطاء هذه المدينة العربية العريقة في التاريخ والحضارة العربية والإسلامية. والله من وراء القصد.

الدكتور محمد كريم إبراهيم

رئيس قسم الدراسات

سات التاريخية والجغرافية

مركز دراسات الخليج

٤

مقدمة الجزء الثاني

ها نحن نفي بوعدنا للقارئ الكريم ونقدّم له ترجمة القسم الثاني من كتاب الدبلوماسي الروسي الكسندر أداموف (ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها) في جزء مستقل كما تعهدّنا في مقدمة الجزء الأول ، وأملنا كبير في أن يجد القارئ العربي الكريم فيه من الفائدة ما يكون لنا عذراً لتأخرنا في تقديمه لا سيّما وأن ظروفاً قاهرة خارجة عن الإرادة هي التي حتمّت هذا التأخير.

لقد التزمنا في تعريب هذا الجزء بذات الأسلوب الذي اعتمدناه في الجزء الأول ، ولم نشذّ عنه إلاَّ في أننا ارتأينا حذف عبارات قليلة جداً منه وقد حرصنا على أن لا يؤثر ذلك على المعنى الذي يريده المؤلف أو على سياق الموضوع وتسلسل الأحداث.

نرجو أن نكون قد وفينا بهذا الجهد المتواضع بعض ما علينا تجاه المكتبة التأريخية العربية والله الموفق.

هاشم

٥
٦

الفصل السادس

يرتبط تاريخي البصرة بشكل وثيق بتاريخ العراق الجنوبي بحيث يستحيل فصل إحداهما عن الآخر دون أن يؤدي هذا الفصل إلى الإساءة إلى كمال ووضوح العرض. ولهذا السبب فإننا سنحاول التأكيد بشكل خاص على إبراز الأحداث التي شاركت فيها البصرة بشكل مباشر ضمن التطورات التاريخية لهذه المنطقة.

إنّ جنوب العراق الحالي الذي كان معروفاً منذ القدم قد القبائل المتنقلة في بادية الشام باسم «السواد» أي البلد ذو التربة السوداء (١) ، كان قد وقع قبل الفتح العربي تحت سلطة فارس لعدة قرون. ونقل الساسانيون عاصمتهم سنة ٣٨٠ م إلى طيسفون التي تقع على ضفة دجلة في وسط العراق (٢).

لقد شملت سلطة فارس أيضاً الأقطار المتاخمة للعراق بما فيها ساحل الخليج الذي يعرف في الخرائط الجغرافية باسم «الإحساء» وكان هذا الإقليم الأخير بحكم موقعه في طرف شبه جزيرة العرب أول ما فتحه

__________________

(١) سمي بالسواد لأنه يتصف بكثرة النخيل والزرع الذي يرى من بعيد بلون أسود. (المترجم).

(٢) M. W. Dubeux; La Persa, (Paeis; ١٨٤١), P. ٢٨٣.

٧

العرب بعد أن أتموا نشر الإسلام في داخل شبه الجزيرة وانطلقت القوات الإسلامية يدفعها الحماس الديني لفتح الأقطار المجاورة.

لقد فتحت الجحافل العربية منذ عام (٦٣٣ م) أي في عهد الخليفة أبي بكر أول خليفة للرسول (ص) الإحساء ، ومن هناك بدأت تشن غارات شديدة على جنوب العراق (١). لقد أرسل الخليفة أبو بكر إلي العراق واحداً من أمهر القادة العسكريين العرب هو خالد بن مواليد الملقب بـ «سيف الله» (٢) فخاض هذا عدداً من المعارك الظافرة ضد القوات الفارسية ، واستطاع في وقت قصير أن يطهّر ضفتي الفرات كلتيهما في مجراه الأدنى.

لقد أجبرت ضرورة الوقف بقدم راسخة في جنوب العراق الذي كان بعيداً جداً عن المدينة ـ مركز الخلافة آنذاك ، الخليفة الجديد عمر على أن يقيم هناك معسكراً حربياً دائماً ومنح قائد هذا المعسكر السلطة العسكرية والمدنية العليا في المنطقة المفتوحة. وقد اختير مكان هذا المعسكر بالقرب من الزبير الحالية حيث قامت في عام ٦٣٥ م البصرة التي كانت في بداية الأمر مجرد معسكر حربي يتألف من اكواخ مصنوعة من القصب وسعف النخيل لم تلبث أن استبدلت بسبب الحرائق التي كانت تصيبها باستمرار بأبنية من الطين.

هكذا اصبحت البصرة قاعدة لمواصلة العرب فتحهم للعراق. وقد

__________________

(١) الصحيح أن تحرير العرب للعراق بدأ على يد المثنى بن حارثة الشيباني الذي كان يغير على السواد برجال من قومه حتى قبل أن يكلف أبو بكر رسمياً بذلك. (المترجم).

(٢) لقبه أبو بكر بعد أن قتل مالك بن نويره (رض) وانتزائه على زوجته ليلة مقتله (حميد الدراجي).

٨

تراجعت القوات الفارسية في اشتباكات حامية مع جحافل المسلمين إلى ان انتهت في عام ٦٣٧ م المعركة التي دارت في القادسية بالقرب من الحيرة على بعد عشرة أميال إلى الجنوب من اطلال بابل ، بنصر حاسم للعرب (١) لقد تقرر مصير العراق وانتقل نهائياً إلى سلطة المسلمين بعد ان انقذ يزدجرد ، اخر حكام السلالة الساسانية ، نفسه بالهرب إلى جبال ميديا وفتح العرب طيسفون التي كانت قد تركت لمصيرها واقاموا فيها مسجداً علامة على استقرارهم في القطر نهائياً. ثم تدفق بعد ذلك موجة الفتوحات العربية على فارس نفسها التي انتقلت بالتدريج إلى الاسلام الظافر بعد ان خسر الفرس في عام ٦٤٢ م معركة نهائية الحاسمة التي وقعت إلى الجنوب من همدان.

وفي الوقت نفسه اتخذ الخليفة عمر اجراءات فعالة في العراق لتوطيد سلطة العرب في المنطقة ، فالبصرة التي كانت بعيدة نوعاً ما عن مركز المنطقة المفتوحة كان عليها ان تتخلى عن مكان الصدارة للعسكر الحربي الجديد الذي اقيم في عام ٦٣٨ م بالقرب من النجف الحالية ونعني الكوفة التي نقل اليها المقر الرئيسي (٢). وهكذا لم يبق للبصرة الا اهمية كونها نقطة الارتكاز لجميع التدابير والاعمال العربية الموجهة ضد جنوب فارس وحصناً ضد الهجمات المعادية من جانب هذه الاخيرة.

وعلى الرغم من هذا التضاؤل في اهمية البصرة فأنها أخذت تتحول بسرعة من مجرد معسكر حربي إلى مدينة آهلة كثيرة السكان. وقد ساعد على ذلك بشكل خاص التجار والحرفيون الفرس الذين أخذوا بتوافدون

__________________

(١) J.malcolm,Histoire de la perse tr:de I am glais T.Iparis,١٨٢١), p.٢٥٨ ff.

(٢) K.Rittor,Die Erdkunde von Asien T.VII,Abt. II,(Berlin,١٨٤٤), S.٩٢٦.

٩

إلى هناك وكذلك مجموعات الجواري والعبيد الذين كانوا يجلبون كغنائم للحملات في شرق واخيراً للسبيل المتدفق باستمرار من المستوطنين القادمين من شبه جزيرة العرب بحيث بلغ عدد سكان البصرة بعد خمس وثلاثين سنة من تأسيسها ما بين مائة وخمسين ومائتي ألف نسمة. وكان مظهر المدينة الخارجي يتغير ايضاً مع زيادة السكان فيها ، فقد ظهرت فيها أسواق واسعة تحوي صفوفاً من الدكاكين وبنيت المساجد والمدارس الملحقة بها وبدأت الأكواخ المبنية من الطين تتراجع تدريجياً امام البنابات المشيدة من الطابوق.

لقد رافق هذه التغيرات التي جرت في مظهر المدينة الخارجي تغيرات عميقة في الخصائص الروحية لها ، فالبصرة التي تدين بظهورها للعرب ازداد سكانها من الفرس نتيجة استقرار الكثير منهم فيها ، وقد كان لتأثير الفرس الذين استسلموا للسلطة العربية والذين تميزوا بالنفور من الإسلام بدرجة اكبر من ذلك ، انعكاسات خاصة على البصرة بحيث انه لم يحولها إلى بؤرة للتمردات والانتفاضات المعادية للسلطة فقد وانما جعلها مهداً للخلافات التي حصلت في العام الاسلامي ايضاً.

كانت البصرة والكوفة مدينتي العراق الرئيستين قبل ان تظهر بغداد عام ٧٦٢ م ، فقد استطاعتا على الرغم من حداثة تأسيسهما وبعدهما عن مركزي الاسلام آنذاك - مكة والمدينة - ان تلعبا دوراً بارزاً في حياة شبه الجزيرة العربية نفسها وفي الاحداث التي وقعت فيها بحيث كان الخلفاء مضطرين للاصغاء لصوتيهما.

لقد اصبحت المدينتان كلتاهما مسرحاً للنشاط السياسي منذ عهد الخليفة عثمان. فقد اثار هذا الخليفة الذي كان صهراً للنبي ويأتي ترتيبه الثالث بين خلفائه والذي ينتمي إلى البيت الاموي المشهور في مكة ، القسم

١٠

الاغلب من اصحاب الرسول والمؤمنين من المسلمين بتوزيعه للمناصب العليا في الخلافة على اقربائه. فكان البصريون اول من رفع لواء العصيان ضد صنائع الخليفة الذي كانت شعبيته قد انعدمت وثاروا ضد عاملة الذي لم يستطيع ان يقمع عصيانهم الا بصعوبة.

وبعد عامين من هذه الاحداث أي قبل عام ٦٥٦ م يسجل التاريخ (١) قدوم فصيل من البصريين والكوفيين إلى المدينة نفسها حيث شاركوا بشكل فاعل في العصيان الذي اعقب ذلك وانتهى بمقتل الخليفة عثمان. وهكذا كان سكان المدينتين العراقيتين المذكورتين من بين اولئك المسلمين الذين مزقوا بايديهم تلك الهالة التي كانت حتى ذلك الوقت تحيط بشخص خليفة الرسول (ص). ولم يقتنع المتمردون بذلك وانما لعبوا دوراً بارزاً ايضاً في اختيار بديل للخليفة المقتول اذ كان البصريون قد رشحوا طلحة وهو احد اصحاب الرسول (ص) المقربين في حين رشح الكوفيون الزبير وهو صحابي اخر من اصحاب النبي. اما المصريون فقد رشحوا علياً ابن عم الرسول (ص) وزوج ابنته المحبوبة فاطمة. وبما أن احداً من المرشحين لم يجرؤ على قبول الخلافة من ايدي القتلة خشية ان يتهم بالاشتراك معهم ، فقد كان يمكن ان يطول اختيار الخليفة إلى ما لا نهاية لو لا أن البصريين والكوفيين ، تحولوا إلى جانب علي (ع) فانتهت المسألة لصالحه. لقد وافق علي (ع) على ان يصبح بديلاً لعثمان بشرط أن يعترف به طلحة والزبير اللذين بايعا ، بعد بعض التردد ، علياً وذلك بأن ربتا على يده قليلاً (٢) كما يقتضي بذلك العرف العربي.

__________________

(١) Mannheiem ١٨٤٦), S.٧١٩.) G,Weill, Geschichte der chalifen T.١,

(٢) يقصد صافحاه لان المصافحة هي من متممات البيعة للخليفة. (المترجم).

١١

وقد اعترف بعد ذلك بعلي (ع) خليفة في كل مكان عدا الشام التي لم يرفض حاكمها معاوية الذي اصبح بعد موت عثمان كبير البيت الأموي ، الخضوع لخليفة الرسول الجديد فحسب وانما فعل كل مافي وسعه من أجل ان يثير عليه سكان الشام متهماً إياه بسفح دم سلفه. لقد اقام معاوية اتهامه هذا على عدم مبالاة علي (ع) في اثناء مقتل عثمان وقد ادى ذلك إلى ان يبتعد عن الخليفة الجديد الكثير (١) من سكان المدينة الذين لم يرغبوا لهذا السبب في الاستجابة لدعوة على (ع) لمساعدته في الصراع مع معاوية.

وهكذا لم يبق لدى صهر النبي (ص) الا أمل واحد هو الحصول على الاسناد من العراق ولكن هنا ايضاً سبقه طلحة والزبير ذلك انهما ، وقد بايعا علياً مرغمين (٢) ، كانا قد قررا ان يحاولا استخلاص السلطة منه بالقوة فذهبا لهذا الغرض إلى مكة حيث ظهرا بمظهر المنتقمين لدم عثمان فاستطاعا ان يجذبا إلى صفهما «ام المؤمنين» عائشة أرملة النبي (ص) وان يجمعها ما يقرب من ١٠٠٠ من الانصار اغلبهم من الامويين ثم تحركا بهؤلاء جميعاً إلى البصرة التي كانا قد حاولا ان يمهدا فيها الجو مسبقاً لنجاح مشروعهما.

بعد وصول طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة تحول قسم من سكان البصرة إلى صفهم في حين ظل القسم الاخر وعلى رأسه الوالي عثمان بن

__________________

(١) هذا مخالف للوقائع التاريخية اذ يذكر في هذا المورد عدد قليل جداً ممن امتنع امثال سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر ومحمد بن مسلمه واسامة بن زيد بقسم اقسمه في قضية خاصة به وجماعة من بني أُمية (حميد الدراجي).

(٢) لم يبايعا مرغمين عما مثبت لدى الاثبات من المؤرخين (حميد الدراجي).

١٢

حنيف الذي كان علي (ع) قد عينه قبل ذلك بقليل ، مخلصاً للخليفة. ومن أجل التخلص من الوالي المتعب نظم المعارضون هجوماً ليلياً على بيت ابن حنيف واعتقلوه بعد ان قتلوا حرسه واستدلوا على حكم البصرة. وبالاضافة إلى ذلك امر طلحة بالقبض على جميع انصار علي (ع) دون تمييز واعدامهم باعتبار انهم مشتركون في قتل عثمان. وكان بين الذين اعدموا الكثير من اقارب العائلات الكوفية ذات النفوذ الامر الذي دفع هذه العائلات إلى الانتقال لمناصرة علي بحزم وجر مواطنيهم معهم. وهكذا فعندما اقترب الخليفة ومعه فصيل صغير ، من حدود العراق قادماً من المدينة انضوى تحت لوائه سكان الكوفة وكثير من سكان البصرة.

لقد حدثت بين انصار علي وانصار خصومه بالقرب من البصرة موقعه. اطلق عليها اسم «موقعة الجمل» وذلك لان سقوط الجمل الذي كانت عائشة تشجع انصارها وهي على ظهره قرر نتيجة المعركة لصالح علي (ع) (١). وقد زاد من حسم الموقعة ان خصمي علي (ع) كليهما ازيحا من طريقه ، فقد اصيب طلحة في اثناء المعركة بجرح مميت في حين قتل الزبير بيد أحد الاعراب وهو في طريقه إلى البصرة (٢) عائداً من ساحة المعركة. ولقد مكن مقتل هذين المعارضين علياً من السيطرة على العراق بلا منازع ، فاسرع من جانبه بتعزيز مواقعه فيه وذلك بان نقل مقره من المدينة إلى الكوفة.

لقد اصبح علي (ع) الان يستطيع بالاستناد إلى العراقيين ان يوجه كل قواه للنضال ضد معاوية والي الشام العاصي ولكن رغبته في ان يتجنب

__________________

(١) السالنامة العثمانية الخالصة بولاية البصرة لسنة ١٣٠٩ هـ ص ٢٠٥.

(٢) لم يعد إلى جهة البصرة وإنما اتجه غرباً إلى سفوان قريباً من جبل سنام.

١٣

باي ثمن سفك المزيد من دماء المسلمين حكمت على قضيته بالفشل وقضت عليه هو نفسه. ففي معركة صفين الحاسمة على الفرات التي خاضها ضد جيش الشام وفي اللحظة التي مال فيها النصر إلى جانبه وافق على الهدنة وهدفه (١) من ذلك حل نزاعه على الخلافة مع معاوية عن طريق التحكيم.

ان مثل هذه النتيجة السلمية للصراع مع الامويين لم تكن قد دخلت ابداً في حساب المسلمين الاتقياء الصالحين الذي كانوا قد انضموا إلى علي (ع). لقد وضع هؤلاء المسلمون المتزمتون الذين خرجوا من جيش علي (ع) اساساً لفرقة خاصة اصبح منتسبوها يسمون «الخوارج» لانهم يعتقدون بانهم انفصلوا عن عديمي التقوى وخرجوا إلى طريق الله (٢).

لقد اكتفى هؤلاء في البداية بالدعوة إلى ان الخليفة الذي يحيا حياة لا تمييز بالتقوى والذي يخرج على تعاليم الدين يخضع للشك ، وللجماعة الحق في ان تختارل بدلاً منه شخصاً اكثر استحقاقاً حتى لو لم يكن من قبيلة قريش التي ينتمي اليها النبي (ص). وقد تحولت هذه الدعوات المتواضعة بمرور الزمن إلى تعاليم تؤكد السيادة المطلقة للجماعة الامر الذي اعطى فرقة الخوارج صيغة ديمقراطية (٣) بحتة وجعلها مفهومة ومقبولة في نظر البدو الذين يحبون الحرية ، فانضم هؤلاء باعداد كبيرة إلى تلك الفرقة الامر الذي ادى إلى ان يسودها الطابع العربي. كذلك وجد

__________________

(١) أ. ميللر تاريخ الاسلام ، اشرف على الترجمة ن. أ. مدنيكوف ، ح ١ ، بطرسبورغ ١٨٩٥ ، ص ٣٦١ [بالروسية].

(٢) لم يكن ذلك هدفه وإنما فرض علي (ع) بعد رفع المصاحف.

(٣) بعد سطور ستتضح ديمقراطيتهم المزعومة (حميد الدراجي).

١٤

الخوارج اتباعاً عديدين لهم بين ممثلي الطبقات العاملة الذين جذبهم شعار الاخوة والمساواة الذي اصبح فيما بعد المبدأ الاساسي في تعاليم الخوارج (١).

ذهب الخوارج الذين انفصلوا عن قوات علي (ع) إلى موضع يعرف بالنهروان ويقع بالقرب من بغداد الحالية حيث اعلنوا عزل الخليفة واختاروا بدلاً منه في عام ٦٥٨ م شخصاً اسمه عبدالله بن وهب. ولم يكتفوا بذلك بل اخذوا ينشرون تعاليمهم بالقوة ويجبرون وتحت التهديد بالموت ، جميع من كان يقع في ايديهم على ان يلعن علناً الخليفتين عثمان وعلياً اللذين كانا حسب اعتقادهم قد اذنبا في تصرفاتهما وطريقة عملهما بحق المعتقد الاسلامي.

ولم يلبث تعصب هذه الفرقة ان فاق كل حد مسموح به الامر الذي اجبر علياً على ان يوجه ضدهم جيشاً كبيراً الحق بالخوارج عدة هزائم جديدة واجبرهم على ان يتفرقوا في مختلف انحاء العراق وعربستان واقاليم فارس المجاورة غير ان هذا الاجراء لم يمر بالنسبة لعلي بدون رد اذ لم يلبث ان سقط في بداية عام ٦٦١ م بيد الخارجي [عبد الرحمن] بن ملجم (٢) الذي انتقم للملاحقة التي تعرض لها اخوانه في المعتقد. لقد دفن علي (ع) في جامع الكوفة الرئيس (٣). وبعد ان تهدم الجامع بنى في المكان

__________________

(١) R. Dozy, Essai Sur I islamisme Trad. De hollandaise par Chauvin. (Leyde, ١٨٧٩), p. ٢١٣ FF

(٢) كان مقرباً من عمرو بن العاص في مصر لفترة طويلة ولا تخفى على الليدي المؤامرة (حميد الدراجي).

(٣) مدفنه عليه السلام في ظهر الكوفة وهي النجف والمواضع الاخرى التي ذكرها المؤرخون قسم منها مزعزم والآخر كان تعمية من أهل البيت (ع) حتى لا يعتدى على الجسد الطاهر من بني أمية والخوارج (حميد الدراجي).

١٥

الذي دفن فيه جامع جديد وظهرت مدينة جديدة هي النجف التي يتوافد اليها الزوار الشيعة من جميع انحاء العالم.

وفي البصرة التي اختارها الخوارج لتكون مركزاً لنشاطهم لم تتوقف طيلة سنوات عديدة بعد وفاة علي (ع) تمردات وانتفاضات افراد هذه الطائفة الذين كانوا يناضلون بقوة السلاح ضد الخليفة الاموي الاول معاوية. فلقد استطاع والي الشام السابق وخصم على (ع) معاوية ان يصبح خليفة بعد ان ابعد الحسن (ع) الحفيد الاكبر للنبي (ص) الذي كان في رأي الخوارج اقل استحقاقاً من ابيه علي (ع) الذي كان قد قتل بيد احد اتباعهم كما رأينا.

لقد ازدادت حراجة الوضع بالنسبة للخليفة الجديد نتيجة لرفض والي فارس زياد الذي كان الخليفة السابق قد عينه في هذا المنصب مبايعة معاوية واخذ يثير بمساعدة اولاده اضطرابات الخوارج في البصرة (١) ولكن معاوية الداهية لم تتملكه الحيرة ، في هذا الوضع الصعب ، فقد بادر إلى تعيين زياد هذا والياً على البصرة وهو مقتنع بانه لا احد يفضله في مقدرته على تهدئه الثورة التي اشعلها هو نفسه (٢). وقد فاقت نتائج هذا الاختيار حتى توقعات الخليفة نفسه فزياد الذي كان على معرفة جيدة بالوضع وبالناس في هذه المنطقة ، اثبت منذ ان كان في فارس انه حاكم قدير بالرغم مما كان يتصف به من القسوة وعدم الرحمة ، ولهذا فانه كان ذلك الاداري الذي يتطلبه بالضبط الوضع في ذلك الوقت في اصعب ولاية في الخلافة كلها.

__________________

(١) ليس لذلك ما يوثقه تاريخياً. (المترجم).

(٢) Weill, Op.eit. T.١s.٢٧٠

١٦

لقد ادخل زياد الذي كان قد تعرف في اثناء وجوده في فارس على التنظيم الحكومي فيها ، الكثير من التغيرات في البصرة ، فقد اتخذ لنفسه بمجرد ان تولى مهام منصبه في عام ٦٦٥ م فصيلاً خاصاً من الحرس مسلحين بالرماح والهراوات كانوا يرافقونه في كل مرة يخرج فيها للناس. كما اسس لاول مرة في البصرة حرساً كثير العدد من الشرطة وأناط بهم مراقبة دقة تنفيذ اوامره الموجهه نحو تهدئة المدينة.

وفي الوقت نفسه أخذ زياد يطارد الخوارج بلا رحمة بحيث كانوا يعتقلون حيثما ظهروا في حدود ولاية البصرة ويقتل منهم الاكثر خطراً واقلاقاً دون أي تروٍ ، بل حتى التستر على الخارجي كانت عقوبته صارمة. هكذا لم يعد يسمع طيلة السنوات الخمس التي قضاها زياد في البصرة ، عن الفوضى أو التمرد وبدا الامر كما لو ان الخوارج قد جرت تهدئتهم نهائياً وقمع نشاطهم المضر بالامويين. ولكن القلاقل والاضطرابات التي اثارها افراد هذه الفرقة مباشرة بعد تعيين زياد والياً على العراق كله ونقله لمقرّه إلى الكوفة اظهرت مدى خطأ هذا الاعتقاد. صحيح ان سمرة بن جندب الذي تركه زياد مساعداً له في البصرة كان يماثل رئيسه في الشخصية وبدأ بسرعة وبهمة بالاقتصاص من الخوارج فاعادت قسوته حكم زياد إلى الاذهان ، لكنه لم يلبث ان اقيل بعد وفاة الوالي الذي كان يحميه مباشرة. اما عبد الله بن غيلان (١) الذي عين والياً على البصرة للمرة الثانية فقد ظهر انه لا يصلح لمكافحة الخوارج الامر الذي حتم على الخليفة اقالته ولم يمض على تعيينه غير وقت قصير ، وعين بدلاً منه لحكم البصرة عبيدالله وهو ابن زياد الراحل.

__________________

(١) الصحيح : عبد الله بن عمرو بن غيلان. (المترجم).

١٧

بدأ هذا الاخير حكمه باطلاق سراح جميع الخوارج من السجون على امل ان تمكنه اجراءات اللين هذه من جذب افراد الفرقة إلى صف الحكومة. ولكن الخوارج اعتبروا هذا التساهل ضعفاً فأخذوا يزاولون نشاطهم المعتاد بروح هجومية اكبر ناشرين الفوضى في كل مكان ومثيرين الفتنة تلو الفتنة ، فاقتنع عبيد الله بخطإه وبدأ يمارس ضدهم اضطهاداً كاد ان يكون قسوة مما كان على عهد ابيه زياد وقد رد الخوارج على ذلك بقتل الذين كانوا ينفذون اعدام شركائهم في العقيدة بامر من الحكام.

وفي هذه الاثناء عهد معاوية الذي كان يرغب في ان يطمئن قبل أن يموت إلى اسناد الحكم من عبده إلى ابنه يزيد ، إلى استدعاء جميع الولاة إلى دمشق لاخذ البيعة لابنه يزيد. وكان في مقدمة هؤلاء الولاة عبيد الله بن زياد لان معاوية كان يعلق اهمية كبيرة على موقف اهل البصرة في هذه المسألة. لقد عارض عبيد الله في بداية الامر تعيين يزيد ولكن الهدايا والوعود جعله يتخلى عن معارضته هذه. وعندما ارسل الخليفة الجديد يزيد بعد وفاة ابيه إلى مختلف انحاء الدولة يطلب اخذ بيعة الناس نفذ عبيد الله طلبه هذا في البصرة دون أي اعتراض.

ولكن يزيد مع ذلك لم يستطيع ان يتجنب الصراع حول الخلافة ، فكان من بين الذين امتنعوا عن مبايعته كل من الحسين (ع) ، الابن الثاني لعلي (ع) من فاطمة ابنة الرسول (ص) وعبد الله بن الزبير الذي خسر أبوه «معركة الجمل» وقد كانا يعيشان في المدينة ولكل منهما حق في الخلافة لا يقل عن حق ابن معاوية ولهذا فانهما كانا بالنسبة له منافسين خطرين. وكان للصراع الذي دار بينهم حول السلطة والذي كان مسرحه العراق بالدرجة الاولى نتائج في غاية الاهمية بالنسبة للعالم الاسلامي بأجمعه.

لقد استطاع الحسين (ع) ان يرشح نفسه اعتماداً على مساندة انصار

١٨

ابيه (ع) الذين كانوا ما يزالون موجودين في الكوفة باعداد كبيرة. فقبل ذلك وعندما انتخب الخوارج الذين انسحبوا إلى النهروان في عام ٦٥٨ م خليفة جديداً لهم دفع هذا الخرق الفاضح لحقوق الخليفة الشرعي على أقارب علي واصدقائه ومريديه إلى ان يشددوا من تكتلهم حوله رافعين شعار عدم استبدال خليفة الرسول (ص). وقد اطلق على انصار علي (ع) منذ ذلك الوقت اسم «شيعة علي» ومعناها الحرفي : حزب أو جماعة أو اتباع علي (ع). وقد اصبح هؤلاء الشيعة الذين كانوا يتألفون في البداية من العرب الاقحاح خصوماً للامويين الذين هم في نظرهم مجرد مغتصبين للسلطة.

وقد اعتاد الشيعة تحت ضغط يد زياد الحديدية على البقاء مسالمين ولكن بمجرد ان وصلهم خبر امتناع الحسين (ع) عن مبايعة يزيد واعتكافه في مكة بادروا إلى التحرك ودعوا حفيد الرسول (ص) للقدوم إلى العراق بعد ان وعدوه بأن يدافعوا بقوة السلاح عن حقه في الخلافة.

وفي الوقت الذي كانت فيه حركة الشيعة تتعاظم في الكوفة وتتخذ حجماً ينذر بالخطر وعلى الاخص بعد ان وصل إلى هناك انصار الحسين (ع) لم يستجب احد في البصرة على الرغم من وجود عدد لا يستهان به من الشيعة فيها وعلى الرغم من النداءات الحارة التي وجهت من الكوفة (١) للنهوض من أجل القضية العادلة ، وذلك خوفاً من الوالي الصارم عبيد الله.

وبادر يزيد بعد ان وصلته اخبار الخطر الذي يجري اعداده فأمر عبيد

__________________

(١) وجهت من مكة حيث كان الامام الحسين (ع) فيها وقد استجاب عدد لا يستهان به لدعوته (ع) عما هو ثابت تاريخياً (حميد الدراجي).

١٩

الله بأن يسلم حكم البصرة لاخيه ويتجه إلى الكوفة لقمع الشيعة (١) وقد باشر ابن زياد العمل بنشاط فالقى في البداية خطبة في الجامع تضمنت تهديدات شديدة لانصار الحسين (ع) بحيث لم يلبث ان قل عددهم لدرجة محسوسة ، ثم قبض على مبعوثي حفيد النبي (ص) واعدامهم بقسوة.

وهكذا فعندما اقترب الحسين (ع) الذي لم يتأت له ان يعرف في الوقت المناسب ما جرى في الكوفة (٢) ، ومعه انصاره من حدود العراق تحتم عليه ان يتخلى عن أي امل في نجاح قضية ولم يبق امامه الا ان يبايع يزيد أو يموت في صراع غير متكافيء ضد قوات كثيرة العدد وجهها ضده حاكم الكوفة. لقد كان الحسين (ع) مستعداً للاعتراف بابن معاوية ولكن بشروط معينة (٣) غير ان عبيدالله بن زياد عمل بنصيحة احد مقربيه وهو الشمر بن ذي الجوشن فطالبه بالاستسلام دون قيد أو شرط. وقد رفض حفيد الرسول (ص) هذا الطلب المهين وفضل ان يموت مع من رفض ان يتخلى عنه في اللحظة الحرجة من اقاربه واصدقائه وكان عددهم ١٥٠ (٤) شخصاً.

لقد سقط الحسين في العاشر من محرم عام ٦٨٠ م في موقع كربلاء مطعوناً برمح وسهام الجنود الذين كان يقودهم الشمر نفسه. وقد قطعت رأس حفيد الرسول ونقلت إلى يزيد في دمشق اما جسده فقد دفن في كربلاء نفسها.

لقد تحول العراق إلى مسرح للصراع القومي بين الفرس والعرب ،

__________________

(١) Weil, Op. Cit. T. ١, S. ٣٠٦

(٢) بل كان يعرف الوضع تماماً (حميد الدراجي).

(٣) هذا غير صحيح فقد ثبت عنه في كل خطاباته وكلماته رفضه للبيعة نعم ذكر عمر بن سعد ذلك في رسالته إلى ابن زياد ليتجنب ما كلّف به. (حميد الدراجي).

(٤) الصحيح ٧٢ شخصاً. (المترجم).

٢٠