ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

الكسندر أداموف

ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٣
  الجزء ١ الجزء ٢

الطينية وادت إلى انهيارها فانطمر تحت انقاضها من ابقى عليهم المرض من السكان. وفي بداية ايار انحسرت المياه ولم يلبث ان توقف المرض هو الاخر. ولكن مع حلول الحر ادت ابخرة البرك المائية التي خلفها الفيضان ونتانة الجثث الاخذة في التفسخ في خندق المدينة إلى ظهور حمى خبيثة قاتلة كالطاعون الذي ولى (١). وبالاضافة إلى ذلك كله حلت في المدينة ، نتيجة لعدم وجود المواد الغذائية مجاعة ذهب ضحيتها عدد من السكان في الوقت الذي كانت فيه عصابات للنهب تجوب المدينة الخاوية فتدخل البيوت وتنهب الممتلكات التي ظلت دون صاحب وتجهز على المرضى الذين تصادفهم في طريقها.

لقد ظل علي رضا باشا مع جيشه ساكناً ينتظر باطمئنان نهاية هذه الكوارث التي اناخت على بغداد ولم يتحرك من حدود الباشوية الشمالية الا بعد ان انتهى الطاعون تماماً من المدينة سيئة الحظ. بعد ذلك فقط حاصرت قوات علي رضا باشا وقاسم باشا حاكم الموصل وصفوك شيخ شمر المدينة وبدأت تدك اسوارها بالمدفعية (٢). والواقع ان جنود داود باشا الذين ظلوا على قيد الحياة دافعوا عن المدينة بشجاعة لبعض الوقت ، إلى ان ادت الخيانة إلى مساعدة المهاجمين وفتحت لهم ابواب المدينة (٣) وقد تمكن داود باشا من المحافظة على حياته بفضل تنازله عن جميع كنوزه وبسبب وساطة بريطانيا فنقل مصفداً بالاغلال إلى اسطنبول وظل هناك إلى ان عفا عنه السلطان فيما بعد ومات في عام ١٨٥٠ في اثناء تأديتة فريضة

__________________

(١) Wellsted, OP. Cit. vol. l P. ٢٩٤.

(٢) Fraser, OP Cit vol. l P. ٢٦٢.

(٣) Ritter, OP. Cit. T. VII Abt. II. S. ٨٣٦ - ٨٣٧.

٢٢١

الحج إلى مكة ودفن في تلك المدينة (١). وهكذا كان الطاعون هو وحده الذي اعاق تحقيق طموحات هذا الحاكم العراقي القوي ، الذي اسس لنفسه جيشاً مدرباً على النمط الاوربي وجمع خزينة عامرة وكان يحلم بان ينفصل عن الدولة العثمانية ويصبح حاكماً مستقلاً للمنطقة الشرقية من المبراطورية العثمانية على غرار معاصره الشهير محمد علي حاكم مصر. لقد انتهى في شخص داود باشا اخر ممثل لسلالة سليمان الكبير أو ما يسمى بسلالة العبيد الجورجيين (المماليك) الذين حكموا العراق طيلة نصف قرن ، باستثناء فترة قصيرة.

__________________

(١) T. M. Lycklama aNijeholt, Voyage m Russie, eu Cacase, en Perse etc. T. III. (Paris, ١٨٧٤) p. ١٤١.

٢٢٢

الفصل التاسع

يؤشر حكم علي رضا باشا بداية المرحلة الثالثة من تاريخ العراق ، وهي المرحلة التي تتميز بتوطيد علاقات هذه المنطقة مع بقية الدولة العثمانية وبسعي ولاتها إلى ادخال منجزات الحضارة الاوربية اليها. وكان هؤلاء الولاة مجرد موظفين لدى الباب العالي يعينون من اسطنبول مباشرة. وقد شملت التغيرات التي جرت في وضع العراق ، اقليم البصرة بالطبع ولكنها لم تؤدِّ إلى منحه استقلالاً ادارياً حتى الربع الاخير من القرن التاسع عشر خاضعاً خضوعاً تاماً لباشا بغداد. ولهذا السبب يتحتم علينا ان نواصل سرد تاريخ البصرة بالارتباط الوثيق مع سير الاحداث التاريخية في بغداد.

كانت باشوية بغداد التي وصلت إلى حاكم العراق الجديد علي رضا باشا - بعد ان تعرضت للعديد من الكوارث الطبيعية - قد تحولت إلى منطقة شبه جرداء خالية من السكان. لقد اصبحت هذه المنطقة المزدهرة التي لم تكن تقل في غناها الا عن نفسه بالمطالبة بها عندما كان مايزال والياً لحلب. يكفي ان نذكر بان بغداد ، المدينة الرئيسة في الباشوية ، لم يبق بها من المئة والخمسين الفاً من السكان ، على ما يذكره شاهد عيان عاش فيها في فترة الطاعون ، اكثر من عشرين الفاً وان ثلثي المدينة كان عبارة اطلال من الخرائب (١). لقد اختفت كثير من فروع الصناعة المحلية نهائياً

__________________

(١) Wellsted; OP. Cit, vol. l, p. ٢٩٤.

٢٢٣

بسبب وفاة جميع الاسطوات فلم بعد هناك من يمكنه ان ينقل معارفه للجيل الجديد (١). ولم يكن وضع البصرة بافضل من ذلك فقد امر متسلمها في ذروة الطاعون باغلاق ابواب المدينة منعاً للسكان من الهرب فادى ذلك إلى ان تكون نسبة الوفيات في المدينة اعلى منها في بغداد ، ولذا فلم يبق في البصرة بعد الطاعون من سكانها البالغ عددهم ثمانين الفاً الا عدد يتراوح ما بين خمسة إلى ستة آلاف نسمة (٢). لقد كان الخراب الذي سببه الوباء هنا كبيراً إلى درجة ام المفوض الروسي العقيد تشري كوف - الوسيط في تخطيط الحدود العثمانية - الفارسية ، الذي زار البصرة في ١٨٤٩ أي بعد ثمانية عشر عاماً من انتهاء الوباء - وجد ان كل اربعة من خمسة دور في المدينة مهجوراً وان اغلبية الدكاكين في السوق الجديد الذي بناه داود باشا - الذي كان قد غادر مسرح الاحداث قبل قليل - كانت خالية أو ليس لها اصحاب (٣). ولم تكن الاحوال بافضل من ذلك بل ربما كانت اسوأ في انحاء العراق الاخرى ، فقد اقفر الجزء الاغلب من القرى والمستوطنات واصبحت معدومة السكان. لقد كان الحال كذلك في الحلة مثلاً حيث لم يبق كم سكانها العشرة ألاف على قيد الحياة الا بضعة اشخاص فقط. ولهذا فليس هناك مايدهش مع وجود مثل هذا النقص الهائل في السكان ، في ان تبور الحقول وتهمل البساتين. اما بساتين النخيل فكانت تذوب نتيجة لانعدام العناية فتزيد بذلك من الخراب الاقتصادي الذي هو كبير اصلاً في هذه المنطقة.

__________________

(١) Fraser; OP. Cit. vol. l, p. ٢٥٢.

(٢) Ibid. p. ٢٥٤.

(٣) تشيريكوف ، المصدر السابق ص ٤٩.

٢٢٤

ومما زاد من الصعوبة الوضع الذي كان والي العراق علي رضا باشا يعاني منه القبائل المحلية التي لم تعد تمسك بها يد داود باشا القوية وجيشه النظامي تحركت مجدداً واخذت تستعد كعادتها لتصفية الحساب مع حاكم بغداد الجديد ، وكان علي رضا باشا لسوء حظه قد اثار ضده عندما كان يتقدم باتجاه بغداد ، المنتفقيين وذلك بتحالفه مع اعداهم الالداء شمر جربة. ولهذا فقد تحتم على الباشا ان يهتم قبل كل شيء بالمنتفقين وشيخهم عجيل الذي نصبه داود باشا وهدفه ان يتلافى جهد الامكان مظاهر العداء الصريح من جانبهم. وقد لجأ في ذلك إلى استخدام نفس التكتيك الذي اعتمده حيث بادر إلى استغلال هروب الاخ الاكبر لعجيل وكان داود باشا يحتفظ به شبه سجين في بغداد ، ولجوئه والطاعون في ذروته إلى معسكر علي رضا باشا فساعده على ان يكوّن لنفسه بين المنتفقين حزباً قوياً يستطيع به ان ينازع اخاه السلطة بقوة السلاح. وهكذا وقعت المعركة الحاسمة بين انصار الاخوين بالقرب من اطلال واسط على شط الحي وكان النصر فيها قد مال في البداية نحو عجيل ولكنه لم يلبث ان تحول إلى اخيه بسبب اصابة الفرس التي كان يركبها عجيل بجرح ادى إلى سقوطها فعجل فرسان الاعداء بطعنه برماحهم (١). وقد افضى موت عجيل إلى نشوب نزاعات داخلية جديدة بين المنتفقيين فادى ذلك إلى انشغالها بنزاعاتهم وخلافاتهم الداخلية هذه عن القيام بنشاط معادٍ للباشا وعن المشاركة في الاضطرابات العامة التي شملت العراق.

كان المسؤول عن هذه الاضطرابات قبيلة شمر جربة وشيخهم صفوك ، فقد اخذوا يطالبون علي رضا باشا بالمكافآت والامتيازات

__________________

(١) Wellsted; OP. Cit. vol. ١, p. ١٩٩ - ٢٠٠.

٢٢٥

المختلفة التي وعدهم بها مقابل مساعدتهم له في الاستيلاء على بغداد ، ولكن الباشا استكثر مطاليبهم فرفضها ، الامر الذي حدا بصفوك إلى ان يضرب حصاره على بغداد طيلة ثلاثة اشهر كاملة إلى ان حل الشتاء فاجبر الشمريين على الابتعاد إلى الصحراء. ولما كان علي رضا باشا لا يملك من القوات ما يكفي للقضاء على صفوك الذي كان سيعود بعد انتهاء البرد مع انصاره لمواصلة عملياته الحربية ضد بغداد فقد قرر مجابهته بالعرب انفسهم (١). وفي بحثه عن الحلفاء توجه إلى قبيلة عنزة القوية التي كانت شمر على عداء معها ، لان عنزة التي خرجت من نجد بعد شمر دخلت معهم في صراع عنيف للسيطرة على الصحراء السورية وتمكنت من ابعادها إلى ما بين النهرين وشمال العراق (٢).

بعد ان ضمن علي رضا باشا مساعدة عنزة بزرع الشقاق بين افراد شمر جربة انفسهم (٣) فعمد إلى منح «شلاش» اخي صفوك رتبة باشا وعينه شيخاً لشمر جربة بدلاً من أخيه. وبعد ان علم صفوك بوصول فصيل من عنزة يتألف من ٣٥ ألف مقاتل لمساعدة علي رضا وازدادت مخاوفة من اشتداد المنازعات في داخل قبيلته نتيجة لتعيين شلاش ، تخلى عن نيته بالاستيلاء على بغداد واسرع بالانسحاب إلى الشمال. اما حاكم بغداد الذي لم يعد بحاجة إلى مساعدة عنزة فقد قرر ان ينتهز اول حجة ملائمة لابعاد

__________________

(١) Ritter; op. Cit, T. VII Abt. IL S. ٣ FF.

(٢) Blunt, OP. Cit. vol. II pp. ١٧٥ - ١٧٩.

(٣) تعرف عشائر شمر التي تنتقل بين اورفا ونصيبين والموصل من جهة وبغداد والفلوجة من جهة اخرى باسم شمر جربة وذلك بخلاف شمر طوقه التي تشمل منطقة تنقلها المنطقة الواقعة بين بغداد وكوت الامارة والسماوة.

٢٢٦

هولاء البدو الخطرين على أمن البلاد. غير ان هؤلاء لم يكونوا ميالين للعودة خالي الوفاض فحاولوا في السنة نفسها أي في ١٨٣٤ نهب بغداد لكن الباشا تمكن من صد المهاجمين ثم استدعى شلاش لمساعدته فبادر هذا بالقدوم مع مقاتليه على الفور واشتبك مع عنزة عند اسوار بغداد لكن النصر كان حليف عنزة فمات شلاش في ارض المعركة وقضي على فصيله. وبعد ان سمع صفوك باندحار جزء من قبيلته على يد اعدائهم الالداء لم يصبر على العار وهب ضد عنزة على الفور. وقد احرز صفوك النصر في الصدام الجديد ولكن بصعوبة كبيرة ، فقد انجدته في اللحظة الحرجة قبيلة زبيد المتحالفة معه واستطاعت بفضل قواتها الجديدة ان تتغلب على عنزة وتبعدهم الي الصحراء. وقد اشتهر بعد هذا النصر اسم «صفوك» في العراق باجمعه واصبح له عدد كبير من الحلفاء بين القبائل العربية المحلية بحيث تحول الشمريون الذين كانوا حتى هذا الوقت مغمورين إلى قوة رهيبة تحتم على باشا بغداد ان يحسب لها الحساب.

وهكذا واجهت هذا الاخير مهمة جديدة وصعبة هي كسر شوكة شمر التي تكونت ، لحدٍ ما ، نتيجة لجهوده هو ان كان ذلك قد جرى رغم ارادته. ولم يكن علي رضا باشا يستطيع التخلص من هذا الخصم الا بالاستناد على المنتفقيين الذين يساوون شمر بالقوة ، ولهذا فقد استغل كل الوسائل المتوفرة لكي يحل بين المنتفقيين السلم الضروري جداً له. وقد تمكن من مصالحتهم بفضل موافقة الفرقاء المتنازعين كلهم على ترشيح الشيخ عيسى الذي كان يتصف بالنزعة الحربية وبالمهارة والنشاط وكان يتميز بصفات مهمة جداً في نظر العرب ونعني حُسن الضيافة والكرم إلى درجة الاسراف الذي فاق عنده كل حد ، حتى انه كان يطبخ يومياً لاطعام

٢٢٧

من يأكل في خيمته من ابناء القبيلة ، على ما يذكر اينزورث (١). الذي زار الشيخ عيسى شخصياً ، ما لايقل عن ٣٠ ـ ٤٠ خروفاً محمراً إلى جانب اكوام من الرز المسلوق تقدم في جفنات بالغة السعة. ولهذا فقد كان من الطبيعي ان يحرز هذا الشيخ المضياف حباً وتعاطفاً شاملين ويوحد حول شخصه المنتفقيين الذين كان بعضهم يعادي البعض الاخر قبل ذلك. ولم يتردد الشيخ عيسى بعد ان تعزز وضعه بين المنتفقيين في محاربة شمر واستطاع في المعركة التي حصلت بين الطرفين ان يطعن بيده احد شيوخهم وهو بني فقطع رأسه وارسله غنيمة إلى باشا بغداد (٢). ولم يسكت الشمريون من جانبهم على الثار فقتلوا في اول صدام جديد الشيخ «عقيل» اخا عيسى ، الامر الذي ادى إلى عمليات ثأر دموي لا تنتهي بين شمر والمنتفقيين وتفاقمت العداوة التي كانت قائمة بينهما منذ زمن طويل فلم يعد علي رضا باشا يخشى قيام عرب العراق بانتفاضة شاملة واصبح بامكانه ان يهتم وهو مطمئن بالشؤون الاخرى للمنطقة التي يحكمها.

في هذا الوقت بالذات اصبح الوضع في كردستان التي تتاخم باشوية بغداد من الشمال ينذر بالخطر بالنسبة إلى الدولة العثمانية ونضجت هناك احداث ذات اهمية سياسية من الطراز الاول. ويحتم علينا توضيح اسباب الحركة الجديدة في كردستان ان نتعرض للحديث بشكل مختصر عن الوضع الاستثنائي الذي استطاع ان يكوّنه لنفسه والي مصر محمد علي. فقد استطاع ابنه ابراهيم باشا الذي انتصر على الوهابيين ان يستولي على سوريا في ١٨٣٢ وان يحطم في ثلاث معارك متعاقبة القوات العثمانية التي ارسلها

__________________

(١) Ainsworth, OP. Cit. vol. II,p. ٧٩ - ٨٠.

(٢) Ainsworth, OP. Cit. col. II, p. ٧٨ FF.

٢٢٨

السلطان محمود الثاني ضده فلم يبق والحالة هذه امام محمد علي عقبات تعيقه عن الزحف نحو اسطنبول. ولعله ما كان ليتردد اما تعيير مصير الدولة العثمانية تغييراً تاماً لولا تدخل فرنسا وبريطانية وروسيا التي اقنعت السلطان بالموافقة على ان يتنازل لتابعه عن سوريا ومعها ولاية أطنة (١). وهكذا اصبح والي مصر مالكاً للجزء الامامي من الطريق التاريخي المؤدي إلى الهند عبر وادي الفرات الامر الذي يمكنه ، لو استولى على العراق ، من الاستحواذ على جميع فوائد التبادل التجاري بين الهند واوربا عبر سوريا والخليج الفارسي ، علماً بان محمد علي لم يخف تطلعه إلى هذه المنطقة وكان يعبر في كل مناسبة تسنح عن اسفه لانه لم يستولِ على باشوية بغداد ايضاً (٢).

ولهذا فقد تحتم على السلطان العثماني ان يفكر جدياً بحماية هذه المنطقة الواسعة من تطاولات تابعة المصري سيما ان المثل الذي ضربه هذا الاخير وتحريض مبعوثية اثار لدى البيكات الاكراد آمالاً مُبالغ بها بالانفصال التام عن الدولة العثمانية. وقد اظهر الاكراد فعلاً بقيادة زعمائهم الاساسيين محمد بيك الراوندورزي ووَعْدِيْ خان بيك وسعيد بيك واسماعيل بيك (٣) ، رغبة تامة بالاستقلال ، بحيث تحتم على الحكومة العثمانية ان ترسل في صيف ١٨٣٣ حملة تأديبية قوية بقيادة والي سيواس النشطِ رشيد باشا إلى كردستان لاخماد تلك الحركة. وبعد ان تمكن رشيد

__________________

(١) lavallee, OP. Cit. T. II, PP. ٣٤٦ - ٣٥٠.

(٢) Lavallee; OP. Cit. T. II, note p. ٣٥٠; Fontnier; op. cit. T. l, p. ١٦.

(٣) Ma re chal de Moltke; Lettres sur l orlent; trad. De l allemande, (paris, ١٨٧٢), p. ٢٤٣.

٢٢٩

باشا هذا من تشتيت فصائل الاكراد المتقدمة طلب منه السلطان ان يتوغل في قلب كردستان بنفسه ليعيد الهدوء إلى هناك وارسل لمساعدته على تحقيق هذه المهمة كلا من علي رضا والي بغداد ومحمد باشا حاكم الموصل (١). وهكذا قام جيش عثماني تعداده اربعون الف مقاتل يقوده رشيد باشا المذكور بالتوغل في صيف ١٨٣٤ في بلاد الاكراد الجبلية من ثلاث جهات ، وهناك كان عليه ان يخوض صراعاً صعباً مع خصم كان يحتمي بالسلاسل الجبلية التي يصعب الوصول اليها أو في الشعاب التي يعتذر اجتيازها. وقد ازدادت المصاعب التي واجهتها الحملة بسبب النقص الدائم في الذخائر الحربية نتيجة للصعوبات الهائلة التي يواجهها عند نقلها وكذلك بسبب الظروف الصحية السيئة التي كانت سائدة في القوات العثمانية واسلوب حرب الانصار الذي اعتمده الاكراد ولهذا فقد تطلب اسقاط كل زوج من المقاتلين من اوكارهم العالية جداً على رؤس الجبال ما يقارب الثلاثين أو الاربعين يوماً في الاقل (٢). وبالرغم من كل ذلك نفذ رشيد باشا بشكل رائع الواجب المُلقى على عاتقه واشاع الهدوء في جزء لا يستهان به من كردستان واجبر القائد الاساسي للثوار هناك محمد بيك الراوندوزي على الاستسلام فارسله إلى اسطنبول وهناك حصل على العفو من السلطان بعد ان اظهر ندمه على ما فعل. لكن الصراع مع القبائل الكردية المتمردة الاخرى استمر بعد ذلك إلى ان تمكن حافظ باشا الذي خلف رشيد باشا بعد موته في ١٨٣٦ ، بعد مصاعب جمة ، من كسر مقاومة

__________________

(١) M. B. Poujoult, Voyage dans l Asie Mineuree, en Mesopotamie etc. (Paris, ١٨٤٠). P. ٣٧٣ - ٣٧٤.

(٢) Moltke; OP. Cit. p. ٢٤٣.

٢٣٠

الاكراد نهائياً واشاعة الهدوء في ربوع كردستان العثمانية.

لم يشارك حاكم العراق علي رضا باشا في الجزء الاخير من الحملة العثمانية ، بعد موت رشيد باشا وذلك لان وجوده في بغداد كان ضرورياً لمراقبة ما يسمى بـ «بعثة الفرات» وهي البعثة التي جرت تحت قيادة العقيد جسني لانشاء مواصلات بواسطة السفن التجارية في نهر الفرات. فقد كانت حكومة الهند البريطانية مهتمة بالبحث عن اقصر طرق الاتصال بين الهند والمتربول (١) وجربت جميع الطرق لهذا الغرض. ففي نهاية القرن الثامن عشر أنشئ خط ملاحي لسفن شركة الهند الشرقية بين مومباي والبصرة كان السفر فيه يستغرق اسبوعين ينقل البريد بعدها من البصرة تحت اشراف مقيمي الشركة في البصرة وبغداد وبواسطة العرب على جمال سريعة إلى حلب عبر الصحراء السورية ، ومن هناك ينقله الفرسان التتر إلى اسطنبول (٢). وبعد ذلك مباشرة جرت تجربة الطريق المار عبر البحر الاحمر ومصر حيث كانت سفن الشركة تجلب البريد إلى ميناء القصير على البحر الاحمر ، ومن هذا الميناء ينقل بواسطة الجمال اولاً ثم بواسطة القوارب في نهر النيل إلى الاسكندرية لكي يرسل من هناك إلى بريطانيا بحراً. ومع اختراع السفن البخارية تكثفت مساعي الحكومة البريطانية لحل مسألة التعجيل بالمواصلات التي تربط بريطانيا بالهند ،

__________________

(١) من الكلمة اليونانية Metropolis ومعناها ام وoplis ومعناها مدينة. وكانت تطلق في اليونان القديم على المدينة التي كانت دولة قائمة بذاتها في علاقتها مع المستوطنات التابعة لها في اراضي الغير. اما الان فتطلق على الدولة الاستعمارية في علاقتها مع المستعمرات التابعة لها. والمقصود بها هنا طبعاً بريطانيا. (المترجم).

(٢٠٦) Low; OP. Cit. vol. l. ٥٢٤ ff.

٢٣١

فبادرت ابتداءً من ١٨٣٠ بالقيام بمحاولات لانشاء اتصال مباشر بالبواخر بين بومباي والسويس ومع ذلك فانها لم تفقد اهتماماً بطريق الفرات ، ففي تلك السنة نفسها أي في ١٨٣٠ خرجت مجموعة من الضباط الانجليز - يقودهم اخو مقيم شركة الهند الشرقية في بغداد تايلر ـ من بغداد وهدفها التأكد من صلاحية نهر الفرات للملاحة بين الحلة وبيرجك غير انه لم تستطع اتمام هذه المهمة لان نصف افرادها ماتوا نتيجة لهجوم مفاجئ شنه عليهم الاعراب (١).

في هذه الاثناء كان العقيد المذكور جسني ـ وكان انذاك مايزال نقيباً قد جاب الصحراء السورية وانحدر في نهر الفرات من عانة إلى البصرة بواسطة قارب شراعي ودرس نهري الكارون وشط العرب ثم وصل إلى لندن في ١٨٣٢ ومعه خطة كاملة ، لانشاء ملاحة بخارية في نهر الفرات. وفي لندن لم يتأت له ان يجعل مجلس العموم البريطاني يهتم بمشروعه فحسب بل تمكن من جعل الملك وليم الرابع نفسه يهتم به ايضاً الامر الذي ضمن للمشروع النجاح التام. وهكذا نظمت بالاموال التي خصصها مجلس العموم وحكومة الهند بعثة الفرات الشهيرة التي بدأت في ١٨٣٥ بانزال الباخرتين «الفرات ودجلة» اللتين جلبتا مفككتين من بريطانيا ، في السويداء على خليج انطاكيا ثم نقلتا بطريق البر وبصعوبة كبيرة لا يمكن تصورها إلى شاطئ الفرات حيث جرى تجميعها ونزالهما إلى الماء إلى الجنوب قليلاً من بيرجك.

تحركت الباخرتان في ربيع ١٨٣٦ هابطتين في الفرات وهدفهما التحري الدقيق عن صلاحية النهر بين بيروجيك والقرنة لسير السفن. وفي

__________________

(١) Low; Op. Cit. vol. l. p. ٥٢٤.

٢٣٢

ايار من تلك السنة فقدت البعثة الباخرة «دجلة» التي غرقت نتيجة لعاصفة مفاجئة صادفتها إلى الشمال قليلاً من عانة فمات من بحارتها عشرون شخصاً من ضمنهم ضابطان. وهكذا وصلت إلى البصرة في ٣٠ حزيران ١٨٣٦ الباخرة «الفرات» لوحدها بعد ان تمكنت من تذليل صعوبات السير في نهر لم يسبق معرفته نم قبل ولا يكاد يصلح حتى للسفن الصغيرة سيما في منطقة مستنقعات لملون (١) حيث يضيع الفرات تقريباً في الاهوار المحيطة به (٢). وكانت اول نتيجة لهذا البعثة هي سعي العقيد جنسي لاقناع حكومة الهند بجعل المحمرة بدلاً من البصرة مركزاً للمواصلات بين الهند وبريطانيا عير وادي الفرات على اعتبار انها مهيئة بشكل افضل لتحويل بريد الهند من السفن البحرية التي تجلبه من الهند إلى السفن النهرية التي تسير به في نهر الفرات (٣).

لقد لفت مشروع جسني هذا انتباه والي بغداد علي رضا باشا إلى المحمرة مرة اخرى علماً بانه كان حتى قبل ذلك ينظر بقلق إلى هذه المدينة التي اخذت تنافس البصرة اهميتها التجارية بشكل جدي. وتقع المحمرة حالياً عند مصب قناة الحفار في شط العرب وهذه القناة هي امتداد لنهر الكارون انشأها في ١٨١٢ الحاج يوسف شيخ عشيرة محيسن الخاضعة للكعبيين (٤) وقد اصبحت لبعض الوقت مقراً لممثل شركة الهند

__________________

(١) لملوم كما تقدم وهي مدينة مندثرة بنيت قريباً منها وبدلاً عنها بلدة الشنافية حميد الدراجي.

(٢) Chesney; OP. Cit. vol l.

(٣) Fontanier; OP. Cit. T. l, p. ٣٤٧.

(٤) Curzon; OP. Cit. vol. II, p. ٣٢٣.

٢٣٣

الشرقية في البصرة عندما اضطر هذا الاخير لمغادرة البصرة في ١٨٢٠ بسبب الحملة التأديبية القوية التي وجهها والي بغداد داود باشا ضد شيوخ الزبير من اسرة الزهير العربية التي ازدادت قوتها في البصرة بحيث تفوقت على المتسلم هناك (١). وكان لانتقال المركز التجاري الانجليزي إلى المحمرة اهمية بالغة بالنسبة إلى تلك المدينة فقد ادى إلى ان يتجمع فيها التجار ذوو الخبرة من العرب والفرس فجذب هؤلاء الاهالي من العرب المحليين إلى الاشغال بالتجارة المربحة. وقد استجاب الشيخ ثامر شيخ الكعبيين آنذاك ، وكان رجلاً ذكياً حازماً له مكانة كبيرة بين افراد عشيرة لهذه الحركة وخفض الضرائب الكمركية إلى الحد الادنى فساعد بذلك على ان تصبح المحمرة المستودع الرئيس بالنسية للعراق الجنوبي باجمعه. وقد ساعد على ذلك لدرجة ملحوظة الوضع الذي كان قائماً في البصرة ، فقد كان المتسلم هناك خاضعاً كلياً لشخص يدعى محمد بن طيب وكان قد حل محل آل الزهير وتمكن مثلهم من الاستحواذ على سلطة كبيرة بحيث لم يكن بمقدور المتسلم ان يدير بُحرية ، أي مرفق من مرافق الادارة باستثناء الكمارك (٢). وهكذا عمد متسلم البصرة بعد ان تعرض للتدخل المستمر من جانب الشيخ المذكور في عملة الاداري في جنوب العراق ، إلي التركيز في سد حاجات حياته المرفهة علي ما يرد من الكمارك ولم يعد يتعفف عن اللجوء إلى أي تدبير في سبيل جباية الضرائب المفروضة على البضائع الواردة والصادرة سيما انه كان قد اشترى منصبه بمبلغ كبير. وكانت نتيجة الطبيعية لمثل هذا التصرف زيادة هائلة في الضرائب

__________________

(١) Ainsworth; OP. Cit. vol. II, p. ٩٨.

(٢) Fontanier; OP. Cit. T.l, p. ٢٢٥.

٢٣٤

المفروضة على التجارة ، مما دفع التجار إلى تجنب كمارك البصرة. وهكذا اصبحت المحمرة بضرائبها الكمركية الواطئة جداًّ مستودعاً ملائماً تفرغ فيه البضائع ثم تنقل بطريق التهريب إلى الزبير وتوزع بالقوارب إلى جميع انحاء البلاد بواسطة عرب المنتفق وبني لام القاطنين على ضفتي الفرات ودجلة. وهكذا نشأت تجارة واسعة جداً للتهريب شارك فيها بنشاط إلى جانب الكعبيين كل من عرب الزبير والمنتفقيين وبني لام الامر الذي ساعد على نمو المحمرة لدرجة كبيرة على حساب الازدهار التجاري للبصرة. وقد حاول متسلم البصرة ان يضع حداً لهذا التهريب ولجأ إلى مختلف الوسائل حتى انه لم يتردد في قتل شيخ الزبير القوي محمد بن طيب (١) لانه عدّه الملهم الرئيسي لعمليات نقل البضائع سراً إلى العراق ، غير ان الاجراء الدموي لم يساعد على تحسين الوضع التجاري للبصرة. وكان علي رضا باشا حاكم العراق قد بدأ بالتفكير بضرورة اتخاذ اجراءات جدية ضد المحمرة منذ ان عاد من حملة كردستان. وجاء مشروع جسني الذي حَوّل هذه إلى مركز للمواصلات بين الهند وبريطانيا عبر الطريق الفرات النهري فعزز هذه النية لدى الباشا كما ان التقارب الذي حصل بين القبائل العربية على اساس المشاركة في تجارة التهريب ، هذا التقارب الذي كان يهدد بان يتحول ، عند اول فرصة ساخنة ، إلى خطر على السيادة العثمانية في العراق ، اقنع علي رضا باشا نهائياً بضرورة توجيه ضربة حاسمة للازدهار التجاري لمدينة المحمرة. عمد الباشا عشية حملته على المحمرة إلى خلع شيخ المنتفق وبني لام المعنيين بتجارة التهريب واستبدالهما بشخصين مخلصين له ثم انهى تجهيزاته على عجل وخرج من بغداد في ١٨٣٧ على رأس

__________________

(١) Ain sworth; OP. Cit. vol. II pp. ٩٩ - ١٠١.

٢٣٥

فصيل يتألف من ستة ألاف مقاتل انضم اليهم في الطريق ٠٠٠ر١٢ من العرب حلفاء الباشا. لقد سار جيش بغداد بمحاذاة الضفة اليمنى لنهر دجلة وكان تحت تصرفه اسطول نهري يحمل الذخيرة والعلف ، وعند القرنة عبر بواسطة جسر من الاطراف العامة إلى الضفة اليسرى لشط العرب حيث حط الرحل عند قرية كردلان الواقعة قبالة البصرة.

واصل الجيش تقدمه بمحاذاة الضفة اليسرى لشط العرب باتجاة المحمرة التي تجمعت للدفاع عنها جميع القبائل الخاضعة لسلطة الكعبيين ، حتى ان عدد المدافعين عنها وصل إلى ما يذكره المعاصرون إلى ٢٥ ألف شخص ولكنهم لم يكونوا يمتلكون غير مدفع واحد انفجر عند الاطلاقات الاولى (١). اما جيش بغداد فقد بدأ هجومه بعد ان مهد له بقصف حامٍ ومتواصل ، ولكن قبل ان يصل المهاجمون إلى اسوار المدينة سارع المدافعون عنها إلى اخلائها فاشعلت فيها النيران واعمل فيها السيف ونهبت من قبل قوات علي رضا باشا المنتصرة. لقد هرب الجزء الاغلب من سكان المدينة فذهب بعضهم إلى فارس والبعض الاخر إلى ضفاف الخليج الفارسي ، اما شيخ الكعبيين الرئيس فقد اختبأ في الدورق على نهر الجراحي في حين نجا الشيخ احمد حاكم المحمرة باللجوء إلى سفينته. ونصب علي رضا باشا شخصاً من انصاره حاكماً للمحمرة وكان يفكر بمواصلة السير إلى الدورق التي اختبأ فيها شيخ الكعبيين ثامر ولكن اخباراً عن هروب هذا الاخير إلى شيخ البختياريين القوي محمد تقي خان وصلته ففترت من حماسة الحربي ، يضاف إلى ذلك ان مبعوثين من الفرس

__________________

(١) تيشيري كوف ، المصدر السابق ، ص ٦٠٧ ـ ٦٠٨ ، Fontanier OP. T. ١. pp. ٣٦٢ - ٣٧٤;

٢٣٦

وصلوا إلى الباشا واحتجّوا على انتهاك حقوق فارس بالاضافة إلى حلول الشتاء والنقص في المؤن التي كانت تجهز من البصرة وهبوط الانضباط بين القوات العثمانية المرابطة في المحمرة بشكل واضح كل ذلك اجبر علي رضا باشا على العودة بجيشه إلى بغداد (١).

ما ان غادرت القوات العثمانية المحمرة حتى عاد ثامر شيخ الكعبيين من مخبئة فبادر إلى طرد الحاكم الذي عينه الباشا من المدينة وعين الحاج جابر شيخ عيشرة محيسن الخاضعة للكعبيين بدلاً منه. وقد استطاع هذا الاخير ان يكسب ود الحكومة الفارسية ولذلك فعندما احتلت القوات الفارسية المحمرة في ١٨٤١ جرى تأكيد الشيخ جابر في المنصب الذي يشغله وحاول هذا ان يبقى المنصب في ذريته. وبمقدار ما كان الشيخ جابر يرتقي كان نجم ثامر الشيخ الرئيس للكعبيين وعشيرته البو ناصر يخفت إلى ان خبأ نهائياً عندما اضطر الشيخ ثامر للهرب إلى المنطقة العثمانية طلباً للنجاة حين اعلنته الحكومة الفارسية متمرداً (٢).

تحتم على علي رضا باشا بعد عودته إلى بغداد مباشراً ان يهتم بشؤون العرب في ولايته ، وكان الباب العالي في الواقع قد اولى القوة الكبيرة التي اصبح يتمتع بها صفوك شيخ شمر جربة اهتمامه الجدي قبل ان يبدأ الباشا حملته على المحمرة في ١٨٣٦ بالذات فقد فوضت الحكومة العثمانية انذاك القائد العام للجيش العثماني المتوجه لاخماد انتفاضة بيك راوندوز وبقية الاكراد محمد رشيد باشا الذي مر بنا ذكره ان يكبح جماعة هذا الشيخ. وقد استطاع هذا الجنرال العثماني ان يستدرج زعيم شمر

__________________

(١) Fontanier, OP. cit. Tl. P. ٣٩٥.

(٢) Cuzon, OP. Cit. vol. II, p٣٢٥.

٢٣٧

المُقلق إلى معسكره حيث قبض عليه وارسله مخفوراً إلى اسطنبول غير ان صفوك استطاع الهرب من هناك بعد بضعة اشهر فعاد إلى مضارب عشيرته وتزعمها مرة اخرى. لقد عدَّ صفوك علي رضا باشا المسؤول الاول عن أسرة ولهذا فقد اخذ يقوم بغارات متواصلة على اراضي الباشوية التابعة له (١). واخذت مجاميع الشمريين وحلفائهم من الاعراب تتوسع في ممارسة النهب ولم تعد عملياتها قاصرة على المنطقة الواقعة بين الموصل وبغداد بل تعدت ذلك إلى الاماكن الاقرب من بغداد ونعني الجزء الشمالي الشرقي من الولاية وهو الجزء الواقع بين دجلة والحدود الفارسية. ولم يكن علي رضا باشا يستطيع الاقتصاص من الشمريين لان علاقاته مع بني لام ومع المنتفقيين لم تكن على ما يرام ، ذلك ان شيخيها اللذين عزلهما عندما توجه إلى المحمرة بادرا بعد ان عاد هو إلى بغداد إلى طرد الشيخين اللذين نصبهما الباشا وعادا إلى منصبهما مرة اخرى ولكنهما اصبحا في هذه المرة معاديين للباشا. لهذا السبب كان من المستحيل على والي بغداد ان يلجأ كما في المرات السابقة إلى استخدام المنتفقيين ضد الشمريين اعدائهم الالداء بحيث يبقى له الا مراقبة الصراع بين هاتين القبلتين العربيتين ، بل تحتم عليه ان يتخذ التدابير اللازمة للدفاع عن نفسه.

ولما كان علي رضا باشا لا يملك من القوات ما يكفي لجعله متساوياً في القوة مع صفوك فقد توجه إلى الباب العالي طلباً للاسناد فطلب الباب العالي من حافظ باشا الذي حل محل رشيد بعد وفاته في ١٨٣٦ في قيادة الجيش العامل في كردستان ان يقتص من الشمريين. وكان القائد العام الجديد هذا ينوي ان يتحرك ضد صفوك بقوات مشتركة يسهم فيها حاكما

__________________

(١) London, ١٨٤٩), p. ٩٤.) A. H. Layard, Ninevehand its Remains, vol. l.

٢٣٨

ماردين والموصل غير ان حاكم الموصل محمد باشا الملقب أينجه بيرقدار لم تكن لديه الرغبة اطلاقاً في القيام بحملة لا تعود عليه الا باعباء زائدة ومصاريف لاحد لها ولهذا اخذ يتلكأ عن عمد (١). وعندما قرر أينجة بيرقدار اخيراً التحرك نحو صفوك سارع هذا وكان طيلة الوقت يراقب الاستعدادات العثمانية بانتباه ، بالتراجع إلى الصحراء فقضى بذلك على خطة العثمانيين التي كانت تقضي بمحاصرته والقضاء عليه مع قواته. وهكذا لم يبق اما علي رضا باشا الا اللجوء إلى وسيلته المعتادة فاعلن خلع صفوك وعين لشمر شيخاً جديداً هو نجرس ابن عمه ، وساعده على ان ينشء له حزباً قوياً بين افراد عشيرته. وكان هذا التكتيك الذي انقذ علي رضا من المصاعب التي واجهته مع العرب فعالاً في هذه المرة ايضاً فقد ادى إلى حدوث اضطرابات ونزاعات داخلية لانهاية لها بين الشمريين افضت في نهاية الامر إلى هلاك صفوك كما سنرى لاحقاً.

وبينما كانت هذه الاحداث تجري في العراق تجدد الصراع الذي كان تدخل الدول الاوربية قد اجله لبعض الوقت بين السلطان وتابعه والي مصر بقوة جديدة فقد كان محمد علي يسعى لان يعترف السلطان لاسرته بحقها في ان تحكم مصر والمنطقة التي استولى عليها من الدولة العثمانية حكماً وراثياً في حين لم يكن السلطان محمود الثاني مستعداً الا للاعتراف بان تحتفظ ذرية محمد علي بمصر وعكا وطرابلس اما سوريا وولاية اطنة فكان يطالب باعادتها إلى الدولة العثمانية. وقد توقف الوالي عن دفع الاتاوة المعتادة علامة على الاحتجاج وحشد في سوريا جيشاً قوياً فاجاب السلطان على ذلك بان امر القائد العام للقوات

__________________

(١) Moltke, OP. Cit.p. ٢٢٨ - ٢٢٩.

٢٣٩

المتواجدة في كردستان حافظ باشا بالهجوم على محمد علي وابنه اللذين اعتبرا «فرمانلي» أي محكومين بالاعدام. فحدثت نصيبين في شهر ايار ١٨٣٩ معركة بين المصريين والعثمانيين اندحر فيها جيش السلطان اندحاراً تاماً (١).

ان القضاء على جيش حافظ باشا الذي اعاق بوجوده في كردستان النزعات الاستقلالية لدى البيكات الاكراد انعكس على الفور على الوضع هناك اذ لم تلبث الاضطرابات السابقة ان اشتعلت مجدداً واخذت تتحول بالتدريج إلى انتفاضة كردية جديدة. وقد انتقلت الانتفاضة إلى منطقة السليمانية التابعة لبغداد فقد اظهر حاكمه امن بيكات اسرة بابان الوراثيين محمود باشا رغبة واضحة بالاستقلال التام. ورأى علي رضا باشا ، بعد تردد طويل ، ضرورة ابعاده عن حكم السليمانية فعين بدلاً منه في ١٨٤١ شخصاً اخر من اسرة بابان نفسها هو احمد باشا ، وهرب الحاكم المقاتل محمود باشا إلى فارس حيث وجد له مأوى واسناداً لدى حاكمها الجديد محمد وهو ابن عباس مرزا الذي كان قد مات قبل الاوان وحفيد فتح علي باشا وقد خلف هذا الاخير في ١٨٣٤ وكان مما زاد من رغبة محمد شاه في مساعدة الهارب انه لم يستطع ان يغفر لعلي رضا باشا نهبه للمحمرة ولم يستطع الشاه في حينه ان يأتي لنجدتها لانشغاله بحصار هرات. وهكذا اخذ حاكم فارس يطالب حاكم العراق بالحاح باعادة محود باشا إلى منصبه السابق لكن وساطة الشاه لم تؤدِ الا إلى ان يعزل حاكم العراق احمد باشا الذي كان قد عينه حكماً للسليمانية ولكنه لم ينصب المرشح الذي تريده فارس بدلاً منه بل نصب شخصاً اخر من اقربائه هو عبدالله الذي

__________________

(١) Lavallee, OP. Cit. T. II, p. ٣٥٣ - ٣٥٤.

٢٤٠