ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

الكسندر أداموف

ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٣
  الجزء ١ الجزء ٢

الفصل السابع

تميز ظهور الشاه اسماعيل مؤسس السلالة الصفوية على المسرح التاريخي بانبعاث فارس التي كانت قد جردت ، منذ سقوط الساسانيين من وجودها ونظامها السياسي القومي ذلك ان اياً من السلالات التي قامت هناك لم تستطع ان توحد اجزاء ايران المنفصلة في دولة موحدة واحدة.

وقد حقق الشاه اسماعيل ذلك فاستطاعت فارس خلال فترة حكمه ان تحتل ، بين دول العالم في القرن السادس عشر الميلادي ، مكانها المحدود الذي احتفظت به حتى وقتنا الحالي (١).

ينتمي هذا العاهل الذي أمن لفارس كياناً سياسياً راسخاً إلى احفاد الشيخ اسحاق الملقب بصفي الدين والذي عاش في النصف الاول من القرن الرابع عشر في مدينة اردبيل في اقليم اذربيجان وارتقى إلى منزلة الاولياء بسبب حياة الصلاح والتقى التي كان يحياها بحيث اصبح قبره الموجود في المسجد القائم هناك موضوعاً للتقديس. وكان اتباع ومريدو هذا الشيخ ينتمون إلى سبع قبائل تركمانية كانت قد استقرت منذ نهاية القرن الثالث عشر في ضواحي اردبيل والفت تحت رئاسة احفاد صفي الدين شيئاً ما اشبه بالاخوة الدينية عرفت باسم الطريقة الصفوية أو

__________________

(١) أي بداية القرن العشرين فالكتاب مطبوع عام ١٩١٢. (المترجم).

٨١

الدراويش المتصوفين (١).

لقد حافظت هذه الطريقة في عهد الثلاثة الذين خلفوا الشيخ اسحق علي طابعها الديني اذ وصل اولئك الثلاثة احياة التقى وصلاح دون ان يضعوا نصب اعينهم اهدافاً سياسية ، ولم تتخذ الطريقة شكل المنظمة العسكرية الا في عهد الشيخ جنيد بن حفيد صفي الدين. لقد استند جنيد هذا على مساعدة زعيم الاق قونيلو القوي اوزون حسن وكان جنيد قد تزوج من اخته ، ففكر في توسيع ممتلكاته على حساب امراء شيروان المجاورة له غير ان هذه المحاولة كلفتة حياته. واصاب المصير نفسه ابنه الشيخ حيدر لكن الشيخ اسماعيل الذي خلف هذا الاخير كان اوفر حظاً من ابيه وجده في طموحه إلى السلطة الزمنية.

لقد استطاع اسماعيل ان يرتقي ذروة القوة والمجد بالاستناد على جيش الجنود ـ الدراويش الذي اسسه الشيخ جنيد والذي كان يعرف باسم قزلباش أي ذوي الرؤوس الحمراء نسبة إلى غطاء الرأس الذي كانوا يستعملونه وكان عبارة عن عمامة بيضاء ملفوفة حول قلنسوة حمراء. وقد ساعد اضمحلال الدولة الواسعة التي اسسها اوزون حسن وكان قد بدأ حوالي ذلك الوقت ، إلى درجة كبيرة على ان يحقق اسماعيل خططه الطموحة بهذا الشكل الباهر. فهو لم يلبث ان بدأ يتدخل في المنازعات التي قامت بين ذرية مؤسس سلطة الاق قوينلو مدفوعاً إلى ذلك بطمعه في وراثة اوزون حسن الذي كان جداً مباشراً له من ناحية الام من جهة ، ومن الجهة الاخرى رغبته في الثأر لوالده الذي قتل في اشتباك مع خان شيروان نتيجة الخيانة صهره يعقوب مرزا ابن اوزون حسن. وبعد ان انتقم اسماعيل

__________________

(١) Gotha, ١٩٠٩) T. II, S. ٢٥١ FF.) N. Jorga. Geschichte des Osmanischen Reiches.

٨٢

من امير شيروان اولاً وذلك بتحطيم جيشه تحطيماً تاماً والاستيلاء على ممتلكاته وجه سلاحه المنتصر في العام التالي أي في ١٥٠١ م ضد حفيد خال ابيه الوند مرزا فانتصر عليه بالقرب من نخجوان انتصاراً حاسماً واستولى منه على تبريز التي كانت عاصمه الاق قوينلو. اما اخر افراد ممثلي هذه السلالة وهو السلطان مراد فقد هزم في ١٥٠٢ م بالقرب من همدان فهرب إلى بغداد حيث تركه الزعيم الصفوي يعيش بسلام لفتره من الوقت. وقد اتخذ الشيخ اسماعيل بعد ان رسخت قدماه في تبريز لقب (شاه) فوضع بذلك بداية للسلالة الصفوية التي سميت بهذا الاسم نسبة للشيخ الاردبيلي صفي الدين (١).

وقد رافق النجاح والحظ العاهل الجديد فاستطاع في فترة قصيرة ان يوحد تحت سلطته القسم الاغلب من مناطق واقاليم فارس الحالية ونعني كرمنشاه بما فيها همدان واذربيجان واقليم الجبال وكرمان وفارس. وهكذا اقيم بناء الدولة الفارسية الجديدة الذي عمد الشاه اسماعيل من اجل ان يعطيه القوة والرسخ المطلوبين إلى استخدام التشيع بمثابة الاسمنت اللاصق بعد رفعه إلى مرتبة المذهب الرسمي فاصبح منذ ذلك الوقت الدين القوي لفارس. وكان سير التاريخ في السابق كله يمهد السبيل لنجاح التشيع نهائياً في فارس ذلك ان حزب انصار العلويين وجد في الفرس القاطنين في العراق منذ القرن الاول بعد ظهور الاسلام سنداً له. ثم استطاع التشيع في عهد العباسيين اثناء الصراع القومي بين العرب والفرس ان يمد جذوره عميقاً في فارس نفسها. يضاف إلى كل ذلك ان الشيخ صفي الدين مؤسس السلالة الصفوية كان يؤكد ان نسبه يتحدر

__________________

(١) de Hammer, Op Cit. T. IP. ٣٨٨ FF.

٨٣

من الامام موسى الكاظم (١) الامام السابع في تسلسل ذرية علي (ع) رابع الخلفاء الراشدين ولهذا لم يكن اسماعيل وحده من الانصار المتحمسين للعلويين والاتباع المتعصبين للتشيع وانما كان القزلباش يشاركون في ذلك ايضاً.

لقد أبقى مذهب فارس الرسمي الجديد على موضوعات الاسلام الاساسية ولكن كان يختلف عن السنة بالتدريج الاوليّ في تعظيم الائمة الاثني عشر ونعني علياً وابنيه الحسن والحسين واحفاد الحسين المباشرين لحد الحفيد التاسع ، وكذلك في انكار شرعية الخلفاء الثلاثة الاوئل ابي بكر وعمر وعثمان وذلك لان الشيعة يقولون بحق علي في ان يكون اول من يخلف رسول الله (ص). لقد اعفت هذه الموضوعة الاخيرة الفرس على الرغم من انتمائهم للاسلام من الاقرار بالسلطة الدينية عن رؤساء الاسلام الغرباء عنهم ، سواء كانوا الخلفاء العباسيين العرب أو من حل محلهم من أي قومية كانت.

ان تعظيم العلويين الذي لم يرفع إلى مرتبة المذهب الرسمي للدولة فحسب بل رفع ايضاً إلى مرتبة الدين القومي للفرس ، ابرز إلى المركز الاول قضية ضم العراق إلى الدولة الفارسية لان اهم مقدسات الشيعة واماكن زيارتهم تتواجد فيه وهي : النجف وفيها مرقد علي نفسه وكربلاء التي يقوم فيها ضريح ابنه الحسين وبلدة سامراء الواقعة على دجلة والتي تذكر المآثر ان الامام المهدي وهو الامام الثاني عشر قد غاب فيها وانه يمكن ان يظهر مرة اخرى عند نهاية العالم ، واخيراً الكاظمية بمسجدها

__________________

(١) يرد نسب صفي الدين بالتفصيل في كتاب مالكولم : (Histoire de ie Perde T. II note ٢ P. ٢٦٠.)

٨٤

الذي اقيم عند رفات الامام موسى الكاظم جد (١) الشاه اسماعيل. لقد تأتت ضرورة الاستيلاء على العراق في رأي الشاه من حقيقة ان هذه المنطقة كانت في عهد الساسانيين تحت سيطرة الدولة العباسية طيلة اربعة قرون. ولهذا اصبح الاستيلاء على بغداد التي تقع بالغرب منها مدن الشيعة المقدسة المذكورة اعلاه بالنسبة إلى الشاه اسماعيل قضية تحتمها العزة القومية والضرورة الدينية. لكن الاهتمام بتقوية سلطته في الدولة الجديدة وضرورة المحافظة على امن حدودها من خطر جيرانها كانت تجذب الشاه باستمرار عن تحقيق هذه المهمة ولهذا فانه لم يتمكن من طرد السلطان مراد آخر ذرية اوزون حسن من بغداد نهائياً الا في ١٥٠٨ م فعين في عاصمة العباسيين السابقة احد طواشييه والياً فارسياً هناك ولقبه بـ (خليفة الخلفاء) (٢).

وفي حوالي ذلك الوقت استولى الشاه اسماعيل على اجزاء من ارمينيا وعلى جميع ما بين النهرين تقريباً فاستطاع بذلك ان يقدم حدود فارس الغربية بعيداً في اعماق اسيا الصغرى. وادى ذلك بالاضافة إلى تعاظم قوة الشاه ولاسيما بعد انتصاره على الازيك جيرانه من ناحية الشرق واستيلائه منهم على خرسان ، إلى ان تصطدم الدولة الفارسية بدولة اسلامية

__________________

(١) يدعى اسماعيل الصفوي بان نسبه يرجع إلى الامام موسى الكاظم غير ان ذلك غير ثابت تاريخياً ، كما ان العديد من المؤرخين ومنهم من عاصره وكتب عنه الكثير لم يشر إلى ان نسبه علوي. انظر : حسين محمد القهواني ، العراق بين الاحتلالين العثمانيين الاول والثاني ١٥٣٤ ـ ١٦٢٨ م (٩٤١ ـ ١٠٤٨ هـ) ، دراسة في الاحوال السياسية والاقتصادية ، رسالة ماجستير غير منشورة بغداد ١٩٧٥ ص ٢٩ هامش ١. (المترجم).

(٢) de Hammer, Op. cit. T. ١, P. ٤١٠.

٨٥

اخرى كانت قد اخذت بالنهوض والتوسع في الجزء الغربي من آسيا الصغرى في نفس الوقت الذي قامت فيه الدولة الفارسية ونعني امبراطورية العصمانيين.

كان الاتراك العصمانيون الذين تحول اسمهم عند الكتاب الاوروبيين بسبب خطئهم إلى عثمانيين اقرباء للسلاجقة ينتمون مثلهم إلى الغز ، وهم من قبيلة سليمان شاه الذي اضطر تحت ضغط المغولية إلى الخروج من خراسان في بداية القرن الثالث عشر واستقر في ضواحي اذربيجان. ولم يظهر العثمانيون على مسرح التاريخ الاّ بعد سقوط دولة سلاجفة اسيا الصغرى التي كانت قد ترسخت في قونية في نهاية القرن الحادي عشر واستطاعت ان تمد سلطانها إلى اغلب اجزاء اسيا الصغرى ثم سقطت تحت ضربات المغول في نهاية القرن الثالث عشر وقد منح علاء الدين الثالث اخر سلاطين تلك الدولة السلجوقية لارطغرل بن سليمان شاه الذي سبق ذكره منطقة اسكي شهر اقطاعاً له كمكافأة على مشاركته في حملات السلطان العسكري ، ولهذا يمكن اعتبار منطقة اسكي شهر هذه مهداً للقوة العثمانية (١). وقد ازدادت الممتلكات الاقطاعية لهذه الاسرة في عهد عثمان بن ارطغرل (توفي في ١٣٢٥) الذي سمي الاتراك بالعثمانيين نسبة اليه وفي عهد حفيد ارطغرل اورخان (توفي في ١٣٥٩) وذلك بالاستيلاء علي بروسة واسنيك (نيقيا) واسمد (نيقوميديا) ، لكن الاندحار الذي اصاب السلطان بايزيد الاول على يد تيمورلنك عند انقرة في ١٤٠٢ م اعاق تنامي الامبراطورية العثمانية موقتاً غير ان ارتفاع شان العثمانيين في عهد خلفاء هذا الاخير جرى بوتائر سريعة حتى ان السلطان محمد الثاني الفاتح وهو

__________________

(١) FF. ٨٧ Odysseus, Tukey in Euzope, (London, ١٩٠٠), P.

٨٦

ابن حفيد بايزيد استولى في ١٤٣٥ م على القسطنطينية من بيزنطه ، فاصبحت منذ ذلك الوقت عاصمة الامبراطولية العثمانية ومقراً دائماً للسلاطين الاتراك.

قام السلطان محمد الثاني بالاضافة إلى المنطقة الواسعة التي استولى عليها في اوروبا بتوسيع الممتلكات العثمانية لدرجة ملحوظة في اسيا الصغرى حيث اصطدم بخصم خطر هو اوزون حسن امير الاق قوينلو. لقد كان اوزون حسن هذا عوداً حقيقياً للعثمانيين ذلك ان ارتفاع شأن سلالة الاق قوينلو كان نتيجة لتحالفها مع تيمور لنك الذي تغلب على بايزيد الاول ولان تلك السلالة اقامت مجدها على انقاض دولة القره قوينلو التي كانت تلتزم جانب العثمانيين على الدوام. لقد حدث الصدام بسبب قرمانياً التي الحقها السلطان بتملكاته فاراد اوزون حسن ان ينازع عليها ووجه لهذا الغرض جيشاً دخل حدود المنطقة المتنازعة عليها. لكن قوات اوزون حسن اصيبت باندحار شنيع في معركة حاسمة وقعت في ترجين عام ١٤٧٢ م ، وهكذا استطاع السلطان محمد الثاني ان يكسر شوكة اخطر اعداد العثمانيين انذاك في مقدمة اسيا. توفق توسع العثمانيين في عهد بن محمد الفاتح وخليفة السلطان بايزيد الثاني لفترة استمرت احدى وثلاثين سنة استطاع جيران الامبراطورية العثمانية خلالها ان يتنفسوا الصعداء مستغلين انشغال السلطان عنهم في نزاعه الطويل مع اخيه جم. وكان هذا النزاع وبدرجة لاتقل عن ذلك نزعة بايزيد السلمية سببين اعاقا الدولة العثمانية عن المشاركة في اقتسام ممتلكات اوزون حسن فمنحا بذلك الشاه اسماعيل امكانية ان يصبح خليفة لدولة الاق قوينلو مكونا لنفسه على انقاض هذه الاخيرة دولة لا تقل عنها قوة. لقد قام بايزيد الثاني حقاً بمحاولة لان يؤمن لنفسه سلميا الحق في ارث اوزون حسن وذلك عن

٨٧

طريق تزويج ابنته لحفيد هذا الاخير احمد مرزا الذي كان بدوره يبحث لدى السلطان عن المساعدة للحصول على العرش ولكن صهر بايزيد هذا لم يلبث ان توفي في صراع مع ابناء عمه.

بدأ السلطان سليم الاول الذي خلف اباه في عام ١٥١٢ م نشاطه السياسي بشن الحرب على فارس لانه كان يقدر تماماً الخطر الذي كان يهدد وجود العثمانيين نفسه في اسيا من جهة الشاه الفارسي الذي كان قد وصل في ذلك الوقت إلى ذروة سطوته بالاضافة إلى ذلك كان ما دفع سليمان لمحاربة فارس ولعه بالمشاريع والحملات العسكرية التي استغرقت كل فترة حكمه القصير ورغبته في الانتقام من الشاه الذي تخلى عن سليم والتزم جانب اخيه احمد في اثناء الصراع الذي جرى بين ابناء بايزيد حول العرش. لقد تهيأ الصفوي للتحالف مع المصريين (١) لصالح احمد هذا كما انه سمح لابناء خصم سليم باللجوء إلى فارس ولم يكتف بذلك بل جهز احدهم وهو صهره الامير مراد بقوات للاستيلاء على اماسيا رغم ان هذا الآخير لم يفلح في ذلك (٢) وقد تفاقم الخطر الفارسي لان الشاه اسماعيل كان له في الاقاليم التركية في اسيا الصغرى انصار كثيرون بين القبائل التركية التي كانت تعتنق التشيع وتعتبر نفسها من اتباع الشيخ الاردبيلي صفي الدين. وكان انصار فارس هؤلاء يشكلون خطراً دائماً على الهدوء والنظام في الدولة كما برهنت الانتفاضة التي لم تخمد الا بصعوبة بالغة والتي قام بها باسم الشاه اسماعيل في اقليم تكه في ١٥١١ م الامير التركماني المسمى شاه قليأي عبد الشاه وقد غير اسمه الاتراك واصبحوا

__________________

(١) يقصد هنا دولة المماليك في مصر. (المترجم).

(٢) jorga, Op. Cit T. II S. ٣٢٩.

٨٨

يسمونه استهزاء شيطان قلي أي عبد الشيطان. وهكذا قرر سليم ان يذهب بنفسه على رأس حملة يجهزها ضد فارس. وخشية منه ان تتكرر في فترة غيابه اضطرابات مشابهة لتلك الانتفاضات لم يجد وسيلة لتلافي ذلك افضل من القضاء على الشيعة والمشتبه في انتمائها إلى هذه الطائفة في جميع الامبراطورية العثمانية. وقد بلغ عدد القتلى من هؤلاء في اثناء ليلة بارثلميو (١) الشرقية التي نظمها ضدهم السلطان سليم مالا يقل عن اربعين الف شخص تتراوح اعمارهم بين السبع سنوات والسبعين سنة.

بعد هذه الاستعدادت الدموية هب السلطان ضد الشاه الفارسي اسماعيل على راس جيش تعداده اربعين الفاً قاصداً تبريز التي كانت عاصمة فارس انذاك عبر سيواس وادربيجان. وقبل ان يصل السلطان إلى تبريز وقعت بني الجيشين العثماني والفارسي عام ١٥١٤ م في وادي جالديران معركة حاسمة كان يتوقف على نتيجتها التفوق النهائي لفارس أو للدولة العثمانية في مقدمة اسيا. وقد حل القدر هذه المسألة لصالح الاتراك الذين استطاعوا انتزاع النصر من الفرس بفضل ما يمتلكونه من مدفعية وتفوق عددي في المشماة. وترتب على هذا الاندحار بالنسبة لفارس فقدانها لارمينيا وكردستان ومابين النهرين بما فيها الموصل. وهكذا وضع حد لتوسع فارس لاحقاً نحو الغرب. وعلى الجانب الاخر سهلت معركة جالديران للدولة العثمانية الاستيلاء على الشام في ١٥١٦ م. وهكذا اصبح جنوب العراق وحده الذي كان لا يزال يبد الشاه اسماعيل يعيق عن ايصال

__________________

(١) يشير المؤلف هنا إلى المذبحة الشهيرة التي نظمها الكاثوليك ضد الهكنوت في باريس ليلة ٤٢ آب ١٥٧٢ (عيد القديس بارثلميو) والتي ذهب ضحيتها الالوف من الهكنوت. (المترجم).

٨٩

ممتلكاتهم الاسيوية إلى حدودها الطبيعية في الجنوب أي إلى الخليج الفارسي.

بالاضافة إلى ذلك اصبحت السيطرة على العراق ضرورية بالنسبة للسلاطين الاتراك بعد ان اتخذ السلطان سليم بعد استلائه على مصر في ١٥١٧ م لقب «خليفة» (١) وذلك باجبار المتوكل بن امريل حكيم (٢) اخر خلفاء العباسيين الذين اتى به معه من القاهرة على التخلي له عن هذا اللقب والتنازل له عن جميع الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها رئيس العالم الاسلامي والمرتبطة بلقب «خليفة رسول الله».

وبعد ان اصبح السلاطين الاتراك بهذا الشكل ورثة للخلفاء العباسيين اصبح من الطبيعي ان يعتبروا بغداد العاصمة السابقة لهؤلاء ملكاً لهم وان ينظروا إلى الفرس الذين كانوا يسيطرون على هذه المدينة نظرتهم لمغتصبين كان العباسيون انفسهم يلاحقوهم ويضطهدونهم هذا في حين ان انتقال جنوب العراق باماكنه الشيعية المقدسة إلى سلطة الدولة العثمانية السنية كان بالنسبة لفارس امراً غير مرغوب ليس فقط بالمعنى السياسي وانما من وجهة النظر الدينية ايضاً باعتباره حدثاً يعني توقف الوصول الحر إلى تلك الاماكن المقدسة.

وهكذا تجدد تحت ستار النزاع امتلاك جنوب العراق من حيث الجوهر ، الصراع القديم بين السنة والتشيع مع اختلاف واحد وهو ان خصوم الفرس الشيعة اصبحوا في هذه المرة الخلفاء ـ العثمانيين بدلاً من الخلفاء العرب. وكان هذا الصراع سجالاً لان فارس لم تترك أي فرصة

__________________

(١) انظر هامشنا حول هذا الامر في الصفحة ٨٥ من الجزء الاول (المترجم).

(٢) انظر هامشنا حول هذا الاسم في الصفحة ٨٥ من الجزء الاول. (المترجم).

٩٠

مناسبة لانتزاع العراق من الدولة العثمانية الا وانتهزتها. كما ان هذه الاخيرة كانت تتمسك بدورها بقوة بهذه المنطقة وتحرص على حمايتها من تطاولات فارس على الرغم من صعوبة الصراع الذي زاده تعقيداً سعي القبائل العربية المحلية إلى التحرر القومي والاستقلال ، فضلاً عن ضرورة اخذ مصالح الدول الاوربية المختلفة بعين الاعتبار هذه الدول التي مدت جذوراً لها في هذه المنطقة والتي كان يعادي بعضها بعضاً بسبب المزاحمة والمنافسة التجارية.

انتقل جنوب العراق إلى الدولة العثمانية لاول مرة في عهد سليمان الاول ابن وخليفة اول خليفة من البيت العثماني ونعني السلطان سليم الذي منعه موته المبكر من تحقيق طموحه بالاستيلاء على ارث العباسيين بغداد. فقد تكونت ظروف ملائمة ساعدت حاكم الدولة العثمانية الجديد على تحقيق هذا الطموح ، ذلك ان تبدلاً في الحكم حصل في فارس فقد ارتقى عرشها بعد الشاه اسماعيل مؤسس قوة فارس الذي توفي في ١٥٢٤ م ، الشاه طهماسب وكان عمره عشر سنوات فاستغل زعماء القبائل الايرانية الفترة التي كان فيها صغير السن وانشغلوا بتصفية حساباتهم مع بعضهم الامر الذي قاد الدولة إلى فوضى تامة ولم تلبث آثار الاضطراب الداخلي ان امتدت إلى الولايات الفارسية النائية فثارت فيها النزاعات الانفصالية التي كان من نتيجتها ان اعرب عامل اذربيجان عن استعداده للتحول إلى جانب السلطان ، في حين كان حاكم بغداد الفارسي اكثر حسماً من ذلك حين ارسل إلى اسطنبول مفاتيح المدينة التي اؤتمن عليها.

دفعت هذه الحقائق السلطان سليمان إلى ان يعجل بالمسير إلى العراق فقاد قواته بنفسه في ربيع ١٥٣٤م ولكنه لم يتوجه إلى بغداد مباشرة بل جعل طريقه اليها عبر تبريز لاعتقاده بان سقوط هذه الاخيرة سيؤدي

٩١

إلى استسلام عاصمة العباسيين السابقة. وقد تحققت توقعات السلطان هذه كلية اذ ما ان وصل خبر استيلاء العثمانيين على مدينة اذربيجان الرئيسة إلى قومندان بغداد محمد بيك الذي حل محل حاكمها الخائن السابق ، حتى اسرع باخلاء المدينة دون قتال فدخلها الحاكم العثماني منتصراً دون قتال. واستغل سليمان فترة مكوثة في بغداد وقد استمرت نصف عام تقريباً لاعادة تنظيم المنطقة التي استولى عليها وفق المنط العثماني فقسمها إلى اقطاعات وادخل اليها الادارة العثمانية. ولم ينس السلطان باعتباره سنياً حقيقياً شركاءه في المعتقد الذين لم يكونوا يتمتعون في فترة السيطرة الفارسية في بغداد باي اعتبار ، فعمد من اجل ان يرفع شأن السنة إلى اعادة تعمير المسجد الذي يضم رفاة ابي حنيفة مؤسس المذهب السني الذي يدين به الاتراك (١).

وبعد ان انهى سليمان ذلك كله غادر عائداً ينفس الطريق السابق عبر كردستان واذربيجان دون ان يحتل جنوب العراق وعاصمته البصرة. لقد خضعت البصرة للدولة العثمانية باختيارها بعد احتلال بغداد باربع سنوات أي في ١٥٣٨م وذلك عندما ارسل حاكم البصرة العربي الشيخ راشد ابنه إلى اسطنبول خصيصاً لكي يسلم سليمان مفاتيح المدينة. ويعود السبب في خطوة الشيخ راشد هذه بدرجة كبيرة إلى خشيته من وقوع البصرة في وزة البرتغاليين الذين استطاعوا حتى ذلك الوقت ان يبسطوا سيطرتهم على البحار الهندية بل وعلى الخليج الفارسي ايضاً حين استولوا على هرمز في ١٥١٥م واخذوا يتفرقون بالتدريج على العرب الذين كانوا قبل ذلك اسياد مياه ذلك الخليج دون منازع. وهكذا توحد العراق الجنوبي باجمعه

__________________

(١) De Hammer, Op. Cit. II, P. ٢٣

٩٢

تحت سلطة الدولة العثمانية بفضل اعتراف امير البصرة راشد بسيادة تلك الدولة.

يرتبط مصير هذه المنطقة بشكل وثيق بحياة بغداد ولكنه كان يتأثر ايضاً وبدرجة لاتقل عن ذلك بسير الاحداث التاريخية في الدول العثمانية وفارس وذلك لان العراق الجنوبي كان يؤلف على الدوام تفاحة النزاع بين هاتين الدولتين المسلمتين المتجاورتين. لقد كان تاريخ جنوب العراق أي تاريخ البصرة بشكل ما جزءاً لا يتجزأ من التاريخ العام للعراق وهو إلى ثلاث فترات تشمل الاولى حكم الامراء العرب شبه المستقلين الذين كانوا يعتبرون تابعين للدولة العثمانية ، وتتميز هذه الفترة بوجود حركة قومية قوية بين العرب هناك اما الفترة الثانية فتتوافق بدايتها مع السنوات الاول من القرن الثامن عشر ، وتتميز بخضوع العراق الجنوبي خضوعاً تاماً لباشوات بغداد الذين كانوا شبه مستقلين يحكمون ولايتهم بالاستخلاف ويعينون عمالاً من قبلهم لحكم البصرة. وتبدأ الفترة الثالثة اعتباراً من ثلاثينات القرن التاسع عشر ويمكن اعتبارها الفترة التي اخذت فيها قوة العراق بشكل عام وجنوبه بشكل خاص تتزايد بالتدريج سوية مع بقية اجزاء الامبراطورية وبدأت فيها الاصلاحات التي جرت في الدولة العثمانية تعمل عملها في تغيير هذه المنطقة بروح تلك الاصطلاحات. وتبعاً للفترات المذكورة سنقسم سرداً للاحداث التاريخية التي وقعت في العراق على ثلاثة فصول يتعرض اولها للحوادث التي وقعت في العراق على ثلاثة فصول يتعرض اولها للحوادث التي جرت منذ ان ظهر العثمانيون في هذه المنطقة حتى عام ١٧٠٢م في حين ينطوي الثاني على احداث الفترة من ١٧٠٢ حتى ١٨٣١م اما الثالث فيتعلق بالفترة من ١٨٣١ حتى السنوات الاولى من القرن العشرين.

ولقد ثبت الامير راشد الذي اغدق عليه السلطان نعمه بسبب

٩٣

خضوعه الطوعي ، في منصب حاكم البصرة تابعاً للدولة العثمانية وقد تجلت هذه التبيعة بشكلها الظاهري في الخطبة لحاكم الدولة العثمانية وسك النقود باسمه ، فكانت بذلك تبعية اسمية تماماً لها اكثر رسوخاً واشد وضوحاً وهو امر كانت مصلحتها فيه تتعارض بشكل مباشر مع رغبة الامراء العرب المحليين بالمحافضة على استقلالهم التام قدر الامكان. وعلى هذا الاساس لم يكن بالامكان الا ان يحدث الصدام بين العرب والاتراك واول صدام سجله التاريخ في هذا المجال يعود إلى عام ١٥٤٦م عندما قاد والي بغداد اياس باشا بامر من اسطنبول حملة ضد راشد نفسه. لقد كان سبب الحملة رفض راشد ان سلم الاتراك العصاة الذين لجأوا اليه في البصرة ففقد بسبب ذلك منصبه ونفي إلى خارج العراق.

لقد كان السبب في هذا الدرس القاسي الذي اعطى للامير راشد هو خشية السلطان من فقدان البصرة التي كانت لها في نظره اهمية خاصة بالنسبة لخططه السياسية الجديدة. وخلاصة القضية ان اباه السلطان سليماً الذي ورث عن مماليك مصر بعد استيلائه على مصر عام ١٥١٧م مفاتيح الكعبة ولقب بـ «حامي المدينتين المقدستين مكة والمدينة» (١) كان قد اوصل الحدود البحرية للدولة العثمانية إلى البحر الاحمر وذلك بفضل الاستيلاء على شبه الجزيرة العرب الذي بدأ من اليمن. لكن السلكان سليمان لم يرد الاكتفاء بالسيطرة على شبه الجزيرة العرب وحدها بل فكر

__________________

(١) يقصد المؤلف لقب «خادم الحرمين الشريفين» الذي كان سلاطين المماليك في مصر يلقّبون به بحكم تبعية الحجاز لهم وقد ورثه العثمانيون عنهم بعد قضائهم على دولة المماليك واستخدامه في عصرنا الحاضر آل سعود منذ حكم فهد حميد الدراجي واستيلائهم على الحجاز (المترجم).

٩٤

بتوسيع سلطته لتشمل المسلمين الهنود كما اراد الاستحواذ على تجارة الهند المربحة. لقد تولدت الخطط عند سليمان بعد ان اصبح للدولة العثمانية بفضل استيلائها على العراق خلال ١٥٣٤ - ١٥٣٨م منفذ إلى الخليج الفارسي أي انها اصبحت تجاور الهند وتتواجد على الطريق البحري المؤدي إلى هذه الاخيرة وهو الطريق الذي كان العرب باعتبارهم وسطاء للتبادل التجاري بين الهند واوربا يسيطرون عليه حتى نهاية القرن الخامس عشر. وكانت العقبة الرئيسية التي تقف امام تحقيق هذه الخطط المغرية تتمثل في البرتغاليين الذين كان سلطان المماليك قانصوة الغوري (١٠٥١ - ١٥١٦) قد حاربهم في البحر الاحمر دون ان يحالفه النجاح.

اخذ حكام الهند المسلمون انفسهم يدعون سليمان للنضال ضد البرتغاليين في المياه الهندية اعتباراً من عام ١٥٣٩م حين وصلت إلى اسطنبول سفارة ارسلها لهذا الغرض بهادر شاه حاكم كوجرات (١). ولم يتردد السلطان الذي كان يتحرق طموحاً للدخول في صراع مع البرتغاليين على جميع الجهات. لقد انتهى نزاعه معهم في الهند بالفشل. اما في البحر الاحمر فقد كان الصراع سجالاً وطال إلى درجة ان سليمان ركز امله في توجيه الضربه اليهم على الخليج الفارسي الذي كان العثمانيون يملكون فيه قاعدة بحرية وحيدة هي البصرة التي ازدادت اهميتها لهذا السبب بشكل كبير جداً. وكان مما اثر في انتقال الصراع إلى الخليج الفارسي ايضاً طابع التحدي الذي تميز به نشاط البرتغاليين الذين لم يكتفوا باحتلال مسقط في عام ١٥٠٨ م وجزيرة هرمز ١٥١٥م بل عمدوا في نفس الوقت الذي سيطر فيه العثمانيون على العراق تقريباً إلى استيلاء على جميع ساحل الخليج في

__________________

(١) G. R. Low, History of the Indian Navy. Vol. ١, (London, ١٨٧٧), PP. ١٨, ٣٦.

٩٥

منطقة الاحساء بما في ذلك مدينة القطيف التي اقاموا لهم فيها حصناً ومركزاً تجارياً فاصبحوا بذلك جيراناً للبصرة وتحولوا إلى خطر مباشر يهدد العراق. لقد اضطرت هذه الاعتبارات السلطان سليمان على ان يجعل في تقوية الوسائل الدفاعية لميناء البصرة فارسلت اليها من السويس في عام ١٥٥٣م عمارة بحرية تتألف من ثلاثين سفينة بلغ عدد افراد طقمها (٦٠) الف يقودهم بيري ريس. وقام هذا وهو في طريقه إلى محل عمله الجديد بنهب المراكز التجارية البرتغالية في مسقط وجزيرة قشم بل جرب ان يحاصر هرمز الذي دفع البرتغاليين بالمقابل إلى الاستعداد لمحاصرة الاسطول العثماني في ميناء البصرة نفسه. وعندما علم بيري ريس بهذه الاستعدادات خشي من ان يتحطم اسطوله باجمعه فهرب عائداً إلى السويس حيث دفع رأسه ثمناً لتصرّفه الجبان هذا. وقد عين بدلاً من بيري ريس في منصب قبودان باشا البصرة القرصان السابق مراد باشا. ولقد حذا هذا حذو سلفه في اعتبار البصرة محطة غير ملائمة للاسطول العثماني وحاول ان يشق طريقه عائداً إلى مصر ولكنه اصيب بهزيمة ساحقة على يد البرتغاليين بالقرب من هرمز فلم يستطع ان يعيد إلى البصرة الا بقايا قليلة جداً من اسطوله الصغير. وقد استبدل هذا البحار السيء الحظ في ١٥٥٤م باخر ارسل من اسطنبول هو سيدي علي المعروف اكثر بلقبه كاتبي رومي وقد قرر الاميرال التركي الجديد ان ينهض ضد البرتغاليين بشكل حاسم فاصطدم واياهم في البحر مرتين انتهتا في غير صالحه ثم ان عاصفة شديدة صادفته بعد معركته الفاشلة الثانية فادت إلى غرق بعض سفنه ودفعت بالبعض الاخر إلى الهند ومن هناك عاد إلى اسطنبول بطريق البر فوصلها بعد سفر طويل استمر ثلاث سنوات. وهكذا انتهت بالفشل محاولة السلطان سليمان الاستحواذ على السيطرة في الخليج الفارسي من ايدي

٩٦

البرتغاليين فكان ذلك بالاضافة إلى فشل سياسته تجاه الهند ومصاعب الصراع في البحر الاحمر دافعاً اضطر خلفاء سليمان إلى التخلي لاحقاً عن القيام بفعاليات نشطة ضدّ اولئك البحارة.

وما كان بالامكان الا ان تنعكس الاخفاقات التي اصابت قبودان باشا البصرة في الصراع ضد الاسطول البرتغالي سلبياً على اوضاع الدولة العثمانية في جنوب العراق حيث ادت إلى انتعاش الرغبة في الاستقلال لدى القبائل العربية هناك فهذه القبائل مافتئت منذ عهد الشيخين صدقة ودبيس اللذين اقاما في القرن الثاني عشر دولة عربية قوية في الحلة الواقعة على الفرات ، يراودها الامل في تحرير العراق من النير الاجنبي وترسخ السيادة العربية فيه. وجاءت الحرب التي بدأتها الدولة العثمانية ضد فارس في ١٥٤٨ وحجتها في ذلك مساعدة شقيق الشاه الفارسي طهماسب الامير القاص مرزا الذي كان يبحث عن الاسناد والحماية لدى السلطان سليمان فساعدت على انتعاش الامال العربية بدرجة ملحوظة. وهكذا اخذ الشيخ العربي الذي يعرف لدى المؤرخين الاتراك باسم عليان عكله يعمل للاعداد لانتفاضة عامة يقوم بها عرب جنوب العراق. فقام لهذا الغرض بتوحيد جميع القبائل التي كانت تنتقل على طول مجرى الفرات الاسفل في ضواحي البصرة نفسها تحت سلطته. غير انه لم يستطيع ان ينفذ خطته لان الاتراك استطاعوا ان يتداركوا الانتفاضة في الوقت المناسب من جهة ، ولان الامال بالحصول على المساعدة من فارس التي عقدت مع الدولة العثمانية في ١٥٥٥م في اماسية اول معاهدة صلح انهارت من الجهة الاخرى. وهكذا اضطر الشيخ عليان عكله إلى الهرب طلباً للنجاة إلى الجزيرة العربية حيث استطاع بعد اسفار طويلة ان يجد ملجأ له في اليمن وان يحصل على مساعدات بالنقود والرجال والاسلحة من شيخها المطهر

٩٧

بن شمس الدين الذي كان هو الاخر يسعى إلى الاطاحة بالسيطرة العثمانية في اليمن. وهكذا ففي نفس الوقت الذي قام به المطهر في ١٥٦٧م بانتفاضته ضد العثمانيين في الساحل الغربي لشبه جزيرة العرب قام عليان عكله بانتفاضة عربية جديدة في جنوب العراق قمعها في هذه المرة والي بغداد بعد ان بذل جهوداً كبيرة وبعد ان خاض ضد الثوار صراعاً دموياً عنيفاً.

ولم تستطع السلطات العثمانية على الرغم من هذه التدابير الصارمة ان تقضي على الحركة العربية في العراق نهائياً. فلقد هدأت هذه الحركة تحت وطأة القمع موقتاً لكي تشتعل بقوة اكبر عند اول فرصة مؤاتية. ومع ذلك ينبغي ان نلاحظ ان الانتفاظات العربية في العراق لم تكن عنيفة ولم تستغرق وقتلاً طويلاً في عهد السلطان سليمان الذي يسميه الاوربيون «الفخم» ويطلق عليه الاتراك لقب «المشرع» (١) وفي عهد السلطانين اللذين اعقباه وهما سليم الثاني (١٥٦٦ ـ ١٥٧٤) م ومراد الثالث (١٥٧٤ ـ ١٥٩٥ م) أي في الفترة التي كانت فيها الامبراطورية العثمانية في اوج مجدها وقوتها وذلك لان الحكومة العثمانية التي لم تكن قد انشغلت بعد بمعالجة الفوضى الداخلية - كانت تستطيع ان تخمدها بشكل فعال وفي الوقت المناسب. لكن الصورة تغيرت تماماً في عهد السلاطين الذين حكموا بعد ذلك ابتداء من محمد الثالث الذي اعقب مراداً. فقد بدأت في عهده فترة من الفوضى والاضطرابات الداخلية استمرت نصف قرن كانت فترة الهدوء النسبي القصيرة التي حلت خلالها في العاصمة وفي الاقاليم الاسيوية تعتبر

__________________

(١) انظر هامشنا في الصفحة ١٨٨ من الجزء الاول من هذا الكتاب. (المترجم) ويطلق عليه الكتاب الغرب لقب القانوني (حمد الدراجي).

٩٨

استثناء سعيداً. وقد انعكس تدهور الدولة العثمانية بالدرجة الاولى في انعدام الضبط داخل القوات العسكرية وفي التمردات العسكرية المتواصلة في اسطنبول وفي الاقاليم وكان التغلب على الجنود المنفلتين وعلى الاخص الانكشارية امراً صعباً لا سيما وان العرش كان قد شغله اعتباراً من احمد الاول امراء صغير والسن كانوا قد خرجوا لتوهم من سجن الحريم حيث كانوا يبقون في العادة إلى ان يبلغوا سن الرشد تحت توجيه امهاتهم بل وتوجيه خصيان الحريم (١) ولهذا فليس هناك مايدهش في ان السلطة المركزية التي تعاني من عدم الاستقرار لم تكن مؤهلة للمحافظة على النظام في جميع انحاء الامبراطورية المترامية الاطراف ولا سيما طبعاً في الاصقاع البعيدة كالعراق.

لقد اقترنت في العراق الاصداء الاولى للاضطرابات الجديدة التي شملت الامبراطورية كلها بانتفاضات الاقطاعيين العثمانيين من التركمان والاكراد الذين كانت الحكومة قد جردتهم من اقطاعياتهم بسبب عودتهم من الحملة البحرية في ١٥٩٨م دون اذن من الحكومة لذلك فقد ثاروا بزعامة البكلربك المصري السابق العقيد عبد الحليم. وقد استولى هذا المغامر الذي اشتهر بلقب «قره يازجي» أي «الكاتب الاسود» في البداية على اديساً (٢) ثم اخضع ، بعد ان وجد له الكثير من الحلفاء بين اقطاعي اسيا الصغرى ، شمال غرب ما بين النهرين والجزء المتاخم له من اسيا الصغرى. اما في جنوب العراق فقد بدأت الاضطرابات عندما شارك الي بغداد انذاك دلي حسن في عصيان اخيه قره يازجي الامر الذي ادى إلى

__________________

(١) . G. R. Von Sax. Geschichite des Machtverfalls der Turkei Wien ١٩٠٨, S. ٥٠.

(٢) مدينة أورفة حالياً. (المترجم).

٩٩

تحرج وضع الحكومة العثمانية في تلك المناطق ، اذ لم تلبث فصائل الثوار ان ملأت المنطقة كلها. وفي الوقت الذي قامت فيه فصائل الشيخ العربي الذي اتخذ لنفسه لقباً فارها هو مبارك (١) شاه بأجتياح منطقة البصرة استطاع المدعو محمد بن احمد الطويل وكان من اقرباء احد زعماء العصاة في اسيا الصغرى ان يستولي على بغداد نفسها. وقد تجمعت تحت رايته اعداد كبيرة من العرب بحيث استطاع ان يحطم القوات العثمانية التي ارسلت ضده من ديار بكر بقيادة ناصيف باشا دون صعوبة تذكر (٢) ، وواصل الحكم في بغداد حيث تولى حكمها من بعده ابنه مصطفى. وظل هذا الاخير في بغداد حتى عام ١٦٠٨م عندما طرده منها محمد باشا جغاله زاده الذي عيّن والياً عليها للمرة الثانية وهو ابن احد الجنوبيين المرتدين (٣).

وفي الوقت نفسه حدثت في البصرة التي كان الثوار قد عزلوها عن بقية العراق احداث في غاية الاهمية فمنذ بعض الوقت اخذ يعلو في عاصمة العراق الجنوبي شأن اسرة احد كبار ملاك الارض العرب ويدعى سياب (٤) ، وكان ممثل هذه الاسرة انذاك يشغل منصب قائد القوات غير النظامية التابعة لحاكم البصرة ايوب باشا. وقد استغل هذا العربي الذكي الحاذق الاضطرابات التي شملت العراق وعجز الباشا الذي ترك يواجه مصيره لوحده في المنطقة التي شملها العصيان فدفع الحاكم سيء الحظ

__________________

(١) مبارك المشعشي. (المترجم).

(٢) Jorga, Op. Cit. T. IIIS. ٤٣٥.

(٣) يقصد احد الجنوبيين الذين تركوا المسيحية واعتنقوا الاسلام. (المترجم).

(٤) يقصد المؤلف هنا الاسرة المعروفة باسم افرسيان التي حكمت البصرة في الفتية ١٥٩٦ ـ ١٦٦٨ م. (المترجم).

١٠٠