ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

الكسندر أداموف

ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٣
  الجزء ١ الجزء ٢

أقل ، وذلك لأن اوراق البنكنوت التي اصدرها البنك العثماني نفسه ليست واسعة الانتشار في السوق المحلي. وخلاصة القضية ان البنك طرح منذ اللحظة التي ظهر فيها في العراق في عام ١٨٩٤ كميات من النقود الورقية من فئة الليرة العثمانية الواحدة والخمس ليرات ، وكانت الكمية التي طرحها كبيرة بحيث عجز البنك بعد ذلك عن استبدالها بعملية معدنية في بغداد ذاتها ولهذا فقد تحتم على حاملي هذه النقود الورقية بيعها بعد خصم كبير من قيمتها إلى التجار الذين لهم علاقات مباشرة مع اسطنبول وقد ادى ذلك إلى تقويض الثقة بالنقود الورقية (١).

يستحل علينا ونحن نحصي نتائج كل ماذكرناه في هذا الفصل عن التجارة العراقية ، ان لانستنتج بان تحولاً حاسماً فصل فيها إلى الاحسن مع بداية القرن الحالي وادى إلى زيادة كبيرة في الاستيراد والتصدير على السواء. وتمكننا هذه الحقيقة من ان نفترض بأن التجارة المحلية قد انطلقت اخيراً من نقطة الركود التي توقفت عندها في نهاية القرن السابق واخذت بالتطور منذ ان افتتحت قناة السويس بسبب التغيّر الحذري الذي حصل في ظروف العراق.

وفي هذه الاثناء يجري الان تحديد حلول مرحلة تاريخية جديدة تعد باحداث التغييرات جوهرية في النظام الاقتصادي لهذه المنطقة. ونقصد هنا انشاء سكة حديد بغداد التي يستحيل علينا لهذا السبب اغفالها في هذا الفصل المخصص لبحث التجارة العراقية. لقد وضعت بداية العهد الجديد على الورق في ١٩٠٣ عندما شركة سكك حديد الانضول العثماني

__________________

(١) eport for The year ١٨٩٥ on The Trade of The Vilayets of Baghdad and Basrah, No ١٧٨٥, p. ٢.

٣٨١

على امتياز الخط المذكور ولكن البداية الفعلية لن تحل قبل اليوم الذي يربط فيه خط حديدي متصل سواحل البصر المتوسط بضفاف الخليج فيعيد بذلك لوادي الفرات اهمية التاريخ كأقصر طريق بين هاذين البحرين.

وكانت بريطانيا باعتبارها مالكة للهند اول من قدر قيمة هذا الدور المهم لوادي الفرات فعمدت ، منذ ان قامت بعثة العقيد جسني في ١٨٣٥ ببحث صلاحية الفرات للملاحة إلى طرح عدد كبير من المشاريع لمد خط حديدي من البحر المتوسط إلى الخليج. غير ان جميع هذه المشاريع ظلت مجرد اقتراحات لان الحكومة البريطانية التي كانت مشغولة في اجزاء اخرى من العالم لم تُعِرْ هذه القضية ماتستحقه من اهتمام ، ولان اصحاب الاعمال لم يجرؤوا على المخاطرة برؤوس اموالهم في بناء خط اعتقدوا انه غير مربح. وهكذا اصبح تحقيق هذه المشاريع من نصيب شركة سكك حديد الأنضول العثماني التي طرحت ألمانيا من خلالها خطة ضخمة لبناء السكك الحديد هدفها سد حاجة الامبراطورية العثمانية العسكرية والادارية إلى طرق مواصلات جيدة وايضاً وبدرجة لا تقل عن ذلك تطمين حاة الصناعة الالمانية الملحة إلى المواد الخام والى اسواق جديدة لبيع منتجاته.

ولا يبدو ضرورياً التوسع في الحديث عن الاهمية العسكرية والادارية لربط المناطق البعيدة والتي لم تهدأ نهائياً لحد الآن كالعراق بالعاصمة بخطوط حديدية بالنسبة للدولة العثمانية. اما فيما يتعلق بمصالح المانيا في هذا المشروع فان المسالة تبدو اكثر تعقيداً وان كانت لا تقل وضوحاً. ان التحول الذي طرأ على الحياة الاقتصادية في امبراطورية آل هوهنزليرن في الرعب قرن الاخير ونعني التطور الهائل في شبكة المصانع والمعامل فيها وانتقال السكان من العمل الزراعي إلى العمل الصناعي ، ادى في الوقت الحاضر إلى تعجز تربة المانيا عن اطعام السكان جميعهم وعن سد

٣٨٢

حاجة الصناعة المعملية إلى (١) الخامات (٢). هذا في حين ان الانضول وسوريا وما بين وجنوب العراق التي كانت في السابق كثيفة السكان تمتلك كل المؤهلات التي تجعلها تعطي في المستقبل ، على ما يعتقده رورباخ (٣) نفس كمية الحبوب التي تستوردها المانيا حالياً من روسيا إلى جانب امكانية تطوير زراعة القطن على نطاق واسع فيها. وهكذا فأن مناطق الدولة العثمانية الآسيوية هذه مدعوة لان تكون المورّد الطبيعي للخامات التي تحتاجها المانيا والمستهلك لمنتجاتها الصناعية في الوقت نفسه.

ومع ذلك فقد كانت هناك صعوبات كبيرة جداً تعترض تحقيق هذه الخطة الضخمة ، ابتداء من وجوب الاهتمام بمد الطريق في الاتجاه الذي يحقق اقصى مايمكن من الربح وانتهاء بضرورة اخذ المصالح التجارية للدول الكبرى الاخرى بنظر الاعتبار. ولهذا فليس هناك مايدهش في ان اتجاه سكة حديد بغداد تغير بشكل جذري اكثر من مرة بسبب ظهور هذه المشكلة أو تلك.

لقد شمل الامتياز الاول الذي حصل عليه البنك الألماني في ١٨٨٨ بناء سكة من حيدر اباد إلى انقرة مع وعد بمد أجزاء اخرى إلى سيواس فبغداد اعتماداً على الغاء الضمانات الكيلومترية (٤) بالنسبة للاجزاء التي

__________________

(١) هذه الحجة التقليدية التي يلجأ اليها الاستعماريون لتبرير توسعهم في الاقطار اخرى محاولين بذلك اخفاء الاسباب الحقيقية للتوسع وهي اسباب تكمن في طبيعة النظام الراسمالي نفسه. (المترجم).

(٢) Raul Rohrbeach, Die Bagdadhahn, (Berlin, ١٩١١), S. ١٣ ff.

(٣) Ibid. Berlin ١٩٠٢, S. ٢٤

(٤) انظر هامشنا حول الضمانات الكيلومترية في الصفحة ١٠٨ من الجزء الاول من هذا الكتاب. (المترجم).

٣٨٣

ستبني من السكة. وكانت الحكومة العثمانية التي مازالت تحت تأثير حربها الاخيرة مع روسيا (١) تحلم بهذا الخط الاستراتيجي المهم ، كما ان توقف الترانسبت فيما وراء القفقاس في عام ١٨٨٣ جعل اصحاب الاعمال الألمان يأملون في ان يتحول تبادل البضائع بين اوربا وفارس إلى طريقهم الجديد. وقد ادت هذه الظروف إلى وضع ما يسمى بالخيار الشمالي لسكة حديد بغداد ، الذي بمد الخط من انقرة إلى يوزكات فسيواس ثم كنكال وفي هذه الاخيرة يتفرع إلى فرعين يذهب احدهما نحو ارزنجان فارضروم (٢) ثم إلى بايزيد باتجاه الحدود الفارسية ، بينما يذهب الآخر إلى بغداد عن طريق خربط وديار بكر. وقد انشئت لبناء هذا الخط وتشغيله شركة اسمها (Societe Othomane des Chemins de fer d Anatolie) (٣) تالفت من البنك الألماني في برلين وWuthem bergische Vereinshonk في شتوتكارت (٤). وقد وصلت السكة حتى عام ١٨٩٣ إلى انقرة غير ان مواصلة بنائها باتجاه الشمال اهملت لاسباب عديدة ليس اخرها الموقف السلبي الذي وقفته روسيا وكذلك عدم تحقق الامال بجذب الترانسيت الاوربي الذي اتجه إلى الخليج بدلاً من ان يتحول إلى السكة الجديدة. وفضلاً عن ظهر انه من الصعب جداً تنفيذ الخيار الشمالي من وادٍ إلى اخر ثم الهبوط إلى الفرات الامر الذي كان يتطلب بناء الكثير من المنشأت الاصطناعية كالانفاق

__________________

(١) يقصد المؤلف هنا الحرب الروسية ـ التركية ١٨٧٧ - ١٨٧٨. (المترجم).

(٢) iegmund Schneider. Die Deutche Bagdad - Bahn Wien und (Leipzig,١٩٠٠), S. ٢٣_٢٤.

(٣) الشركة العثمانية لسكك حديد الانضول. (المترجم).

(٤) Rohrbach op. cit (Berlin, ١٩١١), S. ٢٩

٣٨٤

والجسور وغيرها على امتداد هذه السكة الجبلية. وقد اجبرت هذه الاعتبارات كلها شركة سكك حديد الانضول على ان تحصل في السنة ذاتها أي في ١٨٩٣ على امتياز بمواصلة مد السكة من انقرة إلى قيصرية فملاطية فديار بكر أي باتجاه يميل إلى الجنوب اكثر من الاتجاه السابق وقد عرف هذا الاتجاه الجديد بين التغيرات التي اجريت على خطة سكة حديد بغداد الاولى بأسم الخيار الاوسط (١). ومع ذلك فلم يباشر ببناء الطريق الجديد ايضاً بسبب الصعوبات التكنيكية نفسها لان الاتجاه الجديد كان يحتّم بناء السكة في منطقة تتخللها السلاسل الجبلية ، ولهذا فقد تحولت الشركة المذكورة تلافياً للجبال إلى الجنوب اكثر وباشرت بانشاء السكة الحديد من اسكي شهر إلى قونية. وقد أريد لهذا الخط الجديد ان يمتد إلى هرقليا ومنها إلى أطنة ومرعش وعينتاب واروفة وديار بكر وماردين والموصل وكركوك ودلي عباس حيث يذهب فرع إلى مندلي والحويزة والمحمرة بمحاذاة نهر دجلة في حين يتجه فرع اخر إلى بغداد ثم إلى كربلاء والنجف وسوق الشيوخ والبصرة والكويت بمحاذاة نهر الفرات. وقد شكل هذا الاتجاه ما يعرف بالخيار الجنوبي لسكة حديد بغداد. وقد حصلت شركة سكك حديد الانضول على الأمتياز الاول للخط المذكور في ١٨٩٩ ووقع الفرمان النهائي الخاص به وشروطه التفصيلية في ١٩٠٣ وذلك بعد ان تجولت لجنة خاصة من المهندسين الألمان برئاسة القنصل الألماني العام في اسطنبول السيد شتمريخ في المنطقة التي سيمر فيها الخط المذكور ودرستها دراسة تفصيلية انتهت بعدها إلى مساندة الاتجاه الذي جرى اختيار بشدة. ومع ذلك لم ينجح الخيار الجنوبي لسكة حديد بغداد

__________________

(١) Rohrbach, op. Cit. S. ٢٩.

٣٨٥

من تغيرات جوهرية اجريت على خطته الاولى ، وهي تغييرات حتمتها رغبة بناة السكة الالمان في تجنب مد خط السكة في مناطق طوروس وجبال ارمينيا وكردستان. وهكذا فقد جري تعيين الاتجاه الاتي بخطوطه العامة : - تسير السكة من اطنة مباشرة إلى جرابلس (جيرابوليس القديمة) الواقعة على نهر الفرات إلى الجنوب من برجك ومن هناك تستمر عبر حلف إلى نصيبين عبر الصحراء بمحاذاة الضفة اليمنى للفرات إلى الزبير فالبصرة (١).

ولو امعنا النظر في خط سير سكة حديد بغداد هذا فسنلاحظ حتماً ان السكة تجتاز على طول امتدادها من أطنة إلى البصرة مناطق خصبة كل قطعة من الارض فيها صالحة للزراعة. فسهل قليقيا مثلاً الذي تحميه جبال طوروس من الرياح الشمالية وترويه إرواءً جيداً ثلاثة أنهار هي بدران وسيحون وجيهان ، يمكن مقارنته من حيث ثرائه النباتي بمصر السفلى فهو ينتج إلى جانب الكثير من القطن وقصب السكر والبنجر والتوت والزيتون والبرتقال والليمون (٢). اما سوريا التي تجاور وادي قليقيا وولاية حلب التي تتاخمها مع متصرفية دير الزور فقد اشتهرت منذ القدم بزراعة القطن يؤكد ذلك ان كلمة «بامبيك» وهي التسمية القديمة للمنطقة الواقعة بين حلب وبرجك على الفرات اصبحت تسمية عامة للقطن باللغة اليونانية وكذلك باللغات اللاتينية ((bombyx كما هي الحال مع التركية (بامبوك) (٣). اما إلى الشرق من الخابور رافد الفرات أي في ولاية اموصل فقد ادت غارات

__________________

(١) Rohrbach; op. Cit. S. ٣٤ + ٣٥

(٢) V. Berard. Le Sultan l Islamet puissances, (Paris, ١٩٠٧). Pp. ٢٦٠_٢٦٣.

(٣) Rohbach, Op. Cit. S, ٥٩.

٣٨٦

الاكراد من الشمال والعرب من الجنوب ، إلى تقلص مساحة الارض المزروعة ومع ذلك فقد ظلت الولاية المذكورة تشتهر بزراعة التبغ وتشارك كما رأينا مشاركة كبيرة في تصدير الحنطة وكذلك الصوف وشعر الماعز والعفص والصمغ عن طريق البصرة. ويتاخم ولاية الموصل من الجنوب العراق الذي تحدثنا في الفصل الحالي بالتفصيل عن تصديره الواسع للمنتجات الزراعية ، ولم يبق الا ان نضيف ان هذه المنطقة صالحة ايضاً لزراعة القطن واشجار التوت وهي امور مهملة حالياً.

ان هذا الاستعراض السريع الذي قمنا به للأقطار التي ستمر فيها سكة حديد بغداد على اقتضابه كافٍ لان يجعلنا نتبين كم هو دقيق اهتمام رجال الاعمال بتطمين المطلب الاساس الذي توخنه الصناعة الألمانية من سكة حديد بغداد وتعني تزويدها بالخامات وتأمين سوق جديد لتصريفها. وجميع هذه المنطقة الغنية التي تقطعها السكة هي الان في حالة تدهور شديد بحيث انه سيكون على الرأسمال الالماني والهمة الألمانية ان يقوما بعمل صعب ولكن جيد المردود لاعادة الحياة إلى هذه الاقاليم العثمانية الاسيوية. ويكاد يكون العراق الذي يعتمد تطوير قواه المنتجة تمام الاعتماد على تأمين الري الصناعي له اسوأ هذه الاقطار حالاً.

وفي الوقت الذي اناطت فيه الحكومة العثمانية قضية إرواء وادي قونية عن طريق سحب المياه من بحيرة بايشهر بشركة مغمورة تألفت بمشاركة مباشرة من البنك العثماني واضطلعت الشركة المذكورة ذاتها بري وادي قليقيا ايضاً (١) ، فأن قضية وضع خظة الاحياء العراق كان قد بدأها منذ عهد السلطان عبد الحميد ، المهندس الانجليزي ويلكوكس الشخصية

__________________

(١) Rohbach, Op. Cit< (Berlin, ١٩١١), S. ٥٣_٥٨.

٣٨٧

المعروفة في ري مصر. وكان هذا الاخير قد توصل بعد أن درس المنطقة ومصادرها المائية بعناية ، إلى الاستنتاج بأن أفضل توزيع لمياه دجلة والفرات يمكن التوصل اليه عن طريق احياء نظام الي القديم مع بعض التغييرات التي يحتاجها تقدم التكنيك المعاصر. وانطلاقاً من وجهة النظر هذه وضع ويلكوكس خطة واسعة لاصلاح قنوات التي كانت قائمة منذ العهد الكلداني وبناء خزانات خاصة لخزن مياه الانهار الزائدة اثناء الفيضان والحفاظ على المياه في القنوات بالمستوى الذي تتطلبه الزراعة بمساعدة نظام معقد من القناطر والسدود والخزانات الصغيرة. ومع ذلك فقد اعتقد ويلكوكس بانه حتى لو جرى هذا التحسين الجذري للري فأن المياه المتوفرة لن تكفي لارواء ٥٠٠٠٠٠٠ هكتار هي مساحة دلتا الفرات ودجلة ابتداء من هيت على الاول وبلد الواقعة إلى الجنوب من سامراء على الثاني ، فالري لن يؤمن في هذه الحالة الال ٣٠٠٠٠٠٠ هكتار للمحاصيل الشتوية و ٠٠٠ر١٦٥ هكتار للمحاصيل الصيفية منها ٤٠٠٠٠٠ هكتار لزراعة الرز والباقي لزراعة الحبوب الاخرى والقطن (١).

ولا يبدو الامل بتحقيق هذا المشروع الجسيم في المستقبل القريب ممكناً وذلك لان الكلفة التقريبية التي حددها ويلكوكس لتوفير الارواء للعراق هي ١٠ ملايين جنية استرليني وهو مبلغ لا يتحمله الوضع المالي للدولة العثمانية ، ولذلك فأنها لا تستطيع ان تستغني في هذه المسألة عن مساعدة رؤوس الاموال الاجنبية. غير ان الحصول على مثل هذا المبلغ الضخم تعترضه عقبات لا تنتهي سيما ان المشروع نفسه لا يعد بالنجاح الا بعد ان تحل قضية جوهرية اخرى هي توفير الايدي العاملة نظراً لقلة

__________________

(١) W. Willcoks, The Irrigattion of Mesopotamia, (London, ١٩١١), p:٩-١٠.

٣٨٨

لكثافة السكانية في المنطقة. ولهذا ينبغي قبل البدء باحياء القنوات القديمة ، التفكير جدياً بجذب الزراع إلى هذا القطر وهو امر تعيقه لدرجة كبيرة ظروف المناخ في جنوب الحراق حيث لا يستطيع العيش الا الهنود والمصريون ، فهل سيوجد بين افراد هذين الشعبين من يريد النزوح إلى هنا اختيارياً؟ تلك مسالة ما تزال مثار بحث حتى الوقت الحاضر. وقد اوقفت صعوبة هذه المسألة ويلكوكس نفسه فارتأى تنفيذ الخطة التي وضعها على مراحل وذلك بأن تكون البداية بارواء ٥٥٠٠٠٠ هكتار تقع بين بغداد على دجلة والكوفة على الفرات يباشر بعدها بري منطقة قنوات شط الحي وبلد والدجيل والنهروان على التوالي ، وستبلغ المنطقة المروية باجمعها بموجب حسابات ويلكوكس في هذه الحالة ما يقرب من ١٢٠٠٠٠٠ هكتار وستعطي حاصلاً سنوياً مقداره مليون طن من الحنطة و ٤٠٠٠٠٠ بالة من القطن.

وتشهد هذه الارقام على المدى الهائل الذي سيبلغه حجم التصدير العراقي عند تأمين الري الصناعي للزراعة المحلية واسنادها لنقل ملائم بوساطة السكك الحديد. ولكن هذا التطور في القوى المنتجة للعراق لن يتحقق الا في المستقبل القريب أو البعيد فأننا الان على ايضاح التأثير الذي يمكن ان تحدثه سكة حديد بغداد ذاتها على التجارة العراقية.

ينبغي ان نلاحظ ابتداءً ان بناة سكة حديد بغداد انفسهم حرصوا على ان يجعلوها تمتد باتجاه ملائم يهدف إلى ان يجذب لها اكثر ما يمكن من تبادل البضائع بين اوربا ومقدمة اسيا. وطالما أن جعل نقطة انطلاق السكة في ميناء حيدر باشا على البسفور وهو ميناء يقع بعيداً عن الطريق البحري المطروق القادم من اوربا ، لا يمكن ان يساعد على تحقيق هذا الهدف ، فقد اندمجت شركة سكك حديد الانفضول مع شركة السكك الحديد الفرنسي «سميرنا - قصبة» وجعلت خطها يلتقي مع الخط الفرنسي

٣٨٩

في افيون قرة حصار ذلك ميناء سميرنا (١) نقطة امامية لسكة حديد بغداد. ومع ذلك فأن الاتجاه الجديد ايضاً لم يقنع رجال الاعمال الألمان الذين ماكان بامكانهم ، مع تقدم بناء الخط الا ان يقتنعوا بان نقل البضائع من سميرنا إلى المراكز الرئيسة في سوريا ومابين النهرين بواسطة السكة الحديد يكلف غاليا إلى درجة لا يستطيع معها منافسة الطرق البحرية الرخيصة. ولهذه الاسباب اختارت شركة سكة حديد بغداد في ١٩٠٦ مرسين لتكون نقطة انطلاق للسكة واشترت اسهم شركة السكك الحديدية الفرنسية «اطنة - مرسين» ، وفي ١٩١١ وقع اختيارها نهائياً على مدينة الاسكندرونة ، وقد تخلى اصحاب الاعمال للحكومة العثمانية في السنة المذكورة عن حصتهم التي تضمنها الامتياز ببناء الجزء الاخير من السكة وهو الجزء الواقع بين بغداد والخليج ، وحصلوا على امتياز لتجهيز الميناء وربطه على الفور مع محطة عصماني الواقعة في وادي أطنة على الخط الرئيسي للسكة ، بفرع من السكة طوله ٦٠ كم ، علماً بأن ربط الميناء المذكور في السمتقبل مع مدينة حلب بواسطة سكة حديد لن يسبب صعوبة تذكر باستنثاء بناء طريق جبلي صغير عبر سلسلة امانوس التي تفصل الاسكندرية عن سهل حلب.

وهكذا اتضح الان نهائياً ان الاختيار قد وقع على الاسكندرونة لتكون نقطة الانطلاق لسكة حديد الالمان بغداد ، الأمر الذي يُحوّل هذه السكة ، بالارتباط مع قرار المهندسين اللمان بمد خط بغداد إلى حلب مباشرة ثم الاستمرار به من هناك ، إلى ان يقطع الفرات في نقطة تبعد ٢٥ كم إلى الجنوب من برجك ، إلى أقصر وافضل طريق بين البحر المتوسط والخليج. ولن يستغرق نقل البضائع من لندن إلى الاسكندرونة ومن هذه الاخيرة بواسطة السكة إلى بغداد ، بفضل الاتجاه الجديد لسكة حديد بغداد اكثر

__________________

(١) سميرنا هو الاسم القديم لمدينة ازمير التركية وقد اشرنا الى ذلك في هامشنا في الصفحة ٩٥ من الجزء الاول من هذا الكتاب - المترجم.

٣٩٠

من ثلاثة اسابيع ، في الوقت الذي يتطلب فيه ايصال البضائع حالياً إلى بغداد عن طريق قناة السويس مالا يقل عن شهرين في الفضل الاحوال. اما فيما يخص كلفة نقل البضاعة بطريق البحر أو بواسطة السكة فحتى في هذا المجال لا يمكن ان يكون هناك اختلاف كبير لصالح الطريق الاول. فالواقع ان اجرة نقل الطن الواحد من البضاعة عن طريق قناة السويس ستكون في حالة كون اجرة الشحن البحري جنيهاً استرلينياً واحداً للطن ، ١٥ روبلاً حتى لو أفترضنا بان شركات الملاحة النهرية العاملة في دجلة ستوافق على تخفيض اجور الشحن التي تتقاضاها حالياً بمقدار الثلثين فتصبح ١١ شلناً أي خمسة روبلات وربع للطن الواحد. هذا في حين ان كلفة الطن الواحد من البضاعة بحراً إلى الاسكندرونة ثم بواسطة السكة الحديد عبر مسافة تصل إلى ١٠٠٠ كم تفصل الاسكندرونة عن بغداد لن تتعدى بشكل عام ستة عشر روبلاً ونصفاً (١) ، آخذين بنظر الاعتبار ان كلفة التفريغ في الاسكندرونة تقابلها كلفة التفريغ في البصرة مع تجاوز التفريغ الجزئي الذي يحدث احياناً بسبب الحاجز الرملي في شط العرب. وينبغي ان نلاحظ أن الاختصار الواضح في الوقت وما يؤدي اليه ذلك من تزويد سوق بغداد بالبضائع بشكل اكثر انتظاماً ومن استقرار كبير في اسعار السوق يعوض التجار تماماً عن الفرق في اجزاء النقل بين الطريقين ومقداره روبل ونصف للطن الواحد سيما بالنسبة إلى البضائع الثمينة كالاقمشة والسكر وما أشبه. ولهذا يمكننا الان نتنبأ بدرجة لا يستهان بها من اليقين بان القسم الاغلب من واردات العراق وغرب فارس من اوربا سوف يفضل السكة على الطريق البحري وهناك احتمال كبير بأن البضائع التي تذهب الان عن طريق بوشهر ستأخذ بالتوجه إلى فارس اولاً بواسطة السكة إلى بغداد ومن هناك بواسطة خط صديجة - خانقين إلى الحدود الفارسية لكي تنقل من هناك إلى كرمنشاه. ولكن البضائع الكبيرة الحجم والقليلة القيمة كالمعادن غير المصُنّعة والمواد الخشبية وما أشبه ستظل طبعاً كالسابق تُنقل

__________________

(١) استقينا هذا الرقم من الصفحة ١٠٦ من العدد ١٢٠ الخاص بشهر آذار ١٩١١ من مجلة (LaAsie Francaise) حيث يحدد المؤلف كلفة نقل الطن بـ ٤٥.

٣٩١

عن طريق قناة السويس والخليج. وهكذا سوف تخسر البصرة الكثير باعتبارها ميناء الاستيراد للعراق وغرب فارس ولن يتبقى لها الا اهميتها السابقة بالنسبة إلى الاستيراد من الهند لان ذلك الاستيراد لن يغير خط سيره القديم إلى البصرة وبغداد ولن يستخدم السكة اللهم الا للتغلغل في الاسواق السورية. اما فيما يتعلق بالتصدير فان السكة لن تحدث تغيرات جوهرية فيه وذلك لان الامل قليل وفي البداية على الاقل ، في ان تترك خامات العراق واتجاهها الحالي إلى البصرة ومنها إلى أوروبا لان تعريفة النقل بالسكك الحديد تؤلف رغم كل شيء عب ءاً لا يحتمل بالنسبة لهذه البضائع الرخيصة وأغلب الظن أن الجزء الأخير من السكة وهو الجزء الواقع بين بغداد والبصرة سوف يشارك في التصدير العراقي وذلك لان صعوبات الملاحة في الفرات ودجلة تزداد من سنة إلى اخرى نتيجة لتراكم الترسبات ولان طريق السكة الذي هو اقصر من الطريق النهري بسبب التعرجات الكثيرة التي يمتاز بها مجرى النهرين ، سيمكن مؤسس الجزء المذكور من السكة من اعتماد تعريفة النقل بواسطة السكة لا تزيد عن أجرة النقل النهري. وفي حالة تمتد السكة إلى الكويت أو إلى أي نقطة أخرى على الخليج سيكون من المتوقع تماماً أن يفضّل القسم الأغلب من الخامات المصدرة طريق السكة على الطريق النهري تجنباً للتفريع الذي لا ضرورة له في البصرة أو عند الحاجز الرملي في مصب شط العرب.

لم يبق لنا إلاّ أن نضيف إلى ما ذكرناه عن التأثير المحتمل لسكة حديد بغداد على التجارة العراقية ، القول بأن تقدير الانقلاب الذي ستحدثه السكة في الحياة الثقافية والاقتصادية لهذه المنطقة مسبقاً أمر غير ممكن ، ولكن لا يمكن إلاّ ان يكون انقلاباً كبيراً ويكفي ان نتذكر في هذا الصدد مدى التأثير المفيد الذي أحدثته السكك الحديد على مناطق نائية تشبه العراق في روسيا.

٣٩٢

الفهرس

تقديم.......................................................................... ٣

مقدمة الجزء الثاني.............................................................. ٥

الفصل السادس................................................................. ٧

الفصل السابع................................................................ ٨١

الفصل الثامن............................................................... ١٢٣

الفصل التاسع............................................................... ٢٢٣

الفصل العاشر............................................................... ٢٨٢

الفهرس..................................................................... ٣٩٣

٣٩٣