ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

الكسندر أداموف

ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها - ج ٢

المؤلف:

الكسندر أداموف


المترجم: الدكتور هاشم صالح التكريتي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ميسلون للنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٣
  الجزء ١ الجزء ٢

ايوب باشا (١) إلى ان يتنازل عن منصبه له مقابل ٤٠٠٠٠ قرش ويهرب من البصرة وقد دفع بعد ذلك رأسه ثمناً لهذا التصرّف (٢). وقد استولى سياب بعد سفر الباشا على السلطة العليا في البصرة ثم اسرع يخبر السلطان بخضوعه له واستعداده لان يكون تابعاً للدولة العثمانية وقد استغل الباب العالي هذا التوجه الذي يدل على الخضوع بعطف خصوصاً وانه كان في ذلك الوقت مشغولاً في تركيز كل اهتمام وقوة الحكومة المركزية على تهدئة القوات العسكرية في العاصمة نفسها وفي اخماد الانتفاضات القائمة في اسيا الصغرى. وكان هناك سبب آخر في تثبيت سياب في منصب عامل البصرة وكان ذلك قد حصل بوجب فرمان سلطان خاص في ١٦١٦ م. وهو ان رفض الباب العالي يمكن ان يدفع هذا العربي المتنفذّ إلى احضان الشاه لا سيما وان العرش الفارسي لم يكن يشغله في ذلك الوقت طهماسب الضعيف الذي يعوزه الحزم بل حفيده عباس الذي سمّي بالكبير.

تغيرت ادوار كل من فارس والدولة العثمانية في ذلك الوقت ايضاً فقد كانت الاولى تأخذ باسباب القوة في حين تزداد الثانية ضعفاً بسبب التحلل الداخلي. لقد كانت فارس خارجة لتوها من فترة اضطراب وبلبلة داخلية استمرت من موت طهماسب الطاعن في السن عام ١٥٧٦ م. إلى ارتقاء حفيده عباس مرزا العرش في ١٥٨٧م وقد استغلت الدولة العثمانية ضعف جارتها فاقتطعت منها جورجيا واذربيجان وخانية شيروان في حين استولى حلفاء الازبيك وهم جيران الفرس من ناحية الشرق واعدائهم منذ

__________________

(١) كان حاكم البصرة في تلك الاثناء هو علي باشا وليس ايوب باشا. (المترجم).

(٢) J, B. Tavennier lessix voyages en Turquie. En perse et eux Indes T. ١, (Paris, ١٦٤٢), P. ٢٤٤.

١٠١

القدم على هراة ومشهد (١). وهكذا ورث الشاه الجديد دولة هزتها الفتن الداخلية واقتطع الاعداء الخارجيون من اراضيها. وقد باشر الشاه عباس اموره بنشاط فاعاد في بداية الامر النظام والهدوء إلى الدولة ثم الحق بعد ذلك بالازبيك هزيمة نكراء وبعد ان تم له ذلك توجه نحو العثمانيين فاستطاع في الفترة الواقعة بين ١٦٠٣ و ١٦١٨م ان يستعيد منهم جميع الاراضي التي كانوا قد اخذوها من فارس. وهكذا يبدو مما ذكرنا ان بأس وقوة الدولة الفارسية كانا يزداد بفضل مواهب الشاه عباس المشهورة لا من يوم لاخر بل من ساعة لاخرى ، في القوت الذي كان فيه الانحلال الداخلي في الدولة العثمانية يجري بوتائر سريعة فالى جانب الثورات العديدة باسيا واكثرها جدية عصيان والي حلب الكردي جنبلاط ، كان شغب الجنود في العاصمة نفسها قد بلغ حده الاقصى فالانكشارية الذين كانوا قد عزلوا العديد من السلاطين لم يتورعوا عن قتل عثمان الثاني عام ١٦٢٢م لانهم لم يكونوا راغبين به. وهكذا اصبح الانكشارية حكام الدولة الفعليين واخذوا يتدخلون في جميع شؤون الحكم الداخلية ابتداء من تعيين واقالة الوزراء والولاة وانتهاء بفرض الضرائب والاتاوات الجديدة. وفي عام ١٦٢٢ ثار والي ارضروم اباضة باشا ضد تعسف الانكشارية واعلن انه يريد الانتقام لمقتل السلطان عثمان ثم سار نحو العاصمة مبيداً حاميات الانكشارية المتواجدة في جميع المدن التي وقعت في طريقه الامر الذي ادى إلى اتساع الاضطرابات وشمولها (٢).

في مثل هذا الوضع المضطرب حتى في اقرب الاقاليم إلى العاصمة

__________________

(١) Malcolm; OP. T. II, P. ٣٢١ FF.

(٢) Jorga; OP. Cit; T. IIIS. ٤٤٦.

١٠٢

لم يجد سياب صعوبة كبيرة في الحصول على اقرار السلطان له في منصب عامل البصرة وفي ان يصبح حاكماً عربياً شبه مستقل عن الباب العالي.

وقد ساعدت المدخولات الكبرى تقوية سلطته بدرجة لايستهان بها وكانت هذه المدخولات تتألف من الضريبة الكمركية التي بلغت انذاك عدة ملايين ليفر (١) وذلك بفضل السياسة التجارية الحكيمة التي انتخبها سياب اولال وخلفاؤه فقد اسبغوا حمايتهم على البرتغاليين اولاً ومن ثم على الهولنديين والانجليز والهنود الذين كانوا يجلبون إلى البصرة التوابل والاقمشة وغيرها من منتجات الهند لبيعها إلى تجار الشرق الادنى الذين كانوا يتوافدون إلى هناك ، وكذلك من ايراد الضربية المفروضة على تصدير التمور والخيول العربية والجمال ، واخيراً من الارباح الكبيرة التي تدرها دار اعادة سك النقود وهي دار كان يعاد فيها سك كل ما يجنيه الاجانب من نقود ويجري تحويلها إلى قروش (٢). وقد استطاع امراء البصرة وهو اللقب الذي كان يطلقه الاهالي على آل سياب ، بفضل ما كان بحوزتهم من مبالغ نقدية طائلة ان يمتلكوا قوات مرتزقة كثيرة العدد تمكنوا بواسطتها لامن المحافظة على الهدوء والنظام في المنطقة الخاضعة لهم فقط بل وقمع أي عصيان أو انتفاضة وهي بعد في مهدها ايضاً. كان آل سياب في توثيقهم لعلاقات الصداقة مع الاوربيين يهدفون بالدرجة الاولى إلى تحقيق اهداف اقتصادية ولكنهم لم يسقطوا من حساباتهم ايضاً المصالح السياسة التي من اجلها كانوا يسعون لان يعيشوا بسلام ووفاق مع شيوخ الحويزة المجاورة

__________________

(١) انظر هامشنا عن الليفر في الصفحة ٢٠٦ من الجزء الاول من هذا الكتاب. (المترجم).

(٢) Kitter, OP. Cit. T.VII, S. ١٠٣٤ - ٣٥

١٠٣

التي كانت تدخل ضمن اراضي الدولة الفارسية. اما عن الدولة العثمانية فلقد تصرف سياب الاول في تنفيذ الخط الذي رسمه تجاهها بمهارة كبيرة بحيث لم يلبث الباب العالي ان اقر ابنه علياً خلفاً له في منصب عامل البصرة ومنحه لقب باشا.

لقد وجد امير البصرة نفسه في الحال في وضع صعب حيث تحتم عليه ان يختار بين المحافظة على اخلاصه للسلطان وبين الانتقال إلى جانب الشاه. فالشاه عباس الذي قرر ان يستغل حالة الضعف الشامل الذي كانت تعاني منه الدولة العثمانية اخذ يفكر باعادة العراق المجاورة بمدنه المقدسة إلى سلطة فارس. ولكي يضمن الشاه الناجح لهذا المشروع فكر بان يبدأ باخضاع جنوب العراق فدخل لهذا الغرض في مفاوضات مع عامل البصرة شبه المستقل واعداً اياه بتوسيع حقوقه اذا اعترف بسيادة فارس. لكن وعود الشاه المغرية التي تضمنت جعل ولاية البصرة وراثية في اسرة سياب وعدم مطالبتهم باية ضرائب وعدم التدخل في شؤون الحكم لم تضعف ولاء امير البصرة الجديد علي باشا للسلطان فقد رفض بحزم الخضوع لفارس. ومما يفسر هذا الرفض القاطع من جانب ابن سياب الذي لم يكن يأمل بالمساندة من جانب الباب العالي لانشغاله بانقاذ الدولة نفسها من الانهيار التام ، انه وجد في شخص البرتغاليين حلفاء مخلصين ضد الفرس ، فالبرتغاليون الذين كان الشاه عباس قد طردهم بمساعدة اسطول شركة الهند الشرقية الانجليزية في ١٦٢٢ م أي قبل هذه الاحداث بقليل من جزيرة هرمز ، نقلوا نشاطهم التجاري إلى البصرة حيث وافقوا عن طيب خاطر على حمايتها من تطاولات الشاه لان استيلاء عدوهم هذا على جنوب العراق سيؤدي إلى افلاس التجارة البرتغالية في الخليج العربي افلاساً تاماً لصالح منافسيهم التجاريين - الانجليز. وهكذا

١٠٤

كان بمقدور علي باشا ان يأمل بالحصول على اسناد فعال من جانب السفن الحربية البرتغالية المتوجدة باستمرار في مياه البصرة لحماية مركزهم التجاري (١) وسفنهم التجارية. ولكي يحمي البصرة من الغزو الفارسي من جهة الشمال استجاب علي باشا لنصيحة البرتغاليين وانشأ تحت قيادتهم تحصينات قوية في القرنة الواقعة عند التقاء نهري دجلة والفرات وبنى هناك حصناً يعتبر من الطراز الاول حسب مقاييس ذلك العصر.

وانتشرت في هذه الاثناء وبسرعة انتفاضة والي ارضوم اباظة باشا الذي كان يعمل باسناد من فارس ، فشملت جميع اسيا الصغرى وسهلت للشاه عباس كثيراً خططه في الاستيلاء على العراق لانها جذبت انتباه الباب العالي عن ذلك البلد. وبالاضافة إلى ذلك كان القدر نفسه إلى جانب الشاه عباس في هذه القضية فلقد ثار في ١٦٢٣م ضد الاتراك الامير الحلي بكر (٢) الذي كان يريد من الدولة العثمانية ان تعترف له بوضع شبه مستقل على غرار آل سياب في البصرة لكنه جوبه بالرفض وعندما اقترب من بغداد جيش يقوده والي ديار بكر بادر بكر إلى الانتقال إلى صف الشاه عباس الذي كان قد قرر ان يسبق العثمانيين فسار حثيثاً باتجاه عاصمة العباسيين السابقة واستولى عليها على الرغم من المقاومة اليائسة التي ابداها بكر الذي عاد مرة اخرى فاظهر اخلاصة للسلطان بعد ان اقر الباب العالي به والياً على بغداد (٣).

__________________

(١) لم يكن للبرتغاليين على ما نعلم مركز تجاري في البصرة (المترجم).

(٢) يقصد بكر صوباشي (المترجم).

(٣) De Hammer, OP. Cit, II, PP. ٣٩٩ - ٤٠٤.

١٠٥

وبعد ان اعدم الشاه عباس بكراً لتصرفه المزدوج احتفل بعودة العتبات المقدسة في العراق إلى سلطة فارس بهدم المسجد الذي بناه السلطان سليمان الاول على مرقد ابي حنفية. وعمد إلى ممارسة اضطهاد شديد ضد السنة القاطنين في بغداد انتقاماً لليلة سان بارثلميو (١) التي نظمها السلطان سليم الاول ضد الشيعة (٢). وقرر الشاه عباس بعد ان ترسخت اركان حكمه في بغداد ان يعاقب علي باشا على رفضة للانتقال إلى جانب فارس فكتب إلى حاكم شيراز امام قلي خان يأمره بالتحرك نحو البصرة ، فدخل هذا بقواته في ممتلكات سياب عام ١٦٢٤م ولكنه لم يستطيع الاقتراب من البصرة بسبب كثافة النيران التي فتحتها السفن البرتغالية المتواجدة في شط العرب ، ولهذا فقد اقتصرت كل العمليات العسكرية التي قام بها الفرس على محاصرة حصن قبان أو كبان الواقع على الحدود وفي السنة الثالثة أي في ١٦٢٥م احتل امام قلي خان هذا الحويزة واقصى الشيخ مبارك الذي اعبر خائناً بسبب صداقته مع سياب وسار من هناك نحو البصرة ولكن هجومه فشل في هذه المرة ايضاً لانه صد بحزم من جانب البرتغاليين (٣) ولكي يصدم هجوم الفرس المتقدمين من ناحية بغداد لجأ علي باشا إلى طريقة عراقية صرفة للدفاع الذاتي وهي انه امر بتخريب

__________________

(١) ص ٦٥ من هذا الكتاب.

(٢) Ritter OP. Cit, T. VIIAbt. IIS. ٧٩٤.

(٣) الحقيقة ان كل مافعله البرتغاليون هو انهم اعاروا علي باشا خمس سفن مسلحة «بعد دفع لهم ما ارادوا» و «تعالت اصوات الوطنية فيها وجند اشراف البلد القوات المتطوعة ...» على ما يقوله لونكريك : انظر : ستيفن همسلي لونكريك ، اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث ، نقله إلى العربية جعفر خياط ، بغداد ١٩٦٨ ، ص ١٣٢. (المترجم).

١٠٦

جميع السدود الامر الذي حول المنطقة إلى مستنقع واحد كبير فاجبر بذلك القوات الفارسية التي ارسلت من بغداد على التخلي عن مواصلة التقدم نحو البصرة (١).

ولم يستطع الشاه عباس ان يجدّد محاولاته للاستيلاء على جنوب العراق وذلك لان الدولة العثمانية تمكنت قبل ذلك بقليل من القضاء على تمرد اباظة باشا فوجهت كل قواتها ضد الفرس وبعد خاضت هذه القوات عدة معارك ناجة ضد قوات الشاه تمكن جيش عثماني قوي يقوده الصدر الاعظم احمد باشا من محاصرة بغداد نفسها عام ١٦٢٥م غير ان الصدر الاعظم لم يتمكن من استعادة تلك المدينة من الفرس ، لان الشاه وصل ومعه قوات جديدة في الوقت المناسب واصحبت الحرب التي تجددت بين الدولة العثمانية وفارس تهدد باتخاذ اتجاه غير ملائم للعثمانيين بعد ان اشعل اباظة باشا ثورة جديدة في ارضروم وتحرك الجيش الفارسي بقيادة الشاه للانضمام اليه ، لكن عمليات البارعة التي قام بها الصدر الاعظم الجديد خسرو باشا الذي تغلب على الحليفين كلاً على حدة ثم وفاة الشاه عباس في ١٦٢٨م انقذت الدولة العثمانية من كوارث جديدة.

لقد توارى عن المسرح بوفاة الشاه عباس عدو عنيد وخطير على آل سياب في البصرة فاستطاعوا ان يركزوا اهتمامهم مرة اخرى على شؤون ولايتهم الداخلية. لقد خلف علي باشا الذي توفي حوالي ذلك الوقت ايضاً ابنه حسين باشا الذي حاول ان يتخلص من غزو الفرس عن طريق التقرب

__________________

(١) Pietro della Valle voyages elans La Turquie, l Egypte, L Palestine, La Perse et autres hieux Nouvelle edition (Rouen, ١٧٤٥), T. VIIIP. ٤٤ FF.

١٠٧

من الشاه صفي حاكم فارس الجديد فيكفل بذلك ميله اليه سيما وان بغداد والموصل وكركوك لاتزال في حوزة الشاه (١). وقد حذا حاكم البصرة الجديد حذو جده وابيه فلم يقطع علاقاته مع الدولة العثمانية بل ظل يعتبر تابعاً لها. وهكذا استطاع ان يواصل حكم جنوب العراق بسلام عن طريق المناورة بين فارس والدولة العثمانية. ومع ذلك لم ينس حسين باشا ضرورة تعزيز الوسائل الدفاعية في البصرة فاحاط جميع ضواحي المدينة من ناحية شط العرب بسور وانشأ في قرية مناوي (٢) الواقعة على الضفة النهر سلسلة كاملة من التحصينات تحمي الطريق إلى البصرة من جهة النهر ثم زاد من حصانة القلعة القائمة في القرنة بان انشأ فيها صفاً خارجياً ثانياً من الاسوار والخنادق وعزز الحماية الموجودة فيها ، وزاد في الوقت نفسه من عدد القوات المرتزقة في ولاية البصرة ، ولم يلبث ذلك ان اعطى ثماره المفيدة فالانتفاضة التي قامت في آسيا الصغرى والاضطرابات والبلبلة التي سادت في الامبراطورية لم يكن لها اثر بالنسبة لجنوب العراق. ومما ساعد على سلامة هذه المنطقة ايضاً ان القبائل العربية خضعت باختيارها لاسرة سياب لانها من ابناء جلدتها اكثر مما كا نت تخضع للباشوات الاتراك.

وحدث في غضون ذلك تحول جديد في وضع الدولتين الاكثر تأثيراً في مقدرات العراق الجنوبي. فقد عادت فارس مرة اخرى مسرحاً

__________________

(١) لقد جانب المؤلف الصواب هنا فالصحيح ان العثمانيين كانوا قد تمكنوا من طرد الفرس من الموصل وكركوك قبل وفاة الشاه عباس ، ثم عاد الايرانيون واستولوا على كركوك لبعض الوقت ولكنها عادت إلى سلطة العثمانيين مرة اخرى. (المترجم).

(٢) اسمها حالياً مناوي الباشا (المترجم).

١٠٨

للاضطرابات والمنازعات الداخلية ، التي اخذت تزعزع بالتدريج جهاز الدولة الذي اسسه الشاه اسماعيل حفيد مؤسس السلالة الصفوية ، هذا في حين ان الدولة العثمانية التي كانت قد وصلت إلى اقصى درجات الانحطاط والتدهور ، اصبح لها في شخص مراد الرابع حاكم يتصف بالشجاعة والحزم وارادة قوية لاتلين (١). لقد ارتقى مراد العرش في عام ١٦٢٨م وعمره ثلاث عشرة سنة ، وكان ذلك في ذروة الكوارث والمصاعب الداخلية والخارجية التي اناخت على الامبراطورية العثمانية ، حتى ان مراد نفسه كاد يقتل في دوامة الانتفاضات والعصيانات والتمردات لكنه كشف بشكل لم يكن يتوقعه يتوقعه احد عن شخصية قوية عادية ففي عام ١٦٣٢م وبعد ان عاث الانكشارية والسباهية المتمردون فساداً لمدة شهرين واخذوا يقتربون من رأس مراد نفسه بادر فقمع الانتفاضات والفتن على امتداد الامبراطورية كلها ، واعاد بذلك هيبة الحكومة وقوة الدولة ثم اعاد الضبط والطاعة في القوات المسلحة فامن ذلك النظام والهدوء في داخل الدولة العثمانية. وبعد ان تغلب مراد على كل اعدائه في الداخل وجه كل قوته نحو فارس التي لم تجلب الحرب معها على الرغم من تواصلها منذ وفاة الشاه عباس أي نصر للسلاح العثماني فحتى حصار بغداد على يد خسرو باشا في ١٦٣٠ و ١٦٣١م انتهى بالفشل. ولهذا قرر السلطان ان يقود العمليات الحربية ضد فارس بنفسه قتوجه عام ١٦٣٥م على رأس حملة عسكرية انتهت باستيلائه على يرفان ونهبه لتبريز ولم يعد إلى اسطنبول الا مع حلول الشتاء لكن الفرس استطاعوا في السنة التالية ان يستعيدوا من العثمانيين جميع المدن التي اخذت منهم بحيث تحتم

__________________

(١) Von Sax; OP. Cit S.. ٥٨ FF.

١٠٩

على السلطان ان يتوجه اليهم على رأس قواته مرة اخرى فظهر في ١٥ تشرين الثاني عام ١٦٣٨م تحت اسوار بغداد التي اقتحمها بعد حصار دام اربعين يوماً. وقد احتفل بعودة عاصمة العباسيين إلى ورثتهم في الخلافة ونعني السلاطين الاتراك ، بمذبحة شاملة ضد الفرس بحيث هلك منهم في ذلك الوقت حسب شهادة المؤرخين مالايقل عن اربعين الف شخص من ضمنهم الحامية الفارسية التي كان عدد افرادها عشرة الاف (١).

طار خبر الانتصار الجديد الذي احرزه السلاح العثماني إلى جميع انحاء العلم الاسلامي ووصل قبل أي مكان اخر إلى البصرة طبعاً فاقتنع عاملها حسين باشا بان الكفاح من اجل الاستقلال ضد خصم قوي كمراد الرابع امر ليس في طاقته ولهذا نجده يسرع بابداء ولائه للمنتصر وعزز ذلك بالكثير من الهدايا الثمنية من بينها عدد من الخيول العربية الاصلية وقد تعطف مراد وقبل الهدايا ولكنه اعتبر في الوقت نفسه ان الوقت قد حان لوضع نهاية للحكم شبه المستقل الذي تتمتع به اسرة سياب في البصرة فعمد في ١٦٣٩م إلى تعيين علي باشا وهو مير ميران (٢) تركي والياً هناك (٣) وقد تحتم على حسين ان يقبل بذلك ويتنازل عن السلطة العليا في المدينة التي كان قبل ذلك يحكمها بشكل مستقل تماماً ، للوالي الذي عينه السلطان. غير ان هذا الامير العربي الابي لم يستطع القبول بوضعه كتابع فكان ينتظر الفرصة المناسبة لكي يبعد الضيف غير المرغوب عن البصرة

__________________

(١) De Hammer, OP .. Cit, T. II, P ٤٨٤ EE

(٢) عثمان يعني امير امراء. (المترجم).

(٣) Ritter; OP Cit. T. VII, Abt. IIS. ١٠٣٤.

١١٠

التي اعتاد ان ينظر اليها على انها ملك متوارث في اسرته. ولم تلبث الفرصة المنتظرة ان حلت ، فقد عادت الفوضى والاضطرابات وشملت الدولة العثمانية بقوة جديدة بعد وفاة مراد الرابع عام ١٦٤٠م وانتقلت دفة الحكم مرة اخرى إلى ايدي السلطانات (١) فعاد الانكشارية مرة اخرى إلى تمرداتهم وفتنهم (٢). ولم تلبث الاقاليم ان حذت حذو العاصمة فاعادت الفتن والانتفاضات هناك صورة التدهور السابقة الذي اوقفته لفترة قصيرة يد مراد القوية. ولم يتأخر العراق في لك عن بقية مناطق الامبراطورية فقد سادت في بغداد في عام ١٦٥١م بسبب طرح عملة صغيرة سكت محلياً للتداول ، الاضطرابات التي ادت إلى ان يسود الاستياء في جميع انحاء العراق. فبادر حسين باشا إلى استغلال الفرصة فارسل من الحويزة إلى بغداد فصيلاً بلغ تعداد افراده اثني عشر الف رجل وذلك لكي يجذب انتباه والي بغداد عن البصرة التي عمد حسين في ذات الوقت إلى طرد واليها والتركي المير ميران علي باشا ثم عزل ايضاً محمداً الذي عينه الباب العالي متصرفاً للاحساء واستبدله بشخص اخر اختاره هو.

كان تصرف حسين باشا الذي يدل على تمرد ظاهر يهدد بانفصال جنوب العراق يتطلب اتخاذ إجراءات فورية حازمة ولهذا طلبت اسطنبول من والي بغداد مرتضى باشا التحرك نحو البصرة لكسر شوكة آل سياب نهائياً. وعندما سمع حسين باشا بتقدم القوات التركية - سارع إلى الاختباء في القرنة التي كان قد حولها منذ زمن طويل إلى حصن من الطراز الاول وحشد فيها جميع قواته فهو لم يكن يعتمد على البصريين الذين تكون من

__________________

(١) زوجات السلاطين (المترجم).

(٢) Von Sax; OP. Cit s. ٦٤ FF.

١١١

بينهم حتى هذا الوقت حزب معادٍ له يقف على رأسه الشيخان العربيان احمد وفتحي (١). واحتل والي بغداد بمساعدة هاذين الشيخين البصرة دون صعوبة تذكر ثم باشر بحصار القرنة وعلى الرغم من ان حسين باشا لم يحصل على مساندة حليفته فارس التي كان على عرشها عباس الثاني الذي لم يكن يشبه سميه المشهور بشيء فقد كان ليناً ضعيف الشخصية يفتقر إلى الحزم ، فانه صمد امام هجمات الاتراك طيلة ثلاثة اشهر كاملة ولكنه اضطر بعد ان وصلت به الحال حداً لا يطاق إلى ان ينجو بنفسه بالهرب إلى الحويزة وهكذا عاد مرتضى باشا إلى البصرة منتصراً واخذ بيده زمام الحكم هناك ثم باشر بجباية مصاريف حملته التي انتهت لتوها ضد حسين باشا من اهالي المدينة. وعندما لم يرضه البطء الذي كانت ترد فيه ايرادات الضرائب سمح لانصاره بنهب مخازن البضائع العائدة للتجار العرب والهندوس الامر الذي اثار ضده غضباً عاماً (٢) ، فعمد رغبة منه في تبرئة نفسه إلى القاء الذنب على حليفية الشيخين اللذين سبق ذكرهما احمد وفتحي وامر باعدامهما فكان ذلك مما اثار ضده نهائياً المدينة باجمعها حيث حطمت جماهير العامة في تلك الليلة نفسها دار الباشا الذي لم ينج بنفسه الا بصعوبة بالغة فهرب إلى بغداد.

كانت نهاية نشاط مرتضى باشا غير المتوقعة هذه لصالح حفيد سياب حسين باشا إلى درجة لا يمكن توقع افضل منها ، فعاد هذا إلى البصرة منتصراً وباشر على الفور بملاحقة واضطهاد جميع من ينتمي إلى الحزب المعادي له. وبسبب الشكاوي التي توارت على اسطنبول امر والي بغداد

__________________

(١) احمد بك وفتحي بك وهما عما حسين باشا ومن المعارضين له. (المترجم).

(٢) DE Hammer OP Cit .. T. III, P. ٣١.

١١٢

الجديد اوزون ابراهيم باشا (١) بتجهيز حملة جديدة على البصرة يسندها كل من بكلربك ديار بكر وبكلربك شهرزور وبلكربك الموصل وبلكربك حلب وبلكربك الرقة. خرج هذا الجيش الضخم من بغداد في عام ١٦٦٦م غير ان حسين باشا اختبأ كالمرة السابقة في القرنة واستطاع ان يصمد بنجاح لحصار دام اربعة اشهر. وعندما اقتنع ابراهيم باشا بعدم جدوى جهوده الرامية إلى الاستيلاء على القرنة دخل في مفاوضات مع اهالي البصرة حول تسليم المدينة طوعاً لكن حسين باشا بادر ، بعد ان علم بذلك ، فارسل فصيلاً من عرب عشيرة المنتفق المتحالفين معه بلغ تعداده ثلاثة الاف رجل نهبوا المدينة وقتلوا القسم الاكبر من الداعين للصلح مع الاتراك. عند ذلك اضطر والي بغداد إلى الدخول رغماً عنه في مفاوضات مع حسين باشا نفسه فوافق هذا على الخروج من العراق والعيش في مكة بشرط ان تعطى ولاية البصرة لابنه سياب. كذلك التزم حسين باشا باسم ابنه هذا بـ :

١ ـ ان يدفع ٠٠٠ / ٣٠٠ قرش تعويضاً عن مصاريف حملة ابراهيم باشا.

٢ ـ ان لا يعارض في ان يعود إلى الاحساء مصطفى محمد باشا الذي كان قد عزله منها.

٣ ـ ان يدفع عن ولاية البصرة مبلغاً مقداره ٠٠٠ / ١٠٠ قرش في السنة (٢).

وبعد عقد الصلح عاد والي بغداد من حيث اتى ، في حين توجه حسين باشا إلى البصرة لكي يثبت اركان ابنه سياب هناك ذلك ان وجهاء

__________________

(١) لم يلقب ابراهيم باشا هذا باوزون أي الطويل على ما نعلم. (المترجم).

(٢) Ibid. T. III, P. ١٠٧.

١١٣

التجّار استطاعوا في فترة غيابه ان يستولوا على الحكم في المدينة ورفضوا الان ان يعترفوا بابنه والياً عليها. عند ذلك لم يجد حسين باشا حرجاً في اعدام الاكثر تصلباً منهم في حين مارس ضد الباقين اضطهاداً لم يسمع به من قبل ، الامر الذي دفع المتضررين إلى ان يرسلوا إلى السلطان العثماني سفارة خاصة تحمل عريضة ضمنوها تفصيلاً لجميع ما ارتكبه حسين باشا من تعسف وتجاوزات. وعندما لم يستطع حسين باشا منع اصحاب الشكوى هؤلاء من السفر بادر فارسل من جانبه ابن عمه يحيى اغا ومعه هدايا ثمنية إلى اسطنبول لكن يحيى هذا بدلاً من ان يدافع عن قضية ابن عمه رشح نفسه لولاية البصرة فاجيب طلبه. ولكي يثبت حكمه في البصرة طلب الصدر الاعظم من والي بغداد قره مصطفى باشا ان يجمع قوات الرقة والموصل وديار بكر وشهرزور كالسابق ويسير بها ضد حسين باشا. ولم يستطع هذا الاخر في هذه المرة ان يعتصم في القرنه لان احد الجنود خانه واخبر المحاصرين بان القلعة خالية من الحماية من جهة الاهوار فتقدم العدو من تلك الجهة مستخدماً جذوع النخل التي رضعت بعضها إلى جانب البعض الاخر واقتحم القرنة واستولى عليها. لكن حسين باشا تمكن مع ذلك من الهرب إلى الحويزة وثبت في السنة نفسها أي في ١٦٦٨ في منصبه الجديد يحيى اغا الذي كان قد منح لقب باشا في نفس الوقت الذي جرى فيه تعيينه والياً على البصرة.

قدم والي بغداد الذي قاد الحملة ضد حسين باشا إلى الباب العالي تقريراً تضمن تصوارته بشأن ضرورة تعزيز الحاميات العثمانية المتواجدة في جنوب العراق من اجل شد هذه المنطقة اكثر إلى الدولة العثمانية مع استخدام الايرادات المحلية لتغطية مصاريفها. وقد اقترح الوالي من اجل زيادة ايرادات هذه المنطقة ان يعاد تقييم الممتلكات غير المنقولة وان

١١٤

يعتمد نظام ضرائبي افضل وان تناط الرقابة المالية العامة بموظف مالي عثماني خاص هو «الدفتردار». وقد صادق الباب العالي على هذا البرنامج وعين في منصب الدفتر دار في البصرة شخصاً يدعى عبد الرحمن كاظم زاده فوصل هذا إلى مقر عمله في ١٦٦٨ ومعه الفان من الانكشارية ارسلوا لكي يخدموا في حامية القرنة. وكان يحيى باشا يعلم جيداً بان تعيين الدفتردار يعني القضاء على آخر الامتيازات التي كان ولاة البصرة من آل سياب يتمعتون بها ونعني الحق في التصرف بالايرادات المحلية دون قيد ، ولهذا فانه رفض ان يسمح لهذا الموظف بان يؤدي مهام وظيفته فتقصد الدفتردار بتأخير دفع الرواتب للانكشارية واتهم بذلك يحيى باشا الذي اضطره الجنود الثائرون لهذا السبب إلى الهرب من المدينة. عند ذلك عمد يحيى باشا إلى الانتقام لطرده ، فجمع عدداً كبيراً من العرب وهجم بهم على البصرة ونهبها بشدة ومنها سار نحو القرنة ولكن الجيش العثماني بقيادة والي ديار بكر قابله قبل ان يصل اليها وهزمه شر هزيمة. وقد حال يحيى باشا الذي التجأ إلى الحويزة ان يستعيد البصرة في السنة التالية أي في ١٦٦٩م بمساعدة العرب واستطاع ان يجتاح المدينة حرة اخرى لكن باشا ديار بكر وباشا بغداد وحدا جهودهما فتمكنا من القضاء عليه نهائياً وطرده من العراق إلى الابد. وبهذا الشكل انهى حكم اسرة سياب العربية الذي استمر في البصرة لمدة تقرب من نصف قرن. وقد استطاعت هذه الاسرة ان تحقق بدرجة ملحوظة حلم ابناء جلدتها بانشاء مملكة عربية في العراق.

وهكذا كان مصطفى باشا وهو زوج مرضعة السلطان وقد عين في ١٦٦٩م والياً للبصرة ، اول والٍ عثماني لجنوب العراق يعين من اسطنوبل مباشرة بعد ان طرد من تلك المنطقة ولاتها العرب. وفي ١٦٧٠م حل محلّة

١١٥

والي بغداد قره مصطفى باشا الذي سبق ذكره فقد جري تعيينه هناك خصيصاً لكي ينفذ اصلاحات التي اقترحها لتقوية وضع الدولة العثمانية في جنوب العراق وتوثيق العلاقات بين تلك المناطق وبقية اجزاء الامبراطورية. وباختصار نفذ قره مصطفى في ولاية البصرة جميع ما كان قد نفذ في عهد السلطان مراد الرابع في ولاية بغداد وذلك لكي تتخذ نفس المظهر الذي تتميز به الولايات العثمانية انذاك. وبعد سنتين حل محل قره مصطفى في منصب والي البصرة قومندان بغداد حسين باشا الذي لم تزد مدة حكمه لجنوب العراق عن سابقه. وبنفس هذه السرعة كان يتبدل جميع الولاة الذين حكموا البصرة بعد ذلك بحيث بلغ عدد من حكموها في العشرين سنة المحصورة بين ١٦٧٠ و ١٦٩٠م عشرة ولاة أي ان متوسط حكم الواحد منهم لم يزد على السنتين. وطبيعي ان الاّ يترك أي منهم في فترة حكمه القصيرة هذه أي اثر تاريخي لانه لم يكن يمتلك لذلك لا الوقت الكافي ولا الرغبة ايضاً ، بسبب عدم استقرار وضعه وعدم ثباته.

وعلى الرغم من ان هذه السرعة في تغير الحكام العثمانيين انعكست سلباً على نظام الحكم عموماً في المنطقة ، فان العراق بشكل عام وجنوبه مع مدينة البصرة بشكل خاص تمتع بهدوء نسبي ولم تجر أي حوادث خارجية بارزة تقطع سير الحياة السلمي في تلك المنطقة. وتكمن اسباب ذلك في الظروف التاريخية الملائمة التي سادت في تلك الفترة والتي اضطرت كلاً من الدولة العثمانية وفارس إلى الاحجام عن اية اعمال عدوانية تجاه بعضهما وهي الاعمال التي كانت تؤلف حتى ذلك الوقت اسلوباً اعتيادياً في العلاقات بينهما. وفضلاً عن ذلك حاولت كل من الدولتين المسلمتين المتجاورتين جهداً ان تحافظ على «الوضع القائم» في

١١٦

ممتلكاتها المتاخمة للحدود. فالدولة العثمانية التي تعرضت بعد موت مراد الرابع لاعصار جديد من الكوارث والمصائب الداخلية والخارجية اوصلتها إلى حالة التدهور التام عادت الحياة فدبت فيها مرة اخرى وبدأت تأخذ باسباب القوة منذ ان عين محمد كوبريللي صدراً اعظم فيها عام ١٦٥٦ م. فقد كان هذا على الرغم من تقدمه في السن انساناً صلباً قاسي القلب جعل البلد يهدأ لمدة ربع قرن كامل ثم اعاد بناء جهاز الدولة الذي بلغ حافة الخراب التام بسبب الفوضى السابقة وادخل اليه حيوية جديدة (١). وقد ظهر ان ابن كوبيللي هذا واسمه احمد كان جديراً بان يواصل سياسة والده فلقد حكم الامبراطورية صدراً اعظم طيلة سبع عشرة سنة دون ان حذو ابيه في نزعته التي لا تعرف الرحمة. ولم تلبث الدولة العثمانية وقد انتعشت وتقوت في فترة حكم آل كوبريللي ان دخلت في صراع عنيف وطويل مع اوربا وقد تطلب هذا الصراع من الدولة العثمانية ان تعبئ كل طاقاتها له فجذب بذلك اهتماماً عن فارس المجاورة لها.

في الوقت نفسه كانت فارس هي الاخرى في وضع حرج فلقد ارتقى عرشها في ١٦٦٦م بعد حكم عباس الثاني الذي لم يتميز بشيء ، حاكم آخر اكثر ضعفاً هو الشاه سليمان وكان مخنثاً يفتقر إلى الحزم وصل التدهور والضعف الداخلي للدولة في عهده إلى حده الاقصى. فقد بلغ عجز الدولة الفارسية درجة لم تكن معها في حالة تمكنها من حماية خرسان من غزو الازبيك ومن الدفاع عن اقاليمها المتاخمة لقزوين ضد غارات التتار. لقد توافق عجز الدولة الفارسية خارجياً تماماً مع وضعها الداخلي الذي لم تكن فارس معه تستطيع بالطبع حتى ان تفكر في

__________________

(١) Von Sax, OP. Cit. S. ٦٧ FF.

١١٧

استغلال مصاعب الدولة العثمانية في العراق.

وهكذا فاذا ما اكتفت فارس بحقيقة ان جارتها ذات النزعة العسكرية لم تكن تستطيع ان تستغل الازمة التي حلت بفارس لصالحها ، فان رغبة الدولة العثمانية في تجنب المصادمات على حدودها الشرقية كانت شديدة إلى درجة ان السفارة التي ارسلها الازبيك إلى اسطنبول في ١٦٧٨م لدفع الدولة العثمانية إلى الانضمام اليهم في محاربة فارس لم تحقق أي نجاح ، ولهذا فقد ترك العراق وشأنه فبدأت الحركة العربية التي كانت قد هدأت في المنطقة في فترة حكم اسرة سياب في البصرة في الانتعاش مجدداً حين اتضح عزم الباب العالي الاكيد على تتريك (١) هذه المنطقة بواسطة الولاة الذين كانوا يعينون هناك من اسطنبول مباشرة. ولم يكن القوميون العرب يستطيعون الاعتماد على مساندة فارس ومع ذلك فان التفريط بالفرصة المناسبة التي حلت عندما جذب الصراع مع اوربا كل طاقة الحكومة العثمانية ناحية الغرب وابتلع كل قواتها كان بالنسبة لهم امراً اقل مايقل فيه انه لا يغفر ولهذا وجهوا انظارهم نحو الجزيرة العربية التي كان يعيش فيها اخوة لهم. ومن هؤلاء الاخوة استمدت قبائل العراق الغربية قوة جديدة ونهوضاً جديداً للروح المعنوية لمواصلة النضال من اجل استقلالها.

لقد اشتغلت في الحجاز أي في المنطقة التي تقع فيها المدينتان المقدستان مكة والمدينة في ١٦٨٧م اضطرابات اصلها محلي بحت اتخذت بالتدرج شكل انتفاضة ضد السيطرة العثمانية فشاركت فيها جميع القبائل

__________________

(١) يقصد المؤلف بالتتريك هنا عزم الباب العالي على تعيين الولاة من اسطنبول مباشرة وعدم سماحه للعناصر العربية المحلية بتولي هذا المنصب ، وسعيه لفرض هيمنة السلطة المركزية على المنطقة ولا يقصد طبعاً سياسة التتريك المعروفة التي مارسها الاتحاديون قبل الحرب العالمية الاولى مباشرة. (المترجم).

١١٨

العربية هناك. لقد بدأت القضية بنزاع بسيط قام حول اختيار خلف لشريف مكة احمد بن زيد الذي كان قد توفي قبل ذلك بسنة حيث كانت القبائل العربية المحلية باجمعها تريد ان يعين بدلاً منه شخص يدعى سعيد ابن الشريف سعد غير ان الباب العالي لم يوافق على تعيين المرشح العربي في منصب حاجب الكعبة المقدسة وعين بدلاً منه شخصاً اخر من قبله ينتمي إلى الحزب المعادي للمرشح العربي ولم يكن هذا الشخص من اسرة تتمتع بحقوق وراثة السلطة الشريفة. عند ذاك تحولت الاضطرابات إلى انتفاضة حقيقية ، على الرغم من ان الباب العالي بادر فوراً إلى الاعتراف بمن اختاره العرب ، شملت جميع القبائل العربية هناك ولم تلبث ان وصلت إلى درجة من السعة بحيث تمكن الثوار من تحطيم القوات المصرية التي ارسلت ضدهم تحطيماً تاماً.

انتقلت الاضطرابات بسرعة إلى جنوب العراق حيث عمد شيخ المنتفق مانع إلى استغلال الذعر الذي اصاب اهالي البصرة بسبب وباء الطاعون الذي اصاب المدينة في عام ١٦٩٠م وكان يموت بسببه مايقرب من خمسمائة شخص يومياً فاغار على المدينة واحرز انتصاراً حاسماً على الفصيل التابع لوالي البصرة الوزير احمد باشا الذي سقط قتيلاً في ساحة المعركة (١). ومع ذلك لم يستطيع الشيخ العربي ان يستولي على المدينة لان الدفترادر العثماني فيها حسين اغا استطاع بفضل ثرائه الواسع ان ينظم وحدات عسكرية من الاهالي تمكن بمساعدتها من صد هجوم المنتفقيين. وبعد ان وصل خير هذه الانتفاضة إلى اسطنبول ادرك اولو الامر هناك على الفور الخطر الكبير الذي تشكله حركة مانع فبادروا إلى ارسال خليل باشا

__________________

(١) De Hammer, OP. Cit. T. III P. ٢٥٣.

١١٩

وهو اخو الوزير (١) إلى البصرة وطلبوا من ولاة ديار بكر والموصل وشهروز مساعدته ضد الثوار. وعندما سمع الشيخ مانع بتقدم القوات العثمانية قام بتخريب جميع السدود فتحولت المنطقة المتاخمة لمجرى الفرات الجنوبي باكمله بسبب ذلك إلى مستنقع كبير لايمكن اجتيازه الامر الذي ادى إلى ان يجابه خليل باشا صعوبات كبيرة في الوصول إلى البصرة كما انه لم يستطيع الصمود هناك طويلاً لان الاهالي غضبوا عليه بسبب دسائس الشيخ مانع وطردوه من المدينة في ١٦٩٤ م ، ثم اعلن شيخ المنتفق حاكماً ودخل البصرة بشكل مهيب.

ولم ينتهج الشيخ مانع وقد استقر في المنصب الذي كان يشغله في يوم ما آل سياب ، سياستهم الحكيمة القائمة على الاحتفاظ بعلاقاة ودية مع شيوخ الحويزة بل على العكس ، دفعه طموحه الشديد لان يوسع سلطته بحيث تشمل ممتلكات جيرانه هؤلاء. ولم يقدر الشيخ مانع قوة الشيخ فرج الله (٢) الحاكم هناك فارسل له فصيلاً صغيراً من جماعته المنتفقين لكن عرب الحويزة تمكنوا من هزمهم شر هزيمة. لقد ادى هذا الانحدار إلى ان تقع قلعة القرنة بيد الشيخ فرج الله كما انه قلص لدرجة كبيرة من هيبة الشيخ مانع في البصرة حيث لم يلبث ان تكون فيها حزب معاد له. لكن شيخ الحويزة خشي من ان ينحاز الشيخ مانع بعد ان تغلب عليه إلى العثمانيين للقيام بهجوم مشترك ضده ، لهذا قرر ان يسبق خصمه في هذا المجال فقام في ١٦٩٧م بتسليم القرنة طوعاً إلى فصيل من الانكشارية كان

__________________

(١) الوزير خليل باشا هو اخو احمد باشا البازركان والي بغداد وليس اخو احمد باشا القتيل. (المترجم).

(٢) هو المولى فرج الله من المشعشعين. (المترجم).

١٢٠