الميزان في تفسير القرآن - ج ١٨

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

الميزان في تفسير القرآن - ج ١٨

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٢

بسمعهم فلا يسمعون القول الحق وأعمى أبصارهم فلا يرون الرأي الحق فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور.

قوله تعالى : « أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها » الاستفهام للتوبيخ وضمير الجمع راجع إلى المذكورين في الآية السابقة ، وتنكير « قُلُوبٍ » كما قيل للدلالة على أن المراد قلوب هؤلاء وأمثالهم.

قال في مجمع البيان : وفي هذا دلالة على بطلان قول من قال : لا يجوز تفسير شيء من ظاهر القرآن إلا بخبر وسمع. انتهى.

قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ » الارتداد على الأدبار الرجوع إلى الاستدبار بعد الاستقبال وهو استعارة أريد بها الترك بعد الأخذ ، والتسويل تزيين ما تحرض النفس عليه وتصوير القبيح لها في صورة الحسن ، والمراد بالإملاء الأمداد أو تطويل الآمال.

قوله تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ » الإشارة بذلك إلى تسويل الشيطان وإملائه وبالجملة تسلطه عليهم ، والمراد بـ « لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ » هم الذين كفروا كما تقدم في قوله : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ » الآية : ٩ من السورة.

وقوله : « سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ » مقول قولهم ووعد منهم للكفار بالطاعة وهو كما يلوح من تقييد الطاعة ببعض الأمر على نحو الإجمال كلام من لا يقدر على التظاهر بطاعة من يريد طاعته في جميع الأمور لكونه على خطر من التظاهر بالطاعة المطلقة فيسر إلى من يعده أنه سيطيعه في بعض الأمر وفيما تيسر له ذلك ثم يكتم ذلك ويقعد متربصا للدوائر.

ويستفاد من ذلك أن هؤلاء كانوا قوما من المنافقين أسروا إلى الكفار ما حكاه تعالى عنهم ووعدهم الطاعة لهم مهما تيسر لهم ذلك ، ويؤيد ذلك قوله تعالى بعد : « وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ ».

واختلفوا في هؤلاء من هم؟ فقيل : هم اليهود قالوا للمنافقين : إن أعلنتم الكفر

٢٤١

نصرناكم ، وقيل : هم اليهود أو اليهود والمنافقون قالوا ذلك للمشركين. ويرد على الوجهين جميعا أن موضوع الكلام في الآية المرتدون بعد إيمانهم واليهود لم يؤمنوا حتى يرتدوا.

وقيل : هم المنافقون وعدوا اليهود النصر كما قال تعالى : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ » الحشر : ١١.

وفيه أن الآية تقبل الانطباق على ذلك كما تقبل الانطباق على اليهود في وعدهم النصر للمشركين على تكلف في صدق الارتداد على كفرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد تبين رسالته لهم لكن لا دليل من طريق لفظ الآية على ذلك فلعلهم قوم من المنافقين غيرهم.

قوله تعالى : « فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ » متفرع على ما قبله ، والمعنى : هذا حالهم اليوم يرتدون بعد تبين الهدى لهم فيفعلون ما يشاءون فكيف حالهم إذا توفتهم الملائكة وهم يضربون وجوههم وأدبارهم.

قوله تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ » الظاهر أن المراد بما أسخط الله أهواء النفس وتسويلات الشيطان المستتبعة للمعاصي والذنوب الموبقة كما قال تعالى : « وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ » ، وقال : « الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ ».

والسخط والرضا من صفاته تعالى الفعلية والمراد بهما العقاب والثواب.

والإشارة في قوله : « ذلِكَ » إلى ما ذكر في الآية السابقة من عذاب الملائكة لهم عند توفيهم أي سبب عقابهم أن أعمالهم حابطة لاتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه ، وإذ لا عمل لهم صالحا يشقون بالعذاب.

قوله تعالى : « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ » قال الراغب : الضغن ـ بكسر الضاد ـ والضغن ـ بضمها ـ الحقد الشديد وجمعه أضغان انتهى. والمراد بالذين في قلوبهم مرض الضعفاء الإيمان ولعلهم الذين آمنوا أولا على ضعف في إيمانهم ثم مالوا إلى النفاق وارتدوا بعد الإيمان ، فالتدبر الدقيق في تاريخ صدر الإسلام يوضح أن قوما ممن آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا على هذه الصفة كما أن قوما منهم آخرين كانوا

٢٤٢

منافقين من أول يوم آمنوا إلى آخر عمرهم ، وعلى هذا فعدهم من المؤمنين فيما تقدم بملاحظة بادئ أمرهم.

والمعنى : بل ظن هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله ولن يظهر أحقادهم للدين وأهله.

قوله تعالى : « وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ » السيماء العلامة ، والمعنى : ولو نشاء لأريناك أولئك المرضى القلوب فلعرفتهم بعلامتهم التي أعلمناهم بها.

وقوله : « وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ » قال الراغب : اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه : إما بإزالة الإعراب أو التصحيف وهو المذموم ، وذلك أكثر استعمالا ، وأما بإزالته عن التصريح وصرفه إلى تعريض وفحوى ، وهو محمود عند أكثر الأدباء من حيث البلاغة. انتهى.

فالمعنى : ولتعرفنهم من جنس قولهم بما يشتمل عليه من الكناية والتعريض ، وفي جعل لحن القول ظرفا للمعرفة نوع من العناية المجازية.

وقوله : « وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ » أي يعلم حقائقها وأنها من أي القصود والنيات صدرت فيجازي المؤمنين بصالح أعمالهم وغيرهم بغيرها ، ففيه وعد للمؤمنين ووعيد لغيرهم.

قوله تعالى : « وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ » البلاء والابتلاء الامتحان والاختبار ، والآية بيان علة كتابة القتال على المؤمنين ، وهو الاختبار الإلهي ليمتاز به المجاهدون في سبيل الله الصابرون على مشاق التكاليف الإلهية.

وقوله : « وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ » كان المراد بالأخبار الأعمال من حيث إنها تصدر عن العاملين فيكون إخبارا لهم يخبر بها عنهم ، واختبار الأعمال يمتاز به صالحها من طالحها كما أن اختبار النفوس يمتاز به النفوس الصالحة الخيرة وقد تقدم فيما تقدم أن المراد بالعلم الحاصل له تعالى من امتحان عباده هو ظهور حال العباد بذلك ، وبنظر أدق هو علم فعلي له تعالى خارج عن الذات.

قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ

٢٤٣

ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ » المراد بهؤلاء رؤساء الضلال من كفار مكة ومن يلحق بهم لأنهم الذين صدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول وعادوه أشد المعاداة بعد ما تبين لهم الهدى.

وقوله : « لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً » لأن كيد الإنسان ومكره لا يرجع إلا إلى نفسه ولا يضر إلا إياه وقوله : « وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ » أي مساعيهم لهدم أساس الدين وما عملوه لإطفاء نور الله ، وقيل : المراد إحباط أعمالهم وإبطالها فلا يثابون في الآخرة على شيء من أعمالهم ، والمعنى الأول أنسب للسياق لأن فيه تحريض المؤمنين وتشجيعهم على قتال المشركين وتطييب نفوسهم أنهم هم الغالبون كما تفيده الآيات التالية.

بحث روائي

في المجمع في قوله تعالى : « وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ » إلخ ، عن الأصبغ بن نباتة عن علي عليه‌السلام قال : إنا كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيخبرنا بالوحي ـ فأعيه أنا ومن يعيه فإذا خرجنا قالوا : ما ذا قال آنفا.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بعثت أنا والساعة كهاتين ، وأشار بالسبابة والوسطى.

أقول : وروي هذا اللفظ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بطرق أخرى عن أبي هريرة وسهل بن مسعود.

وفيه ، أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن ماجة وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوما بارزا للناس ـ فأتاه رجل فقال : يا رسول الله متى الساعة؟ فقال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل ـ ولكن سأحدثك عن أشراطها.

إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها ، وإذا كانت الحفاة العراة رعاء الشاء رءوس الناس ـ فذاك من أشراطها ، وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان ـ فذاك من أشراطها.

وفي العلل ، بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث طويل يقول فيه لعبد الله بن سلام وقد سأله عن مسائل : أما أشراط الساعة ـ فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.

٢٤٤

أقول : ولعل المراد به غير ظاهرة ، والأخبار في أشراط الساعة من طرق الشيعة وأهل السنة فوق حد الإحصاء ، وقد مرت في آخر الجزء الخامس من الكتاب رواية سلمان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورواية حمران عن الصادق عليه‌السلام وهما روايتان جامعتان في الباب.

وفي المجمع ، قد صح الحديث بالإسناد عن حذيفة بن اليمان قال : كنت رجلا ذرب اللسان على أهلي ـ فقلت : يا رسول الله إني لأخشى ـ أن يدخلني لساني النار ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فأين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة.

وفي الدر المنثور ، أخرج أحمد وابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن الأغر المزني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة.

وفيه في قوله تعالى : « فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ » الآية : أخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الرحم معلقة بالعرش لها لسان ذلق تقول : اللهم صل من وصلني ، واقطع من قطعني.

أقول : والروايات فيها وفي صلتها وقطعها كثيرة ، وقد مر شطر منها في تفسير أول سورة النساء.

وفي المجمع في قوله تعالى : « أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ » الآية ـ أفلا يتدبرون القرآن فيقضوا ما عليهم من الحق : عن أبي عبد الله وأبي الحسن (ع).

وفي التوحيد ، بإسناده إلى محمد بن عمارة قال : سألت الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام فقلت له : يا ابن رسول الله أخبرني عن الله عز وجل ـ هل له رضى وسخط؟ قال : نعم ـ وليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين ـ ولكن غضب الله عقابه ورضاه ثوابه.

وفي المجمع في قوله تعالى : « وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ » الآية ، عن أبي سعيد الخدري قال: لحن القول بغضهم علي بن أبي طالب. قال : كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ببغضهم علي بن أبي طالب.

قال في المجمع : وروي مثل ذلك عن جابر بن عبد الله الأنصاري.

وقال : وعن عبادة بن الصامت قال : كنا نبور أولادنا بحب علي بن أبي طالب ـ فإذا رأينا أحدهم لا يحبه علمنا أنه لغير رشدة.

٢٤٥

وفي الدر المنثور ، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلا ببغض علي بن أبي طالب.

وفي أمالي الطوسي ، بإسناده إلى علي عليه‌السلام أنه قال : قلت أربعا أنزل الله تعالى تصديقي بها في كتابه ، قلت : المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهر ، فأنزل الله : « وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ».

* * *

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ـ ٣٣. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ـ ٣٤. فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ ـ ٣٥. إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ـ ٣٦. إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ ـ ٣٧. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ـ ٣٨. )

بيان

لما وصف حال الكفار وأضاف إليه وصف حال الذين في قلوبهم مرض وتثاقلهم في أمر القتال وحال من ارتد منهم بعد ، رجع يحذر المؤمنين أن يكونوا أمثالهم

٢٤٦

فيفاوضوا المشركين ويميلوا إليهم فيتبعوا ما أسخط الله ويكرهوا رضوانه فيبطل أعمالهم بالحبط ، وفي الآيات موعظة لهم بالترغيب والترهيب والتطميع والتخويف ، وبذلك تختتم السورة.

قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ » الآية وإن كانت في نفسها مستقلة في مدلولها مطلقة في معناها حتى استدل الفقهاء بقوله فيها : « وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ » على حرمة إبطال الصلاة بعد الشروع فيها لكنها من حيث وقوعها في سياق الآيات السابقة المتعرضة لأمر القتال ، وكذا الآيات اللاحقة الجارية على السياق وخاصة ما في ظاهر قوله : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا » إلخ ، من التعليل وما في قوله : « فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ » إلخ ، من التفريع ، وبالجملة الآية بالنظر إلى سياقها تدل على إيجاب طاعة الله سبحانه فيما أنزل من الكتاب وشرع من الحكم وإيجاب طاعة الرسول فيما بلغ عن الله سبحانه ، وفيما يصدر من الأمر من حيث ولايته على المؤمنين في المجتمع الديني ، وعلى تحذير المؤمنين من إبطال أعمالهم بفعل ما يوجب حبط أعمالهم كما ابتلي به أولئك الضعفاء الإيمان المائلون إلى النفاق الذين انجر أمر بعضهم أن ارتدوا بعد ما تبين لهم الهدى.

فالمراد بحسب المورد من طاعة الله طاعته فيما شرع وأنزل من حكم القتال ، ومن طاعة الرسول طاعته فيما بلغ منه وفيما أمر به منه ومن مقدماته بما له من الولاية فيه وبإبطال الأعمال التخلف عن حكم القتال كما تخلف المنافقون وأهل الردة.

وقيل : المراد بإبطال الأعمال إحباطها بمنهم على الله ورسوله بإيمانهم كما في قوله تعالى : « يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا » ، وقيل : إبطالها بالرياء والسمعة ، وقيل : بالعجب ، وقيل : بالكفر والنفاق ، وقيل : المراد إبطال الصدقات بالمن والأذى كما قال : « لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى » البقرة : ٢٦٤ ، وقيل : إبطالها بالمعاصي ، وقيل : بخصوص الكبائر.

ويرد على هذه الأقوال جميعا أن كل واحد منها على تقدير صحته وتسليمه مصداق من مصاديق الآية مع الغض من وقوعها في السياق الذي تقدمت الإشارة إليه ، وأما من حيث وقوعها في السياق فلا تشمل إلا القتال كما مر.

قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ

٢٤٧

يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ » ظاهر السياق أنه تعليل لمضمون الآية السابقة فيفيد أنكم لو لم تطيعوا الله ورسوله وأبطلتم أعمالكم باتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه أداكم ذلك إلى اللحوق بأهل الكفر والصد ولا مغفرة لهم بعد موتهم كذلك أبدا.

والمراد بالصد عن سبيل الله الإعراض عن الإيمان أو منع الناس أن يؤمنوا.

قوله تعالى : « فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ » تفريع على ما تقدم ، وقوله : « فَلا تَهِنُوا » من الوهن بمعنى الضعف والفتور ، وقوله : « وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ » معطوف على « تَهِنُوا » واقع في حيز النهي أي ولا تدعوا إلى السلم ، والسلم ـ بفتح السين ـ الصلح ، وقوله : « وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ » جملة حالية أي لا تفعلوا الصلح ، وقوله : « وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ » جملة حالية أي لا تفعلوا ذلك والحال أنكم الغالبون ، والمراد بالعلو الغلبة وهي استعارة مشهورة.

وقوله : « وَاللهُ مَعَكُمْ » معطوف على « وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ » يبين سبب علوهم ويعلله فالمراد بمعيته تعالى لهم معية النصر دون المعية القيومية التي يشير إليها قوله تعالى : « وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ » الحديد : ٤.

وقوله : « وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ » قال في المجمع : يقال : وتره يتره وترا إذا نقصه ومنه الحديث (١) فكأنه وتر أهله وماله ، وأصله القطع ومنه الترة القطع بالقتل ومنه الوتر المنقطع بانفراده عن غيره. انتهى.

فالمعنى : لن ينقصكم أعمالكم أي يوفي أجرها تاما كاملا ، وقيل : المعنى : لن يضيع أعمالكم ، وقيل : لن يظلمكم ، والمعاني متقاربة.

ومعنى الآية : إذا كانت سبيل عدم طاعة الله ورسوله وإبطال أعمالكم هذه السبيل وكان مؤديا إلى الحرمان من مغفرة الله أبدا فلا تضعفوا ولا تفتروا في أمر القتال ولا تدعوا المشركين إلى الصلح وترك القتال والحال أنكم أنتم الغالبون والله ناصركم عليهم ولن ينقصكم شيئا من أجوركم بل يوفيكموها تامة كاملة.

__________________

(١) وهو ما عن النبي صلى الله عليه وآله : « من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله » عن الجوامع.

٢٤٨

وفي الآية وعد المؤمنين بالغلبة والظفر إن أطاعوا الله ورسوله فهي كقوله : « وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » آل عمران : ١٣٩.

قوله تعالى : « إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ » ترغيب لهم في الآخرة وتزهيد لهم عن الدنيا ببيان حقيقتها وهي أنها لعب ولهو ـ وقد مر معنى كونها لعبا ولهوا ـ.

وقوله : « وَإِنْ تُؤْمِنُوا » إلخ ، أي أن تؤمنوا وتتقوا بطاعته وطاعة رسوله يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم بإزاء ما أعطاكم وظاهر السياق أن المراد بالأموال جميع أموالهم ويؤيده أيضا الآية التالية.

قوله تعالى : « إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ » الإحفاء الإجهاد وتحميل المشقة ، والمراد بالبخل ـ كما قيل ـ الكف عن الإعطاء ، والأضغان الأحقاد.

والمعنى : أن يسألكم جميع أموالكم فيجهدكم بطلب كلها كففتم عن الإعطاء لحبكم لها ويخرج أحقاد قلوبكم فضللتم.

قوله تعالى : « ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ » إلى آخر الآية بمنزلة الاستشهاد في بيان الآية السابقة كأنه قيل : إنه إن يسأل الجميع فيحفكم تبخلوا ويشهد بذلك أنكم أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ـ وهو بعض أموالكم ـ فبعضكم يبخل فيظهر به أنه لو سأل الجميع جميعكم بخلتم.

وقوله : « وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ » أي يمنع الخير عن نفسه فإن الله لا يسأل ما لهم لينتفع هو به بل لينتفع به المنفقون فيما فيه خير دنياهم وآخرتهم فامتناعهم عن إنفاقه امتناع منهم عن خير أنفسهم ، وإليه يشير قوله بعده : « وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ » والقصران للقلب أي الله هو الغني دونكم وأنتم الفقراء دون الله.

وقوله : « وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ » قيل : عطف على قوله : « وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا » والمعنى : إن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم وإن تتلوا وتعرضوا يستبدل قوما غيركم بأن يوفقهم للإيمان دونكم ثم لا يكونوا أمثالكم بل يؤمنون ويتقون وينفقون في سبيل الله.

٢٤٩

بحث روائي

في ثواب الأعمال ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قال : سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة ، ومن قال : الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة.

فقال رجل من قريش : يا رسول الله ـ إن شجرنا في الجنة لكثير. قال : نعم ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نارا فتحرقوها ، وذلك أن الله عز وجل يقول : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ ـ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ».

وفي تفسير القمي « وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها » قال : هي منسوخة بقوله : « فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ـ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ ».

وفي الدر المنثور ، أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : تلا رسول الله هذه الآية : « وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ـ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ » فقالوا : يا رسول الله ـ من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على منكب سلمان ـ ثم قال : هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا ـ لتناوله رجال من فارس.

أقول : وروي بطرق أخر عن أبي هريرة : مثله. وكذا عن ابن مردويه عن جابر : مثله.

وفي المجمع ، وروى أبو بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إِنْ تَتَوَلَّوْا » يا معشر العرب « يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ » يعني الموالي.

وفيه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قد والله أبدل خيرا منهم الموالي.

٢٥٠

(سورة الفتح مدنية ، وهي تسع وعشرون آية)

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ـ ١. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً ـ ٢. وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ـ ٣. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ـ ٤. لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً ـ ٥. وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً ـ ٦. وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ـ ٧. )

بيان

مضامين آيات السورة بفصولها المختلفة ظاهرة الانطباق على قصة صلح الحديبية الواقعة في السنة السادسة من الهجرة وما وقع حولها من الوقائع كقصة تخلف الأعراب

٢٥١

وصد المشركين ، وبيعة الشجرة على ما تفصله الآثار وسيجيء شطر منها في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.

فغرض السورة بيان ما امتن الله تعالى على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما رزقه من الفتح المبين في هذه السفرة ، وعلى المؤمنين ممن معه ، ومدحهم البالغ ، والوعد الجميل للذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات ، والسورة مدنية.

قوله تعالى : « إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً » كلام واقع موقع الامتنان ، وتأكيد الجملة بإن ونسبة الفتح إلى نون العظمة وتوصيفه بالمبين كل ذلك للاعتناء بشأن الفتح الذي يمتن به.

والمراد بهذا الفتح على ما تؤيده قرائن الكلام هو ما رزق الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله من الفتح في صلح الحديبية.

وذلك أن ما سيأتي في آيات السورة من الامتنان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين ، ومدحهم والرضا عن بيعتهم ووعدهم الجميل في الدنيا بمغانم عاجلة وآجلة وفي الآخرة بالجنة وذم المخلفين من الأعراب إذ استنفرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يخرجوا معه ، وذم المشركين في صدهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن معه ، وذم المنافقين ، وتصديقه تعالى رؤيا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقوله : « فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً » ـ وكاد يكون صريحا ـ كل ذلك معان مرتبطة بخروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكة للحج وانتهاء ذلك إلى صلح الحديبية.

وأما كون هذا الصلح فتحا مبينا رزقه الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فظاهر بالتدبر في لحن آيات السورة في هذه القصة فقد كان خروج النبي والمؤمنين إلى هذه البغية خروجا على خطر عظيم لا يرجى معه رجوعهم إلى المدينة عادة كما يشير إليه قوله تعالى : « بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً » والمشركون من صناديد قريش ومن يتبعهم على ما لهم من الشوكة والقوة والعداوة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين لم يتوسط بينهم منذ سنين إلا السيف ولم يجمعهم جامع غير معركة القتال كغزوة بدر وأحد والأحزاب ، ولم يخرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا شرذمة قليلون ـ ألف وأربعمائة ـ لا قدر لهم عند جموع المشركين وهم في عقر دارهم.

لكن الله سبحانه قلب الأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين على المشركين فرضوا بما لم

٢٥٢

يكن مطموعا فيه متوقعا منهم فسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يصالحهم على ترك القتال عشر سنين ، وعلى تأمين كل من القبيلين أتباع الآخر ومن لحق به ، وعلى أن يرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة عامة هذا ثم يقدم إلى مكة العام القابل فيخلوا له المسجد والكعبة ثلاثة أيام.

وهذا من أوضح الفتح رزقه الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان من أمس الأسباب بفتح مكة سنة ثمان من الهجرة فقد آمن جمع كثير من المشركين في السنتين بين الصلح وفتح مكة ، وفتح في أوائل سنة سبع خيبر وما والاه وقوي به المسلمون واتسع الإسلام اتساعا بينا وكثر جمعهم وانتشر صيتهم وأشغلوا بلادا كثيرة ، وخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لفتح مكة في عشرة آلاف أو في اثني عشر ألفا ، وقد كان خرج إلى حديبية في ألف وأربعمائة على ما تفصله الآثار.

وقيل : المراد بالفتح فتح مكة فالمراد بقوله : « إِنَّا فَتَحْنا لَكَ » إنا قضينا لك فتح مكة ، وفيه أن القرائن لا تساعده.

وقيل : المراد به فتح خيبر ، ومعناه ـ على تقدير نزول السورة عند مرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الحديبية إلى المدينة ـ أنا قضينا لك فتح خيبر ، وحال هذا القول أيضا كسابقه.

وقيل : المراد به الفتح المعنوي وهو الظفر على الأعداء بالحجج البينة والمعجزات الباهرة التي غلب بها كلمة الحق على الباطل وظهر الإسلام على الدين كله ، وهذا الوجه وإن كان في نفسه لا بأس به لكن سياق الآيات لا يلائمه.

قوله تعالى : « لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً » اللام في قوله : « لِيَغْفِرَ » للتعليل على ما هو ظاهر اللفظ فظاهره أن الغرض من هذا الفتح المبين هو مغفرة ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، ومن المعلوم أن لا رابطة بين الفتح وبين مغفرة الذنب ولا معنى معقولا لتعليله بالمغفرة.

وقول بعضهم فرارا عن الإشكال : أن اللام المكسورة في « لِيَغْفِرَ » لام القسم والأصل ليغفرن حذفت نون التوكيد وبقي ما قبلها مفتوحا للدلالة على المحذوف غلط لا شاهد عليه من الاستعمال.

٢٥٣

وكذا قول بعض آخر فرارا عن الإشكال : « أن العلة هو مجموع المغفرة وما عطف عليه من إتمام النعمة والهداية والنصر العزيز من حيث المجموع فلا ينافي عدم كون البعض أي مغفرة الذنب في نفسه علة للفتح » كلام سخيف لا يغني طائلا فإن مغفرة الذنب لا هي علة أو جزء علة للفتح ولا مرتبطة نوع ارتباط بما عطف عليها حتى يوجه دخولها في ضمن علله فلا مصحح لذكرها وحدها ولا مع العلل وفي ضمنها.

وبالجملة هذا الإشكال نعم الشاهد على أن ليس المراد بالذنب في الآية هو الذنب المعروف وهو مخالفة التكليف المولوي ، ولا المراد بالمغفرة معناها المعروف وهو ترك العقاب على المخالفة المذكورة فالذنب في اللغة على ما يستفاد من موارد استعمالاته هو العمل الذي له تبعة سيئة كيفما كان ، والمغفرة هي الستر على الشيء ، وأما المعنيان المذكوران المتبادران من لفظي الذنب والمغفرة إلى أذهاننا اليوم أعني مخالفة الأمر المولوي المستتبع للعقاب وترك العقاب عليها فإنما لزماهما بحسب عرف المتشرعين.

وقيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالدعوة ونهضته على الكفر والوثنية فيما تقدم على الهجرة وإدامته ذلك وما وقع له من الحروب والمغازي مع الكفار والمشركين فيما تأخر عن الهجرة كان عملا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذا تبعة سيئة عند الكفار والمشركين وما كانوا ليغفروا له ذلك ما كانت لهم شوكة ومقدرة ، وما كانوا لينسوا زهوق ملتهم وانهدام سنتهم وطريقتهم ، ولا ثارات من قتل من صناديدهم دون أن يشفوا غليل صدورهم بالانتقام منه وإمحاء اسمه وإعفاء رسمه غير أن الله سبحانه رزقه صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الفتح وهو فتح مكة أو فتح الحديبية المنتهي إلى فتح مكة فذهب بشوكتهم وأخمد نارهم فستر بذلك عليه ما كان لهم عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله من الذنب وآمنه منهم.

فالمراد بالذنب ـ والله أعلم ـ التبعة السيئة التي لدعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله عند الكفار والمشركين وهو ذنب لهم عليه كما في قول موسى لربه : « وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ » الشعراء : ١٤ ، وما تقدم من ذنبه هو ما كان منه صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة قبل الهجرة ، وما تأخر من ذنبه هو ما كان منه بعد الهجرة ، ومغفرته تعالى لذنبه هي سترة عليه بإبطال تبعته بإذهاب شوكتهم وهدم بنيتهم ، ويؤيد ذلك ما يتلوه من قوله : « وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ـ إلى أن قال ـ وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ».

وللمفسرين في الآية مذاهب مختلفة أخر :

٢٥٤

فمن ذلك : أن المراد بذنبه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما صدر عنه من المعصية ، والمراد بما تقدم منه وما تأخر ما صدر عنه قبل النبوة وبعدها ، وقيل : ما صدر قبل الفتح وما صدر بعده.

وفيه أنه مبني على جواز صدور المعصية عن الأنبياء عليهم‌السلام وهو خلاف ما يقطع به الكتاب والسنة والعقل من عصمتهم عليه‌السلام وقد تقدم البحث عنه في الجزء الثاني من الكتاب وغيره.

على أن إشكال عدم الارتباط بين الفتح والمغفرة على حاله.

ومن ذلك : أن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر مغفرة ما وقع من معصيته وما لم يقع بمعنى الوعد بمغفرة ما سيقع منه إذا وقع لئلا يرد الإشكال بأن مغفرة ما لم يتحقق من المعصية لا معنى له.

وفيه مضافا إلى ورود ما ورد على سابقه عليه أن مغفرة ما سيقع من المعصية قبل وقوعه تلازم ارتفاع التكاليف عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله عامة ، ويدفعه نص كلامه تعالى في آيات كثيرة كقوله تعالى : « إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ » الزمر : ٢ ، وقوله : « وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ » الزمر : ١٢ ، إلى غير ذلك من الآيات التي تأبى بسياقها التخصيص.

على أن من الذنوب والمعاصي مثل الشرك بالله وافتراء الكذب على الله والاستهزاء بآيات الله والإفساد في الأرض وهتك المحارم ، وإطلاق مغفرة الذنوب يشملها ولا معنى لأن يبعث الله عبدا من عباده فيأمره أن يقيم دينه على ساق ويصلح به الأرض فإذا فتح له ونصره وأظهره على ما يريد يجيز له مخالفة ما أمره وهدم ما بناه وإفساد ما أصلحه بمغفرة كل مخالفة ومعصية منه والعفو عن كل ما تقوله وافتراه على الله ، وفعله تبليغ كقوله ، وقد قال تعالى : « وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ » الحاقة : ٤٦.

ومن ذلك : قول بعضهم : إن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه مغفرة ما تقدم من ذنب أبويه آدم وحواء عليه‌السلام ببركته صلى‌الله‌عليه‌وآله والمراد بمغفرة ما تأخر منه مغفرة ذنوب أمته بدعائه.

وفيه ورود ما ورد على ما تقدم عليه.

٢٥٥

ومن ذلك : أن الكلام في معنى التقدير وإن كان في سياق التحقيق والمعنى : ليغفر لك الله قديم ذنبك وحديثه لو كان لك ذنب.

وفيه أنه أخذ بخلاف الظاهر من غير دليل.

ومن ذلك : أن القول خارج مخرج التعظيم وحسن الخطاب والمعنى : غفر الله لك كما في قوله تعالى : « عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ » التوبة : ٤٣.

وفيه أن العادة جرت في هذا النوع من الخطاب أن يورد بلفظ الدعاء. كما قيل.

ومن ذلك : أن المراد بالذنب في حقه صلى‌الله‌عليه‌وآله ترك الأولى وهو مخالفة الأوامر الإرشادية دون التمرد عن امتثال التكاليف المولوية ، والأنبياء على ما هم عليه من درجات القرب يؤاخذون على ترك ما هو أولى كما يؤاخذ غيرهم على المعاصي المعروفة كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين.

ومن ذلك : ما ارتضاه جمع من أصحابنا من أن المراد بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر مغفرة ما تقدم من ذنوب أمته وما تأخر منها بشفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا ضير في إضافة ذنوب أمته صلى‌الله‌عليه‌وآله إليه للاتصال والسبب بينه وبين أمته.

وهذا الوجه والوجه السابق عليه سليمان عن عامة الإشكالات لكن إشكال عدم الارتباط بين الفتح والمغفرة على حاله.

ومن ذلك : ما عن علم الهدى رحمه الله إن الذنب مصدر ، والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول معا فيكون هنا مضافا إلى المفعول ، والمراد ما تقدم من ذنبهم إليك في منعهم إياك من مكة وصدهم لك عن المسجد الحرام ، ويكون معنى المغفرة على هذا الإزالة والنسخ لأحكام أعدائه من المشركين أي يزيل الله تعالى ذلك عنك ويستر عليك تلك الوصمة بما يفتح لك من مكة فتدخلها فيما بعد.

وهذا الوجه قريب المأخذ مما قدمنا من الوجه ، ولا بأس به لو لم يكن فيه بعض المخالفة لظاهر الآية.

وفي قوله : « لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ » إلخ ، بعد قوله : « إِنَّا فَتَحْنا لَكَ » التفات من التكلم إلى الغيبة ولعل الوجه فيه أن محصل السورة امتنانه تعالى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

٢٥٦

والمؤمنين بما رزق من الفتح وإنزال السكينة والنصر وسائر ما وعدهم فيها فناسب أن يكون السياق الجاري في السورة سياق الغيبة ويذكر تعالى فيها باسمه وينسب إليه النصر بما يعبده نبيه والمؤمنون وحده قبال ما لا يعبده المشركون وإنما يعبدون آلهة من دونه طمعا في نصرهم ولا ينصرونهم.

وأما سياق التكلم مع الغير المشعر بالعظمة في الآية الأولى فلمناسبته ذكر الفتح فيها ويجري الكلام في قوله تعالى الآتي : « إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً » الآية.

وقوله : « وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ » قيل : أي يتمها عليك في الدنيا بإظهارك على عدوك وإعلاء أمرك وتمكين دينك ، وفي الآخرة برفع درجتك ، وقيل : أي يتمها عليك بفتح خيبر ومكة والطائف.

وقوله : « وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً » قيل : أي ويثبتك على صراط يؤدي بسالكه إلى الجنة ، وقيل : أي ويهديك إلى مستقيم الصراط في تبليغ الأحكام وإجراء الحدود.

وقوله : « وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً » قيل : النصر العزيز هو ما يمتنع به من كل جبار عنيد وعات مريد ، وقد فعل بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك إذ جعل دينه أعز الأديان وسلطانه أعظم السلطان ، وقيل : المراد بالنصر العزيز ما هو نادر الوجود قليل النظير أو عديمه ونصره تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك كما يظهر بقياس حاله في أول بعثته إلى حاله في آخر أيام دعوته.

والتدبر في سياق الآيتين بالبناء على ما تقدم من معنى قوله : « إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ » يعطي أن يكون المراد بقوله : « وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ » هو تمهيده تعالى له صلى‌الله‌عليه‌وآله لتمام الكلمة وتصفيته الجو لنصره نصرا عزيزا بعد رفع الموانع بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وبقوله : « وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً » هدايته صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد تصفية الجو له إلى الطريق الموصل إلى الغاية الذي سلكه بعد الرجوع من الحديبية من فتح خيبر وبسط سلطة الدين في أقطار الجزيرة حتى انتهى إلى فتح مكة والطائف.

وبقوله : « وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً » نصره له صلى‌الله‌عليه‌وآله ذاك النصر الظاهر الباهر

٢٥٧

الذي قلما يوجد ـ أو لا يوجد ـ له نظير إذ فتح له مكة والطائف وانبسط الإسلام في أرض الجزيرة وانقلع الشرك وذل اليهود وخضع له نصارى الجزيرة والمجوس القاطنون بها ، وأكمل تعالى للناس دينهم وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينا.

قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ » إلخ ، الظاهر أن المراد بالسكينة سكون النفس وثباتها واطمئنانها إلى ما آمنت به ، ولذا علل إنزالها فيها بقوله : « لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ » وقد تقدم البحث عن السكينة في ذيل قوله تعالى : « أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ » البقرة : ٢٤٨ في الجزء الثاني من الكتاب وذكرنا هناك أنها تنطبق على روح الإيمان المذكور في قوله تعالى : « وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » المجادلة : ٢٢.

وقيل : السكينة هي الرحمة ، وقيل : العقل ، وقيل : الوقار والعصمة لله ولرسوله ، وقيل : الميل إلى ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقيل : ملك يسكن قلب المؤمن ، وقيل : شيء له رأس كرأس الهرة ، وهذه الأقاويل لا دليل على شيء منها.

والمراد بإنزال السكينة في قلوبهم إيجادها فيها بعد عدمها فكثيرا ما يعبر في القرآن عن الخلق والإيجاد بالإنزال كقوله : « وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ » الزمر : ٦ ، وقوله : « وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ » الحديد : ٢٥ ، وقوله : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ » الحجر : ٢١. وإنما عبر عن الخلق والإيجاد بالإنزال للإشارة إلى علو مبدئه.

وقيل : المراد بالإنزال الإسكان والإقرار من قولهم : نزل في مكان كذا أي حط رحله فيه وأنزلته فيه أي حططت رحله فيه هذا.

وهو معنى غير معهود في كلامه تعالى مع كثرة وروده فيه ، ولعل الباعث لهم على اختيار هذا المعنى تعديته في الآية بلفظة « في » إذ قال : « أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ » لكنه عناية كلامية لوحظ فيها تعلق السكينة بالقلوب تعلق الاستقرار فيها كما لوحظ تعلقها تعلق الوقوع عليها من علو في قوله الآتي : « فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ » الآية وقوله : « فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ » الآية.

والمراد بزيادة الإيمان اشتداده فإن الإيمان بشيء هو العلم به مع الالتزام بحيث يترتب عليه آثاره العملية ، ومن المعلوم أن كلا من العلم والالتزام المذكورين مما يشتد

٢٥٨

ويضعف فالإيمان الذي هو العلم المتلبس بالالتزام يشتد ويضعف.

فمعنى الآية : الله الذي أوجد الثبات والاطمئنان الذي هو لازم مرتبة من مراتب الروح في قلوب المؤمنين ليشتد به الإيمان الذي كان لهم قبل نزول السكينة فيصير أكمل مما كان قبله.

كلام في الإيمان وازدياده

الإيمان بالشيء ليس مجرد العلم الحاصل به كما يستفاد من أمثال قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى » سورة محمد : ٢٥ ، وقوله : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى » سورة محمد : ٣٢ ، وقوله : « وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ » النمل : ١٤ ، وقوله : « وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ » الجاثية : ٢٣ ، فالآيات ـ كما ترى ـ تثبت الارتداد والكفر والجحود والضلال مع العلم.

فمجرد العلم بالشيء والجزم بكونه حقا لا يكفي في حصول الإيمان واتصاف من حصل له به ، بل لا بد من الالتزام بمقتضاه وعقد القلب على مؤداه بحيث يترتب عليه آثاره العملية ولو في الجملة ، فالذي حصل له العلم بأن الله تعالى إله لا إله غيره فالتزم بمقتضاه وهو عبوديته وعبادته وحده كان مؤمنا ولو علم به ولم يلتزم فلم يأت بشيء من الأعمال المظهرة للعبودية كان عالما وليس بمؤمن.

ومن هنا يظهر بطلان ما قيل : إن الإيمان هو مجرد العلم والتصديق وذلك لما مر أن العلم ربما يجامع الكفر.

ومن هنا يظهر أيضا بطلان ما قيل : إن الإيمان هو العمل ، وذلك لأن العمل يجامع النفاق فالمنافق له عمل وربما كان ممن ظهر له الحق ظهورا علميا ولا إيمان له على أي حال.

وإذ كان الإيمان هو العلم بالشيء مع الالتزام به بحيث يترتب عليه آثاره العملية ، وكل من العلم والالتزام مما يزداد وينقص ويشتد ويضعف كان الإيمان المؤلف منهما قابلا للزيادة والنقيصة والشدة والضعف فاختلاف المراتب وتفاوت الدرجات من الضروريات التي لا يشك فيها قط.

٢٥٩

هذا ما ذهب إليه الأكثر وهو الحق ويدل عليه من النقل قوله تعالى : « لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ » وغيره من الآيات ، وما ورد من أحاديث أئمة أهل البيت عليه‌السلام الدالة على أن الإيمان ذو مراتب.

وذهب جمع منهم أبو حنيفة وإمام الحرمين وغيرهما إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، واحتجوا عليه بأن الإيمان اسم للتصديق البالغ حد الجزم والقطع وهو مما لا يتصور فيه الزيادة والنقصان فالمصدق إذا ضم إلى تصديقه الطاعات أو ضم إليه المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا.

وأولوا ما دل من الآيات على قبوله الزيادة والنقصان بأن الإيمان عرض لا يبقى بشخصه بل بتجدد الأمثال فهو بحسب انطباقه على الزمان بأمثاله المتجددة يزيد وينقص كوقوعه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مثلا على التوالي من غير فترة متخللة وفي غيره بفترات قليلة أو كثيرة فالمراد بزيادة الإيمان توالي أجزاء الإيمان من غير فترة أصلا أو بفترات قليلة.

وأيضا للإيمان كثرة بكثرة ما يؤمن به ، وشرائع الدين لما كانت تنزل تدريجا والمؤمنون يؤمنون بما ينزل منها وكان يزيد عدد الأحكام حينا بعد حين كان إيمانهم أيضا يزيد تدريجا ، وبالجملة المراد بزيادة الإيمان كثرته عددا.

وهو بين الضعف ، أما الحجة ففيها أولا : أن قولهم : الإيمان اسم للتصديق الجازم ممنوع بل هو اسم للتصديق الجازم الذي معه الالتزام كما تقدم بيانه اللهم إلا أن يكون مرادهم بالتصديق العلم مع الالتزام.

وثانيا : أن قولهم : إن هذا التصديق لا يختلف بالزيادة والنقصان دعوى بلا دليل بل مصادرة على المطلوب وبناؤه على كون الإيمان عرضا وبقاء الأعراض على نحو تجدد الأمثال لا ينفعهم شيئا فإن من الإيمان ما لا تحركه العواصف ومنه ما يزول بأدنى سبب يعترض وأوهن شبهة تطرأ ، وهذا مما لا يعلل بتجدد الأمثال وقلة الفترات وكثرتها بل لا بد من استناده إلى قوة الإيمان وضعفه سواء قلنا بتجدد الأمثال أم لا.

مضافا إلى بطلان تجدد الأمثال على ما بين في محله.

وقولهم : إن المصدق إذا ضم إليه الطاعات أو ضم إليه المعاصي لم يتغير حاله أصلا ممنوع فقوة الإيمان بمزاولة الطاعات وضعفها بارتكاب المعاصي مما لا ينبغي

٢٦٠