موسوعة الأسئلة العقائديّة - ج ٤

مركز الأبحاث العقائديّة

موسوعة الأسئلة العقائديّة - ج ٤

المؤلف:

مركز الأبحاث العقائديّة


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-04-1
ISBN الدورة:
978-600-5213-00-3

الصفحات: ٥٨٨

الخضر عن أفعاله ، وبماذا اعتذر هنا؟ لقد اعتذر بأنّه نسى ، ولا يمكن حملها هنا على الترك.

وقول موسى عليه‌السلام : ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ... ) (١) ، فإنّ الرؤية عند الشيعة من أعظم المحال ، لأنّها تستلزم التحديد وغير ذلك ، فدعاء موسى هذا دائر بين الجهل بالربّ سبحانه ، وبين التجاوز في الدعاء والاعتداء فيه ، بل وإساءة الأدب مع الله تعالى.

وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (٢) ، فلماذا ورد هذا السؤال من الله عزّ وجلّ ، إنّه عتاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه حرّم على نفسه سريته مارية ، أو شرب العسل.

وأيضاً هل يصحّ أن يحرّم أحد الشيعة على نفسه شيئاً ممّا أحلّه الله ويكون محموداً؟ أليس هذا هو مقتضى العصمة واللطف الذي أوجبتموه على الله؟

وقوله : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) (٣).

ما المقصود بقوله تعالى ذنبك؟ فالله جلّ جلاله أثبت ذنباً متقدّماً وذنباً متأخّراً ، وأثبت له مغفرة ذلك كُلّه.

ج : أمّا قوله تعالى عن موسى عليه‌السلام : ( لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ... ) ، فيمكن أن تحمل : أنّه أراد لا تأخذني بما تركت من عهدك ، وقد روي هذا الوجه عن ابن عباس وأُبي بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

والوجه الآخر الذي يمكن أن تحمل عليه الآية : أنّه أراد لا تؤاخذني بما فعلته ، ممّا يشبه النسيان ، فسمّاه نسياناً للمشابهة ، كما قال المؤذّن لأخوة

____________

١ ـ الأعراف : ١٤٣.

٢ ـ التحريم : ١.

٣ ـ الفتح : ١ ـ ٢.

٤ ـ جامع البيان ١٥ / ٣٥٤ ، تفسير القرآن العظيم ٣ / ١٠٠ ، الدرّ المنثور ٤ / ٢٣٢ ، تاريخ الأُمم والملوك ١ / ٢٦٣.

٣٤١

يوسف عليه‌السلام : ( إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) (١) أي تشبهون السرّاق ، وكما يتأوّل الخبر الذي يرويه أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « كذب إبراهيم عليه‌السلام ثلاث كذبات : في قوله : سارة أختي ، وفي قوله : بل فعله كبيرهم هذا ، وقوله : إنّي سقيم » ، والمراد بذلك ـ إن كان هذا الخبر صحيحاً ـ أنّه فعل ما ظاهره الكذب (٢).

وأمّا قول موسى عليه‌السلام : ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ... ) ، أنّه عليه‌السلام لم يسأل الرؤية لنفسه ، وإنّما سألها لقومه.

فقد روي أنّ قومه طلبوا ذلك منه ، فأجابهم : بأنّ الرؤية لا تجوز عليه تعالى ، فلجّوا به وألحّوا عليه في أن يسأل الله تعالى أن يريهم نفسه ، وغلب في ظنّه أن الجواب إذا ورد من جهته جلّت عظمته كان أحسم للشبهة وأنفى لها ، فأختار السبعين الذين حضروا للميقات ، لتكون المسألة بمحضر منهم ، فيعرفوا ما يرد من الجواب ، فسئل عليه‌السلام على ما نطق به القرآن ، وأجيب بما يدلّ على أنّ الرؤية لا تجوز عليه تعالى.

ويقوّي هذا الجواب أُمور منها : قوله تعالى : ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) (٣).

ومنها : قوله تعالى : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) (٤).

____________

١ ـ يوسف : ٧٠.

٢ ـ مسند أحمد ٢ / ٤٠٣ ، صحيح البخاري ٤ / ١١٢ و ٦ / ١٢١ ، صحيح مسلم ٧ / ٩٨ ، السنن الكبرى للبيهقي ٧ / ٣٦٦ و ١٠ / ١٩٨.

٣ ـ النساء : ١٥٣.

٤ ـ البقرة : ٥٥.

٣٤٢

ومنها : قوله تعالى : ( فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ) (١) فأضاف ذلك إلى السفهاء ، وهذا يدلّ أنّه كان بسببهم من حيث سألوا ما لا يجوز عليه تعالى.

وليس لأحد أن يقول : لو كان موسى عليه‌السلام يسأل الرؤية لقومه ، فلم يضف السؤال إلى نفسه ، فيقول : ( أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ) ، ولم كان الجواب مختصّاً به في قوله : ( لَن تَرَانِي )؟ وذلك أنّه غير ممتنع وقوع الإضافة على هذا الوجه ، مع أنّ المسألة كانت من أجل غيره ، إذا كانت هناك دلالة تؤمن من اللبس.

فلهذا يقول أحدنا إذا شفّع في حاجة غيره للمشفوع إليه : أسألك أن تفعل بي كذا وكذا ، وتجيبني إلى كذا وكذا ، ويحسن أن يقول المشفوع إليه : قد أجبتك وشفّعتك ، وما جرى مجرى هذه الألفاظ.

وإنّما حسن هذا لأنّ للسائل في المسألة غرضاً ، وإن رجعت إلى آخر لتحقّقه بها ، وتكلّفه كتكلفه إذا اختصّه.

وأمّا قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ... ) يظهر من كلامك أنّك تريد أن تقول : أنّ فعل النبيّ هذا ـ وهو التحريم ـ يقدح في عصمته ، لأنّ العتاب الموجّه له من الله ما هو إلاّ ذمّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على فعله هذا ، والذمّ لابدّ أن يكون على شيء قبيح ، وهو يقدح بالعصمة ، هذا ما فهمناه من كلامك.

وما يقال في تفسير هذه الآية : إنّها تومي إلى عمل من الأعمال المحلّلة ، التي يقترفها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ترتضيه أزواجه ، فضيّقن عليه وآذينه حتّى أرضاهن بالحلف على أن يتركه ولا يأتي به بعد.

وقوله : ( لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ ) ، المراد بالتحريم التسبيب إلى الحرمة بالحلف ، على ما تدلّ عليه الآية التالية ، فإنّ ظاهر قوله : ( قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ... ) (٢) أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حلف على ذلك ، ومن شأن اليمين

____________

١ ـ الأعراف : ١٥٥.

٢ ـ التحريم : ٢.

٣٤٣

أن يوجب عروض الوجوب ، إن كان الحلف على الفعل ، والحرمة إن كان الحلف على الترك ، وإذا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله حلف على ترك ما أحلّ الله له ، فقد حرّم ما أحلّ الله بالحلف ، وليس المراد بالتحريم تشريعه صلى‌الله‌عليه‌وآله على نفسه الحرمة ، فيما شرّع الله له في الحلّية فليس له ذلك.

وقوله : ( تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ) ، أي تطلب بالتحريم رضاهن بدل من تحرم ....

وحال من فاعله ، والجملة قرينة على أنّ العتاب بالحقيقة متوجّه إليهن ، ويؤيّده قوله خطاباً لهما : ( إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ... ) (١).

أمّا قوله تعالى : ( وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) ، فإنّ الخطاب وأن كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلاّ أنّ المقصود منه الأُمّة ، وهذا موجود في القرآن في آيات أُخر أيضاً.

وأمّا قوله تعالى : ( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ) ، للتعرّف على تلك الآية ونظائرها لابدّ من الوقوف على الأصل المسلّم بين العقلاء ، وهو أنّ عظمة الشخصية وخطر المسؤولية متحالفان ، وربّ عمل يعدّ صدوره من شخص جرماً وخلافاً ، وفي الوقت نفسه لا يعدّ صدوره من إنسان آخر كذلك.

فالعارف بعظمة الربّ يتحمّل من المسؤولية ما لا يتحمّله غيره ، فيكون المترقّب منه غير ما يترقّب من الآخر ، ولو صدر منه ما لا يليق ، وتساهل في هذا الطريق ، يتأكّد منه الاستغفار ، وطلب المغفرة لا لصدور الذنب منه ، بل من باب قياس عمله إلى علو معرفته وعظمة مسؤوليته.

ولأجل ذلك تعدّ بعض الغفلات ، أو اقتراف المكروهات من الأوّلياء ذنباً ، إذا قيس إلى ما أعطوا من الإيمان والمعرفة ، ولو قاموا بطلب المغفرة والعفو ، فإنّما هو لأجل هذه الجهات.

____________

١ ـ التحريم : ٤.

٣٤٤

يقول العلاّمة الإربلي : « إنّ الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام تكون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى ، وقلوبهم مملوءة به ، وخواطرهم متعلّقة بالملأ الأعلى ، وهم أبداً في المراقبة ، كما قال عليه‌السلام : « اعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تره فإنّه يراك ».

فهم أبداً متوجّهون إليه ، ومقبلون بكلّهم عليه ، فمتى انحطوا عن تلك المرتبة العالية ، والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل والمشرب ، والتفرّغ إلى النكاح وغيره من المباحات عدّوه ذنباً ، واعتقدوه خطيئة ، واستغفروا منه ... » (١).

وأمّا قوله تعالى : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) ، فإنّ الذنب في اللغة يأتي بثلاثة أُصول : « أحدها الجرم ، والآخر مؤخّر الشيء ، والثالث : كالحظّ والنصيب » (٢).

وكون الذنب في الآية بمعنى الجرم ممّا لا ريب فيه ، غير أنّ الذي يجب التنبيه عليه ، هو أنّ اللفظ لا يدلّ على أزيد من كون صاحبه عاصياً وطاغياً ، وناقضاً للقانون ، وأمّا الذي عصى وطغى عليه ونقض قانونه فهو يختلف حسب اختلاف البيئات والظروف ، وليست خصوصية العصيان لله سبحانه مأخوذة في صميم اللفظ ، بحيث لو أطلق ذلك اللفظ يتبادر منه كونه سبحانه هو المعصي أمره ، وإنّما تستفاد الخصوصية من القرائن الخارجية ، وهذا هو الأساس لتحليل الآية ، وفهم المقصود منها ، والغفران باللغة هو الستر.

والآية تدلّ على أنّ الغاية المتوخّاة من الفتح هي مغفرة ذنب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما تقدّم منها وما تأخّر ، غير أنّ في ترتّب تلك الغاية على ذيلها غموضاً في بادئ النظر ، والإنسان يستفسر في نفسه كيف صار تمكينه سبحانه نبيّه من فتح القلاع والبلدان ، أو المهادنة والمصالحة في أرض الحديبية مع قريش سبباً لمغفرة ذنوبه.

____________

١ ـ كشف الغمّة ٣ / ٤٧.

٢ ـ معجم مقاييس اللغة ٢ / ٣٦١.

٣٤٥

مع أنّه يجب أن تكون بين الجملة الشرطية والجزائية رابطة عقلية أو عادية ، بحيث تعدّ أحدهما علّة لتحقّق الأُخرى ، أو ملازمة لها ، وهذه الرابطة خفية في المقام جدّاً ، فإنّ تمكّن النبيّ من الأعداء والسيطرة عليهم ، يكون سبباً لانتشار كلمة الحقّ ورفض الباطل ، واستطاعته التبليغ في المنطقة المفتوحة ، فلو قال : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ، لتتمكّن من إظهار الحقّ ونشر التوحيد ودحض الباطل ، كان الترتّب أمراً طبيعياً ، وكانت الرابطة محفوظة بين الجملتين.

وأمّا جعل مغفرة ذنوبه جزاء لفتحه صقعاً من الأصقاع ، فالرابطة غير واضحة.

وهذه هي النقطة الحسّاسة في فهم مفاد الآية ، وبالتالي دحض زعم المخطئة في جعلها ذريعة لعقيدتهم ، ولو تبيّنت صلة الجملتين لاتضح عدم دلالتها على ما تتبنّاه تلك الطائفة.

إنّ الحوادث الدامية بين قريش والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما هي إلاّ حوادث مرّة في واقعهم ، بما أنّها جرت إلى ذهاب كيانهم ، وحدوث التفرقة في صفوفهم ، والفتك بصناديدهم على يد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، صوّرته في مخيلتهم وخزانة أذهانهم صورة إنسان مجرم مذنب ، قام في وجه سادات قومه ، فسبّ آلهتهم ، وعاب طريقتهم بطريقة تراها قريش ، ما هي إلاّ كذب وافتراء وكهانة وسحر ، ولم يكتف بذلك حتّى شنّ عليهم الغارة والعدوان ، فصارت أرض يثرب وما حولها مجازر لقريش ، ومذابح لأسيادهم ، فأيّ جرم أعظم من هذا؟ وأيّ ذنب أكبر منه عند هؤلاء الجهلة الغفلة؟ الذين لا يعرفون الخيّر من الشرير ، والصديق من العدو ، والمنجي من المهلك.

وإنّ واقعة الفتح التي حصلت لمس منها الكفّار خُلق النبيّ العظيم ، فرفع الستار الحديدي الذي وضعه بعض أعدائه بينه وبين قومه ، فعرفوا أنّ ما يرمي

٣٤٦

به نبي العظمة ، ويوصف به بين أعدائه ، كانت دعايات كاذبة ، وكان منزّهاً عنها ، بل عن الأقل منها.

فأصبحت هذه الذنوب التي كانت تدّعيها قريش على النبيّ ـ بعد وقعة الحديبية ، أو فتح مكّة ـ أسطورة خيالية ، قضت عليها سيرته في كُلّ من الواقعتين ، من غير فرق بين ما الصقوا به قبل الهجرة أو بعدها ، وعند ذلك يتّضح مفاد الآيات ، كما يتّضح ارتباط الجملتين : الجزائية والشرطية.

وعلى ذلك ، فالمقصود من الذنب : ما كانت قريش تصفه به ، كما أنّ المراد من المغفرة : إذهاب آثار تلك النسب في المجتمع.

( عبد الله ـ البحرين ـ ٢٠ سنة ـ طالب جامعة )

نسيان موسى ليس حقيقياً :

س : عندي سؤال ، أرجو الإجابة عليه : قال تعالى على لسان موسى : ( قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) (١) ، فهل يمكن القول بأنّ النبيّ لا ينسى أو لا يسهو ، والآية تصرّح بنسيان موسى وهو نبيّ؟

ج : إنّ العصمة ثبتت بأدلّة عقلية ، ولذا فهي لا تتخلّف في مورد دون مورد آخر ، ولا ترد عليها النقوض النقلية ، فإذا ورد من النقل ما ظاهره خلاف القاعدة العقلية في العصمة وجب أن يؤوّل بما يوافقها ، ولذا نقول في هذه الآية : أنّ العلماء ـ جزاهم الله خيراً ـ أعطوا عدّة احتمالات لتفسير الآية بما لا يخرم قاعدة العصمة ، ونورد هنا أحدها.

وهو : أنّه لم يحدث نسيان من موسى عليه‌السلام بمعنى الغَيبة ، وإنّما حدث منه ما يشابه النسيان في النتيجة ، وذلك لأنّه قدّم الأهم على المهمّ حسب علمه ، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وترك الوعد بالصبر عندما تزاحما على مورد

____________

١ ـ الكهف : ٧٣.

٣٤٧

واحد ، فإنّه عليه‌السلام كان ملتفتاً لما وعد به الخضر عليه‌السلام ، ولكنّه لم يصبر على ما رآه منه عليه‌السلام ، فما رآه لا يقاس بشيء أمام الوعد الذي قطعه للخضر عليه‌السلام.

ومثله ما لو كنت عند قائد لجيش لتناقشه في قضية ، ووعدك بالاستماع إليك ، ثمّ منعه من تنفيذ وعده دخول أحد مساعديه يخبره بوقوع هجوم للعدو ، فيسارع لتدارك الأمر الأهم ويتغاضى عن المهمّ ، وهو وعده إيّاك دون أن ينساه ، وإنّما قد يسمّى نسياناً لمشابهته لمعنى النسيان اللغوي في النتيجة ، ولو قدّم وعده إليك وترك أمر الهجوم لكنت أوّل من لامه على ذلك ، أمّا لو كنت تعلم بأنّ ما تريد أن تناقشه فيه أخطر من الهجوم لنبّهته إلى ذلك ، ومثله هاهنا.

ولما أشرنا إليه من المشابهة ، قد يعبّر عنه بالنسيان حالة الاعتذار ، كما فعل موسى عليه‌السلام مع الخضر بعد أن نبّهه الخضر عليه‌السلام إلى مخالفة الشرط.

وهذا واضح من سياق الآيات ، حيث أنّ الخضر عليه‌السلام قال له : ( أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) (١) ، أي بأنّه شرط عليه أن يصبر على ما لا يعلمه ، ولا يطبّق الأحكام على ظاهر ما يرى ، وأن لا يسأله عن شيء حتّى يخبره بحقيقته كما بيّنته الآيات السابقة على هذه.

فوضَّح له أنّ ما يعلمه ، وفعل ما فعل على طبقه أهمّ في واقع الأمر وليس مهمّاً فقط ، وأنّه ما شرط عليه ما شرط إلاّ لهذا ، وأنّ الأمر يدور مدار العلم وعدمه.

( عبد الله ـ البحرين ـ ٢٠ سنة ـ طالب جامعة )

الفرق بين الأمر المولوي والإرشادي :

س : عندي سؤال ، أرجو الإجابة عليه :

إذا قلنا بأنّ معصية آدم لا تعدّ معصية للأمر المولوي ، وإنّما هي معصية للأمر الإرشادي ، باعتبار أنّ ( وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) (٢) نوع النهي هنا إرشادي ،

____________

١ ـ الكهف : ٧٢.

٢ ـ البقرة : ٣٥.

٣٤٨

فلابدّ أن نقول : ( وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ) (١) أيضاً نهي إرشادي ، لأنّ العبارتين متشابهتين تماماً من حيث التركيب وطريقة النهي ، وإذا كان الأمر ليس كذلك ، فكيف فسّرنا على أنّ الأُولى نهي إرشادي ، والثانية ليست نهي إرشادي؟

ج : نودّ أن نقدّم مقدّمة في تعريف الأمر الإرشادي والأمر المولوي ، والفرق بينهما قبل الجواب : فالأمر المولوي : هذا الأمر الصادر منه سبحانه بوصفه مولى تجب طاعته ، ويترتّب على عدم طاعته استحقاق العقاب ، إلاّ أنّه يرتفع أثر المخالفة بالتوبة.

والأمر الإرشادي : هو الأمر الصادر منه سبحانه بوصفه ناصح ومرشد ومعلّم ، ويترتّب على ترك نصحه وإرشاده أثر تكويني وضعي لا يرتفع بالتوبة ، والفرق بينهما :

١ ـ إنّ مخالفة الأمر المولوي توجب استحقاق العذاب ، ومخالفة الإرشادي يترتّب عليه أثر تكويني ولا عقاب عليه.

٢ ـ إنّ أثر مخالفة الأمر المولوي يرتفع بالتوبة دون الإرشادي ، لأنّ أثره تكويني.

٣ ـ إنّ المولى يكون مؤسّس للأمر المولوي ، ولا حكم للعقل فيه على عكس الإرشادي ، فإنّ للعقل حكم فيه ، كما في وجوب الصلاة كحكم مولوي ، ووجوب إطاعة الله ورسوله وأُولي الأمر في الآية كحكم إرشادي ، فإنّ العقل يحكم مستقلاً ودون الاعتماد على الشرع بوجوب طاعة الله ورسوله وأُولي الأمر ، فإذا جاء الأمر به من الشارع فهو إرشاد إليه.

وبهذا يتّضح أنّ المدار في كون الأمر مولوي أو إرشادي لا علاقة له بالتشابه في منطوق وظاهر وتركيب الخطاب الصادر من الشارع ، وإنّما معياره ما ذكرنا أعلاه.

____________

١ ـ الأنعام : ١٥٢.

٣٤٩

وأقرّب لك ذلك : أنّ الحكم بعصمة الأنبياء حكم عقلي لا يتخلّف في مورد ، ولذا يجب أن تفسّر ما ورد من الشارع بما ظاهره خلاف القاعدة العقلية في العصمة إلى ما يوافقها ، ونأخذ الآية : ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) (١) كمؤيّد ، حيث لم يتخلّف الأثر التكويني وهو الطرد من الجنّة ، مع أنّ آدم وحوّاء تابا بالاتفاق.

( حسين حبيب عبد الله ـ البحرين ـ ٢٠ سنة ـ طالب جامعة )

تأويل ما يوحي نسيان المعصوم :

س : هل الأنبياء عليهم‌السلام والأئمّة عليهم‌السلام ينسون أو لا ينسون؟ فهناك العديد من الآيات التي تشير للنسيان ، فهل هي تفسّر على معنى آخر؟ وإذا ممكن بعض الأمثلة.

ج : لقد ثبت بالدليل العقلي القاطع : أنّ الأنبياء عليهم‌السلام ، وكذلك الأئمّة عليهم‌السلام معصومون من الذنوب والخطأ والنسيان مطلقاً ، وعلى هذا لابدّ من تأويل كُلّ الآيات القرآنية التي ظاهرها يوحي بنسبة النسيان إليهم عليهم‌السلام.

ومن الآيات التي ذكرت ، قوله تعالى في قصّة موسى عليه‌السلام : ( قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ) (٢).

فإنّ هذه الآية قد يفهم منها للوهلة الأُولى نسبة النسيان للنبي موسى عليه‌السلام ، لكن لتعارض ظاهر هذه الآية مع الدليل العقلي الجازم الذي لا يقبل الشكّ على عصمة النبيّ من النسيان ، يدفعنا إلى تأويل ظاهر هذه الآية ، إلى ما يتلائم مع الدليل العقلي.

وقد ذكر في تأويلها ما روي عن ابن عباس : بلا تؤاخذني بما تركت من عهدك ، وأوّلت أيضاً : بلا تؤاخذني بما فعلته ممّا يشبه النسيان ، فسمّاه نسياناً

____________

١ ـ طه : ١٢١.

٢ ـ الكهف : ٧٣.

٣٥٠

للمشابهة ، كما قال المؤذّن لأخوة يوسف عليه‌السلام : ( إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) ، أي تشبهون السرّاق ، فما حصل من موسى عليه‌السلام ليس نسياناً بمعنى الغيبة ، بل بما يشبه النسيان في النتيجة ، وذلك لأنّه قدّم الأهم على المهمّ حسب علمه ، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وترك الوعد بالصبر ، عندما تزاحم في مورد واحد ، فإنّه كان ملتفتاً إلى ما وعد به الخضر عليه‌السلام ، ولكنّه لم يصبر على ما رآه منه ، فما رآه لا يقاس بشيء أمام الوعد الذي قطعه للخضر عليه‌السلام.

وأمّا قوله تعالى : ( وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) (١) ، فإنّ الخطاب وإن كان موجّهاً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلاّ أنّ المقصود منه الأُمّة ، وهذا موجود في القرآن في آيات أُخرى أيضاً.

أمّا قوله تعالى في قصّة آدم : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ ) (٢) ، فإنّ المراد بالنسيان هنا هو أنّه عمل عمل الناسي ، بأن ترك الأمر وانصرف عنه ، كما يترك الناسي الأمر الذي يطلب منه ، وقد روي عنهم عليهم‌السلام : أنّ آدم لم ينسَ ، وكيف ينسى وهو يذكره ، ويقول له إبليس : ( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) (٣).

هذه بعض الآيات التي يجب أن تأوّل ، وهناك الكثير من الآيات الأُخرى التي يجب أن تأوّل أيضاً ، لأنّ ظاهرها يتعارض مع الحقائق الثابتة بالقطع ، فمثلاً لابدّ من تأويل : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ) (٤) ، وكذلك ( وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (٥) وغيرها كثير.

____________

١ ـ الكهف : ٢٤.

٢ ـ طه : ١١٣.

٣ ـ الأعراف : ٢٠.

٤ ـ القصص : ٨٨.

٥ ـ الإسراء : ٧٢.

٣٥١

( عادل أحمد ـ البحرين ـ ٣٥ سنة ـ خرّيج جامعة )

تحصل بسبب علم المعصوم الحضوري :

س : هل عصمة الإمام ذاتية أم من الله؟ وهل الآية الكريمة : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١) تدلّ على أنّ العصمة من الله؟ حيث إنّ جميع العلماء يستدلّون بالآية على العصمة.

ج : ما نفهمه من سؤالكم تريدون السؤال عن منشأ العصمة ، هل هي من الله تعالى؟ أي أنّها تكوينية؟ فيتبادر إلى الذهن لزوم الجبر وعدم فضل الإمام عليه‌السلام في شيء ، فلا يستحقّ الثناء أو الثواب عليها ، أم أنّها ذاتية؟ أي هي التزام من الإمام بأوامر الله تعالى التشريعية ، فهي إذن باختيار الإمام ، ويستحقّ عليها الثناء والثواب ، ولكن استدلالنا بآية التطهير على أنّها إرادة تكوينية من الله سبحانه ، يلزم منها عندك إشكال الجبر والاضطرار.

فنقول : عَرَّف علماؤنا العصمة : بأنّها لطف يفعله الله بالمكلّف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة ، مع قدرته عليهما ، قال تعالى : ( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) (٢).

فهذا اللطف والفضل والرحمة هو نحو من العلم اليقيني ، الذي أطّلعوا من خلاله على عالم الملكوت والغيب ، فهو علم شهودي حضوري لا حصولي كعلومنا ، والفرق بين العلمين بأنّ هنالك فرقاً بين أن تعلم بأنّ النار محرقة ، وبين أن تحسّ بالإحراق وتحترق مثلاً.

وكذلك هناك فرق بين أن تعلم شيئاً عن الجنّة وبين دخولك فيها ، ولذلك ينقل عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : « والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت

____________

١ ـ الأحزاب : ٣٣.

٢ ـ النساء : ١١٣.

٣٥٢

يقيناً » ، وهذا العلم اليقيني ثابت للإمام وهو العصمة ، قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (١) ، وقال تعالى أيضاً : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (٢) ، والذي يصل من حيث العلم إلى مقام اليقين ، فهو يصل يقيناً من حيث العمل إلى مقام الصبر ، ومن ثَمَّ لن يكون هناك انفكاك بين هذا السنخ من العلم والعمل ، هذا هو جوهر العصمة.

وأمّا الاستحالة ذاتية ووقوعية : فامتناع وقوع المعصية ، واستحالتها ليست ذاتية للإمام ، نتيجة عصمته المفاضة من الله تعالى ، أي إنّ ذاته لا تقع منها المعصية ، حتّى يلزم منها الجبر والاضطرار ، فلا تكون باختيار الإمام وجهده ، فلا يستحقّ عليها الثناء والثواب ، وإنّما يكون امتناع وقوع المعصية من الإمام مع علمه اليقيني ، بنحو ما نعبّر عنه بالاستحالة الوقوعية ، أي إنّه لا يمكن أن يصدر عنه ذلك مع قدرته عليه ، كما أثبت سبحانه ذلك في حقّ الأنبياء عليهم‌السلام بقوله للنبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٣).

فهذا الخطاب للأنبياء يدلّ على إمكان صدور الشرك منهم عليهم‌السلام ذاتاً وعقلاً ، لكونهم فاعلين مختارين ، وإنّما الواقع يقول : بأنّ أحداً من الأنبياء عليهم‌السلام لم ولن يرتكب شركاً قط ، لعلمه اليقيني بالله الواحد الأحد ، ومعرفتهم الحضورية به تعالى ، وبحقائق الأعمال الحسنة والسيّئة ، وحقيقة التوحيد والشرك ، فلا يتخلّف حينئذ عملهم عن علمهم مع اختيارهم الكامل ، وعدم جبرهم ، أو اضطرارهم لتركه ، وإلاّ لما نهاهم تعالى عن الشرك المجبرين على تركه ، فإنّه لا معنى للنهي عمّا لا يُستطاع فعله أصلاً.

____________

١ ـ الأنعام : ٧٥.

٢ ـ السجدة : ٢٤.

٣ ـ الزمر : ٦٥.

٣٥٣

فالإنسان المعصوم إنّما ينصرف عن المعصية بنفسه ومن اختياره وإرادته ، ونسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى ، فتنبّه.

( علي ـ السعودية ـ ٢٢ سنة )

تأويل نسيان موسى :

س : إذا نظرنا إلى قصّة النبيّ موسى مع الخضر في سورة الكهف ، لوجدنا أدلّة تثبت عدم عصمة النبيّ موسى عليه‌السلام ، في البداية نسيانه الحوت ، ثمّ نسيانه للوعد الذي قطعه مع الخضر ، ثمّ عدم اعتباره من قصّة السفينة والولد حتّى سأل الخضر عن الأجر.

ج : إذا رجعنا إلى الآيات القرآنية الواردة بعد هذه الآية ، نجد أنّها ترفع اللبس الذي طرحتموه في السؤال ، فالآية التي ذكرتموها ظاهرة في أنّ موسى عليه‌السلام قد عرض عليه النسيان ؛ قال تعالى : ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ... ) (١) ، لكن الآيات التي بعدها تقول : ( فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) (٢).

فالملاحظ أنّ الفتى نسب النسيان إليه ، وجاء بضمير المفرد ( فَإِنِّي نَسِيتُ ) ، ولم يقل : « فإنا نسينا » كي تكون النسبة لكليهما ، فالحوت كان موضوعاً في سلّة السفر ، وكان الفتى هو المكلّف بحملها ، فلمّا جلسا طلب موسى من فتاه أن يأتي بالحوت ، فلم يجد الفتى الحوت ، وقال نسيته.

ولا يتصوّر أنّ هذا كلام الفتى وليس كلام المعصوم كي نتمسّك به ، أو نعتمد عليه ، وذلك لأنّ القرآن الكريم في طرحه القصص لا يطرح القصّة هباءً

____________

١ ـ الكهف : ٦١.

٢ ـ الكهف : ٦٢ ـ ٦٣.

٣٥٤

منثوراً ، وإنّما يطرحها ضمن ضوابطها الإلهية وقوانينها الربانية ، أي يحكي الحالة الواقعية لتلك القصّة.

وعليه فيراعي كيفية النسبة والأسلوب ، والآية القرآنية الأُولى وإن أتت بألف التثنية ، لكن ذلك لا يدلّ مع وجود القرائن الأُخرى على أنّ النسبة حقيقة لكليهما ، وإنّما النسبة حقيقة لكن لبعضهما ، وهذا سيّال في كلام العرب ، فنقول : جاء القوم وهم يحملون متاعهم ، مع أنّ الحامل للمتاع هو بعض القوم لا عمومهم ، ولكن نسبت ذلك إلى هذا المعنى العام الشامل للجميع ، لأجل تلبّس البعض بذلك ، وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة عند العرب.

وأمّا الآيات الأُخرى التي ذكر فيها نسيان موسى عليه‌السلام للعهد الذي قطعه مع الخضر عليه‌السلام ، فنقول : بعد قيام الدليل العقلي على نفي النسيان عن الأنبياء عليهم‌السلام ، فلا يمكن بعد ذلك التمسّك بظاهر الآية ـ على تقدير أنّ ذلك ظاهرها ـ وترك الدليل القطعي ، ولذلك أجاب السيّد المرتضى بقوله : وأمّا قوله : ( لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) (١) فقد ذكر فيه وجوه ثلاثة :

أحدها : إنّه أراد النسيان المعروف ، وليس ذلك بعجب مع قصر المدّة ، فإنّ الإنسان قد ينسى ما قرب زمانه ، لمّا يعرض له من شغل القلب وغير ذلك.

الثاني : إنّه أراد أن لا تؤاخذني بما تركت ، ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ ) (٢) أي ترك ، وقد روي هذا الوجه عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( وقال موسى : لا تؤاخذني بما نسيت ، يقول : بما تركت من عهدك ).

الثالث : إنّه أراد لا تؤاخذني بما فعلته ممّا يشبه النسيان ، فسمّاه نسياناً للمشابهة ، كما قال المؤذّن لأخوة يوسف عليه‌السلام : ( إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) (٣) ، أي إنّكم تشبهون السرّاق ....

____________

١ ـ الكهف : ٧٣.

٢ ـ طه : ١١٣.

٣ ـ يوسف : ٧٠.

٣٥٥

وإذا حملنا هذه اللفظة على غير النسيان الحقيقي فلا سؤال فيها ، وإذا حملناها على النسيان في الحقيقة ، كان الوجه فيه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يجوز عليه النسيان فيما يؤدّيه عن الله تعالى أو في شرعه ، أو في أمر يقتضي التنفير عنه ، فأمّا فيما هو خارج عمّا ذكرناه فلا مانع من النسيان (١).

فإذا كان لفظ النسيان صريح في النسيان الحقيقة ، فيجب حمل الآية على ما يوافق البراهين القطعية القرآنية وغيرها الناطقة بعصمة الأنبياء ، وبما يشمل النسيان ، فكيف الحال فيما إذا كان لفظ النسيان ظاهر في ذلك ، ويحمل معنى الترك في ذاته أيضاً ، فلا يمكن بعدها التمسّك بهذا الظاهر ، وطرح ذلك الفرع القطعي القائم على نفي جميع ذلك عن الأنبياء.

( تسنيم الحبيب ـ الكويت ـ ١٩ سنة ـ طالبة جامعة )

طلب المعصوم تخفيف سكرات الموت لا يدلّ على ارتكابه للمعصية :

س : ذكر الشيخ الحائري اليزدي في إلزام الناصب (٢) : أنّ نبي الله عيسى عليه‌السلام أحيا سام بن نوح عليهما‌السلام في قصّة مفصّلة.

ثمّ إنّ سام طلب من النبيّ عيسى عليه‌السلام أن يدعو الله له ليخفّف عنه سكرات الموت ، السؤال هو : أليس سام وصي نوح عليهما‌السلام؟ وألا يفترض أن يكون أوصياء الأنبياء معصومين؟ فلماذا يطلب سام عليه‌السلام تخفيف سكرات الموت عنه؟!

وجزاكم الله خير الجزاء ، ودمتم موفّقين.

ج : إنّ سام وصي نوح عليه‌السلام ، وكُلّ وصي معصوم ، وطلبه في تخفيف سكرات الموت لا يدلّ على ارتكابه للمعصية.

ثمّ هذه الرواية نقلها صاحب إلزام الناصب عن مجمع البيان في تفسير القرآن للعلاّمة الطبرسي (٣) ، والعلاّمة قدس‌سره ذكرها بلا سند ، فهي رواية مرسلة لا

____________

١ ـ تنزيه الأنبياء : ١٢١.

٢ ـ إلزام الناصب ٢ / ٢٧١.

٣ ـ مجمع البيان ٢ / ٢٩٩.

٣٥٦

حجّية لها ، وعلى فرض صحّتها نقول : إنّ طلب الأنبياء والأوصياء للتخفيف في سكرات الموت يختلف عن المعنى الذي يطلبه عامّة البشر.

ومثاله مثال التوبة التي يطلبها المعصوم من الله تعالى ، والتوبة التي نطلبها نحن ، حيث توبتنا ناشئة من الذنب ، بخلاف توبة المعصوم عليه‌السلام.

( أحمد العباسي ـ الكويت ـ ٢١ سنة ـ طالب جامعة )

عصمة الملائكة واجبة :

س : هل عصمة الملائكة اختيارية كعصمة الأنبياء؟ وهل مسألة ترك الأولى ممكنة بالنسبة للملائكة؟ وفّقكم الله لكُلّ خير.

ج : إنّ عصمة الملائكة ليست اختيارية كعصمة الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام ، بل إنّ عصمتهم واجبة لأنّهم وسائط التدبير ، وليس لهم شأن إلاّ إجراء الأمر الإلهي في مجراه وتقريره في مستقرّه ، كما في قوله تعالى : ( لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (١).

ومن حيث عدم معصيتهم لله فإنّهم ليست لهم نفسية مستقلّة ذات إرادة مستقلّة تريد شيئاً غير ما أراد الله سبحانه ، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى : ( لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (٢).

ومن هذا يتّضح جواب السؤال الثاني بأن لا أولوية لهم حتّى يحقّ تركها ، فكُلّ الأوامر يجب أن تنفّذ على طبق الإرادة الإلهية.

____________

١ ـ الأنبياء : ٢٧.

٢ ـ التحريم : ٦.

٣٥٧
٣٥٨

علم المعصوم :

( .... ـ السعودية ـ .... )

علمه بالطعام المسموم :

س : هل المعصوم من أهل البيت عليهم‌السلام يعلم أنّ الأكل الذي يأكله مسموم أم لا يعلم؟

ج : الجواب عن هذه الشبهة يتمّ بأحد وجهين :

الأوّل : إنّ الأئمّة عليهم‌السلام أقدموا على القتل وشرب السمّ ، مع علم ويقين منهم على ذلك ، وأمّا أنّهم لا يعلمون بما يجري عليهم ، ولو علموا لم يقدموا لأنّه من الإلقاء في التهلكة ، فهذا ينافي صريح الأخبار عنهم في هذا الشأن.

فهذا الإمام الصادق عليه‌السلام يقول : « إنّ الإمام لو لم يعلم ما يصيبه وإلى ما يصير ، فليس ذلك بحجّة الله على خلقه » (١).

وهذا الإمام الرضا عليه‌السلام يقول له الحسن بن الجهم : إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قد عرف قاتله ، والليلة التي يقتل فيها ، والموضع الذي يقتل فيه ، وقوله لما سمع صياح الأوز في الدار : « صوائح تتبعها نوائح ».

وقول أُمّ كلثوم : « لو صلّيت الليلة داخل الدار ، وأمرت غيرك أن يصلّي بالناس »؟ فأبى عليها ، وكثر دخوله وخروجه تلك الليلة بلا سلاح ، وقد عرف عليه‌السلام أنّ ابن ملجم قاتله بالسيف ، كان هذا ممّا يجز تعرّضه؟

____________

١ ـ بصائر الدرجات : ٥٠٤.

٣٥٩

فقال عليه‌السلام : « ذلك كان ولكنّه خيّر في تلك الليلة ، لتمضي مقادير الله عزّ وجلّ » (١).

وهكذا كان الجواب منهم عليهم‌السلام عن شأن حادثة الإمام الحسين عليه‌السلام (٢) ، وإلى كثير من أمثال هذه الأحاديث والأجوبة.

ولكن أجمعها لرفع هاتيك الشبهة ، وأصرحها في الغرض خبر ضريس الكناسي ، فإنّه قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول ـ وعنده أناس من أصحابه ـ : « عجبت من قوم يتولّونا ويجعلونا أئمّة ، ويصفون أنّ طاعتنا مفترضة عليهم ، كطاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ يكسرون حجّتهم ويخصمون أنفسهم بضعف قلوبهم ، فينقصونا حقّنا ، ويعيبون ذلك على من أعطاه الله برهان حقّ معرفتنا ، والتسليم لأمرنا ، أترون أنّ الله تبارك وتعالى افترض طاعة أوليائه على عباده ، ثمّ يخفى عنهم أخبار السماوات والأرض ، ويقطع عنهم مواد العلم فيما يراد عليهم ممّا فيه قوام دينهم ».

فقال له حمران : جعلت فداك أرأيت ما كان من أمر قيام علي بن أبي طالب ، والحسن والحسين عليهم‌السلام ، وخروجهم وقيامهم بدين الله عزّ ذكره ، وما أصيبوا من قتل الطواغيت إيّاهم ، والظفر بهم حتّى قُتلوا وغلبوا؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « يا حمران إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم ، وقضاه وأمضاه وحتمه على سبيل الاختيار ، ثمّ أجراه فبتقدّم علم إليهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قام علي والحسن والحسين ، وبعلم صمت من صمت منّا ، ولو أنّهم يا حمران حيث نزل بهم ما نزل بهم من أمر الله عزّ وجلّ ، وإظهار الطواغيت عليهم ، سألوا الله تعالى أن يدفع عنهم ذلك ، وألحّوا عليه في طلب إزالة ملك الطواغيت وذهاب ملكهم ، إذاً لأجابهم ودفع ذلك عنهم ، ثمّ كان

____________

١ ـ الكافي ١ / ٢٥٩.

٢ ـ المصدر السابق ١ / ٢٥٨.

٣٦٠