من هو الصدّيق ؟ ومن هي الصدّيقة ؟

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-397-135-X
الصفحات: ١٧٠
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) ، وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنّهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث ، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديقُ يصيح في نواحي مكَّة ( الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ) ، فقال ناس من قريش لأبي بكر : فذلك بيننا وبينكم ، زعم صاحبك أنّ الروم ستغلب فارس في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال : بلى ، وذلك قبل تحريم الرِّهان ، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرِّهان ، وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع ؟ البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين ، فسمِّ بيننا وبينك وسطاً تنتهي إليه ، قال : فسمُّوا بينهم ست سنين ، قال : فمضت الستّ سنين قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، فلمّا دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنينَ ، قال : لأن الله تعالى قال : « في بضع سنين ». (١)

وقد ورد في حديث آخر عن ابن عباس ، قال : قال النبي : « ألّا احتطت يا أبا بكر فإنّ البضعَ ما بين ثلاثٍ إلى تسع ». (٢)

إذن ، أبو بكر فسر كلمة قرآنية عربية محدّدة المعنى وبتَّ جازماً بأنها ست سنوات خلافاً لإرادة رب العالمين ، ولأجل ذلك قال له رسول الله : ألا احتطت يا أبا بكر فإن البضع ما بين الثلاث إلى التسع !

وأمّا يوسف الصديق ، فإنه عبّر رؤيا رآها عزيز مصر فجاءت مطابقة للواقع ، وهذا هو الفرق الذي لا ينبغي تناسيه بين الصدّيقين. فالقرآن وفق هذه المعطيات يرفض رفضاً باتاً أن يكون أبو بكر صديقاً ، في حين يجزم بلا شك أن

_______________________________________

١. سنن الترمذي ٥ : ٢٥ / ٣٢٤٦٥.

٢. سنن الترمذي ٥ : ٢٤ / ٣٢٤٥.

٨١

أن يكون يوسف صديقاً ، وأن يكون عليّ صديقا.

بلى ، لقد ولد من الصدّيق علي والصدّيقة فاطمة صادقون هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

وهؤلاء كانوا من القلة الذين حُفظوا من كيد الشيطان الرجيم ، وكانوا من عباده الذين لا سلطان للشيطان عليهم ، على رغم توعد إبليس لأولاد آدم بأن يضلهم ويغويهم بقوله : ( لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ). (١)

وقد احتج الإمام علي على أهل الشورى بقوله :

أنشدكم الله ، أفيكم مطهّر غيري ، إذ سد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبوابكم وفتح بابي وكنت معه في مساكنه ومسجده ، فقام إليه عمه فقال : يا رسول الله ، غلقت أبوابنا وفتحت باب علي ؟

قال : نعم ، أَمَرَ الله بفتح بابه وسدِّ أبوابكم ؟

قالوا : اللهم لا. (٢)

وعن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب ، قال : أخذ رسول الله بيدي وقال : إن موسى سأل ربه أن يُطهّر مسجده بهارون ، وإنّي سألت ربي أن يُطهّر مسجدي بك وبذريتك ، ثمّ أرسل إلى أبي بكر : أن سد بابك ، فاسترجع ، ثمّ قال : سمعاً وطاعةً ، فسدّ بابه.

ثمّ أرسل إلى عمر ، ثمّ أرسل إلى العباس بمثل ذلك.

_______________________________________

١. الإسراء : ٦٢ ، وقال سبحانه في سورة النساء : ٨٣ : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ).

٢. تاريخ دمشق ٤٢ : ٤٣٢ ، ٤٣٥ واللفظ له ، مناقب ابن المغازلي : ١١٧ ، الخصال للصدوق ٥٥٢ الرقم ٣٠ ، ٣١ ، الأمالي للطوسي : ٥٤٨ الرقم ١١٦٨ و ٥٥٥ الرقم ١١٦٩ مناقب الخوارزمي : ٣١٥ ، كتاب سليم بن قيس : ٧٤ ، فرائد السمطين ١ : ٣٢٢ الرقم ٢٥١ ، كنز العمّال ٥ : ٧٢٦ ، الرقم ١٤٢٤٣.

٨٢

ثمّ قال رسول الله : ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي ، ولكنّ الله فتح باب علي وسدَّ أبوابكم. (١)

هذا ، مع أنّ أبا بكر لم يدّع طهارته وابتعاده عن الشيطان ، بل صرح بأن له شيطاناً يعتريه ، حيث قال :

أما والله ما أنا بخيركم ، ولقد كنت لمقامي هذا كارهاً ، ولوددت أن فيكم من يكفيني ، فتظنون أني أعمل فيكم بسنّة رسول الله ؟ إذن لا أقوم لها ، إن رسول الله كان يُعصَمَ بالوحي ، وكان معه ملك ، وإنّ لي شيطاناً يعتريني ، فإذا غضبت فاجتنبوني ... . (٢)

وأخرج تمام بن محمد الرازي ( ت ٤١٤ هـ. ) في كتاب الفوائد بإسناده عن أبي القموص ما يشير إلى أنّ أبا بكر قد سيطر عليه الشيطان وقتاً ما ، فقال : شرب أبو بكر الخمر في الجاهلية فانشأ يقول :

نحيّي أم بكر بالسلام

وهل لي بعد قوم من سلام

فبلغ ذلك رسول الله ، فقام يجر إزاره حتى دخل ، فتلقّاه عمر وكان مع أبي بكر ، فلما نظر إلى وجهه محمراً قال : نعوذ بالله من غضب رسول الله ، والله لا يلج لنا رأساً أبداً ، فكان أول من حرمها على نفسه. (٣)

وقال ابن حجر في فتح الباري ، والعيني في عمدة القاري :

_______________________________________

١. مسند البزار ٢ : ١٤٤ / ٥٠٦ واللفظ له ، مجمع الزوائد ٩ : ١١٥ ، مناقب ابن المغازلي : ٢٩٩ الرقم ٣٤٣ ، كنز العمال ١٣ : ١١٧٥ الرقم ٣٦٥٢١.

٢. المصنّف لعبد الرزاق ١١ : ٣٣٦ / ٢٠٧٠١ واللفظ له. وانظر الإمامة والسياسة ١ : ٢٢ ، وتاريخ دمشق ٣٠ : ٣٠٣ ، وتاريخ الطبري ٢ : ٤٦٠ ، وطبقات ابن سعد ٣ : ٢١٢.

٣. الفوائد ٢ : ٢٢٨ ، وانظر الإصابة ٧ : ٣٩ / ٩٦٣٧.

٨٣

ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس أن أبا بكر وعمر كانا [ ضمن العشرة الذين شربوا الخمر فيهم ]. وهو منكر مع نظافة سنده ، وما أظنه إلّا غلطاً.

وقد أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء في ترجمة شعبة من حديث عائشة ، قالت : حرّم أبو بكر الخمر على نفسه فلم يشربها في جاهلية ولا إسلام.

ويحتمل إن كان محفوظاً أن يكون أبو بكر وعمر زارا أبا طلحة في ذلك اليوم ولم يشربا معهم ، ثم وجدت عند البزار من وجه آخر عن أنس قال : كنت ساقي القوم ، وكان في القوم رجل يقال له : أبو بكر ، فلما شرب قال : نحيي بالسلامة أم بكر ... .

فدخل علينا رجل من المسلمين فقال : قد نزل تحريم الخمر ... الحديث.

وأبو بكر هذا يقال له : ابن شغوب ، فظن بعضهم أنه أبو بكر الصدّيق وليس كذلك ، ولكن قرينة ذكر عمر تدل على عدم الغلط في وصف الصدّيق ، فحصلنا تسمية عشرة ، انتهى. (١)

فالقضية لا يمكن تصورها في الجاهلية ، لأنّ رسول الله لم تكن له تلك الحكومة عليهم حتى يخافوه ويهابوه ، وكذا لا يمكن أن تكون قبل نزول قوله تعالى : ( وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) وقوله تعالى : ( لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ ) وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (٢) لأنّه عقاب قبل البيان ، ولو راجعت صحيح البخاري وصحيح مسلم (٣) لرأيت أن نادي الخمر هذا ، كان عام الفتح سنة ثمان من

_______________________________________

١. فتح الباري ١٠ : ٣١ ـ ٣٢.

٢. المائدة : ٩١.

٣. صحيح البخاري كتاب التفسير ، في سورة المائدة آية الخمر ، صحيح مسلم كتاب الأشربة باب تحريم

٨٤

الهجرة ، في دار أبي طلحة زيد بن سهل ، وكانت السقاية لأنس بن مالك. والتحريم كان في السنه الثانيه أو الرابعة ، والسادسة من الهجرة.

فأبو بكر لم يأخذ درساً ولم يعتبر من غضَب رسول الله ، بل تراه يولّي خالد بن الوليد الذي تبرأ منه نبي الإسلام أكثر من مرة ، ومن ضرار بن الأزور وأمثالهما الشاربين للخمور وأصحاب الفجور ، كل ذلك لأنه إنسان يخضع لهواه ويقدّم مصلحته على دستور ربِّ العالمين.

كان هذا طرف من حال الخليفة.

والآن لنستمع للإمام علي ماذا يقول عن رسول الله وعن نفسه :

... ولقد قرن الله به صلى‌الله‌عليه‌وآله من لدن أن كان فطيما أعظم ملكٍ من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت اتّبعه اتّباع الفصيل إثر اُمّه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه عَلَماً ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنةٍ بحراء ، فأراهُ ولا يراهُ غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة ، ولقد سمعت رنَّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت : يا رسول الله ، ما هذه الرنة ؟ فقال : هذا الشيطان قد أيس من عبادته ، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلّا أنّك لست بنبي ، ولكنك وزير ، وإنّك لعلى خير ... . (١)

وفي بغية الباعث والمطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية والجمع بين الصحيحين وغيرها : أنّ النبي قال لعلي بن أبي طالب : يا علي خُذ الباب ، فلا يدخلن عليّ أحد فإن عندي زوراً من الملائكة ، استاذنوا ربهم أن يزوروني.

_______________________________________

الخمر ، والدر المنثور ٢ : ٣٢١ ، مسند أحمد ٣ : ١٨١ ، ٢٢٧ ، تفسير الطبري ٧ : ٢٤ السنن الكبرى للبيهقي ٨ : ٢٨٦ ، ٢٩٠ ، تفسير ابن كثير ٢ : ٩٣.

١. نهج البلاغة الخطبة ٢ : ١٥٧ ، الخطبة ١٩٢.

٨٥

فأخذ علي الباب ، وجاء عمر فاستأذن ، فقال : يا علي : استأذن لي على رسول الله.

فقال : ليس على رسول الله إذن.

فقال : ولِمَ ؟

قال : لأن زوراً من الملائكة عنده واستأذنوا ربهم أن يزوروه.

قال : وكم هم يا علي ؟

قال : ثلاثمائة وستون ملكاً ...

فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله إنّه أخبرني ... .

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي : أنت أخبرت بالزوار ؟

قال : نعم يا رسول الله.

قال : وأخبرته بعدّتهم ؟

قال : نعم.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فكم يا علي ؟

قال : ثلاثمائة وستون ملكاً.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : وكيف علمت ذلك ؟

قال : سمعت ثلاثمائة وستين نقلة [ نغمة ] فعلمت أنهم ثلاثمائة وستون ملكاً ، فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على صدره ثم قال : يا علي زادك الله إيماناً وعلماً. (١)

وبهذا فقد اتضح لك بأن أهل البيت لا يقاس بهم أحد من الصحابة ولا من غيرهم ، إذ هم شجرة النبوة وقد اختارهم الله لهذا الأمر ، وهم أول من آمن

_______________________________________

١. بغية الباعث : ٢٩٥ ، المطالب العالية بزوائد الثمانية ١٦ : ٩٠ ، الجمع بين الصحيحين ٤ : ٢٦٣ ، سبل الهدى والرشاد ١٠ : ٢٤٦.

٨٦

وصدّق به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولهم صفات لا يدانيهم فيها أحد من الخلق ، فقد جاء في كتاب الإمام علي إلى معاوية قوله :

« ... إن محمداً لمّا دعا إلى الإيمان بالله والتوحيد كنّا أهل البيت أول من آمن به ، وصدّق بما جاء به ، فلبثنا أحوالاً مجرَّمة (١) وما يعبد الله في ربع ساكن من العرب غيرنا ... ». (٢)

وقال الإمام الحسن بن علي ـ لما أجمع على صلح معاوية ـ وذلك بعد حمد الله والثناء عليه وذكر جده المصطفى ، قال :

إنّا أهل بيت أكرمنا الله بالإسلام ، واختارنا واصطفانا ، وأذهب عنا الرجس وطهرنا تطهيراً ، لم تفترق الناس فرقتين إلّا جعلنا الله في خيرهما من آدم إلى جدي محمد ، فلما بعث الله محمداً للنبوة واختاره للرسالة وأنزل عليه كتابه كان أبي أول من آمن وصدّق الله ورسوله ، وقد قال الله في كتابه المنزل على نبيه المرسل ( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ).

فجدي الذي على بينة من ربه ، وأبي الذي يتلوه ، وهو شاهد منه ... (٣)

وجاء في كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية : ... ثم اختارهم على عمله ، فاصطفى وانتجب منهم محمدا فاختصه برسالته ، واختاره لوحيه ، وائتمنه على أمره ، وبعثه مصدِّقاً لما بين يديه من الكتب ، ودليلاً على الشرائع ، فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فكان أول من أجاب وأناب ، وصدَّق ووافق ، وأسلم وسلّم ، أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب ، فصدَّقه بالغيب المكتوم ، وآثره

_______________________________________

١. أي سنين كاملة والأحوال جمع ( حَوْل ).

٢. كتاب صفين : ٨٩ واللفظ له ، شرح نهج البلاغة ١٥ : ٧٦ ، بحار الأنوار ٣٣ : ١١١.

٣. ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ٣ : ٣٦٤ و ٣٦٦.

٨٧

على كل حميم ، فوقاه كل هول ، وواساه بنفسه في كل خوف ، فحارب حربه وسالم سلمه ... إلى آخره. (١)

ومن حديث أبي بكر الهذلي وداود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : هذا أوّل من آمن بي وصدّقني وصلى معي. (٢)

وقد وصى الإمام عليٌّ كميلاً بقوله : يا كميل إنّ الأرض مملوءة من فخاخهم (٣) فلن ينجو منها إلّا من تشبّث بنا ، وقد أعلمك الله عزوجل أنه لن ينجو منها إلّا عباده ، وعبادُهُ أولياؤُنا.

يا كميل وهو قول الله عزوجل : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ) ، وقوله عزوجل : ( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ).

يا كميل انج بولايتنا من أن يشركك في مالك وولدك كما أمر. (٤)

وهذا يعلن أنّ أهل البيت هم المعصومون والمصدّقون ، وهم الذين عناهم الباري في قوله : ( كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) لا أبو بكر وعمر ؛ لأن مساواتهم بالقرآن كما في حديث الثقلين يرشدنا إلى لزوم التمسّك بهم كما يجب التمسّك بالقرآن ، فلو كان الخطأ يقع منهم لما صح الأمر بالتمسك بهم ، وكما أن القرآن لا ريب فيه فما جاء عن أهل البيت لا ريب فيه ، ولو لم يكن أهل البيت معصومين لكان في اتّباعهم احتمال الضلال ، ولكنهم حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ، والواسطة بين الله والخلق ، وهم كالقرآن ، فاختلاف أهل البيت مع أحدٍ من الناس يرشدنا إلى ضلال

_______________________________________

١. مروج الذهب ٢ : ٥٩ ، كتاب صفين : ١١٨ واللفظ له ، شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١٨٨ ، جمهرة الرسائل ١ : ٤٧٧ / ٥٠٢.

٢. شرح ابن أبي الحديد ١٣ : ٢٢٥.

٣. أي من فخاخ الشياطين ، والفخاخ جمع فخ وهو آلة يصاد بها.

٤. بشارة المصطفى لشيعة المرتضى : ٥٥ ، تحف العقول : ١٧٤.

٨٨

الآخر بلا شك ، ونحن مأمورون بالتمسك بالقرآن والعترة معاً ؛ لأنهما العاصمان من الضلالة ، ولأنهما قرينان مقترنان لا يفترقان حتى يردا على رسول الله الحوض.

فلا ترى فرقة من الفرق الإسلامية قد ادعت في مذهبها باستمرارية الاقتران ـ بين القرآن والعترة حتى ورودهما على الحوض ـ إلا ما لوحظ عند الشيعة الإمامية القائلين بإمامة الأئمة الاثني عشر ، أوّلهم الصدّيق الأكبر ، وآخرهم مهديهم المنتظر ، وهو معنى آخر لما جاء عن رسول الله من قوله : خلفائي اثنا عشر كلهم من قريش ، (١) فتحديد خلفاء الرسول باثني عشر هو دليل على طول عمر الإمام الثاني عشر ـ الذي تعتقد الشيعة وكثير من أعلام العامة بوجوده اليوم حياً غائباً ـ وأنّه باق مقترن بالقرآن حتى يردا الحوض ، ومن هنا قال الإمام علي عن أهل بيته وهو يخاطب كميل بن زياد :

... اللّهم بلى ، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ، إما ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً ، لئلا تبطل حجج الله وبيناته ، وكم ذا ؟ وأين أولئك ؟ أولئكَ واللهَ الأقلّون عدداً ، والأعظمون عند الله قدراً ، يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هجم به العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى. أولئك خلفاء الله في أرضه ، والدعاة إلى دينه ، آه آه شوقاً إلى رؤيتهم. (٢)

وقال عليه‌السلام : أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ؟ كذباً وبغياً علينا ، أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى

_______________________________________

١. صحيح مسلم ٦ : ٤ باب الناس تبع لقريش ، عن جابر بن سمرة قال سمعت رسول الله يقول لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.

٢. نهج البلاغة ٤ : ٣٧ / ١٤٧.

٨٩

الهدى ، ويستجلى العمى ، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم. (١)

قال ابن شهرآشوب في المناقب قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) أمرنا سبحانه أمراً مطلقاً بالكون مع الصادقين من غير تخصيص ، وذلك يقتضي عصمتهم لقبح الأمر على هذا الوجه باتباع من لا يؤمن منه القبيح ؛ من حيث يؤدي ذلك إلى الأمر بالقبيح ، وإذا ثبت ذلك في الإمامة ثبت تخصصها بأمير المؤمنين وأولاده المعصومين بالإجماع ؛ لأن أحداً من الأُمة لم يقل ذلك فيها إلّا خصّها بهم ؛ ولأنّه لم تثبت هذه الصفات لغيرهم ولا ادعيت لسواهم. (٢)

الثالث : أن يكون مطهّراً

لا يخفى عليك أنّ التطهير يدخل ضمن العصمة ، لكنا جعلناه قسيماً للعصمة لاعتبارات خاصة ، إذ مر عليك قبل قليل أن الله أمر موسى أن يبني مسجداً طاهراً لا يسكنه غيره وغير هارون وابنيه ، وهذا بعينه ما أمر الله به رسوله في وصيه وخليفته ، (٣) وجاء في مناشدة الإمام علي :

أنشدكم بالله ، أفيكم مطَهَّر غيري ، إذ سدَّ رسول الله أبوابكم وفتح بابي ، وكنت معه في مساكنه ومسجده ؟ فقام إليه عمّه فقال : يا رسول الله ، غلّقت أبوابنا وفتحت باب علي ؟

قال : نعم ، أمر الله بفتح بابه وسدّ أبوابكم ؟

_______________________________________

١. نهج البلاغة ٢ : ٢٧ / ١٤٤.

٢. مناقب ابن شهرآشوب ١ : ٢٤٧.

٣. خصائص السيوطي ٢ : ٤٢٤ ، غاية المرام ٣ : ١٩١ ، كتاب سليم : ١٩٥ ، ٣٢١ ، ٤٠٠.

٩٠

قالوا : نعم. (١)

ومن احتجاجه عليه‌السلام على أبي بكر قوله :

فأنشدك بالله ، ألي ولأهلي وولدي آية التطهير من الرّجس ، أم لك ولأهل بيتك قال أبو بكر : بل لك ولأهل بيتك ؟

قال : فأنشدك بالله ، أنا الذي طهَّره الله من السفاح من لدن آدم إلى أبيه ؛ يقول رسول الله : خرجت أنا وأنت من نكاح لا من سفاح من لدن آدم إلى عبد المطلب ، أم أنت ؟

قال أبو بكر : بل أنت ... . (٢)

وعنه عليه‌السلام أنه قال : احذروا على دينكم ثلاثة ... إلى أن قال :

رجل آتاه الله عزوجل سلطاناً فزعم أن طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله ، وكَذِبَ ، لأنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، إنما الطاعة لله ولرسوله ولولاة أمره الذين قرنهم الله بنفسه وبنبيه فقال : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) ، لأن الله أمر بطاعة الرسول لأنه معصوم مطهَّر لا يأمر بمعصية الله وإنّما أمر بطاعة أُولي الأمر ؛ لأنهم معصومون مطّهرون لا يأمرون بمعصية الله. (٣)

وعن أبي عبدالله [ الصادق ] عن أبيه عن جده عليهم‌السلام قال : خطب أمير المؤمنين علي على منبر الكوفة وكان فيما قال :

فنحن أهل بيت عصمنا الله من أن نكون فتانين أو كذّابين أو ساحرين أو زيافين ، فمن كان في شيء من هذه الخصال فليس منا ولا نحن منه.

إنّنا أهل بيت طهّرنا الله من كلّ نجس ، نحن الصادقون إذا نطقنا ، والعالمون إذا

_______________________________________

١. تاريخ دمشق ٤٢ : ٤٣٢ ، كنزل العمال ٥ : ٧٢٦ / ١٤٢٤٣ ، مناقب الخوارزمي : ٣١٥ ، الخصال : ٥٥٩ / ٣١.

٢. الاحتجاج ١ : ١٧١ وانظر الحد الفاصل : ٤٧٠ ، والجامع الصغير ١ : ٦٠٢ / ٣٩٠١.

٣. كتاب سليم بن قيس ٤٠٥ / ٥٤ وعنه في الخصال : ١٣٩ / ١٥٨ بتفاوت وبحار الأنوار ٢٥ : ٢٠٠ / ١١.

٩١

سُئلنا ، أعطانا الله عشر خصال لم تكن لأحد قبلنا ولا تكون لأحد بعدنا :

الحلم ، والعلم ، واللب ، والنبوة ، والشجاعة ، والسخاوة ، والصبر ، والصدق ، والعفاف ، والطهارة ، فنحن كلمة التقوى ، وسبل الهدى ، والمثل الأعلى ، والحجة العظمى ، والعروة الوثقى ، والحق الذي أقرّ لله به ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ). (١)

وعن عبدالله بن عمر بن الخطاب ، قال : لقد أُوتي ابن أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم : زوّجه رسول الله ابنته فولدت له ، وسد الأبواب إلّا بابه في المسجد ، وأعطاه الراية يوم خيبر. (٢)

وجاء مثل هذا عن أبي سعيد الخدري (٣) وعمر بن الخطاب إلّا أن في المروي عن عمر قوله : وسُكناهُ المسجد مع رسول الله يحل له فيه ما يحل له. (٤)

وعن حذيفة بن أسيد الأنصاري ، قال : قام النبي ـ يوم سدّ الأبواب ـ خطيباً فقال : إن رجالاً يجدون في أنفسهم شيئاً أَنْ أسكنت علياً في المسجد وأخرجتهم ، والله ما أخرجتهم وأسكنته بل الله أخرجهم وأسكنه ، إن الله عز وجل أوحى إلى موسى وأخيه أن تبوّءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة ... وإن علياً بمنزلة هارون من موسى وهو أخي ، ولا يحل لأحد أن ينكح فيه النساء إلّا هو ). (٥)

_______________________________________

١. تفسير فرات الكوفي : ١٧٨ / ٢٣٠ ، بحار الأنوار ٣٩ : ٣٥٠ الرقم ٢٤.

٢. مسند أحمد ٢ : ٢٦ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٢٠ ، فتح الباري ٧ : ١٢ ، كنز العمال ١٣ : ١١٠ / ٣٦٣٥٩.

٣. المستدرك للحاكم ٣ : ١١٧.

٤. المستدرك للحاكم ٣ : ١٢٥ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٢٠ ، مصنف ابن أبي شيبة ٧ : ٥٠٠ / ٣٦ ، مناقب الخوارزمي : ٢٦١ ، البداية والنهاية ٧ : ٣٧٧.

٥. ينابيع المودة ١ : ٢٥٩ الباب ١٧ / ح ٨ ، الطرائف : ٦١ / ح ٥٩ ، وانظر مسند أحمد ٤ : ٣٦٩ ، والمستدرك للحاكم ٣ : ١٢٥.

٩٢

هذا وقد قلب القوم ـ وعداوةً للإمام علي ـ روايات سد الأبواب إلّا باب علي إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله سد الأبواب إلّا خوخة أبي بكر. (١)

قال الشيخ الأميني ـ وبعد ذكره كلاماً مفصلاً عن حديث سد الأبواب وخوخة أبي بكر ـ إنّ الأخذ بمجامع هذه الأحاديث يُعطي خُبْراً بأن سدّ الأبواب الشارعة في المسجد كان لتطهيره عن الأدناس الظاهرية والمعنوية ، فلا يمر به أحد جنباً ، ولا يجنب فيه أحد.

وأمّا ترك بابه صلى‌الله‌عليه‌وآله وباب أمير المؤمنين فلطهارتهما عن كل رجس ودنس بنص آية التطهير ، حتى أن الجنابةَ لا تحدث فيهما من الخبث المعنوي ما تحدث في غيرهما ، كما يعطي ذلك التنظير بمسجد موسى الذي سأل ربّه أن يطهره لهارون وذريته ، أو أن ربّه أمره أن يبني مسجداً طاهراً لا يسكنه إلّا هو وهارون ، وليس المراد تطهيره من الأخباث فحسب فإنّه حكم كل مسجد.

ويعطيك خبراً بما ذكرنا ما مر من الأحاديث من أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يدخل المسجد وهو جنب (٢) وربما مرّ وهو جنب (٣) وكان يدخل ويخرج منه وهو جنب ، وما ورد عن أبي سعيد الخدري من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك. (٤)

وقوله : ألا إنّ مسجدي حرام على كل حائض من النساء وكل جنب من

_______________________________________

١. صحيح البخاري ٤ : ٢٥٤ ، صحيح مسلم ٧ : ١٠٨ ، مسند أحمد ١ : ٢٧٠ ، وقال ابن الجوزي في الموضوعات ١ : ٣٦٧ : فقد روى بعض المتحذلقين في حديث أبي بكر زيادة لا تصح.

٢. لحديث عبدالله بن عباس أخرجه النسائي في الخصائص : ٧٦ ، فتح الباري ٧ : ١٢ وقال رجاله ثقات ، إرشاد الساري ٦ : ٨٩١ عن أحمد والنسائي ووثق رجاله. وهو في كتاب السنة لأبي عاصم : ٥٨٩.

٣. مجمع الزوائد ٩ : ١١٥ ، فتح الباري ٧ : ١٣ والطبراني في الكبير ٢ : ٢٤٦ عن إبراهيم بن نائلة الأصبهاني عن إسماعيل بن عمرو البجلي عن ناصح عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة.

٤. سنن الترمذي ٥ : ٣٠٣ / ٣٨١١ ، السنن الكبرى للبيهقي ٧ : ٦٦.

٩٣

الرجال إلّا على محمد وأهل بيته : علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام. (١)

فالتطهير هو أعلى شرف وامتياز لهم ، وهو يؤكد كونهم من نور واحد وطراز فريد ، ولهذا ترى أنّ المعصوم لا يغسّله إلّا معصوم حسبما جاءت به الروايات :

عن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : قال لي أبي : قال علي عليه‌السلام : لما قرأت صحيفة وصية رسول الله فإذا فيها : يا علي ، غسلني ، ولا يغسلني غيرك.

قال : فقلت يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأبي أنت وأُمي ، أنا أقوى على غسلك وحدي ؟!

قال : بذا أمرني جبرائيل ، وبذلك أمر الله تبارك وتعالى.

قال : فقلت له : فإن لم أقو على غسلك وحدي ، فأستعين بغيري يكون معي ؟ فقال جبرائيل : يا محمد ، قل لعليّ : إن ربك يأمُركَ أنْ تُغسِّل ابن عمك ، فإنّها السنّة ، لا يغسّل الأنبياء غيرُ الأوصياء ، وإنّما يُغسّل كلَّ نبي وصيُّه من بعده ، وهي من حجج الله لمحمد على أُمّته فيما أجمعوا عليه من قطيعة ما أمرهم به.

واعلَم يا علي ، أن لَكَ على غسلي أعواناً هم نِعمَ الأعوان والإخوان. فقال علي عليه‌السلام : فقلت : يا رسول الله ، من هم ، بأبي أنت وأمّي ؟

قال : جبرائيل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ، وإسماعيل صاحب السماء الدنيا أعوان لك.

قال علي : فخررت لله ساجداً ، وقلت : الحمد للّه الذي جعل لي أخواناً وأعواناً هم أُمناءُ الله. (٢)

_______________________________________

١. السنن الكبرى للبيهقي ٧ : ٦٦ ، سبل الهدى والرشاد ١٠ : ٤٢٣ ، تفسير الثعلبي ٣ : ٣١٣ ، تلخيص الحبير ٣ : ١٣٦ ، وانظر تاريخ دمشق ١٤ : ١٦٦ ، أخبار أصبهان ١ : ١٩١ ، كنز العمال ١٢ : ١٠١ / ٣٤١٨٣ ، وراجع الغدير ٣ : ٢٠٢ ـ ٢١٥.

٢. الطرف للسيد ابن طاووس : ٤٤ ، وعنه في بحار الأنوار ٢٢ : ٤٥٦ / ٦٤ ، واللفظ له ، الصراط المستقيم ٢ : ٩٤ / ١٤ ، وانظر كنز العمال كذلك ٧ : ٢٤٩ / ١٨٧٨٠ / تاريخ دمشق ١٣ : ١٢٩ ، سمط النجوم العوالي ٣ : ٤١ / ٤٥.

٩٤

ومن كلامه له عليه‌السلام : ... ولقد قُبض رسول الله وأن رأسهُ لفي حجري ، ولقد وليت غسله بيدي وحدي ، وتقلِّبه الملائكة المقربون معي ، وأيمُ الله ما اختلفت أُمة قط بعد نبيها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلّا ما شاء الله. (١)

وقال أيضاً : أوصى رسول الله أن لا يغسله أحدٌ غيري ، فإنّه لا يرى أحدٌ عورتي إلّا طمست عيناه. فكان العباس وأسامة يناولان الماء من وراء الستر ، فما تناولت عضواً إلّا كأنّهُ يُقلبهُ معي ثلاثون رجلاً حتى فرغت من غسله. (٢)

وعنه عليه‌السلام في حديث المناشدة : نشدتكم بالله أفيكم أحدٌ وَلِيَ غَمْضَ رسول الله مع الملائكة غيري ؟

قالوا : اللهمّ لا.

قال عليه‌السلام : نشدتكم بالله أفيكم أحدٌ ولي غسل النبي مع الملائكة يقلبونه لي كيف أشاء غيري ؟

قالوا : اللهمّ لا. (٣)

وروى مفضل بن عمر عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : فاطمة صدّيقةٌ لم يكن يغسّلها إلّا صدّيق. (٤)

_______________________________________

١. كتاب صفين : ٢٢٤ ، جمهرة خطب العرب ١ : ٣٤٦ ، شرح نهج البلاغة ٥ : ١٨١ ، أمالي المفيد : ٢٣٥. وما تنبأ به الإمام عليه‌السلام وأخبر به جرى على لسان معاوية ، فعن الشعبي قال : خطب معاوية حين بويع له ، فقال : ما اختلفت أُمة بعد نبيها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقها ، ثمّ إنّه انتبه فندم ، فقال : إلّا هذه الأمة فإنها وإنها مقاتل الطالبيين : ٤٥ ، سبل الهدى والرشاد ١٠ : ٣٦٤.

٢. طبقات ابن سعد ٢ : ٢٧٨ ، مجمع الزوائد ٩ : ٣٦ ، كنز العمال ٧ : ٢٥٠ / ١٨٧٨٤.

٣. تاريخ دمشق ٤٢ : ٤٣٣ ، ٤٣٥ ، الطرائف : ٤١٣ ، شرح الأخبار ٢ : ١٨٩ / ٥٢٩ ، مناقب الخوارزمي : ٣١٥.

٤. الكافي ١ : ٤٥٩ / باب مولد الزهراء / ح ٤ ، ٣ : ١٥٩ / باب الرجل يغسل المرأة / ح ١٣ ، علل الشرايع ١ : ١٨٤ / باب العلة التي من أجلها غسل فاطمة أمير المؤمنين لما توفيت / ح ١٣ ، الاستبصار ١ : ٢٠٠ / ١٥٧٠٣ / التهذيب ١ : ٤٤٠ / ١٤٢٢.

٩٥

ومجموع ذلك يعرفنا أن التطهير هو أعلى سمات الصدّيقية ، وبما أن الكذب هو من الرجس ، فالصدّيق ـ الذي هو صيغة مبالغة للصدوق ـ يجب أن يبتعد عن الرجس ، بل يجب أن يكون صادقاً أميناً مراعياً للعهود والمواثيق أولاً كي يكون صدّيقاً في المرتبة الثانية. ولذلك يلحظ التأكيد والمبالغة في آية التطهير في قوله تعالى : ( إِنَّمَا ) وقوله تعالى : ( وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ). والتي نزلت في محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، وهو يشابه ما جاء في مريم بنت عمران من قوله : ( اصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) (٣) وفي اخرى ( وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ) (٤) فمريم بنت عمران وفاطمة بنت محمّد كانتا المثال الاكمل للتطهير ، فقال سبحانه ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (٥) وجاء نحو ذلك عن ابي عبد الله عليه‌السلام انه قال : ومريم ابنت عمران التي احصنت فرجها مثلاً ضربة الله لفاطمة وقال : انّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّم الله ذريتها على النار.

الرابع : كونه على الحنيفية

بما أن الصدّيقية منزلة ربانية ، فحريّ بالصدّيق أن يكون ممن كان يعبد الله قبل الإسلام ، ولم يسجد لصنم قط ، وكان على الحنفية قبل الإسلام ، أو أن يكون مسلماً من أوّل الأمر إن ولد في الإسلام أي أن لا يكون إسلامه مسبوقاً بشرك أو كفر.

ومن الثابت المعلوم أن الإمام علياً كان هو ذاك الذي لم يسجد لصنم قط ،

_______________________________________

١. آل عمران : ٤٢.

٢. المؤمنون : ٥٠.

٣. التحريم : ١٣.

٤. البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٣٥٨.

٩٦

وهذا ما لا يشك فيه أحد ، وهو أول من أسلم ، وقد عبد الله قبل الناس بسبع سنين أو تسع ، وكذا الصدّيقة فاطمة الزهراء فإنها ولدت في الإسلام ولم تشرك بالله طرفة عين.

أما أبو بكر فقد عبد الأصنام في الجاهلية ، وكان من المشركين فيها ، وممن صدرت منه أفعالٌ بعد الإسلام عليها أكثر من علامة استفهام. (١)

نصوص في ذلك

قال الإمام علي : ... فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة. (٢)

وعن الإمام الصادق عن أبيه عليهما‌السلام عن ابن عباس ، قال : نظر علي بن أبي طالب في وجوه الناس فقال : إني لأخو رسول الله ، ووزيره ، وقد علمتم أني أولكم إيماناً بالله ورسوله ثمّ دخلتم في الإسلام بعدي رَسَلاً رَسَلاً. (٣)

وعنه عليه‌السلام أنه قال : ما أعرف أحداً من هذه الأمّة عبدَ الله بعد نبينا غيري ، عبدتُ الله قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الأمة تسع سنين (٤) وفي نص آخر : خمس ، أو سبع سنين. (٥)

_______________________________________

١. أحكام القرآن ١ : ٣٩٨.

٢. نهج البلاغة الخطبة ١ : ١٠٦ / ٥٧ ، وسائل الشيعة ١٦ : ٢٢٨ / ٢١٤٣١ ، شرح نهج البلاغة ٤ : ١١٤ ، مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٠٧ ، بحار الأنوار ٤١ : ٣١٧.

٣. مناقب ابن المغازلي : ١١١ الرقم ١٥٤ ، كشف الغمة ١ : ٧٨ ، الرَسَل : الجماعة ، بحار الأنوار ٣٨ : ٣٣٠ / ٢.

٤. الخصائص للنسائي : ٤٧.

٥. تاريخ دمشق ٤٢ : ٣٠ ، مسند أبي يعلى الموصلي ١ : ٣٤٨ / ٤٤٧ ، أسد الغابة ٤ : ١٧ ، تذكرة الخواص : ١٠٨ ، القول المسدد في مسند أحمد : ٦٤ ، الآحاد والمثاني ١ : ١٤٨ / ١٧٨ مسند أحمد ١ : ٩٩ ، كنز العمال ١٣ : ٤٢ / ٣٦٣٩ و ٣٦٣٩١ ، سمط النجوم العوالي ٣ : ٢٨ / ٦ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٠٢ ، كشف الغمة ١ : ٨٠ ، بحار الأنوار ٣٨ : ٢٥٧ ، الكامل في التاريخ ١ : ٥٨٢.

٩٧

وقال أيضاً : صليت مع رسول الله كذا وكذا لا يصلي معه غيري إلّا خديجة. (١)

وعن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله : لقد صلّت الملائكة عليَّ وعلى علي سبع سنين ، لأنّا كنّا نصلي ليس معنا أحد يصلي غيرنا. (٢)

وعن أنس قال : قال رسول الله : صَلَّت عليّ الملائكة وعلى علي بن أبي طالب سبع سنين ، ولم تصعد أو ترتفع شهادة أن لا إله إلّا الله من الأرض إلى السماء إلّا مني ومن علي بن أبي طالب. (٣)

وعن أبي ذر قال : قال رسول الله : إن الملائكة صلّت عليّ وعلى علي سبع سنين قبل أن يسلم بشر. (٤)

وعنه عليه‌السلام : أنزلت النبوة على النبي يوم الإثنين وأسلمتُ غداة يوم الثلاثاء ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي وأنا أصلي عن يمينه ، وما معه أحد من الرجال غيري فأنزل الله : ( وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ ... ). (٥)

ومن كلام له عليه‌السلام : اللهم إني أول من أناب وسمع وأجاب لم يسبقني إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالصلاة. (٦)

وقال أيضاً : اللهم لا أعرف أن عبداً من هذه الأُمة عبدك قبلي غير نبيها عليه‌السلام ،

_______________________________________

١. الاستيعاب ٣ : ١٠٩٦ ، شرح نهج البلاغة ٤ : ١٢٠.

٢. تاريخ دمشق ٤٢ : ٣٩ ، أُسد الغابة ٤ : ١٨ ، مناقب الكوفي ١ : ٢٣٨ / ١٩٨ ، روضة الواعظين : ٨٥ ، شرح الأخبار ٢ : ٤٠٩ / ٧٥٥.

٣. الفصول المختارة : ٢٦٦ ، أعلام الورى ١ : ٣٦١ ، كنز الفوائد : ١٢٥.

٤. شواهد التنزيل ٢ : ١٨٤ / ٨١٨ ، كنز العمال ١١ : ٦١٦ / ٣٢٩٨٩ ، كنز الفوائد : ١٢٥ ، مناقب ابن شهرآشوب ١ : ٢٩١.

٥. شواهد التنزيل ٢ : ٣٠٠ / ٣٩٦ عن جابر الجعفي.

٦. نهج البلاغة ٢ : ١٣ / ١٣١ ، شرح النهج ٨ : ٢٦٣ ، النزاع والتخاصم : ٤٣ ، وانظر الأمالي للصدوق : ٤٩١ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٠٣ ، الإصابة ٤ : ٣٢٦ / ٥٦٠٢ ، كشف الغمة ١ : ٨٣.

٩٨

ثمّ قال : لقد صلّيت قبل أن يصلّي أحدٌ سبعاً. (١)

وقال عليه‌السلام مخاطباً لأهل الكوفة : يا أهل الكوفة ، أخبركم بما يكون قبل أن يكون لتكونوا منه على حذر ولتنذروا به من اتعظ واعتبر ، كأني بكم تقولون : أن علياً يكذب ، كما قالت قريش لنبيها وسيدها نبي الرحمة محمد بن عبدالله حبيب الله ، فيا ويلكم أفعلى من أكذب !؟ أعلى الله ، فأنا أول من عبده ووحّده ، أم على رسوله ، فأنا أول من آمن به وصدّقه ونصره ! كلّا ، ولكنّها لَهْجَة خَدْعَة كُنتم عنها أغبياء. (٢)

الخامس : العلم

وهو من المقدمات الضرورية الأُخرى للصدّيق ، فلا يمكن للذي لا يعلم أن يكون صدّيقاً في الحديث والمواقف كلّها ، ذلك العلم الإلهي الذي يستلزم أن يكون صاحبه ممن آمن برسالة السماء والغيب إيمان قلب وعقيدة لا إيمان لسان وعواطف.

وعليه فالصديقية ترتبط بالقيمة المعرفية للفرد ، فكلما ازداد علمُهُ وإيمانه ازداد تصديقه لرب العالمين.

ومن المعلوم بأن أبا بكر لم يكن عالماً بكل ما قاله رسول الله ، فتراه يسأل الصحابة عن الأحكام ، وقد نشاهده خطّاءً يفتي بأمر يختلف معه فيه بعض الصحابة ، (٣) لكنّ هذا الأمر لم يكن في عليٍّ ؛ إذ الكل يشهد بعلمه وقضائه.

فقد روى الحاكم النيسابوري بإسناده عن ابن عباس ( رض ) وعن جابر بن

_______________________________________

١. تاريخ دمشق ٤٢ : ٣٢ ، مسند أحمد ١ : ٩٩ ، كشف الغمة ١ : ٨١ ، نظم درر السمطين : ٨٢ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٠٢ ، كنز العمال ٣ : ١٢٢ / ٣٦٣٩١.

٢. الإرشاد للمفيد ١ : ٢٧٩ ، الاحتجاج للطبرسي ١ : ٢٥٥ ، بحار الأنوار ٤٠ : ١١١.

٣. انظر تفصيل ذلك في كتاب ( منع تدوين الحديث ) و ( تاريخ الحديث ) لنا.

٩٩

عبدالله ، قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد المدينة فليأت الباب ». (١)

وروى المتقي الهندي بإسناده عن ابن عباس : « علي عيبة علمي ». (٢)

وروى ابن عساكر بإسناده عن عبدالرحمن بن بهمان ، قال : « سمعت جابراً يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول يوم الحديبية ، وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب وهو يقول : هذا أمير البررة وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله ، ثمّ مد بها صوته وقال : « أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد الدار ، فليأت الباب ». (٣)

وروى المتقي الهندي عن ابن مسعود : « قسمت الحكمة عشرة أجزاء ، فأعطى عليٌ تسعة أجزاء والناس جزءً وعليّ أعلم بالواحد منهم ». (٤)

وروى ابن عساكر بإسناده عن عبدالله [ بن مسعود ] ، قال : « كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فسئل عن علي ، فقال : قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأُعطي علي تسعة أجزاء ، والناس جزءً واحداً ». (٥)

وروى الخطيب البغدادي بإسناده عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنا مدينة الحكمة وعليٌ بابها ، فمن أراد الحكمة فليأت الباب ». (٦)

وروى الدوري في تاريخ ابن معين بإسناده عن سعيد بن المسيب قال : « ما كان

_______________________________________

١. مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٦ ، المعجم الكبير ١١ : ٥٥.

٢. كنزل العمال ١١ : ٦٠٢.

٣. ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق ٢ : ٤٧٦ / ٩٩٦.

٤. كنز العمال ١١ : ٦١٥ / ٣٢٩٨٢ ، ١٣ : ١٤٦ / ٣٦٤٦١ ، فيض القدير ٣ : ٦٠.

٥. ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق ٢ : ٤٨٢ / ١٠٠٠ ، مناقب الخوارزمي : ٨٢.

٦. تاريخ بغداد ١١ : ٢٠٤ / ٥٩٠٨.

١٠٠